المحروسة

gravatar

انهيار المشير: إقطاعية اسمها الوطن















المرايا الزائفة تصنع دائماً صورة مشوهة: كذبة قد يصدقها الناس.. ولو لبعض الوقت

هكذا كانت الحال بعد صدمة الحقيقة: هزيمة قاسية وموجعة في الخامس من يونيو حزيران عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين

سماها حملة المباخر نكسة تخفيفاً لحجم الهزيمة.. وصورها البعض على أنها حرب.. في حين أن الحرب تعني قتالاً بين الطرفين.. وهو ما لم يحدث وإنما كانت ضربات متلاحقة من طرف واحد حسم الأمر في غضون ساعات قلائل

وربما كانت الضغوط الشديدة التي حاصرت المشير عبد الحكيم عامر عقب تلك الهزيمة هي السبب في زيادة مساحة الغموض حول ظروف وفاته..وهل ما حدث كان انتحاراً أم جريمة مدبرة..كما ذهب إليه بعض أفراد أسرته

وبعد مرور نحو ثلاثة عقود.. فإن ملابسات الوفاة التي وقعت في الرابع عشر من سبتمبر من عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين بفيللا صغيرة بإحدي ضواحي الجيزة ما زالت تثير بين الحين والآخر الزوابع بل والأعاصير.. التي وصل بعضها إلى قاعات المحاكم

ويرى الكاتب الصحفي عبد الله إمام في كتابه "ناصر وعامر: الصداقة.. الهزيمة والانتحار" أنه ليس غريباً أن يفكر عامر في الانتحار.. ويقدم عليه..وهو الذي كان من قبل يفكر في الانتحار.بل وحاوله في منزل جمال عبد الناصر..على مرأى من زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة بل أيضاً وعقب هزيمة يونيو مباشرة على مرأى من شمس بدران"

ويقول وزير الثقافة سابقاً الدكتور ثروت عكاشة في مذكراته إنه في ساعة متأخرة من ليلة الخميس الثامن يونيو - في العام إياه- اتصل به هاتفياً مدير المخابرات العامة صلاح نصر لإبلاغه أن المشير عامر قد عقد العزم على الانتحار.. ورجاه - لما يعرفه عما كان بين د.عكاشة وبين المشير من ود قديم– أن يسرع إليه ليثنيه عما اعتزمه
وحين زاره د.عكاشة اكتشف أن المشير عامر منهار تماماً حتى أنه يقول في وصف حالته: "كان عبد الحكيم عامر جالساً يترقب قدره في صمتٍ رهيب..ورأيت في عينيه ما هو عازم عليه". ثم يعود فيقول: "على أني رأيت عينيه الجاحظتين تكادان تفصحان عن تصميمه على أن يترك الحياة"

في مذكراته "سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر".. يقول سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر لشؤون المعلومات إن العلاقة بين جمال عبدالناصر والمشير عبد الحكيم عامر فسدت علي نحو درامي وسريع عقب فجيعة هزيمة يونيو المدوية.. التي أصدر عبد الناصر بعدها قراراً بتنحية عبد الحكيم عامر عن قيادة الجيش وتعيينه نائبا للرئيس..وهو القرار الذي رفضه المشير بشدة.. وحزم حقائبه واتجه إلى بلدته إسطال -مركز سمالوط بمحافظة المنيا - ليقضي بها بعض الوقت

غير أن عامر سرعان ما عاد إلى القاهرة بعد أيام وتحديداً في أول يوليو تموز.. واستقر في منزله بالجيزة. وبدا واضحاً أن نية عبد الناصر كانت قد استقرت حينذاك ودون تراجع على تنحية عامر ومعه شمس بدران.. وإن واصل في الوقت ذاته محاولات احتواء الأزمة ومنع تفاقمها


كان جوهر القضية حسبما يشير سامي شرف في مذكراته هو أن المشير "كان ينظر إلى الجيش على أنه إقطاعية تابعة له ولا يريد التنازل عنها تحت أية ظروف.. بل إنه كان يرى أيضاً في استرداده سلطاته في الجيش بمثابة رد اعتبار له في ضوء مسؤوليته الكبرى عن وقوع الهزيمة العسكرية "

حاول شمس بدران حاول التقدم بحلول وسط.. لكن عبدالناصر أصر على عدم عودة المشير عامر إلى القوات المسلحة مرة أخرى.. في حين أقدم المشير على بعض التصرفات التي زادت الأزمة اشتعالاً.. ربما كان من أهمها توزيعه نص استقالة زعم أنه قدمها للرئيس عبدالناصر بعد النكسة.. مع أنها كانت هي الاستقالة نفسها التي سبق أن تقدم بها عقب أزمة مجلس الرئاسة عام ألف وتسعمئة واثنين وستين

وكانت شقيقة نفيسة عبدالحميد حواس - الشهيرة ببرلنتي عبدالحميد.. زوجة المشير عامر بعقدٍ عرفي- وتدعى زهرة هي التي أعادت طبع هذه الاستقالة في إحدى قري مركز دكرنس بمحافظة الدقهلية.. وتولت توزيعها هي وزوجها.. بهدف صنع رأي عام مؤيد للمشير..لكن جهاز المباحث العامة ضبطهما مع الآلة الكاتبة والمطبعة

كان الغالبية العظمى من رجال الثورة عقب نكسة يونيو مقتنعين بأن عبد الناصر لن يتراجع عن إبعاد المشير عن القوات المسلحة كحد أدنى..فيما كان البعض الآخر يرى في قبول ذلك إقراراً بإدانة عامر وتثبيت أنه المسؤول عن الهزيمة العسكرية.. لكن عباس رضوان -وزير الداخلية سابقاً- نجح في إقناع المشير عامر بالتوجه لمقابلة عبد الناصر في منشية البكري. وقد كان ذلك اللقاء هو نقطة البداية للعملية "جونسون" التي وضعها الرئيس عبد الناصر لمحاكمة المشير عامر أمام مجلس قيادة الثورة.. وإعلانه بقرار عزله من قيادة الجيش
في الساعة السادسة والنصف من يوم الخامس والعشرين من أغسطس آب.. بدأ وصول أعضاء مجلس قيادة الثورة.. وبعد نحو خمس عشرة دقيقة أي في السابعة إلا ربعاً تقريباً وصل المشير عبدالحكيم عامر. وقد نفذ وزير الداخلية شعراوي جمعة وسامي شرف مهمتهما وفق الخطة الموضوعة.. وكانت تتمثل في اعتقال المرافقين للمشير عامر ووضع سيارته تحت الحراسة بعد تفتيشها في جراج منشية البكري


ووفق ما كان وارداً في الخطة فقد دخل إلى منزل عبد الناصر في الساعة السابعة تماماً كل من: وزير الحربية أمين هويدي ومحمد المصري من مكتب سامي شرف.. وأحد الضباط الأحرار والعميد صلاح شهيب من الياوران.. وأحمد شهيب من الضباط الأحرار وعضو مجلس الأمة عن دائرة مصر الجديدة. وكان قائد الحرس الجمهوري العميد محمد الليثي ناصف يمر باستمرار حول المنطقة وداخل المنزل

في تلك الجلسة.. اتهم عبد الناصر صديق عمره عامر بالتآمر وسرد سلسلة من الوقائع قبل أن يستطرد قائلاً:
" أنا في الحقيقة مش عارف ليه أنت بتربط نفسك بالقوات المسلحة وبقيادة الجيش. هل إحنا لما قمنا بالثورة كان هدفنا أن أتولى أنا رئاسة البلد وأنت تتولى قيادة الجيش؟.. عايز أفكركم كلكم وأنت بالذات مين اللي رشحك.. واقترح وأصر على تعيينك قائداً عاماً.. مش أنا اللي كنت وراء هذا التعيين؟.. وإذا كان الأمر كذلك طيب ألم يكن من الطبيعي بعد الانفصال وما حدث وموقف الجيش ومكتبك هناك ودورك أن تحاسب على ما حدث؟ .. حتى بعد ذلك ألم تكن هناك أكثر من مؤامرة ضد النظام ضبطت وهي من صنع رجال يعملون في مكتبك يا عبدالحكيم؟"

لم يتمالك المشير أعصابه عند هذا الحد من اللقاء.. فانفعل وبدأ يفقد أعصابه.. فقال له عبد الناصر: "الأمور واضحة.. أنت راجل متآمر وعليك أن تقدر الموقف الصعب اللي بنمر فيه وعليك أن تلزم بيتك من الليلة"

وبالطبع رفض عبدالحكيم عامر بشدة هذا القرار.. وهو ما دفع بعض الحاضرين - ومن بينهم أنور السادات- إلى محاولة إقناع المشير بقبول هذا القرار.. إلا أنه قال لهم في غضب:" أنتم بتحددوا إقامتي وبتحطوني تحت التحفظ، قطع لسانك يا..."

في تلك الليلة..سب عبد الحكيم عامر أنور السادات ووصفه بما يعف اللسان عن ذكره

حاول الحاضرون إقناع المشير في تلك الليلة بأن هذا القرار يحقق مصلحة البلاد العليا.. غير أنه كان غاضباً للغاية وأصم أذنيه تماماً.. وبدا أنه يعيد النظر في كل شيء متجهاً بفكره وبصره إلى بيت الجيزة والاستعدادات والرجال هناك - وقد حضر عدد من أقارب عامر بناء على طلبه للإقامة معه في منزله- والمجموعة التي كانت معترضة على إتمام هذا اللقاء.. دون أن يدري شيئاً بأمر الاتصالات بين سامي شرف وبين كل من القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزي ومدير المباحث العامة اللواء حسن طلعت ومدير المخابرات الحربية اللواء محمد أحمد صادق

ومع تصاعد حدة التوتر في الجلسة التي حاكم فيها عبد الناصر المشير أمام مجلس قيادة الثورة.. شن عامر هجوماً على عبد الناصر إلى أن قال الرئيس للمجتمعين إنه سيتركهم لبعض الوقت حتى تهدأ الأمور.. وتنقل جريدة "الأهرام ويكلي" – عدد الخامس من يونيو حزيران عام ألف وتسعمئة وسبعة وتسعين- عن أمين هويدي قوله إنه عندما دخل الغرفة وجد أنور السادات ينتحب وزكريا محي الدين وحسين الشافعي صامتين. بعدها خرج عامر من الصالون متوجهاً إلى دورة المياه.. وقابل أمين هويدي على الباب فقال له: أهلاً بوزير حربيتنا.. الله.. الله.. ده أنتم مجهزين كل حاجة والحكاية محبوكة على الآخر"

دخل عبد الحكيم عامر إلى دورة المياه.. ثم خرج بعد قليل حاملاً ورقة سيلوفان فارغة وكوباً في يده رماها علي طول امتداد ذراعه قائلاً: "اطلعوا بلغوا الرئيس أن عبدالحكيم خد سم وانتحر".. ثم دخل إلى الصالون بهدوء ليجلس على نفس الكنبة التي كان يجلس عليها وهو يبتسم في هدوء وكأنه لم يفعل شيئاً


ويقول أمين هويدي إنه صعد مهرولاً إلى الدور العلوي ليبلغ عبد الناصر الذي استقبله على رأس السلم وهو يرتدي البيجامة و"الشبشب".. وقال له: "أنا سمعت ما قيل واللي بيحصل ده كله تمثيل".. وأضاف الرئيس قائلاً: " عامر جبان..ولو كانت لديه شجاعة الإقدام على الانتحار لما كنا أصلاً نواجه هذا الوضع المرتبك"


استدعي الدكتور الصاوي حبيب طبيب الرئيس الخاص وكان موجوداً في منشية البكري فدخل على عجل وحاول أن يسعف المشير الذي رفض أن يستجيب له مما اضطر معه أن يمسك حسين الشافعي بالمشير بشدة حتى يتمكن الطبيب من حقنه وحاول أن يضع إصبعه في فمه ولكن من دون جدوى


في هذه الأثناء..كانت القوة التي تم تشكيلها بعلم الرئيس عبد الناصر قد نجحت بالفعل في حصار منزل المشير بالجيزة.. ثم أنهت تلك القوة -التي قادها الفريق أول محمد فوزي- الاعتصام بعد إلقاء القبض على من كان متحصناً داخله - وفي مقدمتهم شمس بدران وعباس رضوان- كما تم تفريغ المنزل من كل الأسلحة والذخائر.. لتصبح الفيلا خالية إلا من عائلة المشير ..حيث حددت إقامته هناك بين أهله وأولاده فجر يوم السادس والعشرين من أغسطس تحت حراسة أفراد من القوات المسلحة المصرية


وبعد أن استقر المشير عامر في المنزل تم قطع جميع الخطوط الهاتفية ما عدا خطاً واحداً فقط رؤي الإبقاء عليه
حاول عامر أن يتصل بعبد الناصر أكثر من مرة.. لكنه لم يستجب له فأرسل إليه ورقة تسلمها محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس.. يطلب فيها رفع الإقامة الجبرية عنه وإلا فإن الرئيس سيندم. ومرة أخرى لم يستجب عبدالناصر للتهديد

غير أنه وفي الثالث عشر من سبتمبر أيلول ومع تواصل نشاط واتصالات المشير عامر هاتفياً ومعه بعض من أقاربه وإخوته.. بهدف تأليب الرأي العام ضد النظام بعد وضعه تحت الإقامة الجبرية.. أصدر عبد الناصر قراراً بنقل عامر إلى مكان أمين منعزل يتعذر معه إجراء مثل هذه الاتصالات والنشاط. وكلف الفريق أول محمد فوزي مرة ثانية بتنفيذ القرار فتوجه وبصحبته الفريق عبدالمنعم رياض رئيس الأركان واللواء سعد زغلول عبدالكريم مدير الشرطة العسكرية وبعض الضباط من الحرس الجمهوري إلى منزل المشير.. وكان الضابط المسؤول عن الحراسة في ذلك اليوم العميد محمد سعيد الماحي الذي شارك في تنفيذ المهمة

دخل الفريق عبدالمنعم رياض أولاً ودعا المشير عامر لتنفيذ أمر رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة فأبى تنفيذه.. وتردد في البداية.. ولكن الفريق رياض تلطف معه ونصحه بمرافقته. ويقول سامي شرف في مذكراته: "في تلك اللحظة تناول عبدالحكيم عامر شيئاً وضعه في فمه وأخذ يمضغه.. مما لفت أنظار الكل والعائلة وصرخت إحدى كريماته بأن أباها تناول سماً

ثم دخل المشير في مرحلة فقدان الاتزان فاصطحبه الفريق عبدالمنعم رياض بسرعة إلى الخارج.. وحاول هو والفريق أول محمد فوزي أن يضعوه في سيارة الإسعاف التي كانت مجهزة كإجراء احتياطي.. إلا أن عامر رفض ركوبها فما كان منهما إلا أن وضعاه في سيارتهما وتوجها به إلى مستشفى المعادي للقوات المسلحة التي كانت أخطرت على عجلٍ لعلاج حالة طارئة

في الطريق إلى المستشفى طلب الفريق رياض من المشير إخراج ما في فمه.. وبعد تمنع اضطر لطرد باقي ما كان في فمه وكان عبارة عن مادة تشبه اللادن الأصفر في ورق سوليفان.. فتلقفه ضابط الحرس المرافق الرائد عصمت محمد مصطفى.. وكان معه النقيب محمد نبيل إبراهيم والنقيب عبدالرؤوف حتاتة من الحرس الجمهوري

وضع الرائد عصمت ما تلقفه في منديل ورق حيث سلمه للمعامل فور وصولهم إلى المستشفى. وهناك أجريت الإسعافات السريعة وعمل الأطباء: اللواء عبدالحميد مرتجي والعميد محمود عبدالرازق والعميد عبد المنعم القللي والمقدم عبد المنعم عثمان والرائد أحمد محمود عبدالله والرائد حسن عبد الحي.. على محاولة غسيل لمعدة المشير.. ولما رفض أعطي محلولاً ليتقيأ وتم ذلك فعلاً. وعندما قال له اللواء عبدالحميد مرتجي قائد المستشفى بعد أن أفرغ عامر ما في جوفه إنه لم يعد هناك خطر الآن على حياته قال المشير: "ده أسوأ خبر سمعته"

ويقول سامي شرف: "بعد فترة قرر الأطباء أن الحالة أصبحت مستقرة وطبيعية ومطمئنة.. وبناء على ذلك قرر الفريق فوزي استئناف المهمة.. واتجه بالركب إلى استراحة المريوطية. وفي الساعة السابعة مساء ذلك اليوم أظهرت المعامل نتيجة تحليل ما لفظه وتقيأه المشير عامر وأبلغ المقدم طبيب عبدالمنعم عثمان أن التحليل أظهر آثاراً لمادة الأفيون
وفي استراحة المريوطية التي سبق اختيارها كمقر لإقامة المشير عامر كان في استقبالهم هناك قرابة الساعة الخامسة والنصف من بعد الظهر.. العميد محمد الليثي ناصف ومجموعة من ضباط الحرس الجمهوري والنقيب طبيب مصطفى بيومي حسنين وبعض أفراد الخدمة والإعاشة والحراسة ولم يطلب المشير شيئاً سوى عصير الجوافة

وقد مكث الفريق أول محمد فوزي والفريق عبدالمنعم رياض مع المشير نحو الساعة دار فيها حوار حول الموقف العسكري.. وقال لهم المشير إن عليهم أن يطلبوا تعويض السلاح من الاتحاد السوفييتي الذي هاجمه واعتبره أنه خذل مصر.. وقال لهما: "عندكم الرجالة كتير في البلد.. وكل ما عليكم هو استئناف القتال". ثم قال: "يا فوزي ويا رياض... تبلغوا الرئيس أنه إذا لم ينه هذا الوضع في أربع وعشرين ساعة فإنه سيتحمل مسؤولية ما سيحدث"

ويقول سامي شرف :" أبلغ الفريق فوزي هذه الرسالة للرئيس.. بعدما غادر هو والفريق عبدالمنعم رياض الاستراحة. وكان المشير قد طلب ماكينة حلاقة وبعض الكتب التي وصلته في نفس الليلة"

في يوم الرابع عشر من سبتمبر أيلول.. لم يتناول المشير أي طعام إلا بعض السوائل. وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم تم تغيير الورديات الطبية والحراسات المناوبة.. فاستلم الرائد طبيب إبراهيم البطاطا نوبته.. وشرح له زميله حالة المشير الصحية وتطوراتها وطمأنه بأن الحالة تشير إلى التحسن كما ذكر له الأدوية التي أعطاها له.. لكن المشير لم يتناول طعام الغداء نظرا لاستمرار القيء..وقرر الطبيب المعالج إتمام تغذيته بمحلول الجلوكوز عن طريق الوريد

ويقول سامي شرف: "قرابة الساعة الرابعة من بعد الظهر أبدى المشير للدكتور البطاطا شكوى من ألم في أسنانه فأعطاه حقنة نوفالجين. وبعد ذلك دخل المشير الحمام وتقيأ ثم طلب بعض الماء ليغتسل في غرفته فحمل له أحد السفرجية -منصورأحمد- الماء فاغتسل ثم رقد على السرير"

"وفي الساعة الخامسة مساءً دخل الطبيب حجرة المشير فوجده نائماً وكان نبضه وضغط دمه طبيعيين.. غير أنه وبعد السادسة بقليل وأثناء توجه الطبيب مرة ثانية إلى غرفة نوم المشير سمع استغاثة السفرجي منصور الذي نادى عليه ليسرع إلى غرفة المشير حيث قرر أنه سمع صوت "شخير" عالٍ صادر عن المشير. ولما دخل الطبيب وجده راقداً على الفراش في حالة غيبوبة ونبضه ضعيف.. فسارع بإعطائه حقنة "كورامين" و"أمينوفلين" كما أجرى له تنفساً صناعياً من أنبوبة الأوكسجين. ولم يجد ذلك كله حيث تحققت وفاة المشير عبدالحكيم عامر قرابة الساعة السادسة وأربعين دقيقة"


وحسب تأكيدات الطبيب المعالج فإن المشير عامر لم ينطق بأي عبارات في الدقائق التي سبقت وفاته.. وكل ما تكلم به مع الطبيب أثناء تعليق أنبوبة الجلوكوز هو أنه قال له: "مفيش فايدة من كل اللي بتعمله ده"

ويقول سامي شرف :" في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة أبلغني العميد محمد الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري بنبأ وفاة المشير عبدالحكيم عامر فقمت بإبلاغ الخبر للرئيس بالإسكندرية في الحال وكان الخبر صاعقاً بالنسبة لنا جميعاً.. أما بالنسبة للرئيس فقد وضع سماعة التليفون بمجرد سماعه الخبر"


أمر الرئيس عبد الناصر بإبلاغ وزير العدل والنائب العام وكبير الأطباء الشرعيين فوراً لاتخاذ الإجراءات القانونية والتحقيق

بدأت التحقيقات في واقعة انتحار المشير عامر تحت إشراف وزير العدل عصام الدين حسونة وانقسم التحقيق إلى قسمين:

الأول: تحقيق الطب الشرعي وقد أشرف عليه الدكتور عبدالغني سليم البشري وكيل وزارة العدل لشؤون الطب الشرعي ويعاونه الدكتور يحيي شريف أستاذ الطب الشرعي بجامعة عين شمس والدكتور علي عبدالنبي أستاذ الطب الشرعي بجامعة القاهرة والدكتور كمال السيد مصطفى مساعد كبير الأطباء الشرعيين

والثاني: يتولاه النائب العام المستشار محمد عبدالسلام يعاونه المحامي العام وعدد من رجال النيابة العامة ويتولى التحقيق في كل ظروف الحادث ومع كل الذين كان لهم أدنى علاقة به بمن فيهم أسرة المشير وأطقم الحراسة وهيئة مستشفى القوات المسلحة بالمعادي وكل من كان في استراحة المريوطية

وقد أصدرت النيابة العامة أول بيان لها يوم السادس عشر من سبتمبر أيلول عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين.. جاء فيه أن التحقيقات بدأت بسؤال كل من الفريق فوزي والفريق عبدالمنعم رياض وكل من كان له صلة في هذه المأمورية منذ أن بدأت وكذا هيئة مستشفى المعادي، إلخ

وجاء في البيان بعد ذلك ما يلي بالنص:"... كما ثبت اليوم بصفة قاطعة من التحليل الضوئي والكيماوي الذي أجرته مصلحة الطب الشرعي أن المادة التي وجدت مخفاة تحت الشريط اللاصق وزنها مئة وخمسون ملليغراماً هي مادة "الأكونيتين"..وهي عقار شديد السمية سريع الأثر..يكفي نحو ملليغرام أو اثنين منه لإحداث الوفاة في مثل الظروف والحالة التي شوهد عليها الجثمان"

لا أحد يقطع بأن هذه هي الرواية - المستقاة من شهادات عدد كبير ممن عاصروا الأحداث- هي الرواية الأكيدة.. لكنها قد تبدو أكثر منطقية من غيرها. وبغض النظر عن تفاصيل الدقائق الأخيرة في حياة المشير عامر والسيناريوهات المتناقضة حول ما جرى فيها.. فالثابت أن حالة المشير كانت أقرب ما يكون إلى الانهيار النفسي والعصبي

انهيار يعد ثمرةً مرةً لواقعٍ ضاغط.. ومأساة أمة..وخلافات شخصية..وأزمة ثقة.. أدت في مجملها إلى تلك النهاية الدرامية للرجل الذي شارك في صنع ملامح هزيمة يونيو لأنه ظن مثل كثيرين غيره أن مصر إقطاعية قبل أن تكون وطناً للمصريين

gravatar

الصديق العزيز .. ياسر

ثورة وثروة .. ناصر وعامر .. حكاية الزعران

أولا لابد من الاشادة ليس فقط بالتكوين الحاسم المؤيد بتفاصيل دقيقة لما حدث، بل لإثارة موضوع حيوي وفاصل في تاريخ مصر.
وكأنك تكتب هذا المقال عامدا متعمدا إثارة تلافيف مخي للتعليق .

مابين مصر الوطن والبلد والدولة وبين زعران إنقلاب يوليو .. أنهار من دم طاهر مراق، وآلاف من أرواح متطهرة من شباب مصر، وأجيال من نخبة تم سحقها، وأقتصاد متزعزع مهترىء بفعلة هؤلاء، وفقر وجهل ومرض ضرب بجذوره في أعماق وريد ريف وصعيد مصر ، وعائلات هاجرت، ويهود تشردت، وأقباط تفرقت، وأموال تبعثرت .. ..بين مصر وهؤلاء حق ودم، لذلك وجبت محاكمتهم تاريخيا وفضخ خيانتهم وتجريسهم بما أقترفوه إثما وعدوانا.

العريف عامر .. أزعر زعران مجلس العتبةالشهير بمجلس قيادة الثورة - بعد صاحب الازعرانة الصول ناصر طبعا ـ
لك أن تتخيل أن هذا التافه والذي لم يحارب في أي معركة ولم يحمل سلاحا إلا وجاهة قد تم ترقيته إلي رتبة مشير .. وحدود علمه العسكري لا يخرج عن الجمل الانشائية التي تكتب علي جدران مراكز التدريب. هل الهزيمة مسئولية عامر وحده ؟ بالطبع لا .. فوراء هزيمة مصر عسكريا طابور طويل يبدأ بعبد الناصر وينتهي بأصغر صانع قرار.
وهزيمتها ثقافيا تبدأ بهيكل وعكاشة وتنتهي بدراويش ناصر.
وهزيمتها إقتصاديا..
ونفسيا..
وسياسيا..............إلخ

ومن شبه المؤكد أن عامر قتل ولم ينتحر .. فتركيبته النفسية بعيدة تماما عن الاقدام علي الانتحار، فهو رعديد بالمعني النفسي للكلمة ..
وهكذا كان أسلوب ناصر .. تحميل الآخرين أخطائه الفادحة والتخلص منهم علي طريقة محمد علي... بدأ بمحمد نجيب وانتهي بعامر.
ناهيك عن تاريخ عامر الملوث بسرقة مجوهرات العائلة المالكة وواقعة البروش الشهير بباريس والتعصب لعائلته ووضع اليد علي الاراضي الزراعية وقتل المناوئين له وتربيطات الجيش .. وكثير.
وليس غريبا أن يكون أشرف مروان زوج إبنة ناصر أفندي أكبر مشهل لعمليات تجارة السلاح في الشرق الاوسط بالتعاون مع عدنان خاشجقي ..

ثلاثة من زعران الجيش حكموا مصر 54 عاما .. ونجيب لا يحسب.
ماتعيشه مصر الآن هو تطور طبيعي لصورة الحاكم والدولة من ناصر الي الان.

لا أدري كيف وصل هؤلاء الاقزام الي حكم مصر.

وكل عيد وأنت طيب

gravatar

كل سنة وانت طيب يا ياسر
ياحبيبي
الشيء الذي استرعى انتباهي
هو الدور (السياسي)لعائلة زوجة المشير بعقد عرفي!!!وهذا يعني بالضبط فيلم من افلام مخرج الروائع حسن الامام حيث تقوم الراقصات بالنضال الوطني ومحاربة الفساد
او لو كنا في بريطانيا العظمى
يبقى
الحاجة بتاعة فضيحة بروفوميو الشهيرة تحكي لنا عن دورها الوطني والتاريخي
او الست مارلين مونرو تقص علينا قصة تدخلاتها في ازمة الصواريخ الكوبية وكيف اقنعت كنيدي بانه ياخد موقف حاد وحاسم

يعني بذمتك يا ياسر في كده في ام الدنيا؟؟؟
تاني هام هو نظرة عامر للرئيس انور السادات ومن الواضح انه
لم يكن يكن له تقديرا كبيرا وبالتالي ناله منه اكبر قدر من التعنيف
ولكن الفكرة هي في الجو العام المسيطر على علاقة شلة الضباط ببعض
وبالتالي نظرتهم للناس ومدى استخفافهم بيهم

اما ثالثة الاثافي
فهي حكاية ام الرأي العام الللي بيلجأو له لم تدلهم الامور(حلوة الاثافي وتدلهم ديه مش كده
يا حاج)يعني بعد ما عملم ما بدالهم ييجوا يفتكروا الناس برضه عشان يركبوهم؟؟؟
بجد حاجة غريبة و شديدة الغرابة
وتنم عن عدم احترام حقيقي للنفس
يعني الناس دي بجد ماكانتش بتحترم نفسهااساسا ورؤيتها لذاتها رؤية شديدة الاحتقار للذات
تخيل معايا مثلا هتلر بيلجأ لجماهير العالم ؟؟؟

دول عندهم القدرة يلجأوا
بجد عايزين ابو الليل هنا

وكل سنة وانت بخير يا جميل والاسرة الكريمة في احسن الاحوال

gravatar

طبيب نفسي:
صديقي الدكتور وليد.. هي فعلاً إقطاعية حكمها هؤلاء ممن ظنوا أنهم يملكون الحق في التلاعب بمقدرات الوطن..وكانت النتيجة سقوطاً مروعاً وسلسلة من الأكاذيب التي يطنطن لها البعض حتى يومنا هذا
عبد الحكيم عامر كان يعتبر الجيش ملكاً له..حتى بعد هزيمة يونيو.. ولم يجد أمامه سوى استدعاء روح القبيلة من قريته إسطال في المنيا

هكذا كانت الحال..وربما هكذا هي الحال حتى الآن

gravatar

أسامة:

تلك هي الصورة المفزعة لحركة الضباط الأحرار وثورة يوليو وما تلا ذلك من قصص ومهازل يندى لها الجبين.. لا أحد يدري كيف حكم هؤلاء مصر وتولوا أعلى المناصب فيها وهم في حالة تنازع وصراع على تلك المناصب والمقاعد

ولا تسل عن الاحترام الغائب بين هؤلاء "القادة"..وعن هذا الاحترام سيكون لنا حديث مطول قريباً إن شاء الله

gravatar

وعلى الرغم من ذلك تجد الكتاب الناصريين يهاجمون كل من يجرؤ على نقد شلة الضباط الأحرار بتهمة معاداة السامية- عفواً الناصرية وثورة يوليو..


قرأت مقالاً نقدياً لحمدي عبد الرحيم عن محمد صفاء عامر في حدائق الشيطان على صفحات جريدة الكرامة الناصرية الأسبوع الفائت ، كثير مما قاله حمدي في هجومه على السيناريست الشهير صحيح ، لكن الكوميدي أن حمدي في عريضة اتهامه لصفاء عامر يتهمه بمعاداة ثورة يوليو ، أي أن الشخص لا يدخل زمرة العيال الوحشين في نظر هؤلاء إلا إذا تفوه بتصريح يراه الناصريون معادياً لثورة يوليو!

المسكين القادم هو يحيى الفخراني ، الذي أدلى بتصريح مؤيد لكامب ديفيد والرئيس السادات على صفحات الحيزبون روزا اليوسف.. حياكل ضرب!

gravatar

قلم جاف:
مشكلة أي تيار سياسي أنه يحاول احتكار الحقيقة..ومن ليس معه فهو بالضرورة ضده

إعمال العقل يعني أن نكون هادئين وموضوعيين عندما نناقش قضايانا السياسية وغيرها من القضايا..دون تشنج أو تحريض أو توزيع اتهامات من القاموس المجاني للتخوين

أدهم:
كل عام وأنت بخير
أشكرك يا عزيزي على كلماتك الرقيقة
عبد الحكيم عامر وجد نفسه فجأة في رتبة مشير وهي قفزة كبيرة في عالم العسكرية..وتوقفت علومه وخبراته العسكرية عند حدود "الصاغ".. وانشغل بملذات الحياة وترف السهرات..وارتاح إلى وضعه كصديق مقرب للرئيس
والنتيجة الطبيعية: ما كان..وربما ما هو كائن الآن

gravatar

العزيز ياسر
ملخص هذه التدوينة والتدوينات السابقة أن مصر ليست بلد ولكنها عزبة يحكمها كم قال العزيز وليد والدكتور أسامة مجموعة من الزعران فاقدى الحياء ,فاقدى الحياء تعبير صائب جداً.
مجهود كبيرة لمجموعة من التدوينات مترابطة ومتكاملة .
شكراً

gravatar

علاء السادس عشر: كل عام وأنت بخير
نعم يا صديقي.. مصر أصبحت إقطاعية يتحكم فيها مجموعة من معدومي الضمير الذين لا يدري أحد كيف قفزوا إلى السلطة
هل يعقل أن يقود مصر حتى عهد قريب من أدمنوا سهرات الأنس والمخدرات وأهملوا واجباتهم تجاه وطنهم وتفرغوا للمشاحنات والمنازعات؟ وهل يصح أن يقودها الآن مجموعة من أصحاب المصالح الضيقة الذين يتجاهلون مصالح مصر العليا وحقوق وحريات شعبها؟
هذا بالتحديد ما نحاول معاً الإجابة عليه في هذه التدوينات

gravatar

العزيز ياسر

بوست جديد يضيف الى تدويناتك عمق اخر
ليضيف حلقة جديدة الى السلسلة السياسية فى مصر
ذكر فى كتاب
'سنوات عصيبة. ذكريات نائب عام'
للمستشار محمد عبد السلام ان مادة الأكونيتين والتى اثبت الطب الشرعى انها سبب الوفاه كانت موجودة بكمية فى مكتب صلاح نصر وانه لم يكن يدرى عنها شيئا حيث انه طلب مادة سامة وتوقع انها سيانور ولكنها لم تكن كذلك ووجد بعد انتحار عبد الحكيم عامر نقص فى الكمية التى كانت طرف صلاح نصر
مما يشير الى ان المادة تم الحصول عليها من المخابرات المصرية بصورة او بأخرى

ان تاريخ عبد الحكيم مع الانتحار المتكرر غريب نوعا ما فقد صدمت فى هذه الشخصية القيادية والتى من المتوقع منها قدرة هائلة على تحمل المشاكل والمصادمات بحكم موقعه اما حالة الانهيار العجيبة التى اصابته واودت به الى الانتحار ما زالت تحيرنى
وهل حرمانه من موقعه اقوى من رغبته فى الحياه؟

مرة اخرى تحية على هذا البوست

gravatar

توتة:
ما ذكره المستشار محمد عبدالسلام في كتابه يتفق مع ما ورد في مصادر وشهادات أخرى..حدد بعضها الكمية الناقصة من الأكونيتين وتحدث عدد منها عن إخفاء هذا السم في خاتم كان عبد الحكيم عامر يرتديه..وما إلى ذلك من أمور

في بعض الأحيان يسجن أصحاب المواقع القيادية أنفسهم في سجن كبير اسمه وهم الخلود في الموقع

والنتيجة؟..انظري إلى نهاية فيلم محمد خان "زوجة رجل مهم" لتعرفي نموذجاً لمأساة رجل السلطة حين يشعر بأنه فقد هيبته وسطوته في غمضة عين

إنها لعنة..لم ينج منها إلا نفرٌ قليل

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator