المحروسة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (10): حرب الصحف




لعبت الصحافة البريطانية دوراً مؤثراً في الدفاع عن مارغريت فهمي إلى أن نالت البراءة من التهم الموجهة إليها، وأخلي سبيلها، بالرغم من الضجة التي أثيرت في هذه الجريمة العاطفية الغريبة


وكتبت صحيفة "ديلي ميل" محذرةً من زواج نساء الغرب من رجال الشرق. وقالت الصحيفة إن مثل هذه الزيجات تثير عواطف غير مناسبة. وأضافت أن حالة السيدة فهمي، على وجه الخصوص، "ينبغي أن تكون درساً لبناتنا الشابات القابلات للتأثر واللاتي ما زلن بحاجةٍ إلى اكتساب بعض النمو والتطور"


أما صحيفة "لويد نيوز" فقالت "إن المرأة البيضاء التي تطلب الحب من رجال لا ينتمون إلى عرقها، سواء كانوا من العرق الأصفر، أو البني، أو الأسود، تدخل عالماً ضد طبيعتها ستتمرد عليه عندما تدرك الحقيقة". واتفقت مع هذا الرأي
صنداي بيكتوريال"، قائلةً إن قضية مدام فهمي لم تحمل مفاجأةً كبيرة للذين كانوا على علمٍ بِسماتِ العقلية الشرقية


وفي سياقٍ مماثل، حذرت صحيفة "ويسترن مورننغ نيوز" ضد "روح الليبرالية التي انتشرت في أوساط كثيرٍ من الأسر البريطانية، ما يقودها إلى قبول بعض الشرقيين كأصدقاء في منازلهم، وفي المقابل، يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى الزواج". ومضت الصحيفة لتلاحظ أنه "ومع ذلك، فإن شعور الزوجة البريطانية المتزوجة حديثاً بخيبة الأمل لا يبدأ قبل ذهابها إلى الشرق. يجب على الآباء البريطانيين أن يحذروا بناتهم كي يأخذن حذرهن من الرجال الشرقيين"


ولم تقع كل أقسام الصحافة البريطانية أسيرة هذه الموجة من العداء للرجل الشرقي، خصوصاً في أعقاب الإدانة الشديدة للمحاكمة والحكم من جانب مصريين مقيمين في انجلترا في ذلك الوقت، أو تصادف وجودهم هناك أثناء المحاكمة، إضافة إلى إدانة الشعب المصري الذي صب جام غضبه على الحكم والمحاكمة وذلك على صفحات الصحف الصادرة في مصر
لقد أثارت المحاكمة سخط مواطن مصري، يدعى عبد الرحمن البيلي بك، فأرسل بياناً إلى الصحافة البريطانية، يدافع فيه عن الحياة الزوجية في مصر. واحتج البيلي بك بشدة على مواقف واتهامات المحامي مارشال هول للزوج المصري والشرقي أثناء المحاكمة، فكتب يقول: "إن الرجال المصريين يعاملون زوجاتهم بأقصى درجات الاحترام، ومن يشذون عن هذه القاعدة في مصر ليسوا أكثر من أولئك الذين يشذون عنها في بلدانٍ أخرى. لقد وضعت الشريعة الإسلامية شروطاً على جواز الزواج بأكثر من زوجة بحيث يصبح هذا الخيار شبه مستحيل. علاوةً على ذلك، فإن الصحف البريطانية تنشر بين الفينة والفينة تقارير عن الحركة النسائية في مصر، وهي تقارير تعكس تأثير المرأة المصرية على الشؤون الوطنية. وعندما عاد سعد زغلول باشا إلى القاهرة كان هناك موكبٌ من النساء في 80 سيارة لتحيته. إن الوفد النسائي المصري الذي سافر إلى روما للمشاركة في مؤتمرٍ هناك قدم مساهمةً مهمة في المناقشات التي شهدها المؤتمر. وكان الوفد برئاسة هدى شعراوي، الرائدة المعروفة للحركة النسائية. وأخيراً، فإن القانون المصري لا يمنح الزوج الحق في معاملة زوجته بشكلٍ مختلف عن أي شخص آخر. وبين زوجات الرجال المصريين، هناك العديد من النساء من مختلف الجنسيات الأوروبية اللاتي يستنكرن بقوة ادعاءات السير مارشال هول"

في القاهرة أيضاً، اجتمعت سيدات اللجنة المركزية في حزب الوفد، لصياغة رسالة احتجاجٍ على سير المحاكمة والحكم الصادر عنها. وتقول هذه الرسالة، التي أرسلت في صورة برقيةٍ إلى الصحافة البريطانية وإلى مقر إقامة المندوب السامي البريطاني: "نرفض بشدة المغالطات والاتهامات المروعة الموجهة من قبل محامي السيدة مارغريت فهمي ومعظم الصحافة البريطانية ضد شعوب الشرق عموماً والمصريين خصوصاً. إن نساء مصر يمكن فقط أن ينظرن إلى هذه الادعاءات الزائفة باعتبارها حملةً عدائية متعمدة، وشكلاً جديداً من أشكال التشهير بشعوب الشرق من أجل تبرير السياسة الاستعمارية البريطانية"

وتعدى الغضب حدود مصر، كما يتبين من تقرير "ديلي اكسبريس" الذي أرسله مراسلها في القدس، حيث تسببت محاكمة السيدة فهمي في حالةٍ من اللوم الشديد في صفوف كثير من المغتربين البريطانيين والمواطنين الفلسطينيين

وتعاطفت صحفٌ بريطانية عدة مع المصريين، ووجهت انتقاداتٍ إلى الطريقة التي أخلت بها الأحكام المسبقة بالعدالة. وكانت صحيفة "ديلي هيرالد" الناطقة باسم حزب العمال البريطاني، أول من اقترح أن حكم هيئة المحلفين لم يستند على متطلبات العدالة بأكثر مما تأثر بالأداء المميز للسير مارشال. وأضافت الصحيفة أنه "إذا جاء حزب العمال إلى السلطة، فإن الحكومة سوف تتخلص من هذا النظام الذي يربط إلى حد كبير فرص تبرئة المدعى عليهم بمقدار ما يستطيعون إنفاقه على الدفاع عنهم"

ونشرت "ديلي كرونيكل" افتتاحيةً دفعت "الأهرام" إلى القول بأن الصحيفة البريطانية: "عادت إلى رشدها". وأقرت الصحيفة البريطانية، التي كانت قد رحبت سابقاً بقرار المحكمة، بأن الاعتراضات من جانب المصريين كانت صحيحة، وأن قوانين الزواج في الشريعة الإسلامية "مبنية على مبادئ أخلاقية قوية وتضع الرجال والنساء على قدم المساواة في أداء الواجبات الزوجية. وهناك العديد من الأشخاص المميزين في صفوف المسلمين، بالقدر الذي يوجد به أشخاص مميزون في صفوف المسيحيين. ومن النفاق الإدعاء بأن ثقافتنا تنتج أناساً أفضل من الثقافات "الرجعية" في معظم أنحاء المشرق"

ولكن، على الرغم من اللهجة الاعتذارية في العديد من المقالات البريطانية، فإنه من المشكوك فيه أن تكون قد قطعت شوطاً طويلاً نحو تبديد الرؤية العامة والثقافية والنفسية والذهنية التي أيدت مقولة روديارد كيبلنغ الشهيرة "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً"، وجعلت من الممكن التلاعب بالعدالة استناداً على أسسٍ عنصرية، كما حدث في قضية مدام فهمي

الإثارة التي أحاطت بالقضية والمحاكمة، دفعت مراسلاً صحفياً إلى أن يلاحظ أن "الصحف العربية في مصر أنفقت ثرواتٍ للحصول على أخبار الوكالات من لندن حول محاكمة مدام فهمي"

وبرزت "الأهرام" بوصفها الجريدة الوحيدة التي تنشر نصوص مجريات المحاكمة. ومضى المراسل ليقول إنه عندما حاول ذات ظهيرةٍ شراء نسخة من "الأهرام"، قال له الفتى الذي يبيع الصحف: "حتى لو كنت تستطيع أن تدفع جميع المال الموجود في مصر فإنك لن تكون قادراً على شراء نسخةٍ من "الأهرام" تتناول قضية فهمي"

وعقب حادث فندق "سافوي"، تحدثت الصحافة المصرية عن الزواج المختلط وانقسمت الآراء حوله. وقد كان الكاتب الصحفي أحمد الصاوي محمد من الرافضين للزواج بأجنبيات. وعندما حرم وزير المعارف على أعضاء البعثات العلمية الزواج في الخارج أثنى عليه الصاوي في عموده "ما قل ودل"، وقال: "ولم أشهد تخبطاً في الزواج بالأجنبيات مثل تخبط الطلبة المصريين في أوروبا، فإن الطلبة يتزوجون غالبا بنساءٍ لسن في العير ولا في النفير، بل هن "نفاية" النساء"

غير أن هناك آراء مخالفة ظهرت في مصر

يقول الكاتب والمفكر المصري د. لويس عوض في سيرته الذاتية "أوراق العمر" (مكتبة مدبولي، القاهرة، عام 1989) إنه: "بعد جرائم ريا وسكينة (1920) وجرائم أدهم الشرقاوي (1921)، كانت هناك جريمةٌ روعت الرأي العام في 1923 وظلت حديث الصحافة والناس لسنواتٍ طويلة, وكانت هذه جريمة مارغريت فهمي التي قتلت زوجها (الوجيه) المصري علي كامل فهمي بك في فندق من فنادق لندن الكبرى. وكنت يومئذٍ قد تجاوزت الثامنة من عمري, وكنت أتابع كل ما تكتبه الصحف والمجلات المصرية عن هذه القضية, ولذا بقيت ملامحها العامة في عقلي ووجداني أكثر من ستين عاما حتى كتابة هذه المذكرات. ولكني كالعادة, رجعت قبل التدوين إلى كتاب كنت قد قرأته منذ ثلاثين عاماً اسمه "مرافعات مارشال هول الشهيرة". والسير إدوارد مارشال هول هو المحامي الإنجليزي الشهير الخطير الذي ترافع في لندن عن مارغريت فهمي واستخلص لهذه القاتلة المتلبسة أغرب حكم في تاريخ القضاء وهو البراءة"

ويتابع د. لويس عوض حديثه قائلاً: "فلم تمنع جريمة مارغريت فهمي العديد من الشباب المصريين من الزواج بالأجنبيات", ويقول: "من يقرأ صحافة العشرينيات والثلاثينيات وأدبهما, بل من يقرأ الصحافة والأدب منذ "عيسى بن هشام" و"زينب" حتى بداية الحرب العالمية الثانية, يجد فيها مناظراتٍ لا تنتهي بين الفتاة المصرية والفتاة الأوروبية", وأن الانتصار للفتاة المصرية تعاظم مع انتشار تعليم البنات ومع اتساع الطبقة المتوسطة حتى غدت صورة الزواج بالأجنبيات شبيهة بالوباء القومي, وحتى تعالت الأصوات بحماية بناتنا من هذه المنافسة غير المشروعة وطالبت الأصوات الحكومة بحماية بناتنا كما تحمي الصناعة الوطنية
"

ولم يسكت الرأي العام والفن في مصر على ما جرى

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator