المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (14): نزهة الألباب في حادثة القبقاب



القلبُ يقود الجيوش، لكنه قد يسقط العروش

واسألوا شجر الدر

وشجر الدر بنت عبد الله، جاريةٌ تركية – وقيل إنها أرمينية- حسناء، أهداها الخليفة العباسي المستعصم إلى نجم الدين أيوب في عهد ابن السلطان الكامل، فأعتقها وتزوجها. وسرعان ما أنجبت منه ولداً سمي خليل، وعُرِفَت به، فهي أم خليل
كانت هذه المرأة ذات حظوةٍ عند نجم الدين أيوب لجمالها وذكائها، وقد شاطرته ما لاقى من محن. مات ولدها صغيراً، فظلت تتكنى به. كانت مع زوجها لما تولى بلاد الشام ولما انتقل إلى مصر وتولى السلطنة. كانت في بعض الأحيان تدير أمور الدولة عند غيابه، وكانت كما يقول ابن إياس: ذات عقل وحزم، كاتبة قارئة، لها معرفة تامة بأحوال المملكة، وقد نالت من العز والرفعة ما لم تنله امرأةٌ قبلها ولا بعدها، وكانت تكتب خطاً يشبه خط زوجها الملك الصالح، فكانت تعلم على التواقيع (بدائع الزهور في وقائع الدهور ( كتاب تاريخ مصر): 1/89_ 91)

توفي السلطان الصالح نجم الدين أيوب في ليلة النصف من شعبان سنة 647 هـ / 1249م بالمنصورة، والقوات الصليبية تزحف جنوباً على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط؛ للإجهاز على القوات المصرية الرابضة في المنصورة. وكانت إذاعة خبر موت السلطان في هذا الوقت الحرج كفيلةً بأن تضعف معنويات الجند، وتؤثر في سير المعركة

اضطرت شجر الدر إلى إخفاء زوجها وأمرت بحمل جثته سراً في سفينة إلى قلعة الروضة بالقاهرة، وطلبت من الأطباء أن يدخلوا كل يوم إلى حجرة السلطان كعادتهم، وكانت تُدخل الأدوية والطعام غرفته كما لو كان حياً، فإذا سُئِلَت عنه قالت: السلطان مريض، ما يصل إليه أحد. واستمرت الأوراق الرسمية تخرج كل يوم وعليها علامة السلطان. عهدت شجر الدر للأمير فخر الدين بقيادة الجيش، حتى انتصر المسلمون على الصليبيين في موقعة المنصورة ثم فارسكور سنة 647 هـ / 1250م. كما أرسلت إلى تورانشاه (أو: توران شاه) ابن الصالح أيوب تحثه على القدوم ومغادرة حصن كيفا إلى مصر، ليتولى السلطنة بعد أبيه

وفي الفترة ما بين موت السلطان الصالح أيوب، ومجيء ابنه تورانشاه في (23 من ذي القعدة 648هـ = 27 من فبراير 1250م)، وهي فترة تزيد عن ثلاثة أشهر، نجحت شجر الدر في أن تمسك بزمام الأمور، وتقود دفة البلاد وسط الأمواج المتلاطمة التي كادت تعصف بها

بعد النصر تنكر السلطان الجديد لشجر الدر، وبدلاً من أن يحفظ لها جميلها بعث يتهددها ويطالبها بما كان عند أبيه من مال وجواهر، فكانت تجيبه بأنها أنفقته في شؤون الحرب، وتدبير أمور الدولة. ولم يكن تورانشاه بالشخص المناسب، فكان غير مستقيم الأخلاق، مفتقراً للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، وقد وصفه ابن الجوزي بأنه "كان سيء التدبير والسلوك ذا هوج وخفة" (مرآة الزمان: حوادث سنة 648هـ (1250م)

ولما اشتد تورانشاه على شجر الدر ورابها خوفٌ منه ذهبت إلى بيت المقدس خوفاً من غدر السلطان وانتقامه. غير أن تورانشاه لم يدعها وشأنها، فقررت التدبير لقتله

وهكذا عادت شجر الدر وجعلت تتصل بأنصارها من المماليك البرجية المعـادين لتورانشاه، فهاجموه وهو في معسكره في فارسكور، وذلك في 29 محرم عام 648 هـ (1250م)، ما اضطره لإلقاء نفسه في البحر من فوق برج خشبي كان قد التجأ إليه، فحرقوه عليه بعد أن قذفوه بالسهام، فـمات جريحاً غريقاً حريقاً، دون أن تنفعه استعطافاته وصياحه "ما أريد مُلكاً، دعوني أرجع، خذوا مُلككم ودعوني أعود إلى حصن كيفا"، ولكنهم لم يلقوا بالاً لأقواله وقالوا: "بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها"

وقيل إنه حاول الاستنجاد بأبي عز الدين رسول الخليفة العباسي، الذي كان معه في المعسكر فصاح: "يا أبا عز أدركني"، غير أن أبا عز الدين لم يكن يملك أن يفعل شيئاً تجاه هؤلاء القادة الغاضبين

وقيل: بقيت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام، ثم دفنت مكانها وقيل: بل كشف عنها الماء بعد ثلاثة أيام، فنقلت إلى الجانب الآخر وذلك بجرها في الماء بصنارةٍ من قبل شخصٍ راكب في مركب كـما يجر الحوت


وهكذا انتهى حكم الدولة الأيوبية من مصر بعد أن حكموها إحدى وثمانين سنة ليبدأ بعد ذلك عصر المماليك

بايع أمراء المماليك وأعيان الدولة شجر الدر، فنصبوها سلطانة على مصر في الثالث من صفر عام 648 هـ السابع من مايو آيار 1250 م، في ذروة احتفال مصر بهزيمة لويس التاسـع ملك فرنسا وحملته الصليبية السابعة، ومغادرتهم لدمياط، ولقبوها باسم "الملكة عصمة الدين شجر الدر والستر العالي والدة الملك خليل
حكمت هذه المرأة ثمانين يوماً، وخطب الخطباء لها على المنابر بعد الدعاء للخليفة العباسي المستعصم بالله. وكان نص الدعاء لها على المنابر: "احفظ اللهم الجهة العالية الصالحية ملكة المسلميـن، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة الملك الـصالـح". كـما نقشـوا على السكة والنقود "المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة خليل، أمير المؤمنين"
اشتهرت شجر الدر بالدهاء حتى وصفها ابن إياس بأنها "صعبة الخلق، قوية البأس، ذات شهامة زائدة، وحرمة وافرة، سكرانة من خمرة التيه والعجب"

أخذت شجر الدر تعمل على تدعيم موقفها في الداخل، خصوصاً أن المسلمين لم يألفوا حكم النساء، وإن لم تكن شجر الدر أول امرأة تحكم في العالم الإسلامي، فقد سبق أن تولت رضية الدين سلطنة دلهي، واستمر حكمها أربع سنوات (634-638هـ/1236-1240م). أخذت شجر الدر تسرف في التقرب إلى أهل الدولة ومنحهم الرتب والإقطاعات كما خفضت الضرائب عن الرعية لتستميل قلوبهم إليها
وكان أول عمل اهتمت به بعد تولي الحكم هو تصفية الوجود الصليبي في البلاد، وإدارة مفاوضات معه، انتهت بالاتفاق مع الملك لويس التاسع الذي كان أسيراً بالمنصورة على تسليم دمياط، وإخلاء سبيله وسبيل من معه من كبار الأسرى مقابل فديةٍ كبيرة قدرها ثمانمئة ألف دينار، يدفع نصفها قبل رحيله، والباقي بعد وصوله إلى عكا، مع تعهدٍ منه بعدم العودة إلى سواحل المنطقة مرة أخرى

وبالرغم من كل ذلك فقد اضطربت الأمور في مصر عامة والقاهرة خاصة، وذلك احتجاجاً وأنفـةً من حكم امرأة، وعمت الفوضى القاهرة، ما اضطر شجر الدر إلى الأمر بإغلاق أبوابها منعاً لانتشار خبر هذه الاضطرابات

وزاد من خطورة هذا الوضع انضمام علماء المسلمين إلى العامة في هذه المعارضة، وعلى رأسهم الشيخ عز الدين عبد السلام، الذي كتب كتاباً حول ما قد يبتلي به المسلمون بولاية امرأة. كـما لم يوافق الخليفة العباسي على توليها السلطة، وعيَر أهل مصر بذلك قائلاً في رده على رسالة من المماليك يطلبون فيه تأييده لحكمها "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلاً"

ولا أدل على شعور المعاصرين بالحرج من قيام امرأة في حكمهم هو عدم إبراز اسم السلطانة مكشوفاً، فكانت المراسيم والمناشير تصدر وعليها علامتها "أم خليل"، كما نقش اسمها على السكة والنقود "المستعصمية الصالحية" ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل أمير المؤمنين

وعلى الرغم من نجاح شجر الدر في تسيير شؤون البلاد فإن ذلك لم يشفع لها عند الأمراء الأيوبيين المنتشرين في مصر وبلاد الشام، فانقسم البر الشامي عن البر المصري لتبقى بلاد الشام في حوزة الأيوبيين في حين انتقلت مصر لتُحكَم من قبل أميرة مملوكية
ولم تجد شجر الدر إزاء هذه المعارضة الشديدة بداً من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك، وكان يشغل منصب (أتابك العسكر)، أي رئيس الجند، الذي تزوجته، ليصبح لقبه الملك المعز أيبك
ولفظ أيبك من التركية بمعنى "الأمير القمر" وكان في الأصل مملوكاً لأولاد التركماني، وهم بنو رسوم في اليمن فعرف بأيبك التركماني، ثم انتقل لخدمة الملك الصالح أيوب (جمال الدين بن يوسف بن تَغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)
وإذا كانت شجر الدر قد تنازلت عن الحكم والسلطان رسمياً بعد ثمانين يوماً، وانزوت في بيت زوجها، فإنها مارست بمشاركة زوجها مسؤولية الحكم، وخضع هو لسيطرتها، فأرغمته على هجر زوجته الأولى أم ولده عليّ، وحرّمت عليه زيارتها هي وابنها، وبلغ من سيطرتها على أمور السلطان أن قال المؤرخ الكبير ابن تغري بردي: "إنها كانت مستولية على أيبك في جميع أحواله، ليس له معها كلام"

غير أن أيبك انقلب عليها بعدما أحكم قبضته على الحكم في البلاد، وتخلص من منافسيه في الداخل ومناوئيه من الأيوبيين في الخارج، وتمرس في إدارة شؤون البلاد

ثم دب الخلاف بين أيبك وزوجته شجر الدر، بسبب تسلطها وشدة غيرتها عليه، فحاول أن يتزوج من ابنة بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل نكايةً بها، خصوصاً وقد شعر بتآمرها مع أنصارها من المـماليك البحرية عليه وعلى مماليكه المعزية
غضبت شجر الدر وأخذت تفكر في الخلاص من زوجها، فأرسلت إلى الملك الناصر صلاح الدين، صاحب حلب ودمشق، برسالةٍ أسرَت فيها إليه أنها تريد قتل المعز أيبك والتزوج منه وتمليكه عرش مصر، فلم يجبها وظن أن في الأمر خدعة
وعَلم بدر الدين لؤلؤ بأخبار هذا الاتصال بين شجر الدر والناصر يوسف، فأبلغ أيبك به، فاحتاط لنفسه من غدر شجر الدر، وقرر في طويته قتلها
ولم تلبث شجر الدر أن سبقته في تنفيذ عزمها

فقد أخذت شجر الدر ترق له وتتلطف به، وفي ليلة دعته إلى زيارتها في قصرها بالقلعة فاستجاب لدعوتها . وبين رياش وحرير وطعام لذيذ وشراب أثير، أوشك أن يقترب منها فتمنعت بدلال الأنثى طالبة منه أن يغتسل من وعثاء السفر، فساقته إلى المسبح ودخله بقدميه، ولم يخرج منه إلى الأبد، إذ كانت قد أعدت خمسة غلمان لقتله فدخلوا عليه وقتلوه في الحمام في (23 من ربيع الأول 655هـ= 1257م)

أشاعت شجر الدر أن أيبك قد مات فجأة بالليل، ولكن مماليك أيبك لم يصدقوها، فصعدوا إلى القلعة ليحققوا في سبب وفاته، فعلموا بالحقيقة باعتراف الغلمان الذين قتلوا أيبك فأعدموهم وحاولوا قتل المحرضة، وكادوا ينجحون في ذلك لولا تدخل بعض المـماليك الصالحية، الذين نقلوها على عجل إلى البرج الأحمر في القلعة حمايةً لها. أما المماليك المعزية فقاموا بتعيين الطفل نور الدين علي نجل معز الدين أيبك مكان أبيه باسم الملك المنصور، وكان عمره خمس عشرة سنة، وعينوا قطز أتابكاً له

وكان أول عمل قام به السلطان علي بمساعدة أتابكه قطز، هو الأمر بقتل السلطانة السابقة شجر الدر، وذلك بتحريض من والدته، بعد أن ضعف شأن حماتها من المماليك الصالحية، فأمر بحملها إلى أمه وكانت تتحرق شوقاً للانتقام منها، فأمرت بقتلها "فضربتها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها عن سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سروال وقميص. فبقيت في الخندق أياماً. أخذ بعـض أراذل العامة تكة سراويلها (المزينة بالجواهر الثمينة)، ثم دفنت بعد أيام وقد نتنت، فحملت في قفة إلى تربتها قريب المشهد النفيسي"
قبة السلطانة شجرة الدر، هي عبارة عن غرفة دفن مربعة الشكل تعلوها قبة، وهناك ثلاثة أبواب في وسط ثلاثة من أضلاعها؛ بينما يوجد المحراب في وسط الضلع الرابع من جهة القبلة. وللمحراب بروزٌ شبه دائري من الخارج، وعلى كل جانب من جانبيه كوة يعلوها عقد ذو زاوية. وفي وسط كل ضلعٍ من الأضلع الأربعة للضريح توجد كوة مستطيلة من الجص بالداخل. ويعلو كوة المحراب عقد نصف دائري. وجميع العقود محمولة على إفريز خشبي يحتضن الضريح تماماً
وهذا المحراب هو أول نموذج في مصر يحتوي على فسيفساء في شكل شريط مضفر وسط خلفية مذهبة، وبه رسم لشجرة بأغصان مسترسلة. ويوجد في وسط الضريح تابوت من خشب حديث نسبي؛ يضم أجزاء أخذت من التابوت القديم


وقيل إن امرأة أيبك الأولى احتفلت بالتخلص من غريمتها وضرتها، فصنعت حلوى من الرقاق واللبن المحلى بالسكر ووزعتها على العامة من المصريين الذين لم يعرفوا اسم هذه الحلوى، فأطلقوا عليها اسم صاحبتها "أم علي"

يقول ابن تغري بردي إن شجر الدر لما تيقنت أنها مقتولة جمعت جواهرها فسحقتها في الهاون لئلا يأخذها ابن زوجها الملك المنصور
وهكذا انتهت حياة السلطانة السابقة على هذا النحو: اغتيالٌ يجمع بين الغرام والسياسة
قضت شجر الدر بعد أن كانت ملء الأسماع والأبصار، وقد أثنى عليها المؤرخون المعاصرون لدولة المماليك، فيقول ابن تغري بردي عنها: "وكانت خيّرة دَيِّنة، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البر، معروفة بها…"
غير أن الناس لم يعودوا يتذكرون من الحكاية سوى قباقيب الجواري..وحلوى أم علي

تابع القراءة

gravatar

عامان: ضوء يفتح النافذة

كبُرت قبل الولادةِ، ربتني حكاية

سلتي مليئةٌ بالثمار، لكنني اخترتُ على الدوامِ ثمرةَ الصمتِ الناضجة

في قلوبِكم خبأتُ أسراري، والكاتبُ الصادق يجلس في حدائقِ الغيب، ليقطف لأحبتِه وردَ الأقحوان

وفي الذكرى الثانية لمولد "قبل الطوفان"، كان لا بد من وقفةِ مراجعةٍ مع النفس..ومع قراءِ هذه المدونة

ليكُن

الأحداث: أورام الزمن، والأيامُ كالرفاق..بعضهم يتأبط ذراعَك ويمنحُك ابتسامةً دافئة، والبعض الآخر يمر بك ولا يبالي

وكي ترصد الأحداث، كُن فيها لا خارجها

آليتُ على نفسي منذ البداية أن يكون صدري للبحر، ووجهي للشمس، وقلبي للقراء

وهكذا كتبنا بالنار والحبر ونحتنا بالإزميل، كي تكون الملامحُ أوضح والصورة أصدق

غزونا الأرق كي نصطاد غزلان المعرفة، ونمنا على وسادة الفجر بعد أن أدركنا الحقيقة: وحده الصقر يتنفس العواصف

نحن نخاف على أوطاننا..والخوف يؤدي إلى الوعي، الخوف المرضي وليس الخوف الطبيعي، وإلا لكانت الحيوانات قد بلغت درجة وعيٍ تفوق وعينا

لا يسكن المرء بلاداً، بل يسكن لغةً.. ذلك هو الوطن ولا شيء غيره

وربما لهذا فتحنا ملفاً كأنه كرة اللهب: جرائم العاطفة في مصر المحروسة

وفي مواجهة التعتيم والأخطاء والزيف الذي باعوه في مراكز التسوق على أنه التاريخ الحقيقي، ألقينا الضوء على أسرارٍ لم ينشر بعضها من قبل باللغة العربية عن الملك فاروق

لم نخش شيئاً، وتأملنا في صورة الرئيس المصري السابق أنور السادات ممثلاً، ووزير الحربية المصري السابق شمس بدران..الرجل الذي تكلم كثيراً

رصدنا خلافات أهل الثورة، التي كانت دائمة..ودامية

كشفنا حكاية سقوط وزير الدفاع في طبق الجيلي، ومضينا لنسقط القناع عن عددٍ من أشهر الخونة في تاريخ مصر

سردنا أحاديث التليفون التي هزت مصر.. من كلام الرؤساء، إلى ألاعيب المسؤولين، مروراً بفضائح اللاهثين وراء المتعة ورنين الذهب

على صفحة مياه النيل، سهرنا مع ثرثرة العوامات.. المكان بطلاً

وعقب الموتِ المريب لأشرف مروان في العاصمة البريطانية، شرحنا في سلسلةٍ من التدوينات حكايات الموت الغامض في لندن، من علي شفيق إلى الليثي ناصف وصولاً إلى "أخت القمر" سعاد حسني، وانتهاءً بصهر الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر

تحدثنا عن اكتئاب المصريين، أو تلك العين الزجاجية التي تجعل أحاسيسهم تموت يومياً..ربما دون ذنب

وقفنا على أطلال موت خفيف، لنؤكد أنه منذ القِدم ونحن نموت، ومع ذلك لم يفقد الموت شيئاً من نضارته.. هنا يكمن سر الأسرار

رسمنا ملامح غرباء في مدن غريبة، وغرقنا بإرادتنا في طرف من خبر الآخرة، وركلنا فضاء الشارع والذاكرة في هذيان المقهى، حتى سال حبر اليقين على أوراقنا وفي قلوبنا. واكتفينا بأن نعيش غوايات مؤقتة، لأن الوظيفة الوحيدة للذاكرة تكمن في مساعدتنا على الندم

وبالمثل، استدعينا الذاكرة الجريحة لدى البعض في قارب الجسد، لعل البعض يشفى أو ينهض مثل عنقاء من رماد الألم

وفي الرياضة كتبنا عن مطعم الفراعنة الذي تخصص إفريقياً في ركوب أفيال كوت يفوار وقهر جديان السودان، وصولاً إلى تقديم صنفٍ جديد على مائدة نهائي الكرة الإفريقية: لحم أسود الكاميرون

أبدينا تحفظنا على انتشار الخرافات في معجزات دينية للبيع، لأن الظاهرة غولٌ مخيف يلتهمنا جميعاً

كتاب الرغبة مر بمحطات نوال السعداوي، ولطيفة الزيات، وأهداف سويف وغسان كنفاني، وسحر الموجي..وبقيت محطاتٌ أخرى تروي سيرة وأسرار من وضعوا إصبع النار في قلق الثقوب، وابتل كبريت كبريائهم بالشبق وأحلام الطفولة

قدمنا للناس منتدى نهاوند للموسيقى في غيمة تمطر أصالة، لأننا نكتب فضائلنا على باب اللحن ونغسل خطايانا فوق شباك الأغنية

ومن رحم "قبل الطوفان" وُلِدَ كتابان: "قبل الطوفان: التاريخ الضائع للمحروسة في مدونة مصرية" و"جمهورية الفوضى: قصة انحسار الوطن وانكسار المواطن"

هكذا تكبر القامة وتعلو الهامة.. بالفعل والعمل

ولذا نقول باطمئنان: ما يجده القارىء في هذه المدونة، لن يجده في أي مكانٍ آخر من فضاء التدوين
وهذه المدونة تؤمن أن النصوص وحدها تقاوم الزمن، وتحفظ إلى الأبد صور من يطبعون الشوارع الغريبة بخطواتهم، ويذوبون في سينما النجوم الحالمة بأيدٍ متشابكة، وبعدها يسهرون بضحكاتهم المغلفةِ بالحنين في مطعمٍ لا يقدم لرواده سوى مقاعد تستدرج منا الغرام
لنبق معاً، نبحث في صندوق المعنى ونوقظ الوعي، ونسكب في أوعية من نعرفهم الأفكار ساخنة، وننفخ في روحِ وأشرعةِ الزَّمن، ونمسح دمعةً تغلق الباب على نفسها

فالكلام الناضج مثل الضوء يفتح النافذة، ويقطع الطريق على الظلام

لنبق معاً..فليست هذه سوى البداية

تابع القراءة

gravatar

غرباء



أفضلُ ما في التنقل هو أن نبقى خفيفين، نحتفظ بالقليل..ونمضي
أسوأ ما في التنقل، هو أن جزءاً ما من روحنا ومشاعرنا وذكرياتنا، يفلتُ منا وينام في حضن المكان الذي نغادره..وهكذا ينتهي بنا الأمر: كثيرٌ من الذكريات..قليلٌ من البراءة
وفي كل الأحوال نلتقيهم: غرباء في مدنٍ غريبة

موظف البنك هوزيه يبدو عائداً للتو من رحلة استجمامٍ على شواطيء فلوريدا. وجهُه كسمكةٍ مقلية خرَجَت لتوها من الزيت. يتحدث بلكنةٍ أمريكية عن إجراءاتِ إغلاق حسابي المصرفي، لكنه عندما يعد النقود يستخدم اللغة الإسبانية: أونو، دوس، تريس

يا لحظِ النشال الذي يسرقُ محفظةً يختبيء فيها العالم

مسؤولته الإريترية الأصل استقبلتني قربَ المدخل بابتسامةٍ ودية. وجهُها يصبُ الشقاء من قلبها الفائضِ بالمرارة، ذاك الذي لن يُحلِيه الأسى
تسألني عن جنسيتي، فأجيبُ وأنا أختلس النظرَ إلى البطاقة التي على ردائها وتحمل اسم "سأبا". تقول لي: "إننا نشترك في مياه البحر الأحمر"، ثم تدعني غارقاً في حيرتي

وحدهم الخارجون من البحرِ تفوحُ منهم رائحة الاغتراب، والروائح: بصمة

عثمان أو"أوسمان" كما يناديه كثيرون، يبدو بقامتِه المديدة الشخصَ المناسب لإدارةِ برجي "كريستال تاورز". يحدثني الرجلُ الذي تشرب من نهر السنغال في طفولته وتطلُ من ندوب الوجه تعاويذ جدته، عن إجراءاتِ تسليم مفاتيح الشقة وصندوق البريد، ثم يختم لقاءنا بكلمةٍ واحدة: سلام

المرآةُ التي لا تسعف طوال القامة كي يروا وجوههم، تقترحُ عليهم أن يعلقوا رقابهم يوماً في سقفِ الغرفة المظلمة

فاروق، يضع قبعة البيسبول فوق رأسه وسماعة الهاتف الجوال في أذنه اليمنى، ويشغلُ نفسه عن العابرين في مدينةٍ تبدو المقابرُ فيها أجملَ من البيوت. الجبهة المشدودة مليئة بالعروق الخافقة. يبادرني بالترحابِ كلما دخلتُ المطعم الباكستاني ساعة الغداء، ويقول لي: تملكُ ابتسامةً صافية
شابٌ يحتسي النسيان ويتمرد على جاذبية الأفلاك، لكن قلبه مفعمٌ بالصدق والحنين

لعله يكره الملحَ الزائد في الطعام..والانقلاباتِ العسكرية

أَصِلُ عبر صديق مشترك إلى شخصٍ يشبه شيخَ الحارة..إنه يوسف، الشاب المغربي الذي يقود سيارة "بي ام دبليو" ويتحدث مع خمسة أشخاصٍ في وقتٍ واحد. رأسُه مثل قبابِ الصالحين، مليئةٌ بالأضرحة. يقودني يوسف إلى أطراف المدينة التي لا تزورها الشمس للقاءِ مستشارٍ قانوني، وفي الطريق يقدم مشورته وخبراتِه هاتفياً لعملاء راغبين في شراء أو بيع عقارات. وعندما يمد يده لتشغيل المسجلِ الموسيقي في سيارته، تصدح أغنيات "الله يا مولانا" و"ما يدوم حال" و"فين غادي بيا خويا" لفريق "ناس الغيوان"

ميزةُ الصعلوك أنه يعزفُ على أكثر من آلةٍ، ويجرح الغيمَ بأسفارِه الكثيرة

تمدُ يدَها لتصافحني وهي تقول لي: مرحباً، اسمي ناتاليا. تطلِقً من نظراتِها سهام الفضول..عيناها تشبهان رمية نردٍ غامضة، وفي ليلِها الغريب تضيء الشموعَ لضحاياها كي تنيرَ طريقَهم إلى الهاوية


وحين نتبادلُ الحديث على المقاعد الوثيرة في غرفةِ الاستراحة، أكتشفُ أنها جاءت من روسيا قبل أربعة أشهر بحثاً عن حياةٍ جديدة وعملٍ أفضل. نهدان يثبان مثل كرة المضرب، وفمٌ باندفاع علوي حاد. يتحول وجهها إلى ما يشبه الشمع تحت ذلك الضوء الأصفر الذي يميز عمارات الشقق السكنية
تسألني: "أنت أمريكي؟" وحين أجيبُ بالنفي، تفترُ ابتسامتها وتبحث عن وسيلةٍ للاستئذان والانصراف

الدنيا ذهبتَ بها بعيداً، وهي ما زالت تتسلقُ أسرارها القديمة


عربات المترو تهتز بإيقاعٍ رتيب في الرحلة بين أرلنغتون والعاصمة واشنطن. ربع ساعة كانت كافية كي تحدثك فيها المراسلة المصرية المهاجرة عن مشروعها الطموح

"أريد أن أقدم النماذج العربية المضيئة في المهجر: المرشدون عن أي مشتبه بهم في الجاليات العربية"

تلمح بقعةَ حبرٍ تتسرب من القلم السائل المفتوح سهواً الذي تضعه في جيب ثوبها الداكن، فترتبكُ قائلةً: "يا لهوي"

النحلُ يلسع مرةً ثم لا يقاومُ الرحيق


اللبنانيةُ جانيت التي تستقر في ديترويت منذ عشرين عاماً، تشكو لك من تعسفِ القاضي الذي حكم بترحيل زوجة ابنها البوليفية بعد اكتشاف خطأ في أوراق هجرتها. تبتسم قائلةً إن الطلبةَ العرب في المركز الذي تعمل به ما زالوا يغازلونها. تشعر بحموضةٍ مفاجئة ثم تعتذر في خجلٍ؛ لأنها أفرطت اليوم في تناول الكبة النيئة على الغداء

البعض ينقش اسمه فوق الماء..وآخرون يسجلون مواليدهم في دفاتر المفقودين

ألمحُ من شرفة مسكني الكائن في الطابق الخامس تلك السيدة الصينية التي تقتربُ من حمام السباحة في حذر. تتلفت يمنةً ويسرةً قبل أن تنزع عنها غِلالةً. وبأطراف أصابع قدميها تنسلُ كحوريةٍ في الماء

تتقن خطها في الماء، ويسقطُ خيالها عن سرج حصانها

ينظر إليها البعض في استغراب، ويركزون أبصارهم على بِنطالِها الأسود الذي يقترب من الركبة الذي نزلت به إلى الماء
حين يأتي الطوفان، يتوهم البعض أن النجاةَ هي أن تغرق في بحرٍ عميق، أملاً في ألا تطفو جثته على السطح

تابع القراءة

gravatar

مطعم الفراعنة







كنتُ جائعاً للفوز
كانوا جائعين للبطولة

ربما لهذا السبب، قَبِلتُ دعوةً كريمة من صديقي علي لمتابعة نهائي كأس أمم إفريقيا 2008 وتشجيع منتخب مصر القومي لكرة القدم في مواجهته أمام منتخب الكاميرون

الدعوة كانت في النادي المصري في دبي، بالإمارات العربية المتحدة. ما إن دلفنا حتى وجدنا جموعاً من المصريين الذين تسري في دمائهم نار الرغبة في النصر والاحتفال..هتافٌ وأهازيج، ولوحة من ألوان علم مصر، اختار بعضهم أن يطليها على وجهه أو يرسمها على قميص رياضي..مصريون من مختلف الأعمار وحدتهم الرغبة في الفوز ولا شيء سوى الفوز

كانت الأنظار معلقةً على الشاشة العملاقة لمتابعة أحداث المباراة المصيرية، والحناجر تهتف.. بالاحتجاج تارة، والدعاء تارة أخرى..وكانت المقاعد تلفظ الجالسين عليها بين الحين والآخر بسبب التوتر والهجمات الخطرة هنا وهناك

قبل المباراة، يداعبني صديقي السعودي فارس في رسالة نصية يقول لي فيها: "دقائق قبل المعركة..بسم الله رب السبعين مليون مصري"
وأثناء المباراة، أراقب انفعالات الصديقين علي ومحمود..ذاب هدوؤهما واحترقت أعصابهما..حتى معلق "إيه آر تي" خاطب الكرة التي تتمنع وتمتنع عن دخول مرمى الكاميرون بالقول: "ادخلي بقى يا شيخة"

أثناء سير المباراة، بدا لي قائد منتخب الفراعنة أحمد حسن أطول قامةً وكان يحرق عشب الملعب برجولة وفدائية، ولمحت وائل جمعة يخرج صامويل إيتو من جيبه وينظر إليه وهو يبتسم بعد أن حوَّل نجم برشلونة الإسباني إلى ساعة جيب. ورأيت حسني عبد ربه يصحح معلومةً وردت في كتب التاريخ حول مكتشف "طريق الحرير"، بفضل قدرته على التمرير المتقن وتعطيل محركات منتخب الكاميرون. وشاهد كثيرون المهاجم عمرو زكي يجري كأنه نمرٌ لمح وجبة العشاء أمامه..أما حارس المرمى عصام الحضري فقد كان جاهزاً لأداء رقصة الفوز التي يتفاءل بها عشاق الكرة المصرية بعد كل فوز كبير

وفي لحظةٍ توقف الزمن

كانت المباراة في دقيقتها السابعة والسبعين حين وصلت الكرة إلى قائد منتحب الكاميرون المدافع المخضرم ريغوبير سونغ لاعب غالاطا سراي التركي. أراد سونغ التحكم في الكرة، لكن محمد زيدان مهاجم نادي هامبورغ الألماني كان في انتظار تلك الفرصة

شم زيدان الكرة المصرية رائحة فريسة..وكانت الفريسة هذه المرة هي أسد عجوز فقد كثيراً من بريقه القديم كمدافعٍ صلد
الميكروفونات الحساسة التقطت محمد زيدان وهو ينطلق لمواجهة سونغ وهو يغني المقطع التالي من أوبريت "الليلة الكبيرة" للراحلين صلاح جاهين وسيد مكاوي:

"حالاً بالاً سأصارع. . أسد إنما إيه؟..متوحش
وحخلي وجهه شوارع
تصقيفة يا ناس ميصحش"
انقض الفتى الصغير حجماً وسناً على العملاق سونغ، وضغط عليه بشدة، فارتبك قائد الكاميرون وأراد إنقاذ الموقف. أوقع زيدان أرضاً وأراد له أن يستسلم، غير أن الفرعون الصغير تمكن بإرادةٍ قوية وعزيمة مذهلة من إبقاء عينه على الكرة
يقسم البعض أنهم رأوا زيدان يتسلق جدائل سونغ التي تشبه شجرة الصفصاف، قبل أن ينهض من الأرض ليمرر كرة عرضية، تهادت حتى منحت نفسها لرجل المباراة: محمد أبو تريكة
وهي المرة الثانية على التوالي التي يلعب فيها أبو تريكة دور قيادة مصر إلى اللقب عندما قام بذلك في عام 2006 بتسديده ركلة الجزاء الترجيحية التي منحت الفراعنة اللقب على حساب منتخب كوت ديفوار 4-2 في المباراة النهائية
كأنما لمسة أبو تريكة هي الوحيدة التي تأنس لها كرة العُرس الإفريقي الكبير

أخيراً افتُضح أمر "الشيخ" أبو تريكة..فقد تبين لعشاق الكرة المصرية أن بينه وبين الكرة في النهائيات الإفريقية علاقة خاصة..حميمة ومبهجة

كانت الكرة تتهادى وتتبختر كأنها في ليلة زفاف، وهي في رحلتها لمعانقة شباك المرمى الكاميروني معلنةً عن هدف المباراة

وبمجرد إطلاق صافرة انتهاء المباراة، احتفل المصريون في كل مكان: فوزٌ كانوا في حاجة إليه


فوزٌ يشبه حاجة منتخب العراق للنصر وحمل لقب كأس أمم آسيا عام 2007..كي يشعر العراقيون بإنجاز كبير يستحق الفخر ويمنح الأمل

اشتعلت عقب المباراة احتفالات جنونية ..لوح مشجعون بأعلام مصر ووضعها آخرون على سياراتهم وشرفات منازلهم، وقفز البعض في قلب مياه نافورة في ميدان رئيسي، فيما أشعل البعض نيراناً وأطلقوا الألعاب النارية وامتلأت الأجواء بأصوات أبواق السيارات احتفالاً بالانتصار

يعود فارس برسالةٍ نصية قصيرة للتهنئة يقول لي فيها: "إن الله يحب السبعين مليون مصري"

فأرد عليه برسالةٍ نصية على طريقتي أقول له فيها: "مطعم الفراعنة يرحب بكم ويقدم لكم أحدث وجباته: لحم الأسود مع مشروم"

وهذه حقيقةٌ كروية مثلما أن الأرض أيضاً كروية.. فقد ركب المنتخب المصري أفيال كوت ديفوار، وقهروا جديان السودان، واختتموها بفوزٍ جديد روضوا فيه أسود الكاميرون التي لا تُقهر

وهكذا بات من حقهم تسجيل هذه الأصناف الجديدة من الأطعمة الإفريقية باسمهم في كتبٍ ومراجع قد تحمل أسماء من عينة " الدليل الموعود في طهي لحم الأسود" و"" لذة الكمال في ركوب الأفيال"

والفراعنة تخصصوا في إثبات أن فوزهم مستحق..ففي كأس أمم إفريقيا عام 2006 التي استضافتها القاهرة، فازوا على منتخب كوت ديفوار مرتين، الأولى في تصفيات المجموعات بنتيجة 3-1 ثم كرروا وعززوا الفوز في النهائي بركلات الجزاء الترجيحية

وفي كأس أمم إفريقيا عام 2008 في غانا سحقوا الكاميرون 4-2 ضمن تصفيات المجموعات ثم عادوا ليفوزوا على منتخب الأسود التي لا تُقهر في نهائي مثير بهدف أبو تريكة

ها هو منتخب الفراعنة يختال وحيداً في المقدمة

فقد عزز المنتخب المصري رقمه القياسي في عدد الألقاب بكأس سادسة بعد أعوام 1957 و1959 و1986 و1998 و2006 وكرر بالتالي إنجازه عام 1959 عندما نجح في الاحتفاظ باللقب.. إنجازٌ لم يحققه سوى ثلاثة: الفراعنة، وغانا (1963 و1965) والكاميرون (2000 و2002)

ختامٌ رائع للمباراة النهائية السابعة لمصر بعد أعوام 1957 و1959 و1962 و1986 و1998 و2006. كما أنها المرة الثانية التي تتفوق فيها مصر على الكاميرون في نهائي العُرس القاري، بعد الأولى عام 1986 بركلات الترجيح في القاهرة

في المقابل، فشل المنتخب الكاميروني في إحراز اللقب القاري الخامس ومعادلة الرقم القياسي للفراعنة بعد أعوام 1984 و1988 و2000 و2002. كما فشل في الثأر لخسارته نهائي 1986 والدور الأول لكأس أمم إفريقيا في غانا
2008




هذه إذاً المرة السادسة التي يفوز فيها منتخب مصر بكأس الأمم الإفريقية وهو رقم قياسي كما أنها المرة الثالثة فقط التي ينجح فيها فريق في الدفاع عن لقبه، وأصبح المدير الفني لمنتخب مصر "المعلم" حسن شحاتة ثاني مدرب في تاريخ البطولة يحرز اللقب مرتين متتاليتين

واللافت للانتباه هو جمال مراسم تسليم الكأس إفريقية جميلة، حيث حمل شبابٌ مفتولو العضلات فتاة صغيرة تحمل كأس البطولة الذهبية على أكتافهم، في مشهدٍ هو أقرب للحدوث في كوماسي حيث قبائل الأشانتي منه للمستطيل الأخضر في أكرا

مواسم الفرح على الطريقة الإفريقية دفعت لاعبي منتخب مصر إلى الاندماج، فتطوعوا لقرع الطبول في الملعب، ليقدم الفراعنة إيقاعهم الخاص وسط تشجيع جمهور المباراة النهائية

وداعاً غانا..وأهلاً بالكأس الإفريقية في بلدها المفضل: مصر

تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (13): لعبة الزنكلوني..ولعنة برهان الدين



الصداقةُ هي أمُ الحِيَل وصندوقُ الألاعيب

ففي الوقت الذي كان الجدل فيه دائراً حول قضية المشالي وفاطمة، ظهر في الأفق شخص اسمه شمس الدين الزنكلوني

والزنكلوني هذا كان أحد قضاة الشافعية، والأهم من ذلك أن الزنكلوني كان زميلاً وصديقاً للمشالي

وجد هذا القاضي حلاً شرعياً أو مخرجاً مناسباً ينقذ به صديقه من الرجم. فقد تمكن من تهريب رسالةٍ إلى المشالي في سجن "المقشرة" وأخرى إلى المرأة في سجن "الحجرة" ينبه فيهما العاشقين إلى ضرورةِ أن يطلب كلٌ منهما قاضياً وينكِر أمامه اعترافه بالزنا. وبينما ذلك يتم، كان الزنكلوني قد كتب سؤالاً يطلب فيه الفتوى، ودار به على القضاة ومشايخ الإسلام. وكان نص السؤال هو: "رجل زنا واعترف بالزنا..ثم رجع عن ذلك الاعتراف، فهل يسقط عنه الحد أم لا؟"

بدأ الزنكلوني جولته بشيخٍ جليل هو الشيخ برهان الدين بن أبي شريف، وكان قاضياً سابقاً لقضاة الشافعية عُرِفَ عنه التفقه الكبير في أمور الدين، وكان قوَالاً بالحق، آمراً بالمعروف لا يخاف في الله لومة لائم. امتلك في القدس مصبنةً يصنع فيها الصابون، فكان يتقوت منها، ولا يأكل من أموال مشيخة الإسلام شيئاً

وتقول عنه المراجعُ التاريخية إنه "بقي في قضاء قضاة الشافعية بمصر إلى يوم الخميس رابع ربيع الأول سنة عشر وتسعمائة (أي: الخميس 15 أغسطس 1504 م)، فعُزِلَ بقاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الفرفور كما ذكره الحمصي في تاريخه، ثم أنعم عليه السلطان الغوري بمشيخة قبته الكائنة قبالة المدرسة الغورية بمصر في يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة عشر (أي: الخميس 10 أكتوبر 1504 م)، واستمر في المشيخة المذكورة إلى ذي القعدة سنة تسع عشرة وتسعمائة (أي: يناير 1514)"

قدم الزنكلوني للشيخ برهان الدين بن أبي شريف السؤالَ مكتوباً، فرد عليه كتابةً بأنه "إذا رجع الزاني عن الإقرار باعترافه بالزنا، سقط عنه حد الرجم، وغير ذلك من الحدود"

تجول الزنكلوني بين كبار المشايخ يعرض عليهم السؤال وتحته إجابةُ الشيخ الجليل ابن أبي شريف، فكانوا جميعاً يقرون إجابته ويكتبون بذلك أوراقاً..وكان قضاة المذاهبِ الأربعة بين الموقعين






وعندما انتهى السلطان من انشغاله في أمر الحج وخروجِ المحمل واستقبالِ وتوديع ضيوف من أمراء العراق، أرسل يسأل عما اتخِذ من إجراءاتٍ لرجم الزاني والزانية، ففوجيء بأن المتهمين قد عدلا عن اعترافهما..وفوجيء أيضاً بأن فتوى صدرت عن قضاة الشرعِ بأن لا وجه لتطبيقِ حد الرجم أو غيره - كالجلد- لعدولِ الزانيين عن الاعتراف

استشاط السلطان قانصوه الغوري غضباً، وصاح قائلاً: "يا مسلمين..رجلٌ يطلع إلى بيتِ آخر..ويفسقُ مع زوجته ويُقبَضُ عليه تحت اللحاف معها..ويعترف بذلك..ويكتبه بخطِ يده..وبعد ذلك تقولون له حقُ الرجوع؟!"

أرسل السلطان في استدعاء قاضي قضاة الحنفية السَري عبد البر بن الشحنة وكان صديقاً مقرباً عنده..وسأله أمر الفتوى فأنكرها وهاجمها بشدة، وقال إن الذين أصدروها لا يفهمون في الدين وإن الحد لا بد أن يُطبَق. وكحلٍ للمشكلة، اقترح عبد البر عقد مجلسٍ شرعي يضم كبار المشايخ والقضاة لمناقشة الفتوى وتجريمها فقهياً

وفي هذا المجلس الشرعي العالي الذي عُقِدَ في القصر الكبير بقلعة الجبل يوم الخميس الموافق 23 ديسمبر كانون أول عام 1513، عرض السلطان على شيوخ القضاء في مصر المسألة، مُصِراً على أخذ الزاني باعترافه، معارضِاً في حقِ الرجوع..وتولى القاضي ابن أبي شريف الرد باعتباره مصدر الفتوى، فذكر أقوال الفقهاء في هذا الصدد، وختم كلامه بقوله "هذا هو شرع الله"

ولم يكن هناك خلافٌ بين الحاضرين على أن المشالي وفاطمة قد ارتكبا جريمة الزنا ولا في استحقاقهما للرجم، وهي العقوبة التي نص عليها القرآن الكريم حين يكون الزانيان مُحصنين، أي متزوجين..ولكن الخلاف كان هل يحق لهما أن يرجعا عن الاعتراف وينكرا، وخصوصاً أن الاعتراف كان هو الدليل الوحيد الثابت على الجريمة، إذ إن الذين رأوهما لم يكونوا أربعة شهود ولم يروا "المرود في المكحلة"، أي واقعة الزنا، كما ينص على ذلك الحديث النبوي الشريف

طالت المناقشة وتوترت أعصاب السلطان، فقال للشيخ ابن أبي شريف: "يا شيخ برهان الدين.. أنا وليُ الأمر، ولي الحق في اتخاذ ما أراه"..فرد الشيخ قائلاً: "نعم يا مولانا، ولكن بموافقة الشرع الشريف..فإن قتلتَهما دون أمر الله تلزمك ديتان عنهما"

حَنقَ السلطان على الشيخ ولكنه كظم غيظه، ونظر إلى شيخٍ آخر من قضاة الشافعية هو الشيخ زكريا وسأله عن رأيه، فأيد رأي زميله، فقال السلطان: "هذا يبقى في ذمتك؟!"، فقال الشيخ: "إيش أكون أنا..يبقى في ذمة الإمام الشافعي صاحب المذهب"..هنا قال السلطان: "أنت دهولت..ما بقي لك عقل"

تدخل الشيخ نور الدين المحلي وقال: "يا مولانا..إن الذي صدر عن القضاة ومشايخ الإسلام بصحة سقوط الحد عند الرجوع عن الاعتراف هو الحق..وهو نص ما نقله الإمام الشافعي وغيره رضي الله عنهم أجمعين..فلا عبرة باعتراف الزاني إذا رجع عن اعترافه". فقد السلطان السيطرة على أعصابه، فصاح فيه قائلاً: "إن شاء الله يا شيخ محلي تطلع إلى بيتك فتجد من يفعل في زوجتك الفاحشة كما فعل المشالي في زوجة خليل". وبأعصابٍ من فولاذ تماسك المحلي قبل أن يقول للسلطان "عافانا الله من ذلك يا مولانا"

نظر السلطان إلى صديقه القاضي السَري عبد البر منتظراً أن يؤيده في رأيه ففوجيء به يؤيد زملاءه القضاة، فانفجر آنذاك وأخذ يشتمه ويسبه صائحاً: "أنت تقرر معي شيئاً وترجع عن ذلك..كنتَ قلتَ هذا من الأول حتى أعرف أمر الرجوع". وبخ السلطان القضاة الأربعة - الكمال الطويل الشافعي، والسري بن الشحنة الحنفي، والشرف الدميري المالكي، والشهاب الشبشتي الحنبلي- بالكلام القبيح وقد بلغ به الحنقُ مداه، ثم ختم توبيخه بأن صاح فيهم قائلاً: "أنتوا الأربعة قوموا..لا تروني وجوهكم قط..أنتم مفصولون من القضاء"

في اليوم التالي أصدر السلطان قراراً بعزل الشيخ ابن أبي شريف من منصبه كناظر لمدرسة السلطان وأمر بعزل قضاة المذاهب الأربعة، ثم أمر باعتقال شمس الدين الزنكلوني، القاضي الذي دار على العلماء بالفتوى. فلما مثل بين يديه قال له: "يا زنكلوني..حكمُك أنت يمشي، وحكمي أنا يبطل؟!"، ثم بطحه على الأرض وضربه نحو ألف عصا، وضرب ابنيه الاثنين كل واحدٍ نحو ستمئة عصا، وأمر بنفيه هو وأولاده إلى الواحات

ظلت مصرُ خمسة أيامٍ كاملة بلا قضاة

وفي تلك الأيام لم يُعقد زواجٌ، ولم يتم طلاقٌ، ولم يصدر حكمٌ شرعي، وتعطلت قضايا التجار، واضطربت الأحوال

وفي 10 يناير كانون ثانٍ عام 1514 عدلَ السلطان عن حُكمِ الرجم الذي صدر بحق العاشقين، وقرر شنق نور الدين المشالي وفاطمة، واختار لتنفيذ الحكم طريقةً غريبة، فقد أمر بأن تُنصب المشنقة على بابِ الشيخ برهان الدين بن أبي شريف الذي أصدر الفتوى في صالح حقِهما في الرجوع عن الاعتراف..ثم جيء بالعاشقين: نور الدين المشالي من سجن "المقشرة" الرهيب، وفاطمة من سجن "الحجرة"، ونُفِذَ الشنق في حبلٍ واحد، وقد جعلوا وجهَ الرجل في وجه المرأة. وكانت فاطمة تلبس إزارها وعليها أثوابها مسبولة. وظلت جثتاهما معلقتين ثلاثة أيامٍ، ووجهاهما وجسداهما ملتصقين، والناسُ يأتون من كل فجٍ عميق كي يشاهدوا النهاية الفاجعة لقصة حبٍ ورغبة بدأت بفراشٍ وثير وانتهت بحبلٍ غليظ

في مساء اليوم نفسه، عيَنَ السلطان قانصوه الغوري أربعة قضاةٍ بدلاً من القضاة الأربعة الكبار المفصولين، وتجمع نوابهم حول القلعة ينتظرون مواكبهم، فكان عددهم يزيد على ثلاثمئة نائب

وفي أحد أهم التراجم عن الشيخ برهان الدين بن أبي شريف، يقول النجم الغزي في كتابه "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة": "فوقعت حادثةٌ بمصر، وهي أن رجلاً اتُهِمَ أنه زنا بامرأة فرفع أمرهما إلى حاجب الحجاب بالديار المصرية الأمير أنسبائي فضربهما فاعترفا بالزنا، ثم بعد ذلك رفع أمرهما إلى السلطان الغوري، فأُحضِرا بين يديه، وذكرا أنهما رجعا عما أقرا به من الزنا قبل ذلك، فعقد السلطان لهما مجلساً جمع فيه العلماء والقضاة الأربعة، فأفتى شيخ الإسلام برهان الدين صاحب الترجمة بصحة الرجوع، فغضب السلطان لذلك، وكان المستفتي القاضي شمس الدين الزنكلوني الحنفي، وولده، فأمر السلطان بهما، فضرِبا في المجلس حتى ماتا تحت الضرب، وأمر بشنق المتهمين بالزنا على باب صاحب الترجمة، فشُنِقا، وعُزِلَ صاحب الترجمة من مشيخة القبة الغورية والقضاة الأربعة الكمال الطويل الشافعي، والسَري بن الشحنة الحنفي، والشرف الدميري المالكي، والشهاب الشبشتي الحنبلي، وكانت هذه الواقعة سبباً لتكدر دولة الغورية، وتبادي انحلال ملكه حتى قتل بعد سنتين بمرج دابق، ولا حول ولا قوة إلا بالله"

الطريف أنه بعد سنواتٍ قلائل، عاد ثلاثةٌ من القضاة الأربعة الكبار إلى مناصبهم، فيما مات الرابع، وهو نديم السلطان وصديقه القاضي عبد البر بن الشحنة..من شدة قهره

أما الناس فأخذوا يضربون كفاً بكف، وكانوا يقولون: "جميعُ ما وقع للغوري بسرِ الشيخ برهان الدين"

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator