الموت الغامض في لندن 1: شرفة تلو أخرى
ولعل أول ما يستوقفنا هنا ما طالعتنا به جريدة "الوفد" في اليوم التالي للوفاة نقلاً عن أحد المقربين من أسرة مروان قوله إن "الفقيد كان يستعد قبل وقوع الحادث بخمس عشرة دقيقة للتوجه إلى مطار هيثرو في طريقه للعودة إلى القاهرة في زيارة قصيرة كان يعتزم القيام بها. وقد شاهده أحد أصدقائه من الجالية المصرية كان في طريقه لوداعه قبل السفر أثناء وقوفه "ببلكونة" منزله يتحدث من تليفونه المحمول وشاهده أثناء سقوطه بعد أن اختل توازنه"
الأخطر من ذلك أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية ذكرت أن أشرف مروان -من مواليد الثاني من فبراير شباط عام ألف وتسعمئة وأربعة وأربعين- مات في اليوم نفسه الذي كان يفترض أن يلتقي فيه المؤرخ الإسرائيلي آهارون بريغمان الذي كشف عن هوية مروان الجاسوسية في كتاب صدر تحت عنوان "تاريخ إسرائيل" جاء فيه أن أشرف مروان المستشار لعب دور العميل المزدوج ببراعة وزود إسرائيل بمعلومات مضللة قبل حرب أكتوبر/تشرين أول عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين وأثناء المعارك..ونقلت عن بريغمان قوله إن مروان اتصل به في الليلة السابقة لموته وترك له ثلاث رسائل صوتية على آلة التسجيل حدد فيها موعدا للقائه مساء اليوم التالي
وأضافت الصحيفة "أن إيلي زعيرا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي أثناء حرب أكتوبر/تشرين أول عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين وكبار قادة الموساد في ذلك الوقت و"الشاباك" الأمن الداخلي اعتبروا ان أشرف مروان كان عميلاً مزدوجاً"
لكن صهر الرئيس عبد الناصر نفى أكثر من مرة هذه المزاعم وأكد أنه لم يعمل مطلقاً لحساب أي جهاز استخباري في أي جانب
من جهتها، صمتت الدولة في مصر طويلا بشأن الدور الغامض للملياردير وصهر الرئيس السابق..إلى ما بعد رحيل أشرف مروان ببضعة أيام..إلى أن ألقى الرئيس المصري حسني مبارك بثقله دفاعاً عن سمعة الرجل
وفي أول رد رسمي مصري على هذا الموضوع، قال مبارك "إن أشرف مروان كان وطنياً مخلصاً لوطنه"..ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية عن مبارك قوله في الطائرة التي عادت به من العاصمة الغانية أكرا حيث شارك في افتتاح قمة الاتحاد الإفريقي إن ًأشرف "قام بأعمال وطنية لم يحن الوقت بعد للكشف عنها ولكنه كان بالفعل مصرياً وطنيا ولم يكن جاسوساً على الإطلاق لأي جهة"
وأشار مبارك إلى أن "ما نُشِرَ عن الراحل أشرف مروان وإبلاغه إسرائيل بموعد حرب أكتوبر 1973 لا أساس له من الصحة". وأضاف "لا أشك إطلاقاً في وطنية الدكتور أشرف مروان وكنت أعلم بتفاصيل ما يقوم به لخدمة وطنه أولاً بأول"
وهكذا ارتدت مراسم تشييع أشرف مروان طابعاً رسمياً حيث شارك فيها حشد من كبار المسؤولين السياسيين من بينهم جمال مبارك نجل الرئيس المصري، كما حضر الجنازة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي..وجرى دفنه في مقابر "الكومنولث" التي تضم عدداً من الشخصيات البارزة، منها رئيس الوزراء المصري الدكتور عاطف صدقي وعدد من الضباط الأحرار مثل عبداللطيف البغدادي
ويقول آهارون بريغمان إنه بعد مضي نحو عامين على حرب يونيو /حزيران عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين طرق شاب مصري في منتصف العشرينيات من العمر باب السفارة الإسرائيلية في لندن وطلب العمل لحساب الموساد
ولأن الطريقة التي تطوع بها هذا الشاب كانت مباشرة وغريبة.. لم يستجب له ممثل الموساد في السفارة، لكنه أصر وترك بياناته على وعد بالعودة مرة أخرى
وذكر الكتاب أن مسؤولي الموساد أصيبوا بصدمة شديدة لدى تحققهم من شخصية هذا المتطوع، إذ اكتشفوا أنه مسؤول مصري كبير تربطه صلة قرابة بالرئيس المصري في ذلك الوقت، جمال عبد الناصر
وجاء في الكتاب أن الإسرائيليين جندوه على الفور، واعتبر فيما بعد أهم جواسيس إسرائيل المصريين، فكان يتقاضى في كل مقابلة له مع ضابط الموساد المشرف عليه مئة ألف جنيه إسترليني..وهكذا دفعت إسرائيل لأشرف خلال سنوات تخابره معها ثلاثة ملايين دولار. وللحفاظ على سرية شخصية هذا الجاسوس كان الإسرائيليون يشيرون إليه باسم "الدكتور" أو "زوج الابنة"..وأطلق على هذه العملية اسم "عملية بابل"
وانتهج "زوج الابنة" استراتيجية بعيدة المدى بدأت بتقديم معلومات صحيحة وقيمة للموساد لكسب ثقة الإسرائيليين انتظاراً لأوان توجيه ضربته
وكان من أبرز عوامل نجاح زوج الابنة في إقناع الموساد بولائه -حسبما يروي بريغمان في كتابه- قصة ليس لها علاقة مباشرة بحرب أكتوبر
ففي فبراير/ شباط من عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين ضلت طائرة ركاب ليبية طريقها بسبب عاصفة واقتربت من إسرائيل.. فخشي الإسرائيليون من أن تكون الطائرة متوجهة لضرب مفاعل ديمونة في صحراء النقب فأسقطوها..وكانت النتيجة مقتل مئة وستة من ركاب الطائرة ونجاة سبعة فقط .. وكان من بين ضحاياها المذيعة المصرية الشابة المعروفة سلوى حجازي ووزير الخارجية الليبي سابقا صالح بو ياسر
وقد ثار الزعيم الليبي معمر القذافي وحمل برج المراقبة الجوية المصري المسؤولية عن انحراف الطائرة.. وطالب السادات بالرد على إسرائيل مصراً على الانتقام بإسقاط طائرة إسرائيلية.. لكن السادات خشي من أن يؤدي القيام بعمل انتقامي إلى اندلاع حرب شاملة مبكرة وإفساد خططه الحربية التي يعد لها منذ سنوات.. فتظاهر بالتجاوب مع الزعيم الليبي وعهد إلى أشرف مروان بإعداد خطة لشن هجوم انتقامي
واقترح أشرف مروان أن يقوم فريق من خمسة فلسطينيين بضرب طائرة ركاب إسرائيلية أثناء إقلاعها من مطار روما بصاروخ محمول على الكتف.. لكن مروان أبلغ الإسرائيليين بالخطة واعتقل الفلسطينيون الخمسة في إيطاليا قبل تنفيذ العملية بعد أن نقل الموساد لأجهزة الأمن الإيطالية المعلومات التي تلقاها من عميله
ويقول الكتاب إن مصر نجحت بذلك في تحقيق ثلاثة أهداف: فقد تفادت إشعال حرب شاملة مبكرة، وحافظت على علاقاتها مع ليبيا، وكسبت ثقة الموساد في"زوج الابنة"
كان أشرف مروان صاحب رصيدٍ حافل بالمغامرات في عالم الثروة والسلطة
إذ لم يكن أحد يتوقع للسياسي الطموح الذي اقترن بكريمة عبدالناصر في يوليو تموز عام ألف وتسعمئة وستة وستين ـ أي بعد عامٍ واحد من حصوله على تخرجه في كلية العلوم في جامعة القاهرة قسم كيمياء بدرجة جيد- أن يصبح واحداً من أكبر رجال الأعمال في لندن
كان أشرف مروان برتبة ملازم أول في سلاح الحرب الكيميائية عندما تعرّف على ابنة العشرين ربيعاً منى عبد الناصر، طالبة الجامعة الأمريكية، ذات يوم من صيف عام ألف وتسعمئة وخمسة وستين، وفي إطار لعبة التنس في أحد نوادي القاهرة الرياضية..أوقعها أشرف في شباكه بذكاء إلى أن تزوجا
قرّر عبد الناصر أن يبقي الصهر الجديد تحت ناظريه بأن عيّنه أوّلاً في الحرس الجمهوري ــ سرية الكيمياء حيث خدم لعامين، ثم نُقل أواخر عام ألف وتسعمئة وثمانية وستين إلى مكتب الرئيس للمعلومات ليكون تحت الإشراف المباشر لعين الرئيس الساهرة سامي شرف
وفي عام ألف وتسعمئة وتسعة وستين حدثت واقعة تستحق أن تروى
ففي أثناء دراسته في بريطانيا لنيل درجة الماجستير..طلب أشرف من سعاد الصباح قرينة الشيخ الكويتي عبد الله المبارك الصباح معونة مالية، بحجة أن مخصصاته التي تدفعها القاهرة له كمبعوث لا تكفي لسد نفقاته في بلد مكلف. دفعت سعاد الصباح لأشرف ما طلب.. لكن القنصل المصري هناك رفع تقريره لمكتب الرئيس.. فجاءه الجواب بشحن أشرف مروان على أول طائرة. جرى التحقيق معه فاعترف بذنبه وعلّله بغلاء المعيشة
لكن نصرة منى لزوجها أسهمت مرة أخرى في تليين الموقف.. وفي السماح له بالعودة إلى لندن لاستكمال دراساته العليا مع دفعه المبلغ المستدان لسعاد الصباح.. وتعهّده بعدم تكرار هذه التصرفات في المستقبل.. وبالتوجّه إلى مكتب الرئيس المصري إن احتاج أي عون مادي
ثم بدأ عهد السادات..الذي عين أشرف سكرتيرا للمعلومات بدلاً من سامي شرف في مايو/أيار من عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين
اكتسب الرجل ثقة السادات وكان مبعوثا شخصيا للرئيس المصري منذ عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين لرؤساء وملوك الدول العربية والأجنبية..وعندما تم تأسيس الهيئة العربية للتصنيع عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين برأسمال مليار دولار بين مصر والسعودية وقطر اختير رئيساً لها..وهاجمته الصحافة بقوة في ذلك الوقت نظراً لما اعتبره البعض بذخاً في الإنفاق.. واتهمه الكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي بارتكاب تجاوزات مالية. كما شن موسى صبري الصحفي المقرب من السادات حملات قوية ضده أطلق فيها عليه "الطفل المعجزة"
ويحكي موسى صبري في كتابه "السادات.. الحقيقة والأسطورة" أنه دار بينه وبين السادات حديث وديٌّ حول مروان سأله فيه عن سر تمسكه بالأخير بالرغم من هذه الشائعات المحيطة به فأجابه السادات بالقول: "أنا لا أقبل أن أمد يدي لأي حاكم عربي، لكننا نتعرض لمآزق مالية خطيرة، وأشرف يقوم بهذه المهمة، كما أنه قدم خدمات ممتازة في موضوع الأسلحة، واستطاع بجهده الشخصي أن يذلل كثيرا من العقبات مع المصانع الفرنسية بالذات، وتم هذا في أوقات حرجة وقبل حرب أكتوبر 1973"
تدريجياً بدأ نجم أشرف مروان في الأفول لدرجة أن الرئيس السادات طلب عام ألف وتسعمئة وثمانية وسبعين أن يحقق النائب العام معه بسبب أراض زراعية اشترتها زوجته في منطقة الهرم.. وكان السؤال الرئيسي في التحقيق هو: من أين لك هذا؟.. وفي التحقيق قال مروان إن زوجته اشترت أرضاً بثمن سيارات أهدتها لها شخصيات عربية تكريما لها بوصفها ابنة الرئيس عبدالناصر ثم باعت هذه الأرض بسعرٍ أكبر واشترت بالثمن الجديد قطعة أكبر.. وفي النهاية تم حفظ التحقيقات
وفي عام ألف وتسعمئة وتسعة وسبعين خرج مروان من الهيئة العربية للتصنيع بعد أن منحه الرئيس السادات وسام الجمهورية من الطبقة الأولى لينطلق بقوة في دنيا الأعمال
ويقول د. محمود جامع صديق ومستشار الرئيس السادات في فترة السبعينيات إن "مروان استغل وجوده على رأس الهيئة العربية للتصنيع في الدخول إلى عالم صفقات السلاح مستغلا علاقاته الدولية الواسعة.. وأنجز بالفعل لصالح مصر صفقات طائرات الميراج الفرنسية التي كانت متعثرة.. وأنجز صفقات سلاح لدول عديدة منها ليبيا.. وكان بالفعل يأخذ عمولاته"
ومن الواضح أن أن أشرف مروان ونافذته الليبية -وبالتحديد عبر الرجل الثاني في ليبيا آنذاك عبد السلام جلود - حصدا ثروات طائلة عبر صفقة الميراج الفرنسية لليبيا أواخر عام 1969
ويشير جامع إلى أن "أشرف مروان استمر في هذا البيزنس بعد خروجه من رئاسة الهيئة وابتعاده عن السلطة ودخل في صراعات مع تجار سلاح كبار.. وكان له رجاله في لندن. ولم تنقطع في هذه الأثناء صداقته بالرئيس السادات وظل على اتصال وثيق به. كذلك ارتبط بصداقة حميمة بالسيدة جيهان السادات حيث كانت بينهما مصالح مشتركة"
والشاهد أن الرجل استغل علاقاته وصداقاته القوية بعدد من المسؤولين العرب وعلى رأسهم صديقه كمال أدهم -صهر العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز ورئيس جهاز المخابرات العامة السعودية- ليؤسس شركات تجارية وعقارية في لندن
وهناك في أرض الضباب صعد مروان بسرعة الصاروخ ليصبح واحداً من نجوم المال.. ويقال إنه اشترى أرضاً باعها بخمسة أضعاف قيمتها بعد أقل من عامين وهو ما جعله يشتري أسهماً في شركات عديدة منها "هارودز" و"بولي بيك" و"بي فيس لوكس" وهي شركة تجارة ومقاولات كبيرة. كما اشترى فندقا سياحيا في إسبانيا.. فضلاً عن أسهم في شركات .."فيليب استريد هولدنغ" و"أمريكان انترناشيونال بتروليوم"..وكان في وقت سابق من كبار حملة الأسهم في نادي تشيلسي الرياضي لكرة القدم
وتقول تقارير إن أشرف مروان ربما قُتِلَ نتيجة لخلافات مع بعض رجال الأعمال، وإن الحادث يلقي الضوء على ما ورد في كتاب "من قتل ديانا؟"، الذي يشير فيه المحقق الصحفي البريطاني سيمون ريغان إلى علاقة مروان بأجهزة مخابرات عربية، ويتحدث عن تحالف مروان مع الرجل الذي حارب محمد الفايد صاحب محلات "هارودز" طويلا: رولاند "تايني" رولاند
ويكشف سيمون ريغان في كتابه عن علاقات مروان وعن الصفقات التي عقدها وكون منها ثروة ضخمة في عهدي عبد الناصر والسادات.. قائلا إن أول ظهور لأشرف مروان كرجل أعمال وتاجر سلاح في بريطانيا كان عام 1979 عندما اشترى 40 % من أسهم شركة "تريدوندز" والتي كان يمتلكها أكبر تجار السلاح في ذلك الوقت وهو رولاند، والتي سرعان ما شارك فيها أحمد قذاف الدم ابن عم الزعيم الليبي وشقيق رئيس جهاز المخابرات الليبية، والسير إدوارد دو كان.. حيث جرى عبر هذه الشركة تهريب أسلحة أمريكية إلى ليبيا وبعض الجهات المتناحرة في لبنان وبعض الدول الإفريقية وفصائل فلسطينية. وتكشف تقارير أجهزة الاستخبارات عن نجاح شركة مروان في الحصول على حصة أسهم بقيمة 12 مليار دولار أمريكي في "لونرهو"..وكان القذافي قد خول مروان وقذاف الدم الحصول على أي أموال لازمة لصفقات السلاح التي سعى إلى توزيعها على قوى وفصائل معينة من خلال شركة البترول الليبية "لافيكو"
وقد أثار مروان ضجة كبيرة بين رجال الأعمال البريطانيين عندما قدم عرضاً لشراء مجموعة شركات "كوتراد" المالكة لسلسلة محلات "بريتيش هوم" مقابل ملياري جنيه استرليني
ومما يذكر أن النسخة العربية من مجلة "فوربس" اختارته العام الماضي ضمن أغنى الشخصيات العربية إذ قدرت ثروته بأكثر من ثمانمئة مليون دولار..وهو أحد رجال الأعمال القلائل في مصر الذين يمتلكون طائرات خاصة. وقد أسس ابنه الأكبر جمال مجموعة قنوات تليفزيونية باسم "ميلودي"..في حين يعمل ابنه الأصغر أحمد في مجال المقاولات والاستثمار السياحي وقد تزوج قبل سنوات هانيا -كريمة عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية- لكن الزيجة التي أثمرت طفلين -محمد وأمينة - لم تصمد طويلا
في الفترة الأخيرة لم تكن لأشرف اتصالات تذكر بباقي أفراد عائلة عبد الناصر وبأقاربه في مصر..التي كانت زيارته الأخيرة لها لحضور حفل زفاف جمال مبارك نجل الرئيس المصري في شرم الشيخ في أبريل نيسان الماضي