المحروسة

gravatar

قبل الطوفان



على حافةِ الكون يقفُ المدوِن
ربما يكون باحثاً عن حقيقة ضائعة أو راغباً في لمس سقف السماء بإحساسه وترصيع ملابسه بنجمةٍ أو أكثر، أو حالماً بحرية النفس أو الوطن، أو صاحب رأي وموقف وقضية

هنا ترتدي المدونة عقل وقلب صاحبها، ليصبحا في إيقاع موسيقي عذبٍ الحلقة المفقودة في دورة الحياة ونشأة الإنسانية
والتدوين تنوعٌ، مثلما أن الكتابة فعل التزام

وفي فضاء التدوين، تجد البشر قادرين على تجاوز حدود عالمهم الصغير بالكتابة عن قضايا وهموم وتحدياتٍ لا تعد ولا تحصى، والوصول بأفكارهم ورؤاهم إلى أربعة أركان الدنيا..فالكلمات لها أجنحة
ربما كان هذا السبب وراء انحياز كاتب هذه السطور لتجربة التدوين بشكل عام، خاصة أن مساحة الحرية أكثر اتساعاً، دون رقابةٍ أو قيود تُذكر، على الأقل حتى الآن

ولعل أبرز ما شغلني عند بدء تلك التجربة، هو ذلك التاريخ الضائع الذي يعاني الإهمال ويفتقد الدقة والقدرة على التوثيق. من هنا، كان اهتمامي الأول هو محاولة جمع أوراق تاريخ مصر المبعثرة، لتبيان الحقائق ورصد الأحداث قدر الإمكان

هدف مدونة "قبل الطوفان" في شقها التاريخي كان إذاً التوثيق والتدقيق، لا الإمتاع والمؤانسة. على أن أسلوب الكتابة عنصرٌ بالغ الأهمية في جذب القاريء ولفت انتباهه إلى جوهر الموضوع، وتشكيل رأي عام أكثر وعياً ونضجاً وإدراكاًً للأمور

والتدوينات التي ظهرت على مدونة "قبل الطوفان" تجسد في جانبٍِ منها، رغبةً جادة في قراءة تاريخ مصر المعاصر، وفهم طبيعة وحقيقة الأدوار التي لعبها البعض عبر عقودٍ طويلة، وتحليل طبيعة الشخصية المصرية

لقد حان الوقت كي ننزع القداسةَ عن تاريخنا, لأنه تاريخ بشرٍ يخطئون ويصيبون. ونحن نرى أن "قبل الطوفان" حاولت أن تضيف وتثري النقاش حول قضايا مهمة وشخصيات مؤثرة في تاريخ مصر، سعياً وراء الحقيقة ولا شيء سواها

والحقيقة هنا تشير إلى اختلال الموازين في ظل مصيبةٍ اسمها تولية الأمر لغير أهله، وتبين أن مصر تتأرجح - أو تترنح- مثل بندول الساعة بين الحلم الممكن والواقع المرير

وفي أولى تدوينات تلك المدونة، كتبنا بتاريخ 18 فبراير شباط 2006 وتحت عنوان "الحقيقة..تلك الكلمة السحرية" قائلين:

"وفي وصف حالتنا التي لا تخفى على القاصي والداني..لا تكون الكتابة ترفاً، بل فعلاً ومقاومة وسفينة نجاة.. قبل أن يجتاحنا الطوفان"

وهذا بالضبط ما دفعنا إلى جمع تلك التدوينات وإعادة قراءتها وإضافة بعض التفاصيل إن لزم الأمر واستدعت التطورات المتلاحقة للأحداث، حتى يتسنى للقاريء أن يدرك ما يجري حوله ويستوعب الصورة كاملة، بدلاً من الاكتفاء بجزءٍ منها. ومن رحم المعلومات الشاملة والبيانات الوافية والإرادة الواعية الحرة، تُولد القرارات الصائبة التي تمكث في الأرض وتنفع الناس

والشاهد أن القراءة المتأنية لمدونة "قبل الطوفان"، وتحديداً التدوينات المختارة عن مصر المحروسة، تكشف عن حقيقةٍ لا تقبل الجدل، مفادها أن ثمة احتكاراً حقيقياً للسلطة في البلاد بين أيدي مجموعة قليلة من النخبة ترتبط ببعضها البعض بكل وشائج المصلحة والمصاهرة والمجاورة، وتمنع، بكل سبل التشريع الفاسد والإجراءات الاستثنائية أي مصري آخر من خارجها من الاقتراب من مركز تلك السلطة

تاريخٌ من المظالم الاجتماعية والسياسية، والمفارقات المضحكة والمؤلمة معاً، والنوادر التي تستحق أن تُروى، والتي تثبت أن في بلادنا الآن أكثر من "مصر"

أمصارٌ من كل نوع ولون، تخوض صراعاً لا ينتهي، بعضها تقوده شهوة الثراء، وبعضها الآخر يتمنى نعمة البقاء، وما بين فكي الرحى شعبٌ راح يتساقط تحت وطأة العطش والفقر والبطالة وأمراض الكلى والكبد والأوجاع النفسية والعوز والتفكك الأسري، التي تلقي بفلذات الأكباد إلى غيابة الشوارع والطرقات المتوحشة

وعاشت الدولة في السنوات الأخيرة في حالة صدامٍ دائم مع المجتمع بفئاته المختلفة، ولا ترغب وفقاً للعقد الاجتماعي التاريخي بين الشعب والدولة في التصالح معه والاستجابة لمطالبه الخاصة بالحرية والديمقراطية والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل، بل تأخذها العزة بالإثم والعناد في مواجهة المشكلات التي يواجهها الشعب بمختلف طوائفه حتى أصبح العقد الاجتماعي بين الطرفين فاقداً لمشروعيته ووجوده، وبات زواجاً غير شرعي

ولقد بدا واضحاً ذلك الانسحاب المخزي للدولة من المجال العام - السياسي والنقابي والإداري ـ والمجال الخاص في حماية كل مواطنٍ يحاول أن يسير على قدميه. وامتد انسحاب الدولة ليشمل باقي مجالات الحياة، فالدولة غائبةٌ عن حياة المصريين اليومية، لا تظهر إلا في الكوارث، وتغيب حين يكون مطلوباً منها أن تمنعها أو تواجهها قبل وقوعها

فالمصريون يموت منهم كل عام حوالي ١٠ آلاف قتيل في الطرق وحدها، ولا أحد يتحرك بمن فيهم الناس أنفسهم، ويغرقون في العبارات النيلية، وليس فقط عبارات البحار وهم لا يتحركون، وينهار نظامهم التعليمي ويعيشون في فوضى وعشوائية أقرب إلى المهزلة، ويُستنزَفون منذ الصباح وحتى عودتهم إلى منازلهم في مشاجراتٍ ومشادات وجدلٍ لا ينتهي مع بعضهم البعض، دون أن تحكمهم قاعدة قانونية واحدة تنظم شيئاً واحداً في حياتهم

وهكذا عاشت مصر عصوراً انتشرت فيها ثقافة المسكنات والمهدئات، حتى في الحالات التي كانت تتطلب بتراً أو جراحة عاجلة، لأن أهل المصلحة في بقاء الحال على ما هو عليه رأوا أنه لا ضرورة للإصلاح في مجالات ومناحي الحياة، حتى آلت الأمور إلى ما نحن عليه الآن من تدهورٍ وضياع للدور والمكانة والتأثير

مدونة "قبل الطوفان" كانت رصداً لهذا التدهور، وأول العلاج هو التشخيص السليم

فلنبدأ معاً القراءة.. ورحلة العلاج

من مقدمة كتاب "قبل الطوفان: التاريخ الضائع للمحروسة في مدونة مصرية" - كتاب "ميزان"- يناير 2008
تجدون إصدارات "ميزان" في معرض القاهرة للكتاب، سراي 4- جناح دار ليلى وعقب معرض القاهرة للكتاب، تجدونها في المكتبات الكبرى في مصر

gravatar

الف الف مبروك يا دكتور .. فعلا لو اللي في المدونة ماتعملش كتاب فايه اللي ممكن يستحق .. هو ده فعلا ماينفع الناس .. سعادتي بالخبر لا توصف و لن اتنازل عن اهداء خاص على صفحة نسختي الخاصة منه .. اسجل كمان اعجابي الشديد بتصميم الغلاف .. بالتوفيق دائما

gravatar

هذه تدوينة تستحق ابتسامة عريضة
:))))))))))))))))))))))
ألف مبروك ياسر
أخيرا يتوج كل هذا الجهد وتجد النصوص مكانا آخر يناسبها وتجد طريقا ربما الى أشخاص لا يغريهم التعامل مع انترنت
هذه تدوينات تستحق ان تكون مرجعا موثوقا، امينا قدر الامكان لحقائق التاريخ وان اختلفت وجهات النظر حولها
يعطيك الف عافية
مودتي

gravatar
Anonymous في 12:39 PM

CONGRATULATIONS !!!!!
I wanted to be the first one to congratulate u .
A great effort exerted by a great observer in our era , and one of the greatest writers as well .
A dear child is added to ur children .
Well done and keep on always to be the sun of our days.
Shou3la

gravatar

سعيد جدا أن تظهر المدونة مطبوعة، مبروك يا دكتور ياسر!!!

هل الكتاب متوافر بالمعرض؟ ومكانه؟
ألف مبروك علي النشر ، والوصول إلى عدد قرّاء أكبر. المدونة تستحق الكثير

gravatar

Haisam(jarelkamar)

أشكرك يا د. هيثم على كلماتك التي أعتز بها
أتمنى أن تكون هذه مجرد بداية لمشروع أكبر في التأليف والنشر

وبالطبع، مكانتك محفوظة والإهداء أيضاً

gravatar

Rat

أشكرك يا صديقتي الغالية على هذه التهنئة

أرجو أن تكون هذه المادة مفيدة بأقصى قدر ممكن لكل شخص مهتم بالحقيقة..والتاريخ الضائع

الكتاب يتضمن إضافات مهمة لكثير من الموضوعات رأيت أت تكون هديتي للقاريء

العقبى لك يا رات

gravatar

Shou3la


أشكرك يا عزيزتي على هذا الكلام الكبير
:))

وإن شاء الله تكون عودة قوية للتأليف بعد غياب

gravatar

Mukhtar Al Azizi

أشكرك أيها الصديق
الكتاب موجود في معرض الكتاب، في جناح دار ليلى للنشر و التوزيع و الإعلان بسراي 4
أرجو أن ينال الجهد إعجابك لأنك متابع جيد..خصوصاً أن الإضافات التي تضمنها الكتاب قد تكونة مفاجأة لكث\يرين لأنها أكثر شمولاً وتوثيقا في كثير من الموضوعات

gravatar
Anonymous في 9:18 AM

ألف مبروك ياسر..
فعلاً كان يجب أن تخرج تدويناتك إلى حيز أوسع من القراء.
عدا عن أن لقراءة الكتاب الذي من حبر وورق نكهةً أخرى

سؤال: هل سيتوفر الكتاب خارج المكتبات المصرية؟

بالتوفيق دائماً
غيدا

gravatar
This comment has been removed by the author.
gravatar

Ghida


أشكرك يا صديقتي العزيزة
بالمناسبة، أين أنت وماذا يحدث في مدونتي المفضلة؟

الكتابان "قبل الطوفان" و"جمهورية الفوضى" سيكونان متوفرين في معرض القاهرة للكتاب، ثم يتم توزيعهما في المكتبات المصرية، وإن شاء الله خارج مصر قريباً

gravatar
Anonymous في 12:55 AM

الأديب الكبير دكتور ياسر
تهنئه حاره بكتابك التاريخى "قبل الطوفان" الذى كنا نحلم بصدوره ليكون مرجعا تاريخيا للحاله المصريه لنا وللأجيال القادمه بدلا من التاريخ المزيف الذى يلوثون به عقول النشء الجديد
دكتور ياسر... أكثر الله من أمثالك الشرفاء الصادقين الذين ينشدون الحقيقه
شكرا لك وفى انتظار الأجزاء التاليه من " قبل الطوفان "
عبدالهادى كامل

gravatar

عبد الهادي كامل


أشكرك أيها الأخ والصديق الكبير الذي أحبه وأحترمه، وأتمنى أن يكون ما أكتبه دائماً مفيداً لكل الأصدقاء من القراء أينما كانوا.
أرجو أن نلتقي قريبا على خير بإذن الله.

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator