غيمة تمطر أصالة
في ذلك الوقت كان السوفييت يضغطون على أعصاب القوات المسلحة المصرية بقوة ويماطلون في تغطية أجواء مصر المفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي..حتى إن المشير محمد عبد الغني الجمسي يقول في مذكراته التي تحمل عنوان "حرب أكتوبر عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين" إنه في يناير كانون ثانٍ من عام ألف وتسعمئة وسبعين "أغارت الطائرات الإسرائيلية على مناطق التل الكبير وإنشاص ودهشور وبعض مدن الدلتا.. وفي فبراير وجهت إسرائيل هجماتها الجوية على منطقة أبو زعبل وحلوان.. وكانت الخسائر المصرية في منطقة أبو زعبل حوالي سبعين شهيداً من المدنيين. وفي أبريل أغارت
إن من السذاجة أن ننسب الفضل في ذلك كله إلى ضعف قلب غريتشكو أمام الراقصة التي وصفها الرئيس المصري أنور السادات يوماً بأنها "أم كلثوم الرقص"..لكن من الواقعية الشديدة ألا ننكر تأثير ذلك أيضاً
إن أمين هويدي -الذي كان في ذلك الوقت رئيساً للمخابرات العامة - يدلل على ذلك بمثالٍ آخر..أهم
لقد أصر السوفييت على أن تكون تحركات قواتهم القادمة من بلادهم إلى مصر سريةً.. ولكن المفاجأة حدثت عند عبور السفن السوفيتية التي تحمل القوات والمعدات المتفق عليها مضيق الدردنيل..فقد عبرته نهاراً والأفراد يحيون من تقع أنظارهم عليه على الشواطيء..وإذاعات العالم ووسائل الإعلام تتابع بشغفٍ هذا المنظر الفريد. وأصرت السفن على دخول ميناء الإسكندرية في وضح النهار.. وأن يجري التفريغ تحت ضوء الشمس..وأن تشق شوارع القاهرة نهاراً..ولم يكن ذلك ما هو متفق عليه
ولن نشعر بالدهشة بعد ذلك لو عرفنا أن غريتشكو - الذي زار مصر مرتين عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعين: الأولى بين الثامن عشر والحادي والعشرين من فبراير شباط والثانية بين الرابع عشر والسابع عشر من مايو أيار- وجّه للراقصة التي وقع في هواها دعوةً رسمية لزيارة موسكو..وعندما هبطت العاصمة السوفيتية فوجئت بمظاهر الترحيب والاهتمام التي لا يحظى بها عادةً بعض زعماء العالم الثالث..ووجدت نفسها تدخل الكرملين مقر الحكم والنفوذ على سجادةٍ حمراء
أما في القاهرة فلم يُنشر سوى خبر في إحدى المجلات الفنية المتخصصة على لسان سهير زكي يتحدث عن استعدادها للسفر إلى موسكو للمشاركة في تصوير مشروع سينمائي..مشروع تبخر الحديث عنه سريعاً
عرفت سهير زكي عبد الله - المولودة في الرابع من يناير كانون أول عام ألف وتسعمئةٍ وخمسة وأربعين- طريقها إلى قلب وزير الدفاع العتيد الذي لم يستطع أن يرفض مطالب "طبق الجيلي" - وهو اللقب الأثير إلى قلب سهير زكي- فالقلب له أحكامه..ولم يكن لها طلبات خاصة إنما كانت طلباتها تتعلق بتسليح الجيش المصري بعد الهزيمة
سهير زكي التي قالت يوماً إنه "مفيش راجل في الدنيا يعطي من غير ما يطلب الثمن" لم تنس يوماً قسوة الأب زكي عبد الله الذي تركها وهي جنين عمره شهران في بطن أمها..فكانت تردد دائماً عنه "عمري ما شفت منه غير القطيعة والأسية..وكنت أقول لنفسي إذا كان ده أبويا..يبقى الرجالة إيه"!
كما رقصت سهير في قصر شاه إيران وأمام الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة والرئيس الأمريكي سابقاً ريتشارد نيكسون الذي أطلق عليها لقب "زغاريط" حين علم أن الكلمة تعني الزغاريد التي تترافق عادةً مع البهجة والأفراح. وذات يومٍ تساءلت سهير زكي أمام صحفي روسي قائلةً :"مش عارفة ليه لا تدعوا الراقصات المصريات لعرض فنهن على الشعب الصديق؟!"..وقد كان
أطلق عليها كثيرون ألقاباً براقة..لكن عبد الحليم حافظ أسماها "الشيخة"؛ لأنها رفضت عروضه المغرية للرقص في الكويت وبيروت وإمارات الخليج. وقد اعتادت سهير أن تصوم وتصلي في شهر رمضان..لكنها ترقص أيضاً في رمضان بين صلاة العشاء وصلاة الفجر..وتقول: هذه نقرة..وهذه نقرة
اللقاء الذي جرى بين سهير زكي والمارشال غريتشكو -الذي احتفظ بمنصبه كوزير للدفاع حتى وفاته في الرابع والعشرين من أبريل نيسان عام ألفٍ وتسعمئةٍ وستةٍ وسبعين- فتح صفحةً جديدة من كتاب العلاقات المصرية -السوفيتية خاصةً على صعيد التعاون العسكري..والدور الذي لعبته تلك الراقصة التي لا تزيد صلتها بعالم السياسة على بطاقة عضوية في الاتحاد الاشتراكي مُنِحت لها ذات يومٍ..غيرّ كثيراً من خريطة الأحداث السياسية في مصر والمنطقة
إن الحظ الذي قاد ابنة المنصورة التي عرفت الشهرة في الإسكندرية أولاً إلى ليالي القاهرة الساهرة مروراً ببرنامج "أضواء المسرح" ووصولاً إلى أكثر من خمسين فيلماً شاركت فيها كراقصة وممثلة..هو نفسه الحظ الذي جعلها تخطف قلب وزير الدفاع - وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي- الذي استسلمت كل حصونه من أول طلقةٍ أطلقتها عليه عيناها في تلك الليلة الاستثنائية في أحد الملاهي الليلية التي تنام على ضفاف النيل
كان غريتشكو القائد العام لقوات حلف وارسو طوال سبع سنوات..بين عامي ألفٍ وتسعمئةٍ وستين وألفٍ وتسعمئةٍ وسبعة وستين.. لكن القائد استسلم بسهولة لراقصة..ربما لأن المعركة كانت في ملعبها..ولم تكن في ساحته
قصة مجهولة.. ربما.. لكن تفاصيلها تسربت من أحد المقربين من وزير الحربية سابقاً الفريق أول محمد فوزي الذي كتب مذكراته المهمة تحت عنواني "
"حرب ثلاث السنوات: 1967-1970" و"استراتيجية المصالحة"..وجرى التحقق من مدى دقتها من رجلٍ كان مسؤولاً في تلك الأيام..وكانت مسؤوليته تتيح له أن يعرف ما فوق السطح..وما تحت الأرض. أما المقصود فهو مدى الضغوط التي كان يمارسها السوفييت على مصر والتي وصلت إلى الراقصات في الكباريهات
لم يكن هناك في مصر من لم يدفع الثمن.. فالهزيمة كانت بالجملة والتقسيط
كانت رسالة السادات التي نقلها مبارك إلى الشاذلي تحمل في مضمونها محاولة لإقناع الأخير بمنصب سفير مصر في لندن.. ولكن الشاذلي ظل مصراً على موقفه وقال لمبارك: "إذا كان الرئيس يعرض عليّ هذا المنصب مكافأةً لي فأرجو إبلاغه شكري واعتذاري عن قبول المنصب.. وإذا كان هذا المنصب عقاباً لي فلنضع النقاط على الحروف ولنناقش هذا الموضوع بطريقة علنية..لن اقبل هذا المنصب ولن يستطيع أحدٌ أن يرغمني على قبوله"
| جميع الحقوق محفوظة قبل الطوفان2 | © 2011 |