المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (2): دماء في كاليفورنيا


إزاء تشبث الملكة نازلي بموقفها من العودة إلى مصر ومن زواج الأميرة فتحية من رياض غالي، أصدر الملك أمراً بحرمان أمه من لقب "الملكة" وشقيقتيه من لقب الإمارة، وطلب عقد مجلس البلاط وهو مجلس يضم عدداً من القانونيين ومن بعض الأمراء للنظر في القضايا والخلافات التي تقوم بين أفراد الأسرة المالكة
طلب فاروق من المجلس الحجر على أمه والحجز على أموالها هي وشقيقتيه وتعيين ناظر الخاصة الملكية حارساً عليها

وفيما يلي نص الرسالة التي عرضها الديوان الملكي على مجلس البلاط في 12 مايو أيار عام 1950:

"جمع ديوان حضرة صاحب الجلالة الملك جميع المستندات التي تقوم مقام أدلة الإثبات في القضايا العادلة، وهي عبارة عن التحريات الخاصة التي قامت بها السفارة المصرية في الولايات المتحدة، في ما يتعلق بشخصية رياض غالي (أفندي)، والكيفية التي تعرف بها على جلالة الملكة نازلي وسمو الأميرتين منذ سنة 1946، والطرق التي كان يستغل بها أموالهن، مع بيان الوسيلة التي كان يفرض بها نفسه عليهن، والتقارير التي تلقاها ديوان جلالة الملك من مختلف الجهات عن هذه المسألة، وفيها بيان شامل للمساعي التي قامت بها الحكومة المصرية والسفارة المصرية في الولايات المتحدة

وقد تفضل جلالة الملك مبالغة من جلالته في العناية بهذه المسألة، فأعد مذكرة مستفيضة تتألف من صفحتين من الحجم الكبير وقعها باسمه الكريم، جاء في مستهلها:


"رأى المغفور له جلالة والدنا الملك فؤاد الأول وضع نظام للأسرة المالكة، فأصدر بذلك القانون رقم 25 لسنة 1922، وقد راعى بثاقب فكره في وضع هذا النظام أن الأسرة المالكة ركن من أركان الدولة لما بينها وبين الجالس على العرش من أواصر القرابة، وهي من جهة أخرى أكبر الأسر وأكرمها، والمثال الذي يُحتذى به في ضبط النفس وكمال السلوك، واعتبر بحُسن تقديره أن مسائل الأحوال الشخصية مسائل عائلية محضة، وأن كرامة الأسرة ومركزها في البلاد يقضيان بأن لا تتعرض مثل هذه المسائل الشخصية لأحاديث الناس، ولذلك فقد أراد والدنا إنشاء مجلس للبلاط وأن يصبح هذا المجلس فوق ما له من اختصاص قضائي، هيئة استشارية في الأمور المهمة التي تهم الأسرة المالكة عندما يطلب إليها الرأي فيها"

وانتقلت مذكرة المقام السامي إلى أن ظروفاً قد طرأت على جانب كبير من الأهمية والخطورة وتقتضي العرض على المجلس، إذ إن جلالة والدتنا الملكة قد سافرت إلى الخارج في صيف سنة 1946 للعلاج، وقد اصطحبت معها شقيقتينا الأميرتين فائقة وفتحية، وأنهن يقمن الآن في أميركا، ونظراً إلى طول مدة إقامتهن بعيداً عن مصر وعنا، وإلى صغر سن شقيقتينا الأميرتين، وما عليه جلالة الملكة من حالة مرضية ونفسية قد وقعن تحت تأثير بعض المتصلين بهن، وقد دعوتهن مراراً بعد إتمام العلاج للعودة إلى مصر، فلم تقبلن، حتى كان من نتيجة ذلك زواج الأميرة فائقة في أميركا قبل الحصول على موافقتنا، وكان من نتيجة ذلك أيضا أن اعتزمت جلالة الملكة الوالدة أن تُزَوِّج شقيقتنا الأميرة فتحية التي لم تبلغ سن الرشد بعد ولا تزال تحت الوصاية إلى الآن بمن يُدعى رياض غالي المسيحي الذي دَلَّتْ التحريات على سوء سيرته

ولما عَلِمْنا بما اعتزمته جلالة الملكة الوالدة، بذلنا جميع المساعي الممكنة لمنع هذا الزواج قبل وقوعه، وهي مساعٍ عديدة كانت لدى جلالة الملكة الوالدة ولدى الأميرة فتحية نفسها، وقد قدمت لهما فيها النصيحة تلو النصيحة بوجوب المحافظة على كرامة الأسرة المالكة

وقد ساهمت الحكومة كما ساهم سفيرنا في أميركا بنصيب موفور في هذه المساعي، ولكنها كلها مع الأسف الشديد، لم تؤد إلى النتيجة المرجوة. وقد أبلغ سفيرنا في أميركا ديواننا تفصيلات مسعاه التي لم تزد جلالة الملكة إلا إصراراً على تنفيذ ما اعتزمته، وقد كانت تصرح في كل مرة، وعند أي مسعى، بأنه لا يهمها ولا يضيرها أن يكون من يصاهرها من عائلة مالكة أو ممن يُقال أنهم من عائلات عريقة، وكانت تُزيد على ذلك فتذكر بأنها لا تبالي بما ينشب عن هذا الزواج من نتائج وعواقب مهما يكن نوعها

وقد أوضح جلالة الملك أن جلالته قد أرسل إلى جلالة الملكة الوالدة برقية مُطوَّلة مستفيضة يوضح فيها ما يساور جلالته من الألم المرير، ويناشدها أن تكف عن هذا الزواج، ويدعوها أن تقدر ما قد ينشأ عن إصرارها على ما اعتزمته من العواقب الوخيمة السيئة، ولكنها أصرت على موقفها، وردت على جلالته ببرقية قالت فيها "إن عاطفة الأمومة لديها مقدمة على كل اعتبار"، حتى وقعت المأساة مع الأسف البالغ، فتم الزواج مدنياً في يوم 10 من شهر مايو الحاضر

وقد اشتملت هذه المذكرة السامية الكريمة على بيان تفصيلى بالمبالغ التي أُرسِلت إلى جلالة الملكة نازلي والأميرتين في الفترة الواقعة من صيف سنة 1946 حتى الآن، وهي تبلغ في مجموعها نحو أربعمئة وثلاثة وثمانين ألف جنيه

وقد تبين من المعلومات الرسمية التي وصلت إلى ديوان جلالة الملك من مختلف المصادر أن رياض غالي (أفندي) قد استولى على نحو أربعين ألف جنيه من هذه المبالغ

وقد ختم جلالته هذه المذكرة الكريمة بقوله: "لهذا كله أود أن نقف على ما يشير به المجلس من إجراءات نحو هذا الزواج، وما يَصِح أن يُتَّبَع نحو جلالة الملكة"

لكن الأميرة فائقة استطاعت بعد ذلك أن تحصل على عفو أخيها، فعادت إلى مصر مع فؤاد صادق تضع نفسها ومعها زوجها تحت أمر الملك ومجلس البلاط، في حين بقيت نازلي مع فتحية صغرى بناتها في الولايات المتحدة

وفيما يلي نص المذكرة التي قدمها رئيس الديوان الملكي حسن يوسف (باشا) بالإنابة إلى مجلس البلاط بتاريخ 27 مايو أيار 1951 بطلب الحجر على الملكة نازلي وفتحية، والإشارة بالعفو عن الأميرة فائقة:

"وصل إلى ديوان جلالة الملك أن زواجاً مدنياً عُقد في أميركا بين حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فتحية ورياض غالي المصري الجنسية المسيحي الديانة، وبما أن هذا الزواج باطل شرعاً، إذ إن الشريعة الإسلامية لا تُجيز لمسلمة أن تتزوج من غير مسلم، فضلا عن عدم توافر شرط الكفاءة بينهما على افتراض أنه اعتنق الدين الإسلامي كما يزعُم. لذلك يطلب ديوان جلالة الملك الحكم ببطلان هذا الزواج

وقد تقدم محمد نجيب سالم (باشا) ناظر خاصة جلالة الملك وجلالة الملكة نازلي بطلب النظر في الطلب المرفوع بتوقيع الحجر على جلالتها، وتعيين قيم عليها، وبعزلها من الوصاية على كريمتها فتحية هانم، وإقامة وصي آخر بدلا منها، وقد أعلنت بالتوقيع منها بالاستلام

وقد وقع رفع مذكرة مجلس البلاط من سعادة محمد نجيب سالم (باشا) في هذا الصدد ما يأتي:

بناء على الأمر السامي الكريم، يتشرف ناظر خاصة جلالة الملك بأن يطلب إلى المجلس الموقر:

أولاً: توقيع الحجر على حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي وتعيين قيم على جلالتها

ثانياً: عزل جلالتها من الوصاية على كريمتها فتحية هانم. وذلك للأسباب الموضحة بالطلب المؤرخ 12 مايو سنة 1950، والمستندات المُرفقة به

وبناءً عليه يتقدم حضرة صاحب السعادة محمد حسن يوسف (باشا) إلى المجلس بوصف كونه "كاتم سر مجلس بلاط الملك" يطلب النظر في الموضوعين الآتيين:

أولاً: إجازة صدور التصادق على زواج حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فائقة من صاحب العزة فؤاد صادق (بك) أمام فضيلة وكيل الجامع الأزهر نيابة عن مجلس البلاط، والإذن بتسجيله في سجلات المجلس (وكان ذلك الزواج قد تم فعلاً وقضى العروسان شهر العسل في جزر هاواي)

ثانياً: تعديل قرار المجلس الصادر في 20 مارس سنة 1945 الخاص بإنابة شيخ الجامع الأزهر عن المجلس في سماع إشهادات الزواج الخاصة بأمراء وأميرات ونبلاء ونبيلات الأسرة المالكة بإضافة نص يبين العضو الشرعي الذي يحل محل شيخ الجامع الأزهر عند غيابه، وذلك حسبما يراه المجلس في هذا الشأن

وهذا وأتشرف بأن أرفع إلى المجلس الموقر أن حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فائقة شقيقة حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم قد استجابت لرغبة المجلس التي أبداها في 16 مايو سنة 1950، بشأن عودة سموها من أميركا، فعادت فعلاً إلى القاهرة في 21 مايو سنة 1950

وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم، فأَذِنَ بالتصادق على عقد زواج سموها من صاحب العِزة فؤاد صادق (بك) الصادر بينهما في أبريل سنة 1950 وفقا لأحكام الشريعة الغراء لدى إمام مسجد ساكرامنتو بكاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية. كما تعطف حفظه الله بقبول الوكالة عن سموها في إقرار التصادق والإقرار بقبض المهر. وبناء على هذا الإذن السامي الكريم صدر هذا التصادق في 4 يونيو سنة 1950 بقصر القبة العامر لدى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن وكيل الجامع الأزهر نيابة عن مجلس البلاط، على اعتبار أن فضيلته يحل محل الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وفقاً للمادة الأولى من القانون رقم 4 لسنة 1948، وعلى أن شيخ الجامع هو النائب عن مجلس البلاط في سماع شهادات الزواج الخاصة بأمراء وأميرات ونبلاء ونبيلات الأسرة المالكة بناء على قرار المجلس الصادر في 20 مارس سنة 1945

وبمناسبة ما أُثير حول هذه الإنابة في سماع الإشهاد الخاص بالتصادق سالف الذكر، أرجو من المجلس الموقر التفضل بما يأتي:

أولاً: إجازة صدور التصادق المذكور أمام وكيل الجامع الأزهر نيابة عن مجلس البلاط، والإذن باتخاذ اللازم نحو تسجيله في سجلات المجلس، وذلك منعا لكل شبهة في صدور الإشهاد أمام جهة غير مختصة

ثانياً: تعديل القرار الصادر في 20 مارس سنة 1945 بإنابة شيخ الجامع الأزهر عن المجلس في سماع إشهادات الزواج الخاصة بالأمراء والأميرات والنبلاء والنبيلات، وإضافة نص الإنابة الذي يحل عن شيخ الجامع الأزهر عند غيابه حسبما يراه المجلس الموقر في هذا الشأن


كاتم سر مجلس بلاط الملك
محمد حسن يوسف
يوليو1950"

لم يكن هذا كل شيء

فقد أصدر مجلس البلاط حكمه في الموضوع، ووقف إلى جانب فاروق في دعواه ضد أمه وشقيقته فتحية

وللتاريخ، نورد هنا نص القرار بتوقيع الحجر على الملكة نازلي والتفريق بين فتحية وزوجها

"اتخذ مجلس البلاط قرارات نصها كما يلي:

أولاً: من حيث إن زواج المسلمة من غير مسلم باطل بطلاناً أصلياً ولا يترتب عليه أي أثر من آثار الزوجية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية

ومن حيث أنه إذا أسلم شخص فعلا وتزوج بمسلمة عريقة في الإسلام فإن هذا العقد إذا حصل بغير رضاء الولي أو العاصب لا يصح

لذلك قرر المجلس التفريق فوراً بين حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فتحية وبين رياض غالي (أفندي) بالحيلولة بينهما ووضعها تحت يد حضرة صاحب الجلالة الملك للمحافظة عليها إلى أن يفصل في الدعوى

وعلى السلطات المختصة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ذلك

ثانياً: قرر المجلس منع حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي من التصرف في أموالها وتعيين حضرة صاحب السعادة نجيب سالم (باشا) ناظر خاصة جلالة الملك مديرا مؤقتا على جميع أموالها إلى أن يفصل في طلب الحجر

ثالثاً: قرر المجلس وقف حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي عن أعمال الوصاية على حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فتحية وتعيين سعادة نجيب سالم (باشا) ناظر خاصة جلالة الملك وصياً مؤقتاً لإدارة أموالها إلى أن يفصل في طلب عزل جلالة الملكة نازلي عن الوصاية"

وكان الرد على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي سريعاً وقاسياً

فقد تحدثت الملكة نازلي والأميرة فتحية أمام الصحفيين للتعليق على القرارات الصادرة من مجلس البلاط في مصر إزاءهما. وقالت وكالة أنباء يونايتد بوست إن الأميرة فتحية سُئِلَت عن رأيها في معارضة الملك فاروق لزواجها من رياض غالي، فقالت: "إن غايتي الوحيدة أن أجعل زوجي سعيداً، وأن أنجب له عدداً كبيراً من الأطفال"

سُئِلَت الأميرة تحديداً عن وقع قرارات مجلس البلاط في نفسها، قالت: "حسنٌ..هذا ما كنت أريده من زمن"

وكانت تبدو على وجوه الملكة الوالدة وفتحية ورياض غالي دلائل الاستهتار وعدم المبالاة بقرارات مجلس البلاط، وعندما سُئِلَت الملكة نازلي عن رأيها في هذه القرارات، أجابت بقولها: "لقد كنت أتوقع هذا الأمر، لذلك فهو لا يهمني في شيء"

وسُئِلَ رياض غالي -ابن بشارة غالي- في الموضوع فقال: "إن هذه القرارات لا تهمني، ولا تهم زوجتي في شيء، ولكن اهتمامنا الآن منصب على ما يمس جلالة الملكة نازلي من هذه القرارات" (كانت الملكة نازلي قد اعتبرت أن فاروق قد انتهز الفرصة ليستولي على ثروتها من الأرض والعقارات والأثاث والتحف والأموال السائلة)

واستطرد رياض غالي قائلاً: "وعلى أي حال فإن لدينا من المال ما يكفينا بعض الوقت، أما في ما يتعلق بالزواج الديني، فإننا نعد العُدة الآن لإتمامه في غضون بضعة أيام"

هذا وقد أُشيع وقتها أن مكتب الهجرة الأميركي في سان فرانسيسكو طلب من رياض غالي أن يغادر الولايات المتحدة في مدة أقصاها 25 مايو أيار 1950، دون أن يُعيَّن له الجهة التي يقصدها

وكانت السفارة المصرية في واشنطن قد سحبت من رياض غالي جواز سفره الدبلوماسي قبل تصعيد الأزمة بعامين عندما رفض الأوامر الصادرة إليه من وزارة الخارجية بالعودة إلى مصر، لذلك أصبحت إقامته في الولايات المتحدة في العامين الأخيرين غير قانونية

ولما سُئِلَ رياض غالي عما يعتزمه الآن بعد أن تلقى إنذار مكتب الهجرة بضرورة مغادرة البلاد في مدة لا تتجاوز 25 مايو أيار 1950، قال إنه يفكر مع زوجته فتحية في السفر إلى جزر هاواي حيث لا تزال تقيم الأميرة فائقة مع زوجها فؤاد صادق.. لكنه لم يكن يدري أن فائقة ستتراجع وتعود مع زوجها إلى مصر

أما في ما يتعلق بقرار مجلس البلاط الخاص بالتفريق فوراً بين فتحية ورياض غالي بوصف أن زواج المسلمة من غير المسلم باطل بطلاناً أصلياً ولا يترتب عليه أي أثر من آثار الزوجية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن السلطات الأميركية رأت أنه لا يمكن اتخاذ خطوة عملية في سبيل تنفيذه

وكان من رأي هذه السلطات أن كل ما تستطيع أن تفعله الحكومة الأميركية هو أن تطلب إلى الملكة الأم وابنتها فتحية مغادرة البلاد إذا طُلب إليها أن تفعل ذلك، ولكنها لا تستطيع تسليمهما رغم إرادتهما إلى السلطات المصرية أو حتى تعيين البلد الذي تسافران إليه عند مغادرتهما الولايات المتحدة

والمعلومات المتوافرة تقول إن فتحية -المولودة في 17 ديسمبر كانون ثانٍ عام 1930- تزوجت زواجاً مدنياً من رياض غالي - المولود في 11 فبراير شباط عام 1919- في فندق فيرمونت في سان فرانسيسكو في 25 أبريل نيسان عام 1950، ثم أجريت مراسيم دينية للزواج في 10 مايو أيار عام 1950، وأثمرت هذه الزيجة عن ثلاثة أبناء هم: رفيق (المولود في 29 نوفمبر تشرين ثانٍ 1952) ورائد (20 مايو أيار 1954- 26 يوليو تموز 2007) ورانيا (المولودة في 21 أبريل نيسان 1956)

كانت نتيجة هذه التصرفات جميعاً مأساوية لفاروق، حتى وإن لم يعش ليراها

والذي حدث في ما بعد أن الملكة الأم نازلي واعتنقت المسيحية على المذهب الكاثوليكي واختارت لنفسها اسم ماري إليزابيث، وكذلك فعلت ابنتها فتحية وأيضاً فائزة التي انضمت إلى الاثنتين بعد خروجها من مصر عام 1955 بعد الثورة


وكانت فائزة قد نجحت في تهريب مجوهراتها عن طريق الحقيبة الدبلوماسية للملحق العسكري التركي الكولونيل محمد نور الدين، لكن الضابط الذي تولى تهريب مجوهرات الأميرة لم يسلمها لها في باريس كما كان مُتفقاً عليه. ووجدت الأميرة فائزة نفسها مُفلِسة في العاصمة الفرنسية، وأكملت رحلتها إلى كاليفورنيا تشارك والدتها حياتها وكذلك تعتنق مثلها المسيحية الكاثوليكية. وعانت الأميرة فائزة كثيراً في حياتها قبل أن تمرض وتلزم الفراش سنوات
لكن مصير الأميرة فتحية كان أكثر مأساوية، ذلك أن الغرام فَتُر، ثم طرأت بين الزوجين خلافاتٌ وصلت إلى حد أن رياض غالي كما ورد في تحقيقات شرطة لوس أنجليس "كان يضرب زوجته دائماً، ثم يضرب الملكة نازلي ويضرب الأميرة فائزة إذا حاولتا التدخل لمنعه من الاعتداء على زوجته". فقد أخذ الزوج في ابتزاز نازلي وابنتها مالياً، وفي حين انشغلت فتحية بإنجاب الأطفال، أخذ غالي يبدد الأموال في شراء وتعاطي المخدرات، واعتدى بالضرب على زوجته في أكثر من مناسبة، لدرجة أنه كسر ذات مرةٍ زجاجة خمر في ملهى ليلي وحاول أن يضربها بها لأنها طالبته بالطلاق.
انفصل الزوجان جسدياً عام 1965، ثم طلبت فتحية الطلاق في عام 1973. ولم تنته فصول القصة المثيرة بالطلاق، فقد حدث أن توفيت جليلة، أم رياض غالي، وكانت على علاقةٍ طيبة بفتحية، فأرادت الاخيرة أن تقدم واجب التعزية، وأراد رياض إعادتها إليه، لكنها رفضت، وكانت تفكر آنذاك في العودة إلى مصر بعد أن أفلست هي وأمها، وبيعت آخر مجوهرات الملكة نازلي في المزاد العلني

غير أن رياض غالي - واسم شهرته: مينا- طلب من فتحية أن تزوره للمرة الأخيرة، وكانت بالفعل زيارةً أخيرة، إذ أطلق عليها الرصاص في مساء 10 ديسمبر كانون ثانٍ عام 1976، واستقرت خمس رصاصات في جسد فتحية لترديها قتيلةً على الفور. حاول القاتل إطلاق رصاصةٍ على نفسه بقصد الانتحار، لكنه نجا من الموت. وعندما تأخرت فتحية في العودة، ذهب ابنها إلى منزل مطلقها في لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، ليجد جثة أمه على الأرض غارقةً في دمائها، في حين كان والده مصاباً بطلقٍ ناري أدى إلى أن يفقد جزءاً من قدرته على الإبصار إضافةً إلى ضعف الذاكرة لازمه
حتى وفاته في سانتا مونيكا بلوس أنجليس في 12 يوليو تموز عام 1987

حكمت إحدى المحاكم العليا الأميركية في 12 أبريل عام 1978 على رياض غالي بالسجن لمدةٍ تتراوح بين سنةٍ واحدة و15سنة لقتله مطلقته الأميرة فتحية. والقانون الجنائي الأميركي يمنح من يصدر ضده حكمٌ تتراوح مدته بين حدين، الحق في التقدم سنوياً بالتماس إلى المحكمة العليا..ومن حق المحكمة أن تصدر عفواً عنه إذا استوفى في نظرها شروطاً معينة

شيعت جنازة فتحية في مدينة لوس أنجليس ودُفِنَت هناك في مقبرة "غاردن أوف ذي هولي كروس" في كالفر سيتي بلوس أنجليس بناءً على رغبة الملكة نازلي وضد رغبة أولادها الذين كانوا يريدون دفن أمهم في مصر. أما الذين شيعوا الجنازة فقد تجاوز عددهم 300 شخص، معظمهم من أصدقاء العائلة وأعضاء المجتمع الأرستقراطي الأميركي

ومن المُحزن أن الملكة نازلي كانت لا تزال على قيد الحياة حين أقدم رياض على قتل فتحية، وقد سارت في جنازة ابنتها تتوكأ على عصا

بقيت نازلي في لوس أنجليس حتى توفيت هناك في 29 مايو أيار عام 1978..وحين توفيت لم يعد هناك ما يشير إلى العائلة الملكية في مصر أكثر من بضعة سطور في كتبٍ يعلوها الغبار
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (1): زواج رغم أنف الملك




مثل قطارٍ أفعواني في حديقة ملاهٍ، يشق الحب طريقه صعوداً وهبوطاً، وسط صيحات ابتهاج وأحياناً فزع الجمهور

وقصص الحب عجيبة وغريبة، لكن الأغرب دائماً هو نهاياتها
تبدأ رحلة الحب بالعواطف الرقيقة أو الساخنة -لا فرق- حيث تتأجج المشاعر وتتقارب النفوس، ويتناثر من أيدي العشاق ضوء يعبر منه العالم إلى الجنة، إلى أن تهب العواصف فجأة ليظهر الوجه الآخر لأحد الطرفين أو كليهما، لتنهار الأحلام الوردية وتظهر الحقيقة بكامل صورتها وتفاصيلها


وفي تلك اللحظة قد يقع خلافٌ وشجار وصراع، ينتهي بالدماء التي تسيل أو الأرواح التي تزهق، مصحوبةً بهمهماتٍ وتساؤلات وفضول لا ينتهي في أوساط الرأي العام أو وسائل الإعلام. وربما تتحول الجريمة العاطفية إلى قضيةٍ ذات أبعاد سياسية تشغل اهتمام الحكام والسفراء، ويلعب فيها الدبلوماسيون أدوراً مؤثرة

وجرائم العاطفة في تاريخ مصر لها أكثر من شكلٍ وصورة، فهي قد تكون ناجمةً عن علاقةٍ سرية تنتهي بفضيحة وأحياناً الموت على مرأى ومسمع من الناس، أو تبدأ بشجارٍ بين زوجين تتكثف فيه مختلف العوامل، وتطفو على السطح مشاعر الغضب المتراكمة، لتنتهي بمأساةٍ أو رصاصة أو دس السم في الطعام والشراب

وفي كل الأحوال، فإن الجريمة العاطفية في مصر وقعت في القصور مثلما حدثت في المنزل المتواضعة..وشهدتها عصور الفراعنة والمماليك والعثمانيين وما بعد ذلك طبعاً، وصولاً إلى اليوم. قد تكون وقائعها جرت في القاهرة أو الإسكندرية، أو حتى خارج الحدود..في ربوع أوروبا أو في إحدى الولايات الأميركية، ولكنها تظل جرائم عاطفية يجلسُ فيها أحد الطرفين على الأقل متكئاً على عذابه وينام في سرير يأسه، بعد أن كان يظن أن العاشق يهرمُ..ولا تذبل أشواقه

وحين تقع مثل تلك الجرائم التي ترتدي ثوب العاطفة، تولد مآسٍ تثير في النفس أكثر من تساؤل حول أسرارها وتفاصيلها ودوافعها

وها نحن نقدم لك نماذج قليلة لكنها مؤثرة، من تلك الجرائم العاطفية التي هزت مصر، وأثارت الرأي العام بشدة، وجعلته ينسى همومه اليومية ويجري لاهثاً وراء معرفة تفاصيل هذه الجرائم وأسرارها الغريبة

من أبرز هذه الجرائم وربما يكون أكثرها شهرةً في تاريخ مصر، تلك التي شهدها عهد الملك فاروق، وكان أبطالها الملكة نازلي، وابنتها الأميرة فتحية وزوجها رياض غالي





ففي أواخر يونيو حزيران عام 1946 قررت نازلي السفر إلى أوروبا بحجة العلاج والراحة النفسية، ولم يكن ذلك صحيحاً على الإطلاق، وغادرت الملكة نازلي مصر على ظهر باخرة، وبصحبتها الأميرتان فائقة وفتحية

كانت مارسيليا، أجمل موانيء فرنسا، هي المحطة الأولى لنازلي وابنتيها

طار خبر سفر الملكة من القاهرة إلى قنصلية مصر في مارسيليا التي قررت انتداب أمين المحفوظات رياض غالي ليساعد الملكة والأميرتين في تسهيل سفرهن إلى سويسرا. وبمجرد وصول الملكة وابنتيها إلى ميناء مارسيليا كان رياض غالي واقفاً في انتظارهن منذ الصباح. ما كادت الملكة تراه حتى سألته بالفرنسية: هل أنت مصري؟

وحسب شهادة الكاتب الصحفي مصطفى أمين، فقد انحنى رياض غالي بين يدي نازلي كرقم 8 وقال لها إنه مصري


واندهشت الملكة نازلي من إجابته وقالت: غريبة، كنت أظنك من أميركا الجنوبية. ابتسم رياض غالي وسار إلى جوار الملكة، وفجأة قال لها: لقد جئت بالشمس معك إلى فرنسا

فوجئت نازلي بكلام رياض وقالت: غريبة، ألم يكن عندكم شمس؟
قال لها رياض ببساطةٍ رائعة: لقد مضت بضعة أيام بغير أن نرى الشمس، وها هي تشرق مع إشراق جلالتك

التفتت الملكة نازلي ناحية مندوب إدارة البروتوكول الذي أوفدته وزارة الخارجية الفرنسية ليكون في استقبالها، وسألته في جديةٍ شديدة وباللغة الفرنسية: هل ما يقول صحيح، أم أنه يجامل؟
وقال مندوب وزارة الخارجية بالفرنسية: بل هو الصحيح يا صاحبة الجلالة

كلفت نازلي الشاب رياض غالي بأن يعتني بحقائبها وكان عددها 36 حقيبة ثم سافرت نازلي إلي بلدة برن ولحق بها رياض في لوري ضخم حاملاً الحقائب


وعندما وصلت نازلي إلى الفندق ـ في مدينة برن ـ كان في استقبالها موظفو المفوضية ولاحظوا مشهداً مثيراً وغريباً، فقد رأوا رياض ينزل من جانب سائق اللوري، ويقدم نفسه على أنه رياض غالي من القنصلية الملكية في مارسيليا ثم صعد مع الحقائب إلى جناح الملكة. وبعد أن انتهى من إدخال كل الحقائب إلى جناح الملكة قالت له نازلي: أتعبتك معي


وفوجئت نازلي برياض وهو ينحني ويقول لها: إن هذا شرفٌ عظيم لقد كنت أود لو أنني حملت كل هذه الحقائق على ظهري. إن اليوم هو أسعد أيام حياتي لأنني ركبت سيارة مع حقائب الملكة
فرحت نازلي بما تسمعه وسألته: ما اسمك؟
ولدهشتها سمعته يقول لها: خادمك رياض غالي
التفتت نازلي ناحية الأميرة فتحية وقالت لها بالفرنسية: كم هو مؤدب

وهنا تقدم رياض ليستأذن من الملكة في الانصراف قائلاً: كنت أود أن أبقى طوال حياتي خادماً لك هنا، ولكنني مضطر لأن أعود إلي وظيفتي في مارسيليا

وببساطةٍ شديدة قالت له نازلي: ابق هنا يوماً أو يومين


اعتذر رياض لها بأن الأوامر تقضي بأن يعود، وفوجئ بالملكة تحسم الأمر بقولها: أنا أصدرت الأوامر بأن تبقى

وبالفعل بقي رياض


ويقول مصطفى أمين: إن وزارة الخارجية كانت قد حددت لرياض خمسة جنيهات كبدل سفر ما دام في خدمة الملكة، لكنه أخفى ذلك عنها، وقال إنه قرر البقاء ليكون في شرف خدمتها

حرص رياض على استخدام أبرز مواهبه وهي شدة التأنق، ورشاقة الرقص، وبراعة البروتوكول، والخنوع حتى التمكن


أعجبت نازلي بلياقة الشاب ونشاطه فطلبت السماح له بمرافقتهن إلى سويسرا. وبدأ الشاب في التقرب إلى قلب وثقة الملكة الكبيرة، والتغزل بشبابها الضائع ورفع روحها المعنوية بعد أن فقدت زوجها الثاني أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي


وبعد طرده من وزارة الخارجية، أصرت نازلي على إلحاق رياض في حاشيتها كسكرتير خاص لها براتبٍ شهري قدره مئة جنيه.. وأرسلت خطاباً شديد اللهجة إلى فاروق تتهمه فيه بالظلم والاستبداد، وتقول له: إن رياض غالي لن يموت من الجوع وإنها ستدفع له أضعاف مرتبه

ومن سويسرا انتقلت نازلي إلى الولايات المتحدة حيث أجريت لها عمليات جراحية، في الوقت الذي كان الملك فاروق يرسل إليها بين الحين والآخر طالباً إليها أن تعود إلى مصر فكانت تعتذر، ثم راحت تصرح برفض العودة نهائياً مما جعل الملك يكلف سفير مصر في واشنطن بمحاولة إقناعها بالعودة، فأصرت على الرفض

اختارت نازلي أن تسكن في لوس أنجليس وعلى مقربةٍ من هوليوود عاصمة السينما، وتعرفت على كثيرين من نجومها، وأصبحوا زواراً لبيتها يحضرون حفلاتها إذا وجهت لأحدٍ منهم أو منهن دعوة، لأن الكل يريد أن يكون في "أجواء صاحبة الجلالة"

واختارت الملكة لإقامتها في البداية بيتاً في شارع قريب من هوليوود اسمه تاور رود، وقد زارها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في هذا البيت، الذي يقول: "حين عبرت الحديقة ماراً بحافة حمام السباحة مع رياض غالي كان رجاؤه وقد وصلنا إلى باب البيت أن أنتظر في الصالون قليلاً، لأن "جلالتها تؤدي صلاة الظهر حاضراً"

كان الملك فاروق يعرف أن والدته صادقت رجل بترول أميركي اسمه ريتشارد باولي، وأن باولي أقنعها أن تبيع مجوهراتها وتستثمر أموالها في حقل بترول كبير في منطقة جيتسبرغ. وبالفعل باعت الملكة مجوهرات بما قيمته ثلاثة ملايين دولار (وبقيمة النقود وقتها فإن ذلك كان مبلغاً هائلاً) ثم إن باولي دفع للملكة مبالغ مما قال لها أنه أرباح الحقل، ثم "نفد الحقل" قبل الأوان، وكذلك زادت طلبات نازلي من مصر وراحت تتهم "الخاصة الملكية" بأنها تسرق إيراد أرضها وتستولي على دخلها من غير الأرض، ولا تبعث لها بشيء مما يتوافر لها من إيرادها، ثم راحت تتهم ابنها مباشرة بأنه يحاول "أكل حقها"، وهددته برفع قضايا مطالبة بمستحقاتها

وزاد الطين بلة أن اثنتين من بنات نازلي كانتا معها في الولايات المتحدة، وهما الأميرتان فائقة وفتحية، وقد وقعت كل منهما في غرامٍ لم يكن فاروق راضياً عنه : الأميرة فائقة مع دبلوماسي مصري هو فؤاد صادق وقد تقدم بالفعل يطلب يدها من الملكة نازلي، والأميرة فتحية مع رياض غالي الذي تقدم لخطبتها هو الآخر من الملكة نازلي

وكان الملك فاروق قد تلقى تقارير من بعض أصدقائه في الولايات المتحدة أن رياض غالي كان على علاقة مع الملكة نازلي نفسها، وأن تلك العلاقة هي التي مهدت له الاختلاط ب "فتحية"

ووصلت سيطرة رياض غالي على الملكة نازلي إلى حد أنها قالت إنها إذا أرادت أن تختار بين صداقتها لرياض غالي وأمومتها لفاروق فإنها تختار صداقة رياض غالي، لأن فاروق أثبت في كل مناسبة أنه ولدٌ عاق، أما رياض فقد أثبت أنه ولدٌ مخلص


ولم يكن رياض غالي يحلم بنازلي ولكن كان يحلم بفتحية، ولكنه كان يعلم أنه لن ينال قلب فتحية إلا برضاء نازلي، بكل ما تعنيه الكلمة، وبكل ما توحي به. وقد كانت فتحية ابنة السادسة عشرة من العمر ترى فيه فارساً من فرسان القصص والروايات الغرامية

وقيل إن هذا الفارس عثر لفتحية على مشبكٍ من الألماس كان قد سقط منها في أحد المسارح، وبهذا المشبك شبك قلبها.. إلا أنني عثرت في مجلة "تايم" الأميركية (بتاريخ 2 يوليو تموز عام 1947) على خبر مفاده أن الملكة نازلي كانت في زيارة إلى مانهاتن مع ابنتيها فتحية وفائقة حين قررن حضور أحد عروض برودواي، وأن فتحية فقدت مشبك صدر يضم 36 ألماسة و 25 قطعة سفير. وأضافت "تايم" أن فتحية استعادت المشبك الثمين في اليوم التالي، ومنحت المرأة التي عثرت عليه مكافأة قدرها 100 دولار



وزاد إعجاب فتحية بالشاب رياض عندما وجدته يشتري مسدساً سريع الطلقات؛ ليحميها ويحمي الملكة الأم، ولم يخطر على بالها أن هذا المسدس هو الذي ستُقتَلُ به، وأن الخطر الحقيقي سيكون أقرب إليها مما تتصور

بدأ رياض غالي يسهر مع فتحية بموافقة الملكة نازلي..وسرعان ما نقل السفير المصري في الولايات المتحدة إلى الملك فاروق أنه رأى الأميرة فتحية وهي في مشهدٍ غرامي مع رياض غالي في ملهى ليلي. استشاط فاروق غضباً فقال للسفير: "يا نهار أسود.. إذا لم تعد غالي هذا فسوف أقتلك"


غير أن محاولات السفير مع غالي باءت بالفشل، فطلب فاروق من رئيس الوزراء مصطفى النحاس الاتصال هاتفياً بالملكة نازلي في الولايات المتحدة لمنعها من تزويج فتحية من غالي، ولكن الملكة العنيدة قالت للنحاس: "أظن أن موضوع زواج ابنتي ليس من اختصاص رئيس الوزراء. قل للملك فاروق إننا لن نعود والبنت حأجوزها لرياض لأنه بيحبها وبتحبه"..ثم أغلقت السماعة في وجه رئيس الوزراء

طار عقل فاروق وأرسل إلى أمه يحذرها من إتمام مشروعها الخاص بزواج شقيقتيه وطلب سرعة عودتها، لكنها أصرت على موقفها. كما فشلت محاولة فاروق خطف فتحية من الولايات المتحدة، فوجه طلباً رسمياً إلى الولايات المتحدة لطرد أمه وشقيقته، غير أن نازلي هددت بنشر هذه الفضائح على صفحات الصحف الأميركية. ورفضت نازلي كل المساعي الرامية إلى منع إتمام هذا الزواج، مثلما رفضت مساعي حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكي بالإنابة، وردت طلب شقيقها الذي سعى إليها في الولايات المتحدة لإقناعها برفض هذا الزواج وعاد من هناك يجر أذيال الخيبة

وأغلب الظن أن إجلاء نازلي عن الولايات المتحدة كان أصعب من إجلاء الإنجليز عن مصر

وفي لحظة تفككٍ وتشرذم، تحولت العائلة الملكية إلى كتيبة إعدامٍ شديدة القسوة

فقد انهالت الطعنات على النظام الملكي من الداخل، ولم يكن المغامر رياض غالي سوى ريحٍ هبت على العائلة الملكية فإذا بها تقتلع معها جذور الروابط العائلية الممزقة بين القاهرة..وهوليوود

ولم يجد فاروق أمامه سوى إعلان الحرب.. على الملكة الأم

تابع القراءة

gravatar

اكتئاب المصريين (2): إغماء جماعي








إن عدم المبالاة هو أخطر وأسوأ مواليد الإحباط. وهذه الحالة تقلل ثلاثة أشياء: الانتماء للوطن، الانتماء للدين، والانتماء لمنظومة الأخلاق والقيم

والثابت أن العمل والعطاء بحبٍ وإخلاص يكون سلوكاً صعباً للغاية دون إحساسٍ بالانتماء إلى الوطن. والآن لدينا حالة من اللامبالاة - وربما عدم الثقة- يعاني منها المواطن المصري، وهي تتضح في قراءة نسبة الذاهبين إلى أي انتخاب أو استفتاء، وبينها الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أجري في 26 مارس آذار عام 2007. وعدم المبالاة يظهر أيضاً في الشارع المصري بمثالبه وسلبياته، بدءاً من رمي القاذورات، وكتابة الشتائم البذيئة على الأسوار والجدران وأبواب دورات المياه العامة، وإتلاف الأشجار، والفوضى المرورية، وغيرها

وحين تفقد منظومة القيم والأخلاق، تطل المظاهر الزائفة برأسها لتصبح محاكاة ملامح الثراء سبيل من لا يملكون قوت يومهم أو لا يستطيعون تحقيق أحلامهم الاجتماعية والاقتصادية. وفي يوليو تموز 2007 قالت دراسة أعدها المركز القومي للاتصالات في مصر إن المصريين ينفقون نحو 186 مليون جنيه (قرابة 33 مليون دولار) سنوياً على نغمات ورسائل الهاتف المحمول. وتتنوع هذه الرسائل بين الصور الفاضحة ومقاطع من الفيديو كليب الجنسي يتناقلها الشباب فيما بينهم

ومع ذلك حين تسأل المصري بشكل عام عن حالته المزاجية ستجده دائم الشكوى من كل شيء حوله، ومن أن "الآخرين" أصيبوا بالبلادة، وقد يختم حواره بالقول إنه يشعر بالاكتئاب مما يجري حوله، أو يتحدث عن حلمه أو تفكيره في السفر أو الهجرة و"الخروج من هذا البلد على خير"

إن الاكتئاب ثمنٌ يدفعه عادة من يعيشون حياتهم بسلبية مطلقة وحالة عدم مبالاة وينخرطون بالتواطؤ أو التورط في عالم الفساد والتفاهة.. ثم يكتشفون في لحظةٍ ما أن طبقة البلادة على أحاسيسهم تذوب لتبدأ رحلة المعاناة..والاكتئاب

لقد سكت وسكن المصريون طويلاً، واكتفوا بالتذمر والغمغمة، ظناً منهم أن التغيير سيحدث لهم وهم قاعدون، مع "إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم"

وقد يقول قائلٌ إن الوضع في مصر مستحيل، لكن الصحيح أنه وضعٌ صعب مثل بكرة صوفٍ يتلاعب بها قط. علينا أن نؤمن بأن الحل ممكن، وأن نثق في قدراتنا، وأن نعمل بجدية وانضباط للخروج من هذا المأزق الخطير، وأن نمارس الالتزام والانضباط الذي نتقيد به حين نكون خارج مصر. بل إنه يصح القول إن التزام وانضباط المصريين في تجربة مترو الأنفاق، يجعلنا نستغرب كيف يلتزمون تحت الأرض ولا يفعلون ذلك فوقها. فهل المسألة تتعلق بالنظام أو فرضه بقوة الأمن أو تنمية الشعور بالمسؤولية؟!

ولنا في انضباط الشارع المصري في عهد وزير الداخلية أحمد رشدي أسوة حسنة، فقد أثبت هذا الرجل أنه يمكن ببعض الجدية والحزم القضاء على كثيرٍ من مظاهر الفوضى المؤذية في شوارعنا وأحيائنا، إلى أن استقال أحمد رشدي بعد معارك مع تجار المخدرات ورؤوس الفساد، وعقب أحداث الأمن المركزي التي وقعت في فبراير شباط عام 1986، لتعود الفوضى إلى حكم البلاد والعباد

والمشهد الحالي يعطي انطباعاً بأن المصريين أصبحوا جماعة غير منتظمة، تفتقد الأمل والهدف والرؤية. والجماعة غير المنتظمة، غير المنظمة، انفعالية للغاية، مندفعة، عنيفة أحياناً، متقلبة المشاعر، متضاربة، متناقضة الهوى والهوية، مترددة، متحيرة، تظهر انفعالات خشنة، قاسية فظة، لا تبدو عليها أية مشاعر حساسة أو رقيقة، قابليتها للإيحاء عالية جداً، مهملة عمداً، لا تراعي الآخر، في أعضائها الذين لا يعرفون بعضهم البعض، أنانية، جوفاء، شديدة التأثر

ويبدو أن المصريين عواطفهم فوّارة، مثل القرص الفوار، تفور وسرعان ما تهدأ.. نتحمس للشيء، ثم تخمد حماستنا وتفتر همتنا وعزيمتنا.. إننا نغضب ونولول ونصرخ، لكننا نهدأ بالسرعة نفسها. هذه الشخصية غير المتزنة عاطفياً سمة كثيرٍ من المصريين، ممن قد يغالون في الوصف والتعبير بكلمات وعباراتٍ مطاطة بها قدرٌ كبير من توابل المبالغة والتهويل والإكثار من استخدام أفعال التفضيل

إن المبالغة في العواطف لا تعني عادةً صدق العواطف. والشعور بالإحباط والإحساس بأن توقعاتك محبطة يدفعانك إلى اليأس، وهنا فإنك قد تهرب من الواقع بالتطرف والزهد، أو الإدمان لتنسى الواقع

ومما يسترعي الانتباه أن نسبةً كبيرة من المصابين بالاكتئاب في مصر تنتمي إلى الطبقة الوسطى من الموظفين والضباط وأساتذة الجامعات والمهندسين والأطباء والتجار وأصحاب المصانع الصغيرة. وكما هو معلومٌ، فإن أي اختلالٍ يصيب هذه الطبقة يوازيه ـ بداهة ـ اختلال على مستوى جميع الطبقات الأخرى، فهي الوعاء الحافظ لقيم المجتمع وتقاليده ومعالم ثقافته
المشكلة أن الطبقة الوسطى – تحت وطأة ضغوطٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابكة- تآكلت الكثير من تقاليدها وقيمها ومحرماتها، وهو أمرٌ يهدد البنيان الاجتماعي بشكلٍ عام ويثير الخوف والفزع من انهيارٍ أكبر، مما يزرع الهلع في النفوس. علاوةً على ذلك، فإن تهديد الحياة أو الممتلكات أو الحقوق يجعل الفرد غير آمن، خاصة في ظل بطء التقاضي، وعدم تنفيذ البعض لأحكام القضاء التي تحكم بإعادة الحقوق إلى أصحابها، مما يغلق نافذة الأمل الوحيدة لنيل وضمان الحقوق

هذا الخوف ليس مقصوراً على المواطن العادي، وإنما يفرد مظلته أيضاً على الكبار والمسؤولين، فالوزير أو المسؤول في مصر عنده من عدم الأمن وعدم الاستقرار والخوف ما هو أكثر مما لدى المواطن العادي الذي لن يخسر في العادة شيئاً، أما الوزير أو المسؤول فهو مهددٌ بأن يخسر كل شيء في لحظة، لأنه لا يعرف لماذا جاء إلى المنصب وأحياناً لا يدري لماذا يتركه. إن المصريين، وفي مقدمتهم النخبة الضيقة من الحاكمين في الحزب والدولة والنخبة المحيطة بهما، يسقطون في فخ التخمينات حول المرشحين لتولي مختلف المناصب الوزارية، وبينهم رئيس الحكومة نفسه، وينتهي الأمر غالباً إلى اختيار أشخاصٍ لا يعلم أحدٌ عنهم شيئاً يذكر، فالذي يختارهم هو رئيس الجمهورية وحده ومعه دائرة معاونيه شديدة الضيق

وما دامت المعايير غائبةً والمعلومات محجوبة، وما دامت الكفاءة والنزاهة ليستا أساس البقاء في المنصب، فكيف يطمئن الوزير أو صاحب المنصب على مصيره؟!

إن خوف الوزراء وكبار المسؤولين أكبر بكثيرٍ مما قد يتصور البعض، فهم قد يدخلون من باب السلطة ثم ينتهي بهم الأمر داخل زنزانة، مثل وزير المالية محي الدين الغريب ووزير السياحة توفيق عبده إسماعيل، وأي وزير يكون ولاؤه عادةً لمن أوصله إلى المنصب وليس للشعب، ولذا فإن ولاءه يكون لصانع القرار السياسي. وفي ظل هذه المعادلة يشعر الوزير بالقلق والذعر باستمرار، ولذا يتندر البعض قائلين إنه مع كل تعديل او تغيير وزاري فإن أول دواءٍ يختفي من الصيدليات هو أدوية الإسهال!

والكبار هنا قد يتسمون بالاستكانة والخنوع والخضوع أكثر من المواطنين العاديين، بما يجسد مخاوفهم الزائدة. وحين كتب الكاتب الساخر أحمد رجب في زاويته "نصف كلمة" في جريدة "الأخبار" قائلاً: إن اثنين من الوزراء دخلا مصحة نفسية وعولجا، حادثه د. أحمد عكاشة هاتفياً وقال له إنه لا عيب في في دخول الوزير كإنسان مصحة نفسية، لأنه يكون في هذا الأمر شأنه شأن أي مريضٍ يعالج من مرضٍ ما كالزائدة الدودية أو الفتق أو أمراض القلب الشائعة، ولكن ماذا عن الوزراء الذين دخلوا الوزارة ولم يُعالَجوا نفسياً. في اليوم التالي للمحادثة الهاتفية، كتب أحمد رجب في "نصف كلمة" قائلاً: "كلمني الدكتور أحمد عكاشة وقال لي إنني حزين لأنك تتحدث عن وزيرين عولجا في مصحة نفسية. والدكتور عكاشة يأسف لأن باقي الوزراء لم يدخلوا مصحات نفسية للعلاج بما يحسن الأداء الحكومي"

الخوف- الذي هو جزءٌ من القلق- ليس له علاج إلا بتوفير الأمن والأمان واحترام آدمية المواطن ومنح الحقوق والخدمات. وفي حالة القلق والخوف فإنك تكون قابلاً للإيحاء وتصدق أي شيء، خاصةً أنه لا توجد جهة ذات مصداقية تمنحك معلومات تفند الإشاعة وتكذبها وتوضح الحقائق دون مواربة

وبدءاً من 31 مارس آذار عام 1993 لم يكن من حديثٍ على ألسنة العامة سوى حوادث الإغماء الجماعي التي أصيبت بها أكثر من 500 من طالبات محافظة البحيرة، وامتدت لتصيب مئات الطالبات في 15 محافظة مصرية بينها القاهرة. وبدأت الإشاعات تتحدث عن وجود غازات تبثها إسرائيل في الجو وما إلى ذلك من ترهات، في حين أن ما حدث لم تصب به سوى طالبات المرحلة الإعدادية اللاتي أجمعن على أن الأعراض تمثلت في الإحساس بالدوار وفقدان القدرة على التركيز، والرغبة في السقوط والارتماء على الأرض

وبعد أن هدأ الغبار قال عددٌ من الأطباء النفسيين إن ما جرى ليس سوى هيستيريا جماعية، غير أن عدداً من النواب المصريين ثاروا على التفسير الذي قاله أمامهم وزير الصحة الدكتور راغب دويدار في 5 أبريل نيسان عام 1993، بالرغم من أن الوزير دعم كلامه بالبيانات والإحصاءات عن عدد المصابات وحالاتهن والتفسير الطبي لهذه الحالات والنتائج المخبرية والعينات التي أخذت منهن. رفض النواب بيان الوزير المسؤول، ولم يقبلوا فكرة الإيحاء التي تسببت في هذه الموجة من الإغماء لدى الطالبات، وأثاروا المخاوف حول وجود غازٍ غامض استخدم عمداً للتأثير في هرمون الأنوثة

ووسط صراخ وزعيق عددٍ من غير المتخصصين، أُهمِلَ الطب النفسي في فحص الحالات، ووجهت الجهود واتجهت التفسيرات إلى البحث عن مصدرٍ للتلوث البيئي. ويمكن أن نقرأ عن هذا الموضوع وغيره من الأزمات التي تبين مدى هشاشة المجتمع وإخفاق الدولة في إدارة الأزمات في كتب ودراسات لا تحصى، بينها كتاب "التخطيط لمواجهة الأزمات: عشر كوارث هزت مصر" للدكتور محمد رشاد الحملاوي (مكتبة عين شمس، 1995)

ثم نعود ونتساءل عن سبب خوفنا الدائم، وسر اكتئابنا المزمن!

الوجه الآخر من عملة الخوف هو التسلط، فلا يظهر دكتاتور إلا إذا كان الشعب خائفاً ومستكيناً. والفرد في هذه الحالة يمحو ذاته في سبيل السلطة. والخوف من السلطة أو التسلط أو حتى البلطجة على المستوى الفردي، يشجع على ظهور شتى أنواع الرذائل

تنتشر في مناطق من عالمنا اليوم - انطلاقاً من جنوب شرق آسيا- ظاهرة تتجلى بالعنف اسمها Amok أو سعار القتل الجماعي. وكلمة أموك مستقاة من لغة المالاي، وتعني جنون الغضب أو الغضب الذي يخرج عن نطاق السيطرة. وتقدم بعض التفسيرات النفسية لظاهرة الأموك على أنها انفجار مفاجيء في التوتر الداخلي ناجم عن الحياة في مجتمع شديد الهرمية، وأغلب التفسيرات تربطه بمسألة شعور الرجل تحديداً - يصيب واحداً في المليون من الرجال مقابل واحدة من عشرين مليوناً بين النساء، ولذا كان 95 % ممن يصابون به من الرجال- بالخزي لعدم تمكنه من العيش بكرامةٍ وشرف في مجتمعه.

وتقول بعض الدراسات إنه يصيب ثلاثة أصنافٍ من الناس: جماعة الشيزوفرنيا (الفصام)، والمصابون بـ (الاكتئاب) وأخيراً (ذوو الشخصيات المضطربة). يمتاز مريض القتل الجماعي الآموك بعدة صفات: إنه في المتوسط رجل في حدود 35 عاماً، والأقرب أن يكون متعلماً وبقدر ثقافته يكون بطشه. وعادة يقع في ظروف الحادثة تحت انهيار نفسي من البطالة بالرغم من كفاءته المهنية. ويمتاز بأنه خامل جنسياً أو خجول لا يعرف الحب أو الجنس. وهو مستعدٌ للقتل بسرعةٍ وأعصابٍ باردة، وفي النهاية ينتحر أو يقتله شخصٌ آخر لمنعه من مواصلة جرائمه

ولكن ما علاقة المصريين بما نقول؟

إن العائدين من سيناء مشياً على الأقدام بعد حرب يونيو حزيران عام 1967 كانوا في حالة من عدم المبالاة، ولكن إذا سمعوا صوت المترو أو صفير القطار فإنهم كانوا ينبطحون ويختفون تحت السرير ويأخذون في الصراخ، لأنهم مروا بتجربة قاسية ساروا فيها على أقدامهم دون طعامٍ أو شراب لمسافات طويلة، خائفين من القصف الجوي الإسرائيلي وأن تحصد أرواحهم تلك الطائرات الحربية التي تحلق فوقهم

هؤلاء المذعورون من صوت المترو أو القطار كانوا يخرجون بعد مروره بفترةٍ من تحت السرير في حالةٍ مشدودة، فإذا حدثت أحدهم وجدته في حالة عدم تركيز أو إعياء تام نتيجة الفزع. وقد تبدو هذه الحالة مشابهة لحالة "أموك" بدرجةٍ ما؛ لأن الخوف والفزع يجعلان الشخص غير مبالٍ، وقد يؤدي عدم المبالاة إلى إيذاء الغير

إن استمرار الخوف والقلق يؤدي إلى الاكتئاب ويقود إلى تشخيص جديد هو الإنسان المستهلك Burned out وهو الشخص الذي يفقد التركيز ويصاب بالبلادة ويصبح عصبياً لأقل منبه أو مثير، وقد يصاب بالصداع ويعاني الأرق، ويسيطر عليه إحساس بالعجز واليأس


وفي ظل الزحام الخانق وصعوبة ضمان الرزق الذي يوفر سبل العيش الكريمة، ومتاعب السياسة وهموم الظروف المعيشية، والإحساس بعدم الأمان، فإن المصري مرشحٌ قوي لأن يستقبل ضيوفاًً ثقيلي الظل تحت مسمى الخوف والاكتئاب..وربما أموك!
تابع القراءة

gravatar

اكتئاب المصريين (1): العين الزجاجية



الخوف مولودٌ شرعي للقلق، وأبٌ أصيلٌ للأوهام

وفي مصر الآن حالة فوبيا تدعو إلى القلق، فليس معقولاً أن يختزن المصريون هذه الشحنة الهائلة من التوتر والخوف من أي شيء وكل شيء

صحيحٌ أن الكوارث المفزعة هزت الثقة وأصابت كثيرين بحالةٍ من الإحساس بعدم الأمان، غير أن الشيء المؤكد هو أن الخوف يبدو مثل طوفانٍ يجتاح في طريقه كيان الفرد ويجعله مسكوناً بالهواجس والفزع، وقابلاً لتصديق الشائعات..ولو بالإيحاء

لقد زادت مساحة الخوف في حياتنا، وبدأ المصريون يشعرون بالقلق إزاء احتمال وقوع الكوارث الطبيعية..وغير الطبيعية. وفي مارس آذار عام 2002 سيطر الهلع على ركاب مترو الأنفاق بعد أن سرت شائعةٌ عن حريقٍ نشب في إحدى عربات المترو، فخرج الركاب مذعورين يلوذون بالفرار من وهمٍ كبير

وقبل ذلك نام كثيرون في الشارع وفي العراء بعد أن سرت شائعةٌ عن أن شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأميركية بثت خبراً مفاده أن زلزالاً سيهز مصر في العاشرة من مساء ذلك اليوم. صدق عشرات الآلاف وربما أكثر هذه الشائعة، ولم يسألوا أنفسهم عن مدى صحتها وهل سمعها أحدٌ فعلاً، وهل يمكن أن تعرف أن زلزالاً سيقع في غضون ساعاتٍ أم لا.. نسي هؤلاء الناس التساؤلات الطبيعية المفترض طرحها في مثل تلك الظروف، وغرقوا في دوامة الخشية والفزع




رحلة الخوف التي تسيطر على المصريين وتهددهم شعورهم بالأمن والأمان لها أيضاً ما يبررها، فالمصريون لا يعرفون كيف تقع عليهم الكوارث، ولا كيف يستطيعون مواجهتها، وليسوا واثقين في أن هناك من يحمي أمنهم وأرواحهم وممتلكاتهم، ولا يصدقون أن هناك إعلاماً قادراً على التوعية أو المصارحة بشفافية ووضوح، مثلما أنهم لا يجدون من يوفر لهم ضماناتٍ أو يشرح لهم إلى من يلجأون إذا أصابهم مكروه أو تعرضوا لما لا يحمد عقباه

إنهم ببساطة يسيرون في نفقٍ مظلم مكتوب عليه بحروف بارزة: المجهول

فقد بات مستقبل مصر القريب، وما يمكن أن يشهده من تغيراتٍ كبرى هو الموضوع الأثير في أحاديث وجلسات المصريين، الذين راحوا يضربون أخماساً في أسداس، ويضعون سيناريوهات مرتبكة وتخمينات لا حصر لها، وسط حالةٍ من التوجس والترقب لأحداثٍ مجهولة لا يعرف إلا الله موعدها وعواقبها

ولعل خطورة امتداد حالة الجهل بالمستقبل القريب لدى كل المصريين إلى مصير منصب رئيس البلاد، بما له من مكانةٍ مركزية في نظامها السياسي، وصلاحياتٍ وسلطاتٍ هائلة، توضح حقيقة الوضع الخطير الذي تمر به مصر، حيث يعم الجهل بعد ذلك، بكل ما يتعلق بمستقبلها القريب في جميع القطاعات والمستويات، التي هي بطبيعتها أقل خطورة وأهمية من هذا المنصب الرفيع

واللافت للانتباه في هذا الوضع القلق الملتبس الذي تمر به مصر، هو أن جميع المصريين، حاكمين بمختلف شللهم وزمرهم، ومحكومين على تنوع أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، يشتركون معاً في افتقاد أي يقين أو حتى معرفةٍ قريبة منه بما يمكن أن تشهده بلادهم خلال الشهور والسنوات القليلة المقبلة

هذه الحالة من الجهل وغياب اليقين، أو حتى المعرفة القريبة منه بما يمكن أن يحدث غداً في البلاد، يتحمل مسؤوليتها النظام السياسي، وفي قلبه الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم صاحب الأغلبية الدائمة والقسرية منذ قيامه في أغسطس آب عام 1978، فهو الذي أوصل المصريين جميعاً، بمن فيهم قيادات هذا الحزب العليا ومستوياته الوسطى والقاعدية وكبار مسؤولي الدولة، ومختلف أبناء النخبة بشقيها الحاكم والمعارض، ومعهم جميع المصريين البسطاء المحكومين، إلى هذه الحالة المزرية

وضعٌ يعد تربة مثالية لحالة من الفزع، في ظل غياب أي قدرٍ من المعلومات أو الحقائق الشفافة الصريحة
هذه الفوبيا التي زادت في السنوات الأخيرة كشفت جانباً خفياً يسكن داخل المواطن المصري، فأصبح يخاف أكثر. وإذا كان العالم قد عرف أنواعاً مختلفة من الفوبيا أو المخاوف المرضية، مثل الخشية من الأماكن المغلقة أو المرتفعة أو المساحات الضيقة، ومن ركوب المصاعد، والخشية من السفر بالطائرات، ومن الجراثيم، والحشرات، والموت، إلى غير ذلك..فإننا أصبحنا خائفين من المصير المجهول

ومخاوف المصريين لا تجسد سوى التجارب القاسية، والآلام التي عاشوها، والحوادث المأساوية التي هزت نفوسهم، والصدمات التي ضعضعت توازنهم في أي فترة من فترات حياتهم، فجعلتهم يفقدون فيه الثقة ويستسلمون للقلق واليأس والإحباط
إن المصري يخشى حتى يومنا هذا دخول قسم الشرطة لأي سببٍ كان، حتى إذا كان شاهداً أو شاكياً وليس متهماً..لأنه يعلم أنه ما إن يرتدي المسؤول زيه الرسمي يصبح "حكومة" ويصبح الآخرون في نظره مجرد "أهالي"

وكلما كان النظام شمولياً ومستبداً والدولة بوليسية، تزايدت أمراض الشك وحالات "البارانويا"، بحيث يشك الفرد أن أجهزة الأمن والمخابرات تلاحقه وتقتفي آثره



وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن أن تتحقق الرفاهية والتقدم في غياب الثقة والأمان، وغيابهما يجعل العالم ضائعاً.. والشاهد أن عدم الثقة في النظام الأمني وفي قدرته على فرض الأمن والاحترام، تتزايد في مصر خاصة مع تزايد ممارساته القمعية

وليت دولنا وأنظمتنا تعلم أن العنف لا يولد إلا العنف ولم يستطع إنسان أو نظام على مدى التاريخ كله أن يمحو فكرة أو مبدأ أو عقيدة بسجن أو اعتقال أو تعذيب أصحابها.. بل بالعكس، كلما عذبت الإنسان كان أكثر إخلاصاً لفكره وتصوراته

يطارد الرعب المصريين في حياتهم اليومية ويحولهم إلى شعب خائفٍ، مريض بكل أنواع الفوبيا التي وردت في القواميس والكتب المتخصصة في علم النفس

إن المرض النفسي هو اضطرابٌ في التفكير والعواطف والسلوك، مما يعمل على إحداث تغييرٍ في الشخصية بحيث يكون الإنسان غير قادر على الحب والعمل كما كان من قبل

ولعله من المهم القول إن العالم به ٤٥٠ مليون مريض نفسي وعصبي بوجهٍ عام، حصة مصر من هؤلاء المرضى 5.4 مليون مريض، وتأتي أمراض القلق في المقدمة وبعدها الهلع والخوف والإرهاب من الأمراض والجنون

وحسب الإحصائيات العالمية فإن ٤% من المصريين لديهم اكتئابٌ جسيم، مع ملاحظة أن العالم به ١٦٠ مليون مكتئب من النوع الجسيم وليس البسيط. وتشير دراسةٌ علمية أجريت في مصر عام 1999، إلى أن الاكتئاب يزيد في الريف على الحضر، وأن ٣٦% من سكان القرى مكتئبون، أما سكان المدن فبينهم ٢٨% مكتئبون أيضاً

إن الإشاعة تزدهر كلما كان هناك جو من الغموض، وطالما أن المنبهات الإعلامية والسياسية يشوبها الغموض والكذب فإن الإشاعة ستنتشر وتنتعش..هذه معادلة نفسية واضحة؛ لأن الجو المحيط بالحدث هو الذي يحدد مدى انتشاره، فإذا زاد الوضوح اختفت الإشاعة

وإذا نظرنا في السنوات الأخيرة، فإننا سنجد أن صانعي القرار السياسي أعطوا منبهات وقدموا وعوداً كثيرة لم تتحقق، ليشوب الأرقام والألفاظ والكلمات عدم الصدق، مما يشجع على انتشار الإشاعات وبث المخاوف

ويزداد الموقف تعقيداً في ظل الغموض الذي يحيط بالقرارات والمواقف، وتعيين أو إقالة الوزراء المسؤولين. وبما أن هناك غموضاً فإن المواطن سيسمع مئة سبب وتفسير..وألف هاجس




هذا الغموض يغذي المخاوف وينشيء الهواجس، ويصبح الناس أكثر قابليةً واستعداداً للخوف والقلق. ومن الواضح أن المخاوف تزداد كلما اتصل الأمر بمسؤولية الدولة. إن الحديث والتصريح الرسمي على سبيل المثال بأن الخدمات والمرافق العامة جيدة في حين أنها متهالكة، وأن هذا المستشفى يوفر خدماتٍ طبية راقية في حين أن الحقيقة عكس ذلك، وأن وسائل النقل العامة توفر راحة تامة، في حين أن الواقع يفند هذا الكلام.. يجعل المواطن يشك في كل شيء وأي شيء، فأي أمرٍ متعلق بمسؤولية أجهزة ومؤسسات الدولة أصبح في رأي المواطن محاطاً ومغلفاً بالكذب، أو عدم الدقة في أحسن الأحوال

وفي لقاءٍ لي مع د. أحمد عكاشة رئيس الجمعية العالمية للطب النفسي في منتصف مارس آذار عام 2002، تحدث عن تجربةٍ نفسية، قائلاً: أحضرنا ذات مرةٍ فأراً وأدخلناه قفصاً، ثم سلطنا عليه تياراً كهربائياً مؤلماً فأخذ يصيح ويصرخ ويجري هنا وهناك، قبل أن نوقف التيار الكهربائي بعدها بساعتين. كررنا المحاولة مرة تلو الأخرى طوال بضعة أيام تالية، والفأر يصرخ ويجري مذعوراً، دون أن يتمكن من فعل شيء لإنقاذ نفسه من هذا الألم وتلك المعاناة. بعد تلك التجارب المؤلمة والمتكررة أصيب الفأر بحالةٍ من العجز واليأس، حتى إننا عندما سلطنا عليه التيار الكهربائي أخذ ينظر إلى أعلى دون أن يصيح أو يجري

تلك الحالة من العجز واليأس - والكلام ما زال للدكتور عكاشة- هي الأقرب إلى توصيف حال المصريين الآن، لأن كثيراً من المصريين أصبحوا من فرط ما أصابهم من الإحباطات والوعود الكاذبة والتوقعات المستقبلية غير الصحيحة، وغياب الأمل وعدم الاهتمام بآدميتهم، وتغييبهم عن مراحل صنع القرار السياسي.. أصبحوا أشبه بحالة اليأس التي أصابت الفأر. لقد أصيب المصريون بحالة عدم مبالاة يختلط بها القلق والعدوانية السلبية

والمقصود هو أن الخوف جزءٌ من اضطراب القلق. هناك مرضٌ اسمه القلق النفسي العام، وأحد مكوناته هو القلق..والخوف لدى مرضى القلق قد يكون خوفاً من المرض أو الموت أو الجنون.. إلخ، ولكن عندما نتحدث عن مخاوف شعبٍ فإننا نكون بصدد الحديث عن خوفٍ من المستقبل، وخوف من أي فاجعةٍ قد تقع، خاصةً أنه لا توجد مكونات تمنح الأمن للمواطن في مصر

إن الأمن مفقود في جميع الخدمات، لأن أسلوب تعاملنا مع تلك الخدمات وما يطرأ عليها قائمٌ على رد الفعل وليس الفعل، فإذا تعرض قطارٌ لحريقٍ مروع أو غرقت عَبارةٌ بركابها أو تحطمت طائرةٌ وابتلعتها مياه المحيط او انهارت عقارات سكنية مثل قطعٍ كرتونية، نتحدث بأسلوبٍ مرتبكٍ وانفعالي عن التحقيقات والإصلاح والاعتمادات المالية وما إلى ذلك، دون أن نملك استرتيجيةً محددة وواضحة للإصلاح والتجديد واتخاذ قراراتٍ وتنفيذ خطط مدروسة

رد الفعل هذا يؤكد غياب الاستراتيجية في خدمة المواطن، وهنا يبدي المواطن شعوراً بالرعب والقلق من سوء هذه الخدمات واحتمال وقوع كوارث أثناء استخدامه لها أو تعامله معها، خاصةً الخدمات الأساسية من تعليمٍ وصحةٍ ومواصلات... إلخ

ويضطر المواطن في هذه الحالة إلى الاعتماد على الإمكانات الذاتية، ويوجد حلولاً بديلة قدر الاستطاعة الشخصية أو المادية. وهذا المناخ السائد يغذي الذعر ويثير القلق، بل إنه يدفع المواطنين من حافة القلق إلى السقوط في دائرة الإحباط وعدم المبالاة وسهولة الشعور بالإثارة العصبية. هذه العصبية الزائدة والأعصاب التالفة دليلٌ على القلق والذعر، والرغبة في مواجهة الخطر بالتوتر والانفعال، حتى إن البعض كما يُقال "يخانق نفسه" لأنه لا يجد من يحميه ويضمن له حقوقه، فيحاول أن يأخذ حقه بيديه، في حين أن مشاعر القلق والخوف تتملكه

إن تعبير الصحة النفسية تحدده منظمة الصحة العالمية، وفقاً لأربعة معايير هي: القدرة على التكيف مع كروب الحياة ، التوازن بين القدرات والتطلعات، الإحساس بالعدل والمساواة، المساهمة من الفرد تجاه المجتمع. أي أن الصحة النفسية هي القدرة على التمركز حول الآخر والاهتمام بالمشكلات العامة، وصنع التوازن بين القدرات والتطلعات وحب العطاء والعمل، والإحساس بحرية التعبير والآدمية


أما الاضطراب النفسي في المقابل، فتحدده عدة معايير أهمها: التمركز حول الذات، والتقوقع حول النفس والأسرة الضيقة، بغض النظر عن القيم والعادات

والسؤال هو: هل يستطيع المواطن المصري التكيف مع كروب الحياة؟



لقد وصلت هذه الدرجة من التكيف إلى أقل تقدير حيث الكروب المتزايدة والتي تتلخص في الغلاء، البطالة، الازدحام، عدم وجود رعاية صحية مناسبة، تدني جودة التعليم، الانتماء الخاطئ للدين، والاهتمام بالطقوس دون الاهتمام بالجوهر
وتزداد حدة الضغوط على المصري مع تعاظم غول الفقر. ففي 17 أكتوبر تشرين أول عام 2007، تحدث منسق الأمم المتحدة في مصر جيمس راولي عن ارتفاع عدد المصريين الذين يعيشون في فقرٍ مدقع. وأضاف في افتتاح "حملة قف وعبّر ضد الفقر": إن معدل الفقر المدقع في الفترة من عام ٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٥ زاد من ١٦.٧% إلى ١٩.٦% من عدد السكان، وإن واحداً من كل خمسة مصريين لا يستطيع تلبية احتياجاته الأساسية، حسب دراسة أنجزتها الأمم المتحدة في يونيو 2007


وربما يجوز القول إن المصري عاجزٌ حالياً عن التكيف مع كروب الحياة حتى بالنسبة للذين يتمتعون بالكفاءة والدرجات العلمية الرفيعة، حيث إنه بات من الصعب الوصول إلى مركزٍ وظيفي محترم إلا بالمحسوبية.. فالإنسان الكفء لا يستطيع بالعمل الجاد أن يصل إلى مبتغاه، وبالتالي تهتز صحته النفسية

إن صحة المصريين النفسية ترتبط بشكلٍ أو بآخر بمدى الإحساس بالعدل ودوره في تنمية مظاهر الحب والانتماء. فالعدل منقوصٌ في بلدنا، والمواطنون يعلمون أن أصواتهم لا تعني شيئاً وهم توصلوا إلى هذه القناعة من خلال تعامل الرؤساء مع مرؤوسيهم، وفي تجاهل استجوابات الفساد وأسلوب تمرير القوانين برفع الأيدي الجاهزة تحت قبة مجلس الشعب

وطالما أن هناك إعلاماً يميل إلى التسلية والطرب ويغفل الثقافة الفكرية والعلمية، والتوعية، فإن الخرافات والصرعات الغريبة تزداد وتنتشر في خطين متوازيين، فكل منهما يعمل في خدمة سيدٍ واحد: التفاهة
أضف إلى ذلك تدهور نظام التعليم في بلادنا، فقد ارتضى القائمون عليه أن يكون نظاماً يشجع التلقين والسلبية ويمنع الطالب من الحوار والنقاش البناء مع الأستاذ، مما يدرب المصري منذ نعومة أظفاره على الخضوع والاستكانة، ولا يجد أمامه طريقةً للتعبير عن عدوانيته أو البخار المكتوم في صدره إلا بالأسلوب السلبي، كالتنكيت، فالنكتة قد تكون في جوهرها ظاهرة عدوانية لكنها سلبية

والإعلام في المقابل تخلى عن دوره الأساسي فلم يعد يهتم بتوضيح الحقائق وإزالة الغموض، وإقامة قنوات اتصالٍ فعالة بين مطالب واحتياجات الموطنين وبين مؤسسات وأجهزة الدولة..وبالتالي بقيت المخاوف ومشاعر القلق على حالها. والتوعية تسهم في التخفيف من حدة التوتر والقلق وبالتالي تسيطر على مشاعر الخوف، لكن مصر تفتقد وجود أي جهاز للتوعية بأي شيء

إن المواطن العادي لا يدري ماذا يتعين عليه فعله إذا وقعت له كارثةٌ أو نزلت به مصيبةٌ أو تعرض لجريمةٍ كالسطو أو النصب أو الاغتصاب أو التحرش. إنه لا يعرف على سبيل المثال إلى أين يتجه بالضبط، وما هو الرقم الذي يدير به قرص الهاتف طالباً النجدة أو العون، لتنقذه قبل فوات الأوان أو تنتشله من محنته وآلامه. لا بد إذاً من تعريف المواطن وتوعيته بكل شيء حتى يزول الخوف من نفسه، ويعرف طعم الطمأنينة

الطمأنينة!

كلمةٌ يتوق إليها المصري، بغض النظر عن مستواه المادي والاجتماعي أو موقعه الوظيفي.. فالكل يشعر بالقلق وعدم الأمان، سواء من يقيم في قصرٍ على طريق الإسكندرية الصحرواي، أو يسكن في عشةٍ في الوراق أو الدويقة

ويمكن القول إن المصريين ينقسمون الآن إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يتألف من أشخاصٍ لا يبالون ولا توجد لديهم انفعالات ويتسمون بالسلبية الشديدة، والقسم الثاني يعاني قلقاً وخوفاً مستمراً من المجهول ولذا فإنه مصابٌ دوماً بحالة "خضة" ويخشى حتى من رنين الهاتف أو جرس الباب ويكرر أقوالاً وعباراتٍ من عينة "اللهم اجعله خيراً" حتى إذا ضحك، بما يجسد مخاوفه وتوتره. لقد أصبح هؤلاء الناس – والأرجح أنهم قسمٌ لا يستهان به من المجتمع- يعانون حالة ترقبٍ غير مريح، وهذا هو أحد أعراض القلق النفسي. ويبقى قسمٌ ثالث طبيعي يتعامل مع المواقف كما هي دون استهانةٍ أو مبالغة

وأي شعبٍ تضعه في الظروف التي يعيشها المصريون من عدم وجود حمايةٍ لآدميته أو لممتلكاته أو لجسده أو لنفسه من الخدمات المتاحة له، لا بد أن يكون في حالة خوفٍ أو هلع. أنت في مصر لا تعرف أي شيء عما يدور في بلدك، ولا تدري لماذا اختير فلان لهذا المنصب أو أقيل آخر أو حتى تعرض للمهانة. وفي ظل هذا الغموض السائد تزداد الإشاعة ويكون المواطن قابلاً للإيحاء وتصديق الأوهام

إن القلق والخوف والغموض هي الطينة التي تنبت وتنمو فيها الإشاعة، ثم إن عدم قدرة المصري على تصديق ما يقال له من وعود وما يصرح له به من أرقامٍ، سببٌ في شعوره بالخشية والقلق. فإذا سمع المصري أن الأرقام الرسمية تشير على سبيل المثال إلى أن نسبة البطالة لا تتعدى 8 % فإنه لن يصدق هذا، لأنه يشعر ويرى أن الرقم أكبر من ذلك بكثير. والمواطن إذا مرض أو أصيب أو مات فإن أحداً لا يسأل عنه، اللهم إلا دائرة المقربين منه

إن أحدث تقارير التنمية البشرية تشير إلى أن ما بين ٧٦ و٨٠% من المصريين يدفعون تكاليف علاجهم من جيوبهم، وهم يتساوون في ذلك مع مواطني جيبوتي والسودان والصومال، في حين أن مواطني دول الخليج مثل السعودية والبحرين والإمارات لا تزيد مساهماتهم في تكاليف علاجهم على ١٠%، أي أن هذه الدول تدفع نفقات علاج مواطنيها الأغنياء.. أما مصر فقد تخلت عن علاج فقرائها

وفي الدول الصناعية يتم تخصيص ما بين ١٠ و١٣% من ميزانية الدولة لقطاع الصحة، أما في مصر فإن هذه الميزانية في حدود ٣% فقط، وذلك وفق تأكيد تقرير التنمية البشرية. أمرٌ يدعو إلى الحزن والأسى أن تكون مخصصات التعليم والصحة هي الأقل في ميزانية الدولة

لقد اعتاد المصري على مر تاريخه أن يلقي همومه على عتبة الجماعة التي ينتمي إليها، أما الآن فقد تُرِكَ لذاته وأصبح أسيراً لها، ولم يعد أمامه إلا أن يأكل بعضه بعضاً، في حين اكتفت الحكومة بالجلوس في مقاعد المتفرجين

إلى أين يقودنا هذا الخوف؟

إنه يقودنا إلى حالةٍ من الجمود العاطفي وعدم المبالاة، تماماً مثل الفأر الذي تحدثنا عنه من قبل.. إن قطاعاً من المصريين أصبح يقرأ أو يشاهد ما يحدث في بر مصر من كوارث أو عن معاناة شعوبٍ عربية أخرى، فلا يبدي انفعالاً يذكر أو ينسى الأمر بالكامل بعد لحظاتٍ من التعرض له

إنها حالةٌ يمكن أن نسميها: العين الزجاجية

عينٌ نظن أنها ترى، لكن المؤكد أنها لا تحس بما يدور أمامها
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator