المحروسة

gravatar

ربع قرن على اغتيال السادات: المقاعد الطائرة















كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة وبضع دقائق في السادس من أكتوبر عام ألف وتسعمئة وواحد وثمانين عندما بدأ العرض العسكري الأخير في حياة الرئيس المصري أنور السادات

تقدمت وحدات المشاة في بداية العرض..بدا السادات مسروراً وأخذ يتابع بمنظاره ألعاب الأكروبات التي كانت تنفذها الطائرات في السماء..كما أخذ يصفق بحرارة لوحدة الهجانة. وكان بين الحين والآخر يسحب غليونه ليدخن..وينزع في أحيان أخرى قبعته ليجفف عرقه

وفي الساعة الثانية عشرة والنصف تقريباً وقبيل انتهاء العرض جاء دور المدفعية. وبحلول الساعة الثانية عشرة وتسع وثلاثين دقيقة كانت سيارة الملازم أول خالد الإسلامبولي على مسافة تبعد عن المنصة الرئيسية بمقدار مئة متر. وكما هو متبع.. وكما يتطلب السير العسكري البطيء.. فقد كان على سائق السيارة أن يحرص فقط على أن يكون في خط مستقيم مع سيارات اللوري الثلاث التي تقع على يساره.. ولكن كان عليه أيضاً أن يحرص على المسافة اللازمة بينه وبين السيارة التي أمامه
وحدث تأخيرٌ ما في مقدمة الطابور أجبر سائق السيارة على رفع قدمه عن دواسة البنزين ووضعها على دواسة المكابح تحسباً للوقوف...في تلك الثانية مرت في الأجواء أسرابٌ عدة من طائرات الميراج محدثةً أصواتاً تصم الآذان.. واتجهت كل الأبصار تقريباً ناحيتها

استغل خالد هذا الجزء من الثانية الذي أبطأت فيه السيارة من سيرها كي يتناول "كارل غوستاف" السائق ويوجه هذا السلاح إلى رأس السائق صارخاً في وجهه:"توقف فوراً وإلا قتلتك"..توقف السائق في مكانه مذهولاً..لقد روعته الصرخة المفاجئة ومنظر الرشاش الفاغر أمام عينيه وشل تفكيره إلى حد أنه نسي أن "الكارل غوستاف" –على حد علمه- لم يكن محشواً بالرصاص

كان عطا طايل أول من حاول التحرك قبل توقف السيارة تماماً. فقد نهض من مقعده فوق السيارة وأخرج القنبلة من جيبه ونزع منها زر الأمان وألقاها في اتجاه المنصة.. إلا أن دفعته لها كانت ضعيفة إلى حدٍ ما.. إذ سقطت القنبلة لمسافةٍ تبعد بمقدار خمسة عشر متراً من السيارة وانفجرت دون أن تصيب أحداً..في اللحظة نفسها فتح خالد الإسلامبولي باب كابينة السيارة واندفع إلى المنصة.. وفي طريقه إليها استل قنبلةً وألقاها تجاهها. سقطت القنبلة الثانية في مكانٍ أقرب إلى المنصة إلا أنها لم تنفجر لعطلٍ في جهازها.. وأخذ يتصاعد منها دخانٌ كثيفٌ أبيض

حاول عبد الحميد عبد العال بعده تجربة حظه لكن القنبلة التي ألقاها اصطدمت بالسور الحاجز وانفجرت أسفله فتناثرت الشظايا في كل اتجاه.. إلا أن قوتها ضعفت كثيراً بفضل السور الحاجز الذي وقف حائلاً بين القنبلة وبين الجالسين في المنصة

في لحظةٍ ما ظن الحضور أن توقف السيارة العسكرية أمام المنصة ليس سوى نتيجة عطلٍ محرج.. إلا أنه سرعان ما اتضح عكس ذلك بعد أن حدث هرج ومرج وامتزجت أصوات الانفجارات بصرخات الأشخاص الذين طار صوابهم وأخذوا يتدافعون من أماكنهم أو حاولوا الفرار للنجاة بأنفسهم.. وسالت الدماء وتناثرت وطارت المقاعد في الهواء واختلطت أصوات الرصاص الذي يطلق على الأرض بأزيز الطائرات التي ظلت تحلق في الأجواء كأن شيئاً لم يكن

في هذه الثواني الحرجة نهض السادات من مقعده في الصف الأول إلى أن انتصب قائماً على قدميه وأخذ ينظر إلى قاتليه الذين يتقدمون نحوه..غير مصدقٍ لما يراه. وفي لمح البصر أشاح بوجهه إلى الخلف وأخذ يردد "مش معقول.. مش معقول". لم يتمكن السادات من إكمال عبارته..فقد وجه القناص وبطل الرماية حسين عباس من فوق ظهر سيارة عسكرية بندقيته باتجاه الرئيس المصري. أصابت الدفعة الأولى من الطلقات رقبة السادات في الجانب الأيمن..في الفراغ الموجود بين عظمة الترقوة وبين عضلات العنق..واستقرت أربع طلقات في صدره

عندما فرغ سلاح خالد من الذخيرة أثناء العملية أخذ من حسين عباس سلاحه وأمره بالانصراف.. اندس حسين بين الناس وسار معهم حتى وصل إلى طريق صلاح سالم فاستقل سيارة أجرة اتجه سائقها به إلى منزله في منطقة الألف مسكن. وعندما ألقي القبض على المتهمين الثلاثة دون الأخير تصوروا أن زميلهم قد مات. هذا التصور جعلهم يترحمون عليه بالاسم أمام سلطات التحقيق التي اكتشفت بالصدفة وجود متهم رابع على قيد الحياة.. وبعد يومين اقتحموا مسكنه وألقوا القبض عليه

في هذا الهجوم قُتل البعض وأصيب كثيرون ومنهم سيد مرعي مستشار السادات وصهره..وفوزي عبد الحافظ سكرتير الرئيس..وأبو غزالة الذي أصيب في ذراعه واخترقت رصاصة أخرى قبعته العسكرية كما ظهر في صورةِ نشرتها صحيفة "الأهرام" فيما بعد

كانت جيهان السادات فوق منصة الرئاسة وفي الحجرة الخاصة التي خصصت لها تتابع سير العرض مع أحفادها وحاشية نساء كبار الضيوف. وحين وقع الهجوم أخذت فايدة كامل زوجة وزير الداخلية النبوي إسماعيل تولول وتصرخ "يا خرابي" فنهرتها جيهان صارخةً "اسكتي"..ثم انطلقت بسرعة إلى الباب محاولةً الوصول إلى زوجها..إلا أن رجل الأمن منعها من ذلك

وعندما شاهد الناس على شاشة التلفزيون مصوراً يقترب بشدة من المنصة ويلتقط صوراً للسادات وبعد ذلك انقطع الإرسال التليفزيوني..خُيل إليهم أن هذا المصور هو أحد قادة الاغتيال..إذ كيف يقترب هكذا بكاميرا غريبة الشكل من الرئيس السادات دون أن يعترضه أحد أو يعترض عليه. ولم يعرف الناس إلا فيما بعد أن المصور هو محمد رشوان المصور الخاص للرئيس المصري.. وأن الرصاص قد أصابه فأرداه قتيلاً
مصور آخر كان أفضل حظاً.. وهو رشاد القوصي الذي أصيب بإغماءة من هول المفاجأة.. ولم يكن يدري أنه سيكون المصور الوحيد الذي يلتقط صورتين بالألوان لاغتيال السادات..أما مصور جريدة "الأخبار" مكرم جاد الكريم فقد أخفى في جوربه الأفلام الخمسة التي التقطها طوال العرض..لينال عن أربع وخمسين صورة التقطها للحادث في دقيقة ونصف الدقيقة سلسلة جوائز ومكاسب

المهندس طه زكي وزير الصناعة –آنذاك- قال إنه بعد انتهاء إطلاق الرصاص أحس أن عمره قد زاد عشر سنوات على الأقل من هول ما حدث حوله. أما الدكتور فؤاد حسن وزير المالية فقال:"إن هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها حادث قتل يقع أمام عيني..وهو الحادث الوحيد الذي لم أكن أتمنى أن أراه"

وبعد لحظات كان قد تم استدعاء سيارة السادات التي حضر بها إلى ساحة العرض لتنقله إلى طائرة هليكوبتر صغيرة كانت تقف خلف المنصة.. ولكن تبين أن السادات لا يقوى على الحركة فاستدعيت سيارة الإسعاف التي نقلته إلى خلف المنصة حيث الطائرة الهليكوبتر من طراز "غازيل".. وصعد على متنها الدكتور محمد عطية طبيب الرئاسة وتوفيق قورة ضابط الحراسة.. وبعدها صعدت بسرعة إلى المروحية جيهان السادات ومعها الدكتورة زينب السبكي أمينة المرأة في الحزب الوطني.. وأحفاد الرئيس المصري


كان مفترضاً أن تنقل الطائرة الهليكوبتر السادات على الفور إلى مستشفى القوات المسلحة في المعادي..غير أن المروحية اتخذت مساراً آخر بناء على طلب جيهان السادات التي أمرت قائد "الغازيل" بالتوجه إلى منزلها في الجيزة..وبقيت الهليكوبتر وعلى متنها السادات غارقاً في دمائه حوالي نصف ساعة في المهبط الخاص بالمنزل
نصف ساعة أجرت جيهان خلالها اتصالات هاتفية مع أشخاص في الولايات المتحدة من بينهم ابنها جمال السادات الذي كان في نزهة مع بعض الأصدقاء في جزيرة بالقرب من ساحل فلوريدا. ولما لم تجد جمال تركت جيهان مع الشخص الذي رد عليها رسالة تطلب فيها من ابنها الاتصال بها على وجه السرعة

حطت الطائرة الهليكوبتر في فناء مستشفى القوات المسلحة بالمعادي في الساعة الواحدة وعشرين دقيقة..ونُقل السادات فوراً إلى قسم الرعاية المركزة الخاص بحالات القلب الطارئة.. وأجريت له الإسعافات العاجلة من تنفس صناعي وتنشيط للقلب وتفريغ للدم من داخل القفص الصدري..ونقل كميات كافية من الدم وتدليك خارجي وداخلي للقلب..وتسجيل لنشاط القلب والمخ..وكذلك عمل الأشعات اللازمة

وفي تمام الساعة الثانية وأربعين دقيقة من بعد ظهر الثلاثاء الموافق السادس من أكتوبر..أظهر رسم القلب عدم تسجيل أي نشاط وأظهر رسم المخ توقفاً كاملاً تأكيداً لحدوث الوفاة..واعتبر سبب الوفاة صدمة عصبية شديدة مع نزيف داخلي بتجويف الصدر وتهتك بالرئة اليسرى والأوعية الدموية الكبرى بجذر الرئة اليسرى

التقرير الطبي عن إصابات الرئيس الراحل وأسباب الوفاة الذي وقعه أحد عشر طبيباً على رأسهم مدير مستشفى المعادي الدكتور أحمد سامي كريم..أشار إلى أن السادات وصل إلى المستشفى في الساعة الواحدة والثلث بعد ظهر الثلاثاء الموافق السادس من أكتوبر وهو في غيبوبة كاملة..وكان النبض وضغط الدم غير محسوسين وضربات القلب غير مسموعة..وكانت حدقتا العين متسعتين بغير استجابة للضوء"

كان السادس من أكتوبر من عام ألف وتسعمئة وواحد وثمانين يوماً طويلاً في حياة مصر

والمفاجأة.. أن أحداث اليوم الطويل لم تنته عند وفاة السادات

gravatar

رائع ياياسر
وصف دقيق
وموضوعي
ومحايد جدا

ياريت تحط كان النكت اللي طلعت بعد اليوم ده
زي عاش مكرما ومات مخرما
وغيرها
ده للتاريخ
تحياتي ايها الصحفي الجميل

gravatar

أسامة: شكراً لك أيها الصديق الجميل
عندما تأتي الإشادة من مثقف موسوعي مثلك تكون لها قيمتها الكبيرة
وفي ذكرى ربع قرن على حادث المنصة..هناك أفكار أتمنى أن تتشكل وتتضح ملامحها خلال الأيام القليلة المقبلة

gravatar

عمنا ياسر
ازيك يا دكتور
متابع مدونتك من شوية
تدوينة اغتيال السادات هايلة فعلا \\تسلم ايدك
أحمد زين

gravatar

فرصة سعيدة: تحياتي لك أيها الصديق أحمد.. كم يسعدني التواصل بيننا..فلنتواصل عبر البريد الإلكتروني

gravatar

ياسر: أشكرك على المتابعة..أحاول الآن التركيز على رواية ما جرى استناداً إلى كل ما هو متوافر من مراجع وكتب وصحف ومجلات.. لأننا نعاني دائماً من مشكلة معرفة الحقيقة وتفاصيلها
نعم.. الأسئلة كثيرة وسنحاول معاً أن نجد بعض الإجابات عنها

gravatar

ماجد عبد الهادي: أشكرك على كلماتك الرقيقة وتعليقك الأول في مدونتي

أنت دائماً على الرحب والسعة.. بل إن متابعتك ومشاركاتك في هذه المدونة تعطي دفعة أكبر لمزيد من العمل
فلنتواصل

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator