المحروسة

gravatar

سيد الحرافيش

نيل من الحبر والبساطة.. تدفق حتى آخر قطرة بروايات وقصص مسكونة بالواقعية والانتماء

إنه نجيب محفوظ.. أحد أبرز رواد الرواية العربية والابن النجيب للثقافة المصرية

الرجل الذي لم يسافر خارج مصر قط سافر إلى أربعة أركان الدنيا بأدبه وإبداعه.. وتمكن الكاتب الذي كان يخط كل كتاباته بالقلم الحبر أو الرصاص من أن يحفر مكانته عميقاً في الوجدان المصري والعربي.. بعد أن راهن على فن الرواية الذي وصفه في رده على عباس محمود العقاد بأنه "شعر الدنيا الجديدة".. وهكذا كان وفياً لرهانه الرابح

بدأ في اتجاهه للأدب بعد تخرجه في كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة القاهرة. غلب على أسلوبه الطابع الخيالي التاريخي ثم تحول بعد ذلك للتعبير بمهارة عن المجتمع المعاصر.. فكان على رأس هذه الأعمال "الثلاثية" التي عبرت عن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأجيال عدة من المجتمع

وُلدَ نجيب محفوظ في حارة درب قرمز الواقعة في ميدان بيت القاضي بحي الجمالية في الحادي عشر من ديسمبر عام ألف وتسعمئة وأحد عشر. وفي هذا الحيّ القديم الأصيل النائم في أحضان القاهرة القديمة..عرفَ نجيب محفوظ الحياة الشعبية وعادات أهلها..حيثُ تركت أثراً عظيماً في أدبه وفي معظم رواياته وقصصه التي لجأت في أحيان عدة إلى الرمزية للإفلات من قبضة الأيديولوجيات الثقافية والسياسية التي لاحقته طويلاً

فمن حيّ الجمالية أخذ الكثير من أسماء أعماله التي تلقفتها السينما.. مثل "خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية". ومن حيّ الجمالية أخذ نجيب محفوظ كلمة "الحارة" التي أصبحت فيما بعد رمزاً للمجتمع والعالم.. أي رمزاً للحياة والبشر

من عالم الحارة القاهرية شديد الخصوصية استقى نجيب محفوظ روءاه الفلسفية للوجود الإنساني كله. فقد جمع التفاصيل الصغيرة.. أصغى لدبيب الحياة فيها.. وعى انتقالها وتطورها..مشى متأملاً..ثم جلس في مقهاه ليحكيها بأسلوب شديد البساطة بالغ الإيحاء

وربما يكمن نبوغ أدب نجيب محفوظ في قدرته على وصف التيارات الاجتماعية بواقعية.. فأعماله الروائية تجسيد لشخصيات تنشد الخلاص من أوضاع متأزمة حافلة بالمتناقضات. صراعات وأحداث وقضايا مزدحمة بمداخل سياسية وتاريخية ونفسية ووطنية واجتماعية..تتعارك جميعها لتنقل لنا نموذجاً لحياة تسمع فيها صخب الباعة الجائلين وأصوات عربات "الكارو" وصوت الفتوة بجبروته وعنفوانه يهتك صمت الحارة

وهج أدبه جعله ينحت رموزاً عاشت طويلاً في ذاكرة قرائه ومشاهدي أعماله السينمائية والتلفزيونية.. فاسم سي السيد في "الثلاثية" تحول من شخصية روائية إلى رمز دال على النموذج السلطوي الأبوي العربي.. وشخصية مثقف ما بعد عام سبعة وستين المهزوم من الداخل: تحولت إلى نموذج النخبة المرتبكة أمام هزات الواقع وحسابات السياسة..مثلما نرى في "ثرثرة فوق النيل" وغيرها من أعمال

ولعل كثيرين لا يعرفون أن نجيب محفوظ شارك في كتابة حوار أفلام عدة منها "الناصر صلاح الدين" و"الاختيار"..كما كتب مباشرة للسينما بدءاً من منتصف الأربعينيات ومن أعماله "مغامرات عنتر وعبلة" و"المنتقم" و"ريا وسكينة" و"الوحش" وغيرها

وقائع التاريخ المصري ولحظاته الحاسمة أثرت في أعمال نجيب محفوظ منذ ثورة عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر مروراً بثورة يوليو وصولاً إلى اغتيال الرئيس السادات.. فتحولت إلى محطات لإعادة إدراك الواقع ومراجعة المسلمات بحبكات قصصية تطابقت أغلبها مع الواقع اليومي

ولعل ما يسترعي الانتباه هو تلك السنوات العجاف التي مر بها أدب محفوظ.. فقد توقف عن الكتابة بضع سنوات حتى عام ألف وتسعمئة وتسعة وخمسين بحجة أن العالم القديم الذي كان يسعى إلى تغييره بالإبداع تغير بالثورة وكانت المشروعات الروائية جاهزة لكن حافز الكتابة غير موجود. ثم اكتشف أن للواقع الجديد أخطاءه فكتب رواية "أولاد حارتنا" التي نشرتها آنذاك صحيفة "الأهرام" كاملة.. بالرغم من اعتراض كثير من رموز التيارات المصرية المحافظة

تجاوز محفوظ في الستينيات أزمة "أولاد حارتنا" بالانشغال بكتابة أعمال ذات طابع رمزي يجسد فلسفة الشك والبحث عن يقينٍ وغايةٍ للحياة.. أعمال ذات سمات وجودية نرصدها في "الشحاذ" و"اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الطريق" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار".. فضلاً عن عدد من المجموعات القصصية منها "خمارة القط الأسود" و"تحت المظلة" وغيرها
ويرى بعض النقاد أن "ملحمة الحرافيش" التي نشرها في عام سبعة وسبعين تمثل أفضل أعماله الإبداعية.. غير أن آخرين يرون أنها عزف على وتر روايات سابقة له.. على أي حال تمثل تلك الرواية الملحمية بأسلوبٍ فذ حياة أجيال متعاقبة والصراعات التي تعتمل في المجتمع
وبعد جائزة نوبل للآداب التي نالها عام ثمانية وثمانين ردد محفوظ أنه أصبح موظفاً عند السيد نوبل في إشارة إلى أن الجائزة حرمته نعمة الهدوء وجعلته موضع الاهتمام الإعلامي.. حيث طاردته كاميرات التلفزيون وأربكت برنامجه اليومي وغيرت عاداته في الكتابة

عاني من صعوبات في يده اليمنى بسبب محاولة اغتيال بسكين تعرض لها في أكتوبر تشرين الأول من عام أربعة وتسعين.. احتجاجاً على روايته "أولاد حارتنا" التي اعتبرها البعض تجديفاً

لكن هذا الحادث لم يسرق منه عشقه للضحك والنكتة والموسيقى والطرب.. فظل وفياً لشلة الحرافيش من أصدقائه المقربين.. ودوداً مع زائريه ومريديه.. إلا أنه حُرِم من ارتياد المقاهي التي ارتبط بها وارتبطت به ليلتقي بالأصحاب والأصدقاء

انتهى إلى محاورة الذاكرة ضمن آخر أعماله القصصية.. محيراً ناقديه ومحبيه على السواء في الانتقال بيسر من أسلوب في القص إلى آخر دون أن يسجن نصه في شكل واحد
تحدى ضعف سمعه وبصره والسنوات التي يحملها على ظهره بقوة إبداعه.. ولسان حاله يقول:
سنّي بروحي لا بعدّ سنيني ... فلأسخرن غداً من التسعين

أنهى نجيب محفوظ تاريخه الأدبي بأكثر من خمسين عملاً روائياً وقصصياً.. وجائزة نوبل.. ونظرة تأمل لما فات..وربما ما هو آت

gravatar

العزيز ياسر
تغمد الله الفقيد برحمته
لطالما حفر بقلمه ما سوف يبقيه لنا ولاجيال عديدة فالكلمات الواهية المكتوبة بحبر الماء تزول بينما كلماته المنقوشة باقية ابد الدهر
شكرا لانك ما نسيت ان ترثى الاديب
تحياتى

gravatar

ياسر الجميل العزيز كعادتك دائما سباق الى الخير

جزاك الله خيرا يااخي العزيز
للفقيد الرحمة ولناجميعا من عشاق كتاباته الاصيلة الصبر والسلوان
اعتقد ان عبقرية الراحل الكبير
كانت اساسا في تحويل اليومي والمعتاد والبسيط او حتى التافه الى فن متألق وفي تصوري ان اكبر مثال على ذلك هو روايته الرائعة التي نوهت بها لجنة نوبل
حضرة المحترم
والتي تحول قصة شخص عادي يتسلق الهرم الوظيفي في دولة بيروقراطية
وفي احد المؤسسات الحكومية وهي قصة عادية تصل لحد التفاهة يحولها قلمه ببراعة منقطعة النظير الى فن ورؤية متكاملة في الكون والوجود
ياسر تحياتي الدائمة

gravatar

توتة: الشكر لك دائمأً.. يستحق نجيب محفوظ الاحتفاء به ورثاءه بما يليق.. لقد نشأنا على أعماله الروائية والقصصية المدهشة التي تنقلنا إلى عوالم جديدة تمزج ما بين عبق التاريخ وأجواء الحارة والصراع بين الأجيال والطبقات المختلفة.. بأسلوب عبقري على بساطته


أسامة: أيها الصديق الحبيب..رائع أنك ذكرت "حضرة المحترم" وأسلوب نجيب محفوظ الذي جعل العادي يتلألأ بأنوار أسلوبه.. أذكر كم فاجأتني إحدى قصص مجموعته "بيت سيء السمعة" عندما كان طالب ريفي يبحث عن متعة حسية في يومه الأخير في القاهرة.. فالتقى سيدة اصطحبها إلى غرفته..وبعد قليل وضعت المرأة المال الذي نالته منه في درج بجوار الفراش قائلة له إنه أعجبها ولذا فقد أعادت إليه "أجرتها".. وبعد فرغا من علاقتهما العابرة وجدها الرجل تفتح الدرج وتدس المال في صدرها.. فسألها عما جرى.. فأجابته بأنها إنما أرادت إمتاعه وإشباع إحساسه بالرجولة ولذا تصنعت رد المال حتى أنهت "مهمتها".. فأخذت المبلغ
صورة مدهشة ولقطة ذكية لروائي جميل

gravatar

رحيل نجيب كان حدثا منتظرا لكنه غير قابل للتصديق حيث أضحي الرجل وأمسي مبدعا بشكل خاص وأديب حار فيه كل من قرأه .
وقد حاول غوغاء السياسة إختطافه وضمه إلي صفوفهم .. فأعتبره اليسار يساري، والوفد وفدي، والناصريون ناصري وهكذا.
وهو ما إستشرف صدفة أم عمدا حقبة يوليو ومن هجا الضباط عندما يأتون من الطبقات الدنيا علانية في روايته بداية ونهاية المنشورة عام 1949.
الفتوات وتجسيد مفهوم القدرة حق. وموت الإله في أولاد حارتنا تجعل محفوظ علماني ليبرالي في أخلص صوره .. وهو الذي يكتب دون أية إعتبارات، وأحد الاقلام القليلة التي نقدت وبعنف عصابة يوليو والصول ناصر.

رحم الله نجيب

gravatar

طبيب نفسي: عزيزي وليد..اختار نجيب مدينته: القاهرة.. وربما لم يغادرها سوى في "ميرامار".. وكان حريصاً مثل فيلليني على أن يكون قاسياً على حبيبته لأنه يريد لها أن تكون أفضل.. وإن كان البعض يأخذ عليه أنه يكن يفكر أبعد من جغرافيته التي يعيشها..إذ لم يكتب عن الهموم القومية والقضايا الإقليمية.. لكنه اهتم بالإنسان في مدينته وحاول سبر أغوار العلاقة بين هذا الإنسان والمكان الذي ينتمي إليه

gravatar

1-لا أستطيع بلع الاهتمام الزائد من بعض غوغاء السياسة بنجيب محفوظ بعد رحيله .. الناصريون بالذات كانوا بيكرهوه عمى ، ومعظمهم بيقيم الأعمال الفنية والفكرية على مازورة انتمائه السياسي ..

2-أعتقد إن سبب قلة الحضور الشعبي في الجنازة أمرين ليس من بينهما الأمن : الأول التوقع ، الوفاة كانت متوقعة (على عكس سيناريو وفاة لاعب الكرة محمد عبد الوهاب المفاجئ والقاسي جداً والمؤلم لكل من قرأ عنه حتى ولو كان يكره البطيخ لا كرة القدم) ، والثاني هو أولاد حارتنا!

قد تكون كراهية الإخوان لنجيب محفوظ ممكنة التفهم خاصةً وأنه كتب ضدهم ، أما بتوع الطرق فتجاهلوه تماماً .. كلمة ليبرالي أو علماني دي عندهم شتيمة كبيرة ..

3-عندي صدمة تفوق صدمة إني ما دخلتش السينما لغاية السنة دي.. ما قريتش لمحفوظ إلا طلاطيش كلام من حديث الصباح والمساء ، كنت ساعتها في ثانوي أو جامعة وما كانش عندي هوس التجربة بقراءة عمل روائي غير نمطي زي حديث الصباح والمساء .. إلا إني شفت فيلمين تسجيليين عنه ، واحد بيتهيألي لسميحة الغنيمي والتاني لمصطفى محرم .. وعجبني في الراحل شيء صغير .. ماشفتهوش راكب عربية في أي لقطة من الفيلمين ..

دائماً ماشي..

وغالباً..

لوحده!

للتغريد خارج السرب أحياناً مزاياه ،وضرائبه!

gravatar

ياسر الجميل حصلت حاجة عجيبة جدا كنت بكلمك من كام يوم وبعدين انت اختفيت
وبعدين من ساعتها مظهرتش
كنت عايز ابعت لك غنوة
اشوفك قريب
تحياتي

gravatar

أستاذ ياسر..
أحييك على هذا المقال
**
ربما ما يمتاز به هذا الأديب قبل ميزته الأدبية، هو شخصيته المميزة .
**
عن نفسي افتقد فيه روح ابن البلد ابن حي الجمالية المثقف، الذي لم ينسى هويته أو ينسى جيرانه، بقدر ما كانوا قضيته الرئيسية .
**
ولأن جدي من مواليد الجمالية.. فكنت أرى ملامح هذا الحي القديم في في نجيب محفوظ .. تلك الملامح التي نفتقدها اليوم .

gravatar

قلم جاف: أفكارك واضحة وعميقة كعادتك دائماً..ويبقى نجيب محفوظ معلماً أساسياً في الكتابة الروائية مصرياً وعربياً

عبده باشا: من حي الجمالية بدأ محفوظ مشوار تعريف العالم بالحارة المصرية وملامحها الثرية بالشخصيات والأحداث

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator