المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

كتاب الرغبة (16): مدينة النعناع..ودرب الزعفران





"بعنايةٍ فتحت بيد ثوبها وعرضت لي ثديين ناعمين دافئين كما لو تقدمُ يمامتين حييتين للإلهة. أحبيهما جيّداً، قالت لي، فأنا أحبُهما جداً، إنهما حبيبان، أشبه بطفلين صغيرين. عندما أكونُ وحيدة أهتمُ بهما. ألعبُ معهما، أمتّعهما. أغسلُهما بالحليب. أرشُ عليهما مسحوق الزهر. وشعري الناعم الذي يمسحهما جدُ عزيز على أطرافهما الصغيرة. أداعبُهما برعشة. أمددهما في الصوف ليناما. وبما أنه لن يكونَ لي أطفالٌ أبداً، كوني، يا حبيبتي، رضيعاً لهما، بوّسيهما مكاني، بما أن فمي بعيد عنهما"
(بيير لويس، قصيدة "ثديا مناسيديس"، ديوان "أغاني بيليتيس" (Les Chansons de Bilitis),The songs of Bilitis، 1845)


هذه روايةٌ تدورُ أحداثُها في أفق شخصياتٍ نسائية، وعلاقاتهن المثلية

سهام، ليال، نور، ميمي.. هن نساء الروائية إلهام منصور، وهن في معظمهن مثقفات وتلميذات وجامعيات وربات بيوت ينفردن في قراءة واقعهن وتحليله، وقد يستغرق ذلك صفحاتٍ عدة تخرجُ الرواية عن سِكتها وتدخلها في تداعيات نفسية وتحليلية

وعلى الرغم من تباين مستواهن التعليمي والثقافي فإنهن يطرحن أنفسهن بجرأةٍ، في إطار عالم المثلية النسائية، ويغدو التعبير عن مشاعرهن وعواطفهن لغة يفيض قاموسها بمفرداتٍ وجمل إنشائية، غالباً ما تتبادلها المراهقات فيما بينهن. وفي إطار محاولاتِ التقارب التي يقمن بها باتجاه بعضهن البعض، تسقط الرواية في فخ اللغة المباشرة

في هذه الرواية ("أنا هي أنتِ"، إلهام منصور، رياض الريس للكتب والنشر، 2000) تبرز بكثير من الجرأة والصراحة والعفوية مسألة تشكل هاجساً مرعباً عند كثيراتٍ تقودهن الظروف الاجتماعية والنفسية إلى علاقاتٍ مثلية، لا ترضي فيهن موضعَ الشبق وحسب، وإنما عطشهن إلى المستحيل

أما الكاتبة فهي إلهام منصور، أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية، والروائية، والتي صدرت لها مجموعة من الروايات والدراسات الفلسفية المختلفة

ومع أنّ روايتها التي بين أيدينا تتناولُ موضوع العلاقات المثلية بين النساء، فإنها تقول إن الجنسَ في كتبها ليس ابتذالاً، بل على العكس هو جزءٌ مهم من الحياة، وهي تضعه في مكانِه الضروري داخل النص


وفي حديثٍ صحفي أُجريَ معها، تقول إلهام منصور: "بعد كتابة "أنا هي أنت" سمعتُ أسئلة من هذا النوع ولو أنها أسئلة غير مباشرة. كان جوابي دائماً: لو كنت سحاقية لما ترددت لحظة في إعلان ذلك. لكن لدي صديقات عديدات أحبهن، وليس الحب لشخصٍ من جنسنا نحن النساء بالضرورة حباً مثلياً، كما يحلو لبعض الأذهان الغبية اعتباره"

وتضيف الروائية اللبنانية قائلة: "الجنسُ في الكتب الأخرى لا يدخلُ في تفاصيل العلاقة ولكنه يدخل في الكتابة الإيروتيكية الإيحائية وبعض القراء والنقاد، خاصة في رواية "أنا هي أنت" طالب بتفصيلات حول هذا الموضوع، ولكنني مقتنعة بما قمت به؛ لأن التفصيل هنا لا يضيفُ شيئاً إلى الرواية"


الرواية التي تقع في 215 صفحة، مليئةٌ بالحشو والدروس التي تربط بين ثقافة الغرب والتحرر الجسدي، والفقرات التي تتحدثُ عن تاريخ المثلية وتفسيرات هذا السلوك لدى فريقٍ من النساء. والمشكلة الحقيقية هي أن هذا العمل الروائي لا هو بالدراسة الاجتماعية أو التاريخية الموثقة، ولا هو بالنص الذي يفيض رقةً وشاعريةً. غير أن مصدر تَفرُدِها يعودُ ببساطة إلى أنها قد تكونُ أولَ روايةٍ عربية معاصرة مكتوبةٍ من السطر الأول وحتى السطر الأخير عن العلاقاتِ المثلية بين النساء، بل إنها رواية يغيبُ فيها الرجل، لتكون كلُ بطلاتها من النساء

نلتقطُ خيطَ البدايةِ مع الفتاة سهام، التي تتذكرُ فِعلَ السحر في لمساتِ أمها لها أمام التليفزيون، وهي تُمسِدُ لها عنقها وظهرها

"أجلسُ بالقرب منها على الأرض أضع رأسي على ركبتها فتُدخل يدها من قبة قميصي وتبدأ حفلة الدغدغة التي كانت تؤدي بي أحياناً إلى النوم وغالباً إلى اللجوء إلى سريري لممارسة تلك العادة" (ص 10)

وللنساءِ ملعبُ خيالاتٍ لا ينضب

بعدها يأتي دور أستاذتها في المدرسة التي كانت تحاول بأية طريقة أن تلامس جسدها. ظلت الفتاة تنفر من أنوثتها ومظاهرها البادية عليها، ربما بسبب سرٍ تفصح عنه لاحقاً: تحرش الأب

"لماذا لم يخلقني الله امرأةً طبيعية، هل يمكن أن يكون ذلك النذل هو الذي أفسد حياتي كلها؟ لقد مات الآن، ويا ليت كل الذين مثله يموتون، الكل يعتقد أنه مات بسكتةٍ قلبية وأنا متأكدة أنه انتحر بعد فِعلتِه الشنيعة تلك. صحيحٌ أنه كان ثملاً ولم يدر ماذا يفعل، لكن هل الإسراف في الشرب جعله لا يميز بيني وبين أمي؟ هل اختلطت لديه الأمور إلى هذه الدرجة كما حاول أن يقول، أم أنه، بلا وعيه، كان يشتهيني أنا؟ إلى متى سأحتفظ بهذا السر الذي كاد يقضي علي وعلى كل ما أطمح إلى تحقيقه؟ ربما كان من الأفضل لي أن أعرض قصتي على طبيبٍ نفساني" (ص 71)

لعبةُ التخيلِ تأخذ أبعاداً أخرى، حين نجد سهام تَعدِلُ عن هذه الرواية التي تتهم فيها الأب، فتلقي عليها ظلالاً من الشك، قائلة: "تريدين الحقيقة؟ ما عدتُ أذكر تماماً إن كان ذلك الحادث قد وقع فعلاً. أحياناً كثيرة يتراءى لي أنه من صنع خيالي. أحياناً كثيرة يتراءى لي أنه من صنع خيالي، كما لو أنني افتعلته لأبرر به ميولي الحالية. في الحقيقة ما عدتُ أدري إن كان قد حصل فعلاً أو أنه كان رؤيةً حصلت لي وأنا بين النعاس والنوم. رأيته يدخل غرفتي وأنا مستلقية على سريري، نام بجانبي وكان عضوه منتصباً، صرختُ به فخرج مهرولاً واختفى. هل أتى فعلاً؟ هل كنت أحلم؟ لا أستطيع الجزم. كل ما أذكره الآن هو أنني كنتُ أغارُ على أمي منه، كنتُ أريدها لي وحدي، كنتُ أنزعجٌ جداً حين كانا يدخلان غرفتهما ويقفلان الباب. ربما كنتُ أريدُ أن يفعلَ ذلك معي كي تكرهه أمي" (ص 103)

ولأن الذنبَ خفي، ولأن الذنبَ مراوغ، نحملُ على أكتافِنا جثة الشمس، لنواريها في فناءِ البيت، أو بين شقوقِ الذاكرة

وبسبب تردي الوضع الأمني في لبنان، تقرر الأم إرسال الابنة إلى باريس حتى تستكمل دراستها في المرحلة الثانوية
في باريس، التقت سهام زميلتها الفرنسية كلير، لتبدأ رحلتها الأولى في عالم المثلية

وفي بلاد الاغتراب، يمكنكَ أن تملأ حلقَ الآخرين بالغبار دون أن تجرحَ القانون أو الهواء

"كانت سهام قد أصبحت لا تستطيع العيش من دون كلير التي ملأت صورتها كل فضائها الواعي واللاواعي تماماً كما أصبحت صورتها هي تسكن كل عالم كلير. عشقٌ متبادل لا تعكّره المحرمات لأنهما من جنسٍ واحد" (ص 14)

مشروعُ ضحيةٍ: الكائن الرخو
رائحة الخضوع، ولون المسايرة، وملمس المجاملة..حواسُ تقود إلى الفريسةِ التي ارتضت طوعاً الانضمام إلى النادي الكبير، المسمى الرخويات

دامت العلاقة بين الفتاتين حتى فترة الربيع، إلى أن قررت الأم زيارة ابنتها والاطمئنان عليها، الأمر الذي أصبهما بالقلق والحزن لأنهما ستفترقان لفترة. "ليلة وصول أم سهام أحضرتا المشروب والأكل والسجائر وجلستا معاً تمارسان كل ما يحلو لهما تحقيقاً لرغباتهما المتماثلة، واستمرتا حتى الصباح في شبه انخطاف، كل واحدةٍ مأخوذة بالأخرى التي تعشق" (ص14)

تلتقطُ الأم تلك التفاصيلَ المربكة عن علاقةِ ابنتها بالفرنسية كلير، وميول سهام المثلية، حتى تحين لحظة المواجهة. "اعترفي الآن ما هي علاقتك بكلير؟ أنا لست غبية وما أحدس به هو حتماً صحيح يا سافلة!" (ص 21)

أمام هذا التعبِ الآثمِ تصمتُ، ربما كي تحميَ خيبتها!
والصمتُ، صراخٌ لا يمكن شرحه

ردُ فعل الأمِ تَمثلَ في الاتصال هاتفياً بكلير ونعتها بأسوأ الصفات، وتهديدها إن هي اقتربت من سهام أو تكلمت معها بعد الآن. تصارحُ كلير في غضبٍ صديقتها بتهديد الأم ثم تسألها بأسلوب استنكاري قائلة: "ألهذه الدرجة أنتم متأخرون في لبنان؟ تقولين إن أمك مثقفة وواعية جداً فما هذه الثقافة وما هذا الوعي؟ أقبلُ بأن تقول لي إنني سحاقية، لكن أن تنعتني بالقذارة والمرض وبتلويثِ ابنتها، فهذا ما لا أسمح به إطلاقاً" (ص23)

الدفاعُ الذي أجرته الروائية على لسانِ سهام لم يتجاوز الجمل والعبارات المحفوظة والمكررة، من عينة "عندنا في لبنان، السحاقية منبوذة ولا تجهر بما هي عليه بل تحاول أن تخفي ذاتها، حتى إن المراقب لمجتمعنا لا يستطيعُ أن يتلمسَ وجودَ علاقةٍ من هذا النوع، وإن وُجِدَت فعلاً، وهي موجودة، فهي تُمارسُ بسريةٍ مطلقة لا يرشح منها شيء إلى الخارج. حتى إن كل حركاتِنا النسائية في لبنان لم تجرؤ على إثارة الموضوع، إنه مُحرٌم وعيبٌ ودليلُ انحطاطٍ ومرض" (ص 24)

تمارسُ سهام والأم لعبة القناع، فالأم تعرف وترفض ما تعرف، والابنة تعرف أن أمها تعرف، لكنها بذكائها تدرك أيضاً أن أمها ترفضُ ما تعرف

هكذا يُولَدُ حيزٌ للمناورة والتهرب من الحقيقة


يقعُ الانفصالُ الحادُ بين سهام وكلير، فتُغرِقُ الأولى نفسها في الحزن ثم تنشغل بالقراءة والبحث عن ذاتها وعن حقيقة ميولها. تكتشفُ الشاعرة اليونانية سافو والفرنسية جورج ساند، وتكتبُ فيما بعد خواطر واستيهامات عن كلير وجسدها، وتخاطبُ نفسها قائلة: "انتهت مرحلة باريس، سألغيها من حياتي، سأضعها بين مزدوجين مقفلين إلى الأبد، سأدفن معها سري الذي لا يعلم به أحد سوى من أخذه معه إلى القبر" (ص34)


إلا أن الجامعةَ تفتحُ لها ذراعيها.. لتبدأ رحلة عشقٍ أخرى في حياة سهام: نور


وحين ترى سهام الدكتورة نور في قاعة المحاضرات لأول مرة يغمرها شعورٌ مبهم. "ولم أنتبه إلى ذاتي إلا حين اختلطت في رأسي صورٌ عديدة: صورة الدكتورة نور وصورة المعلمة الابتدائية تتوسطهما صورة أمي وظهرت صورة كلير كلمع البرق ثم اختفت" (ص 35)
تجد سهام نفسها تقول: "هذه هي، لقد وجدتُ ما أريد" (ص 35)، علماً بأن أستاذتها الجامعية نور "امرأة في منتصف العقد الخامس من عمرها، عيناها زرقاوان، شعرها قصير ولونه يميل إلى الأشقر المحمر، تقاسيم وجهها ناعمة، لا نتوءات فيها، يكسو بشرتها قليلٌ من النمش الذي يعطي لطلعتها نوعاً من الجاذبية" (ص36)


تغرقُ سهام في بحر النمش
"اكتشفتُ لاحقاً أن ذلك النمش العسلي اللون كان منتشراً على جسدها، حتى في الأماكن الحساسة حيث كانت تنقلب تلك الجاذبية إلى رغبةٍ جنسية واضحة" (ص 36)


تقيمُ سهام علاقةً مثلية مع نور، لتتحولَ الأستاذةُ إلى عشيقة
"هي التي كانت تأمرُ وتنهى في الصف. كنا ندخلُ شقتها فتنقلبُ الآية، أصبحث، أنا، السيد وتصبحُ هي، الجارية. تحضر العشاء بعد أن تخلعَ ثيابها وترتدي ذلك القميصَ الأزرق الذي يستثيرني، أقتربُ منها أداعبُ حلمات ثدييها وهي تفرمُ الخضار أو تغسلها، تديرُ وجهها نحوي، تقبلني على ثغري وتطلبُ مني، بكل لطفٍ، أن أمهلها كي تنتهي من عملِها وتقول مبتسمةً: "لدينا كل الوقت". أبتعدُ عنها وأحاولُ مساعدتها قبل أن ننتقلَ معاً إلى تلك الكنبة العريضة، في صالون شقتها، تلك الكنبة التي ما زالت تشهد لكل ما فعلناه معاً والتي ما زالت تنضحُ بعرق جسدينا" (ص 39-40)


لكن الأخيرة تقررُ الابتعاد بعد أن وقعت في غرام زوج أختها، فتسعى سهام إلى الانتقام من المرأة التي تُرَدِدُ عنها وصف "الخائنة" بمحاولة التقرب من أستاذة جامعية أخرى، هي الدكتورة ليال!


وبعد حوار قصير ومباشر بينهما، تدركُ ليال ميولَ سهام، خصوصاً بعد أن حدثتها عن علاقتها السابقة، فتقول لها: "سهام انظري إلي جيداً، أنا لستُ موضوعاً للنقلة transfert. وأنا لستُ مثل أستاذتكِ، فما كان بينكما لن يكونَ بيننا لأنني لستُ "منهن"، وأنت تفهمين ماذا أقصد. أقولُ ذلك من دون أي تقييم أخلاقي لأني أعتبر أن موضوعاً كهذا لا يُعالَجُ من باب الأخلاق" (ص 45)


غير أن سهام تطلبُ منها المساعدة، فتوافق ليال، لكنها ترفضُ أن تزورها في منزلها لتبقى العلاقة بينهما في إطارٍ محدد من البداية، علماً بأنها تشرحٌ في سياقٍ لاحقٍ رؤيتها للعلاقات المثلية بالقول: "لا أحاكمُ أخلاقياً هذه العلاقات ألاحظث وجودها واقبلها لأنها موجودة. قبولي لها أو رفضي لها سيان، فهما لا يغيران الواقع" (ص 93)


تتركُها، تعبثُ بالجهاتِ كفراشةٍ ضالةٍ


تدريجياً، تنقلنا الروائية إلى العمارة التي تسكن بها ليال، وتضم شخصياتٍ مختلفة، بينها ميمي التي تعيش مع زوجها وأولادها، لكنها تبدو معجبةً بجارتها الأستاذة الجامعية، لدرجةِ التساؤل في حوارٍ مع النفس: "لماذا كلما كنتُ أمارسُ الجنسَ مع زوجي فكرتُ بها؟" (ص 47)


والمرأة التي نتمناها، في ظلّها شبقُ السماءِ، أو برودةُ السنين الغائبة، قبل أن يسـري الكلامُ دافئاً كعَزفِ الكمانِ: حلوٌ لذيذٌ، شهيٌّ نديٌّ، أثيرٌ مُثيرٌ


المفارقة أن ميمي على علاقة أخرى بجارةٍ أرملة تقول عنها: "مللتُها، إنها تمارسُ الجنسَ بطريقةٍ واحدة، ما عادت تثير رغبتي، حتى أني كلما كنتُ معها، وهي تداعبُ جسدي وتحاولُ إشباعي وإشباع ذاتها، بلمساتها وتصرفاتها، أفكرُ، أنا، بليال، وأتمنى لو كانت هي التي تمارسُ الجنسَ معي. ثم إن هذه الجارة أصبحت عجوزاً" (ص47-48)


المثلثات هنا تتكاثر، سهام ونور وليال، وميمي وليال والجارة العجوز..إلخ


والرغباتُ تترك في جيوبِ أبطالها الحروفَ التي أضاعتها الأبجدية، والسجائر التي نسوا أن يدخنوها، والابتسامةَ التي عجزَ الباحثون عن اكتشافِ سِرها العظيم


لتبرير الأمر، تحاول الروائية أن تقدم لمحاتٍ عن شخصية وظروف عددٍ من بطلاتها، ولكن ذلك يتم بشكل تقليدي، وبأسلوب لا يخلو من الكلمات المرصوصة دون روح إبداعية أصيلة، مثل كلام ميمي عن زوجها فريد ومقارنته بعلاقتها مع الجارة العجوز، إذ تقول: "أنا لم أشعر يوماً باللذة معه. إني أجدُ معها متعةً أكبر من التي أشعر بها معه. حتى أني بعد أن تعودتها لم تعد تعني لي علاقتي بزوجي شيئاً مهماً، انامُ معه كواجبٍ ليس أكثر. بلى، أحبُ مداعباته لجسدي وأستمتعُ بلمساته وقبلاته قبل أن يدخلني، حينها لا أعود أشعر بشيء. لقد ساعدتني فعلاً على اكتشاف جسدي وهذا ما لم يفعله زوجي، فهو وإن حاول، بعض المرات، أن يؤخرَ نشوته قدر المستطاع فإنه لم يحقق عندي، ولو مرةً، النشوة التي تحققها جارتي" (ص 49)


وما بين محاولاتِ سهام وإغواءات ميمي، تتحركُ الرواية في فضاء الاشتهاء على امتدادِ صفحاتٍ طويلة


غير أن القارىء قد يستوقفه أمرُ الزوج، الذي لا ينتبه إلى ميولِ الزوجة وعلاقتها بالجارة العجوز ثم اهتمامها الزائد عن الحد بليال، إذ إننا نجده لا يمانعُ في أن تُمسِدَ الجارة شعر زوجته أمام ناظريه، ويقول إنه مطمئن للعلاقة بينهما لأن زوجته أصبحت الآن تجيدُ الطبخ "بعد أن أمضينا وقتاً طويلاً لا نأكل إلا البيض المقلي والبيفتاك المحروق" (ص 55)


وهو لا يشعرُ أيضاً بإحساسٍ غريب عندما تكونُ ليال مع زوجته والعائلة في الملجأ تحت دوي القصف أثناء فترة الحرب في لبنان. فالزوجة هنا تضعُ أمامه رأسَها على كتف ليال، في حين تضمها ليال وتشدُ عليها حتى تكادُ تعتصرها بدعوى الخوف من القصف، ولا يتضايق عندما تصعد لزيارة ليال وهي ترتدي ملابس نوم شفافة..وعندما تنبهه الأرملة العجوز في إحدى نوبات غيرتها إلى ما تفعله ميمي يرد ببرودٍ قائلاً: "الست ليال وحدها في البيت وهي امرأة مثلها مثل ميمي، ثم ألم تستقبلك ميمي بالثياب نفسها؟" (ص 79)


وقد تلتقط تفسيراً لموقف الزوج في كلام الزوجة حين تقول لليال: "الرجلُ غبي، لا يشكُ في علاقة امرأة بامرأة، هو مطمئن إذا لم يدخل ذكرٌ ثانٍ على الخط" (ص 143)


تقلبُ المرأةِ على سريرِ الضجرِ، يُوقِظُ فيها رغبةَ الساعةِ الأولى من الليل


وهكذا تحاول ميمي إغراء وإغواء ليال بشتى الطرق، ومن ذلك دعوتها إلى العشاء في منزلها ذات مساء، لتعرض عليها مفاتنها في غياب الزوج المسافر مع الأبناء إلى البلدة في الجبل. وفي تلك الدعوة تلاحظ ليال أن النوافذ مفقولة، والستائر مسدلة، وحدها شمعة حمراء على طاولة السفرة، قبالة الصالون تنير أرجاء البيت. وتنتبه إلى أن ميمي ترتدي فستاناً شفافاً تحته ملابس داخلية صغيرة، لكن الأستاذة الجامعية التي عرفت ميول سهام من الجلسة الأولى لم تدرك – ويا للغرابة- هدف ومغزى تصرفات الجارة التي كررت لها تلميحاتها في أكثر من مناسبة. "سمرَت نظرها بميمي، أعجبت باتساق جسدها شبه العاري. هل تنسحب؟ هل تسأل ميمي عن سبب تعريها بهذا الشكل؟" (ص 110)


بين الغريبتين نعومةٌ تشهق، ورائحة قلقة فى الهواء


وعندما تتحدثان عن الفستان الشفاف الذي ترتديه ميمي، يدور الحوار التالي بينهما: "لست بحاجة إلى "سوتيان" فما زال صدري واقفاً وصلباً
- إنك ما زلت صغيرة. أجابت ليال وهي تنظر بإعجاب إلى ذلك الصدر المنتصب
- لا تنسي أنني حملت مرتين ومع ذلك..انظري، انظري
- حقاً ألاحظ، قالت ليال وهي تمد يدها لتلمس. لكنها أوقفت حركتها وتراجعت: "ماذا تريد ميمي ولماذا هذا الإصرار على عرض مفاتنها؟" (ص 111)
كل هذا، وليال لا تفهم!


ثم إنها تلتصق بها وتمسد لها ركبتها، وتقول لها: "هل تنامين عندي الليلة، فأنا أخاف وحدي والتخت عريض؟" (ص 113)
وهي تدعوها للنوم عندها وتطلب منها ميمي التمدد بجانبها، فتفعل وتأخذ في مداعبة شعرها والكلام معها عن حبها للنساء وكراهيتها للرجال، وتكتفي ليال بأن تقول لنفسها: "الله يمضي هذه الليلة على خير. ميمي جميلة جداً" (ص 113)


وفي هدأة الليل، تسكن العين ويغيب الصوت، باستثناء تأوه الجارة وهي تضاجع ذكرياتها
ها هي تنتظر الليل، دون أن تفترش سريره مع أحد


وفي حفلٍ آخر في بيت ميمي تكون كل مدعواته من النساء، تتابع ليال عالم المثليات عن كثب، فالجارة العجوز تُجلِسُ ميمي على ركبتها وتداعبُ شعرها وبعض نواحي جسدها وهي تقول لها: "أنتِ لي"، وسيدات كُن أزواجاً أزواجاً يتبادلن المداعبات، فكانت من تقومُ للحظةٍ بدور الرجل تنقلبُ في اللحظة التالية إلى لعبِ دور المرأة
"كانت المداعبات بين شبيهين وليس بين مختلفين" (ص 127)


أجسادٌ مُشرعةٌ للظمأ، والفِراشُ يأكلُ تعبَ الجسدِ


وعندما تقتربُ ميمي من ليال وتجلس في حضنها، أخذت الأخيرة في تمسيدِ شعرها ومداعبة ركبتها، لتشتمَ العجوزُ صديقتها ميمي قائلة: "يا عاهرة أتيتِ بالست ليال كي تخونيني، وأمام عيني؟ لن أترككِ لهذه المتعجرفة"، قبل أن يبدأ فاصلُ الرقص بدعوةٍ من ميمي، عرابة الحفل


"اقتربت من ليال، أخذت يدها، التصقت بها وبدأتا بالرقص. استفاقَ جسدُ ليال، ضمت ميمي بشدة وقبلتها. كانت ميمي بدأت بالاسترخاء بين ذراعيها حين أتت العجوز لتجرها إليها. عادت ليال إلى مكانها وهي مغتاظة، لكنها جلست وأخذت تراقبُ المشهدَ أمامها: كانت قبلاتٌ واستعراضات مثيرة، وبعد قليلٍ أخذَ العددُ يتضاءلُ في الصالون إذ إن كل اثنتين حاولتا دخول غرفة من الغرف، وأكثر من اثنتين دخلن إلى غرفة واحدة، ومن تبقى افترشَ أرضَ الصالون وبدأت الممارساتُ الفعلية..فما كان من ليال إلا أن انسحبت بصمتٍ وعادت إلى بيتها" (ص 128-129)


هناك ملذاتٌ يمكن قطفُها، وأخرى يمكن بذرها في صميم الليل


من جهتها، تواصل سهام ملاحقتها لأستاذتها الجامعية ليال، فنجدها تتصل بها هاتفياً باستمرار وتجالسها في الجامعة وتمنحها خواطر وقصائد تتحدث بشكلٍ مباشر وغير مباشر عن غرامها بتلك المرأة. وبعد طول إلحاح، توافقُ ليال على استضافة سهام في منزلها بمناسبة عيد ميلادها، بل إنها تدعوها للمبيت عندها بعد أن اشتدت حدة القصف، وتمنحها بعض ملابس النوم
"يا إلهي هذا الثوبُ لامسَ جسدَ ليال". تحسسته جيداً وغاصت في نوعٍ من الكآبة: "لماذا مدينتها الزعفران ومدينتي النعناع؟" (ص 192)


والعاشقةُ من طرفٍ واحد، تنثرُ في الليلِ وسائدَها المحشوةَ بالوهم
عشقٌ يكون لسان حاله، كما يقول السهروردي: أبداً تحنُ إليكمُ الأرواحُ، ووصالكم ريحانها والراحُ


أما ليال التي تتحول إلى محور الرواية الذي تدور حوله رغباتٌ مثلية فهي ترسم حدود شخصياتها ورغباتها بالقول: "أنا لم أتزوج لأنني أريدُ أن أكون حرة، لستُ ضد الرجل على الإطلاق، لكنني ضد الارتباط الذي يترتب عليه واجبات، أنا مع العلاقةِ الحرة القائمة على التفاهم والحب، فهي تستمر طالما هي ناجحة. وعند الفشل، كل واحد يذهبُ في حال سبيله من دون مراسم ولا دعاوى ولا.." (ص 91)
إلا أنها تقفُ في لحظاتٍ معينة كما أسلفنا على باب المثلية وتكاد تستجيب للجارة ميمي، مثلما تستعين بصديقة لها هي الدكتورة ريا أستاذة علم النفس لفهم طبيعة العلاقات المثلية وأسرارها


وفي ظل رفض أو تردد ليال في الانخراط في علاقةٍ مثلية مع الجارة ميمي أو الطالبة سهام، خرجت علينا الروائية قرب النهاية بمثلثٍ جديد مفاجىء يربط بين ميمي وسهام..وبينهما ليال!


سلسلة مُعقدةٌ وهرمية من العلاقات التي يتم فيها تبادل الأدوار، إلى أن تسافر ليال إلى فرنسا وتترك مفتاح بيتها عند ميمي للتعامل مع أي ظرف طارىء. عندها تلتمع فكرة في رأس ميمي فتدعو ليال لقضاء سهرة خاصة معها، في منزل ليال الخالي من صاحبته


هنا تتداخلُ الصور وتختلطُ الأسماء بشكلٍ متعمد


"وارتمتا على السرير الذي كان لا زال يعبق بعطر ليال، تعرتا وتحول السرير إلى جسدٍ عارٍ بينهما، تحول إلى جسد ليال التي في يوم عيد ميلادها، حيث اضطرت سهام إلى النوم في بيتها، أخذتها من يدها وقالت لها: "تنامين إلى جانبي في السرير". وكانت مضاجعة، شعرت بعدها ليال بنشوةٍ لم تذقها من قبل" (ص214)


عاشقتان تبتكرانِ الدهشةَ


كانت ليال هي الضلع الثالث في تلك العلاقة الجديدة، حتى وإن كانت غائبة


"تمددتا على السرير، أخذت سهام يد ميمي وقالت: كانت رائعة، اليس كذلك؟"
- من، من تقصدين؟
- ليال
- وكيف عرفتِ" (ص 215)

ثَمَّةَ دائماً امرأةٌ ساقاها أكثر دفئاً من أيّ كلامٍ
ثمة دائماً تتمة، للرغبةِ التي تشقُ القميص لِتُبْرِزَ ثدييها
وفي مواقيت اللذة، كم تتمادى الجبال في غي الصعود

تابع القراءة

gravatar

أحمر خفيف..الملائكة حين تتفرق



هذه الرواية نافورةٌ ابتلت بماء الذهب
ففي روايته "أحمر خفيف" يقدم لنا الروائي وحيد الطويلة عملاً يجمع بين الواقعية بكل تفاصيلها الدقيقة، والأسطورة بكل غرائبيتها وملامحها التي تثير الدهشة

وما بين الواقعية والأسطورة يُولَدُ عملٌ إبداعي مهم، يخطو خطوة جديدة فوق أرضٍ بِكر، إذ ينقلنا وحيد الطويلة نقلاتٍ متلاحقة ما بين عالم الريفِ والحضر، ويستدعي حكاياتٍ تتناقلها الأجيال ورموزاً لا تُنسى ويقدم لنا معاني أكثر عمقاً لمفاهيم العائلة، الصراع، النفوذ، الغرام، والرغبة، وكرامة الإنسان

وعبر صفحات الرواية التي تبلغ 265 صفحة، ندركُ أن اللغة مقصٌ وإبرة، تُفصِلُنا على مقاسها، وتمنحنا ثوبَ الرواية كي نغطي به أسرارنا وعوراتنا

تبدأ الرواية الصادرة عن "الدار" للنشر بمنتصف الحكاية أو قرب النهاية بقليل، إذ يرقد البطل "محروس" في المستشفى في حالة خطرة بعد تعرضه لإصابة تكاد تكون مميتة

"النعشُ على باب المستشفى، والملائكةُ أيضاً، وإن تجولوا بسرعةٍ في ردهاتِها القذرة حين يشعرون بالملل، في انتظارِ ساعتِه، وإن بدَدوا سأمهم أحياناً بقبض روح أو اثنتين

رآهم الفناجيلي ابن أخيه، العين في العين، وهم يبصّون من ثقوب الأبواب، وإن تخفَوا في ملابسَ بيضاء كالأطباء وأحياناً الممرضات

وهو كما هو، رابضٌ في نفس السرير، بين الحياة والموت، خيطٌ يشده وخيطٌ يرخيه، ممدد دون ضعف أو أنة، لا آهة ولا توجّع، وجهه محتفظٌ بآلام عراكه الأخير" (ص7)

هكذا يضعنا صاحبُ الرواية منذ اللحظةِ الأولى وجهاً لوجه أمام الموت

لكن للموتِ المراوغ تاريخاً لا يُختصر وهوية لا تُمحى

والموتُ هنا يصارعُ أقوى الرجال: محروس

سيد القرية الذي واجه القاتل المأجور عبد المقصود في معركة شرسة، فقد فيها محروس ذراعه وكاد أن يفقد روحه، لكنه احتفظ بما هو أهم: كرامته

نحن أمام بطلٍ شعبي، حياته حربٌ لا سلام فيها، كأنه منذورٌ للحروب والكفاح، والجسد ليس سوى ساحة قصل

وفي الرواية الصادرة عن "الدار للنشر والتوزيع" عام 2008، نستعيد ذاكرتنا عن ريفٍ غاب عن الروائيين منذ أن أحياه مصطفى نصر في "الهماميل" وعبد الحكيم قاسم في "أيام الإنسان السبعة" وخليل حسن خليل في "الوسية" وقبلهم توفيق الحكيم في "يوميات نائب في الأرياف"

وها هو وحيد الطويلة يتقدم بالرواية عن ريف مصر خطوة أخرى إلى الأمام

".. قوم يا محروس

ابنته إنصاف تربض عند قدميه اللتين تعبران حافة السرير، تلعب بين أصابعه، تفلّي جسده قطعة قطعة، تدغدغه، تنادي عليه بصوتٍ معبأ حتى آخره بالحنان، يغشاه أسىً خفيف حيناً، وجرعةٍ وافية من ثقة أحياناً أخرى.

قوم يا محروس، قوم...،

قلتلك قوم، نبحت قلبي

وهو كما هو، عيناه معلقتان بالسقف، كأنما يقرأ شريط حياته، يحركهما جانباً حتى نهايته، ثم يعود من الأول، كأنما يفرز الأحلام والحسرات ويقف منتصباً بينهما، وحين يفرغ من السطر الأخير، يغمضهما عميقاً ويسلم قدميه في دعةٍ لإنصاف" (ص 8)

الكل خائفٌ يترقبُ مصيرَ كبيرِ البلدة الذي أصيبَ إصابة خطيرة أثناء عراكه مع القاتل المأجور. أهل القرية تركوا أعمالهم، وتساءلوا كغريقٍ يتعلق بعودِ قش عن حالة الرجل الذي يصارع الموت في المستشفى

"والشيخ عثمان يفرك سمرته التي أفلتت من سواد غطيس لأبيه وجده، يقذف تنهيدةً من قلب جوفه ويقول:

- عيّان؟، والله ما عيان إلا اللي عنده عيان" (ص 10)

الريف في الرواية غيمةٌ عملاقة يرضع من ثديها الجميع..ولذا لم يكن مستغرباً أن تكون ملامح محروس مستوحاةً من طمي تلك الأرض الولود

"كلُ من يراه تلبسه الدهشة، جسدٌ عرمرم يملأ السرير، يملأ مركزه، يكاد يهبط من حافتيه لولا صلابته، أنفه الكبير الكبير، كأنف جمل شارخ، بلونٍ وردي ولمعةٍ ظاهرة، لمعة تسرق من الكبر وهنه، ومن المرض وحشته

وطاقتا الأنف، النائمتان على جنب، صاحيتان على الشارب المنتعظ تحت أنفه الكبير، الذي لا تجرؤ ملفحة أن تخبئه تحتها. والأذنان، كل فردة نصف مطرحة قديمة، متربة بالشعر، طولية، كأنها سماعة الميكروفون الذي ينصب في سرداقات العزاء والأفراح لتسمع القرية من أولها لآخرها، ويسمع القابعون في الغيطان بالمرة

وسمرةٌ حنون بحمرةٍ متقدة تجمع كل هذا تحتها وتطويه" (ص 10-11)

قلبُ الأحداث هو حياة محروس التي تكون على المحك في المستشفى، أما الآخرون فهم يدورون حول تلك الساقية طائعين مختارين

"شهورٌ تمر، ومحروس كأنما اختار المستشفى مقراً أخيراً، بيتاً ومقبرة، لا يزيدُ ولا ينقص، المحاليل معلقة، الخيوط مفتوحة بين جسده والحياة، واصلة بين جسده والموت، والقريةُ تركت حالها ومالها ونفرت إليه

شهورٌ، يدعون له، كبير البلد، حبيبها وحاميها، والكبير لا يُهان حتى ولو من موت.. نشف الزرع، والبهائم على وشك الهلاك

تعطلت مصالحُ الخلق، والدعواتُ تُرفَعُ في الصلوات وخُطبِ الجمعة، والدعوات التي كانت تصله بالشفاء، صارت تُكال له بالراحة والرحمة" (ص 12-13)

والروايةُ حافلة بمشاهد تحبسُ الأنفاس، ومن ذلك مشهد الابنة إنصاف وهي تحاولُ انتشالَ أبيها الذي يُحتضر من براثن الموت:

"الموتُ يشدُك أو على الأقل ينوي لك، معركتُه الآن معك، يقفُ الآن على الباب، أو يبصُ من خلف عمود السرير، وأنت تفيق ساعة وتغيب ساعتين
وهو كما هو، اختفى السرير تحته، عضلات وجهه تنقبضُ بقوة وبسرعة، تركب بعضها، تتعارك، وفمه مضغوط في فمه، كأن فكاً سيتعتع الآخر أو يفتك به، أو أسناناً مغتاظة ستغرز في الجهة الأخرى وتنفذ

وجهه يتقلبُ بعنف ويهتز، ينتشُ رجله التي انزلقت من الحافة، الحافة التي يطلُ عليها كل ثانية، ذراعُه مرفوعة لأعلى، متشنجة، وقبضةُ يده مزمومة، وجبهته تكومت يكاد يعصرها، يعصرها، يقاومُ جاذبية الهوة القاتلة متكئاً على جرمه الكبير

ذراعه تترجرجُ، تتطوحُ في الهواء، وجسده ينتفض، وهي ...هي تشدُ ياقة جلبابه بعنف، وتلهثُ، تدفعه بعيداً عن الحافة، تغرز رجليها في الأرض، تنطره بقوة، تشده بعزم الجن لتستعيده، تجذبه لتستعيدَه، ... تستعيدُه

يرمشُ بعينيه، تمشطُ صدره وعنقه حتى يرتخي، يبدأ في الرجوع، وتهدأ الأرجوحة، يسترخي.. مسحة من راحة تعبره، عاد من الحافة سالماً كأنه لن يعود إليها ثانية" (ص 22-23)

الريفُ حاضرٌ بقوة، بكل عاداته وتقاليده، وصوره وملامحه التي تأخذنا إلى عالمٍ لا يعرفه إلا أهله

"لا تلمس البَيضَ يا ناصر، لا تلمسه يا ولدي، سيفسد، الدجاجةُ تنفرث من بَيضٍ به رائحةٌ غير رائحتها، لا تنامُ عليه من بعد، تعافه، وأحياناً تنقره بقسوة، بعد أن كان على شفا الفقس
النسوة يلمسنه بطرف أصابعهن مرة واحدة قبل أن يضعنه في عش أو قنّ، يقلّبنه في عينِ الشمس ليتأكدنَ أن البيضة ملآنة، وأن ماءَ الديك يسبح فيها" (ص 127)

حتى في الزواج والطلاق، الحب والبغض، الشوق والقتل، يطبعُ المكان قُبلته التي لا تُنسى على الناس والأرض

"البطة التي تزوجها دياب العُكّش قطة مغمضة، في السر، غصباً، وفاءً لدين أمها الذي ناءت به، وما من باب رزق لترده
فتحت له رجليها.. ونامت، وتركته وحده يشتعل ويشتغل
وحين ذاقت لذة العشق، وطرف عينها منديل يس العاشق، الصياد العايق، الذي رمت نفسها في شبكته قبل أن يرميها، خيَرت زوجها بين الطلاق أو الفضيحة، رفض، قتله العاشق، ودفنه في غرفتها تحت سريرها، لا من شاف ولا من دري، وناما معاً فوقه، وماء المحبرة الذي فاض وسال روى قبره ليلتها وباقي الليالي
ولأن التبات والنبات لا يُعمِرُ طويلاً فوق الدم، ولا يزهرُ فوق مجراه، أخذته حبةُ طماطم مسمومة وجابت أجله في لمعة عين" (ص 177)

ومن رحمِ المجتمع الريفي تُولَدُ الأسطورة وتنمو حتى ينبتَ لها جناحان من الحقيقة

"يحكون أن أحدهم في الغيط قد قتل ثعباناً أزرق، وقطع ذيل وَلِيفتِه، التي تحورت وتحولت لطائر بجناحين، أغارت على الناس والخوازن، وكادت تفسد ليل الوادي، اصطادها محروس، شواها وأكلها، ومن يومها وشعره ازداد كثافة في كل أنحاء جسمه، ازداد كثافة وسواداً" (ص 17)

الصراعُ على "العهد" و"البشارة" و"السر" للفوز بالوادي والميراث، هو أحد محاور هذا العمل، إذ يقفز النزاع بين أطرافه المختلفة إلى سطح الأحداث، في محاولةٍ من كل طرف للفوز بالوادي الضيق، كأن بالأمر إسقاطاً على حاضرٍ نعيشه وواقع
نعاصر أحداثه

"وبصوتٍ قاطع: السر أمانة، أمانة.. ما يتورثش، ما حدش يديه لابنه، السر لو فلت حيروح عزبة إسرائيل" (ص 121)

وعندما يُوزَعُ الميراث، يكونُ الوادي من نصيب العناني

"الشرُ ينطُ من عينيه، أمسكه من ياقة قفطانه، بيديه الاثنتين، يكاد يفطسُ بينهما
الوادي ليك يا عناني، وادي جلانطه، أمانة في رقبتك، منك وليك، حقك وسرك، وأوعى تغضب ولا ترجع" (ص 38-39)

الطمعُ مغناطيس، يشفط البعيد، يحيلُ النحاس حديداً، ويجذبُ السمك بقوةٍ إلى الشباك


والطمعُ يفتكُ بالعناني

"يقطعُ الوادي في الصباح والمساء كسحليةٍ دائخة، بروح مخنوقة وصوت مسروق، لا يرفع عينه من الأرض، يمد ساقاً خلف ساق بتؤدة وانتظام ، كأنه يقيسه.. في الصباح يعدُ الخطوات من أوله لآخره، ثم يقلب الآية مساءً، يعد الخطوات من آخره لأوله
ومن آن لآخر، يصفق بكفيه، ينفخ:
.. كان فيها إيه لو مد لي العهد على عزبة إسرائيل كمان؟ صبرت، صبرت، وآخر المتمة أكون شيخ على شوية الغجر دول؟، ومن غير سر" (ص 40)

تلحُ علينا إسقاطاتٌ جديدة، حين نعرفُ حكايةَ العزبةِ المجاورة

"ينعتونها بعزبة إسرائيل، القرية المجاورة لأعلى، التي ترميهم بالطوب عند كل معركة بينهما، إلى أن يصعدوا وتتدخل النبابيت، وهي تصفعهم وتسميهم غجر جلانطه" (ص 43)

وأبو الليل ينصحُ العناني كي يحدَ من أطماعِه ونهمِه للحصول على ميراثٍ أكبر

"الطمعُ مقتلة يا عناني، وأنت طماع، احمد ربنا، يا راجل لو أداه لي كنت شفيت، باقولك ايه، تاخدش النص وتديني النص" (ص 45)

ترن في أذني العناني مقولةُ صاحبِ العهد "إن غابت الريح ثلاثاً، عليك أن تسلم السر"، وبعد أن تغيب الريح لمدة يومين نقرأ حاله: "لونه مخطوف، أصفر يابس، مثل حبة ليمون لم يشترها أحد، وبقيت وحيدة، متغضنة، تتفرج على اقتراب نهايتها" (ص 211)

شخصيةٌ أخرى تدعو إلى التأملِ في الرواية هي فرج، شيخ الكُتاب، الذي يقدم لنا تفسيراً جديداً وفريداً للأعراق والأجناس في تاريخ البشرية:

"يمشي بخيلاء، ليعوض انحناءة جده، يدكّ الأرض ليستعيد عزة نفس أبيه، يعلّم أولاد الوادي، ويسبهم بآبائهم أحياناً

بالعمامة والقفطان دائماً، لا يخلعهما إلا عند النوم، يرفع ذيله من حين لآخر ليبين جوربه، يلبسه صيفاً وشتاءً وبالمرة يخفي ساقيه

يمدُ يده في سيالةِ فقطانه، يشخشخ بالنقود، ثم يدبها في ظهره، يدفعُ صدره بالكبرياء.. ويحكي حكايته:

سيدنا حام كان يمشي في السوق إلى جانب سيدنا سام، كلٌ متأبطاً مصحفه، يدعوان الناس أن يعبدوا الله الواحد الأحد الذي لا يفرق بين عباده إلا بالتقوى، وأن يكونوا طيبين، كلُ في حق الآخر، إلى أن فاجأهما المطر تحت سماء مكشوفة
سيدنا حام خبأ المصحف في قفطانه يا ولاد الهرمة
السما انفتحت، وسيدنا حام جرى بالمشوار
يخرج يده، يعدل وضع قفطانه، يضبط عمامته بيد، رافعاً المصحف بالأخرى
وسيدكم سام رفع المصحف بكلتي يديه فوق رأسه، ليمنع المطر عنه، المطر الذي هطل بغزارة، فأسال حبر المصحف على رأسه، ومن يومها اسودّ وجهه وجسمه
يده في الأعلى، ينزلها، متأبطاً المصحف بقوة، كأنه يكفر عن خطيئة جده
ومن يومها يا ولاد الفرطعوس فيه ناس بيض، وناس سمر" (ص 64-65)

وفرج كان عاشقاً وعشيقاً في السر لعزيزة العمشة

"تمشي وحدها.. تظنه على يمينها، ونفس الابتسامة المختفية على وجهه عند عودتهما من واجبهما في العزاء، يمدُ يده فجأة، يشبكها بيدها، يضغط .. يسحبها إلى داخل غيط القمح، يفترشان القش، في وسطه تماماً، لا أحد، الطيور جاءت من كل فجّ، تحوم فوقهما، تغني، تنفرطُ بعيداً وتغني، وعرقهما سقى الأرض والنوى

في كل عام، في نفس الميعاد، تطلع وسط غيط القمح نوارة فول، أرضها مبللة حتى ولو زرعت قطناً" ( ص 238)


شخصياتُ الرواية منحوتة بإزميل فن الوصف، ولا عجب إذاً أن يستمتع القارىء بمتابعة مواقف وتصرفات محروس، وعزت العايق، والفناجيلي، وأبو الليل، وإنصاف، والشيخ العناني، وفرج، وأبو العشم، وعزيزة العمشة

وعائلة محروس تختصرُ الكون وهمومَ البشر

"عزت يبيع الوهم، يعشق النساء والحمير، غارق حتى شوشته، حتى صدق الحكاية وأصبح يبيعه لنفسه
الفناجيلي يتأرجح بين كفنه ونبوّته، يطارد الموت والوهم في الجبّانات والوجوه الباردة
ونَشْأَتْ ابن غزلان هجّ من الوادي بعد أن تهامس الناس من خلفه، على صوت أمه الذي يطلع في الشارع كلما نامت مع زوجها أبو العشم والد عزّت" (ص 132)

ونشأت هذا عانى من عشق أمه لرجلها الجديد، إذ كان جسدها يهتز بالانفجاراتِ من البداية وحتى النهاية، حتى لا يخفى على أحدٍ صراخها

"إلى أن وقعت الواقعة.. تقدم أحدهم منه، والباقون ينتظرون دورهم: صوت أمك طالع في الشارع وواصل للسما، واحنا عندنا بنات وخايفين عليهم
عيناه في الأرض وبواقي كرامته، يبحث عن شق مناسب ليبتلعه، بعدما ابتلع شق أمه كرامته" (ص 208)

أما عزت، فحكايته حكاية

"ريفو، واحد من أسمائه، اسمه الأول عزت العايق، أبو سنة دهب لولي، حيلة أبيه بعد زواجين وعشر نساء في السر، أخذه أبوه للبندر وهو صغير، ركب له غطاءً من الفضة لأسنانه ، لعب به في الموالد وعند الغوازي، من يومها عشق المدينة، جرت في دمه وظلت حلماً يعشش في خياله حتى استوى عوده، يسأل بصدر مفتوح:
هي إيه الكلية اللي بتطلع رئيس جمهورية" (ص 75)

للغرامِ نصيبُه الوافر في هذه الرواية، وخصوصاً عند عزت الذي يسترقُ النظرَ إلى ابنةِ الشيخ العناني وهي "تنشرُ الغسيل، تلعبُ مع الحمام، يرقبُها مختبئاً خلف الأجولة، الخميرة تصعدُ برأسه، المراقبة تطول، رأسه تصعدُ والشمس تلطشه
ترفعُ ذراعيها لأعلى، يتسربُ الضوء تحت إبطيها ومن تحتهما، طاقة نور" (ص 70)

لكن عزت الذي تَصورَ في لحظةٍ أنه طبيبٌ يداوي المرضى بالأدوية والحقن، كان مُغرَماً بالنساء والمؤخرات، حتى إنه كان يدفعُ لامرأتِه كي تمنحه نفسها كما يريد

ولا يمكن أن نغفلَ شخصية أبو الليل، الذي أصابه الجذام فغرقَ في بحر الظلام، بعيداً عن الأعين المشفقة أو المستهزئة

"هو السيد، حامي حمى الليل، الذي تهفو نفسه لعشيقة، نجمة أو امرأة، فإن أنفت أو عفّت، يفتش عن طريدة
يتحسسُ أصابعه مرة، فيقرر أن يقضَ مضاجع من يعايرونه، ويتحسسها أخرى.. فيسرق ليل من يأنفونه
أوجعته عِلتُه كثيراً، عيونُ الناس أوجعته أكثر، وضحكاتهم خلف ظهره" (ص 115)

لكنه يبقى طائراً حراً متفائلاً بعودةِ النجوم إلى سماءٍ تحلم بالضياء

"كل ليلةٍ يخرج، يفردُ عباءةَ الليل، يشمُها، يمرح في طياتها حتى تنفرد تماماً، وتشبع من امتداداتها
يحكي له حكايات النهار الأخير،.. التي وقعت في غيبته، وحين يشم رائحة النهار الجديد خلفه، يشده من ذيله، يطويه تحت إبطه ويعود، يعود من حارة أخرى، حتى لا يراه محروس، يسمع صوته ، ويشّتم رائحته من آخر الدنيا" (ص 40)



ولأن الأوجاعَ تصنعُ الفلسفة، فإن شخصية أبو الليل تتأملُ الحياة من منظورٍ مختلف

"الليل يجعلُ الناسَ كلهم ذوي عاهات، وأنتَ وحدك المعافى، حتى السرقة تبدو لك دائماً ابنة حلم" (ص 117)

ولعل وحيد الطويلة أرادَ أن يجعلَ روايته دائرةً مغلقة، تكونُ فيها النهاية موصولةً بخيط البداية

لنتأمل معاً تلك النهايةَ العجيبة التي تقلبُ الموازين

"ومحروس انتفض، قطعَ الخيوط، رمى المحاليل، انتفضَ في اتجاه دورة المياه، خرطوم ماء كأنه خرطومُ حنفية الحريق، قوياً حتى خرجت الصراصيرُ من مكامنها، طويلاً عفياً حتى خرجت الفئران من مخابئها، والطبيبُ المذهول يرقبُ الموقف، ويبحث بعينيه عن النعش
عادوا بسرعةٍ، جميعاً، دون اتفاق أيضاً، الطبيب يصرخ، الفئران تتجه إليه، في غير اتجاه يصرخ ويهرب، والعناني في ذيله
والباب يترجرجُ، كان الموت يدق حوافره عليه، كأنه أغلق دون الملائكة
فتحته إنصاف، وهم في كعبها،
تسمّروا،
كان قد عاد من قبل، وضع كمامة الأوكسجين فقط على فمه، وراح في نوم عميق
لم يتحركوا، ولا شالتهم أقدامهم، يبصون في اتجاه واحد، كأعمدة زرعت مكانها
النعشُ ليس على باب المستشفى
والملائكة تفرقت" (ص 260-261)

وحين ندركُ أنها حكايات النهار الأخير، نصبحُ متورطين في تلك الحكاياتِ التي لا نتمنى أن تنتهي لفرطِ صدقها وحميميتها، ولقدرةِ الكاتب على نقلِ القارىء إلى عوالمَ لم تنل حقها في الروايةِ العربية المعاصرة

حتى وإن تفرقت الملائكة، ستظلُ عيون القراء معلقةً بباب المستشفى..حيث يرقد محروس

تابع القراءة

gravatar

نجوم على القوائم السوداء (2): هروب الزئبق وسقوط الحوت






لا يكتمل موضوع الهروب من مصر، إلا بالحديث عن الرجل الزئبقي: أشرف السعد
ورجل الأعمال المقيم في لندن والذي يطل علينا من خلال القنوات الفضائية بلحيته الكثيفة مدافعاَ عن نفسه أو معبراً عن آرائه، لم يكن لحظة خروجه في المرة الأولى مدرجاً على قوائم المنع من السفر. فقد فرضت الحكومة المصرية الحراسة على ممتلكات رئيس مجموعة السعد للاستثمار لمدة 15 عاماً، بعد أن تبين تورطه في فضيحة شركات توظيف الأموال، إذ وصلت قيمة الأموال التي كان يديرها إلى نحو مليار جنيه، جمعها من خلال 82 فرعاً لشركاته في فبراير شباط عام 1991 بدأت رحلة السعد الأولى مع الهرب، حيث سافر إلى باريس عام 1991 بحجة العلاج، وبعد هروبه بثلاثة أشهر صدر قرارٌ بوضع اسمه على قوائم الممنوعين من السفر. وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة سنتين بتهمة إصدار شيك بدون رصيد
وفي يناير كانون ثانٍ عام 1993 عاد أشرف السعد فجأة لتتم إحالته إلى محكمة الجنايات لعدم إعادته 188 مليون جنيه للمودعين بالإضافة إلى ثماني تهمٍ أخرى
وفي نهاية ديسمبر كانون أول عام 1993 أخلي سبيله بكفالة قدرها 50 ألف جنيه مع تشكيل لجنةٍ لفحص أعماله المالية، إلا أنه سافر مرة أخرى للعلاج في باريس في 4 يونيو حزيران عام 1995 ولم يعد حتى الآن. ومن الغريب أن مسؤولين كباراً كانوا بين المودعين في شركات السعد لتوظيف الأموال، إلا أنهم حصلوا على أموالهم قبل إحالته إلى المحاكمة
وإذا كانت القضايا المطلوب فيها أشرف السعد قد سويت، بعد أن قام المدعي الاشتراكي برد أموال المودعين في شركاته، فإنه مازال يرفض العودة، وانضم مؤخراً إلى جبهة إنقاذ مصر، وهي جماعة سياسية معارضة من الخارج
وعلى غراره أيضاً رجل الأعمال رامي لكح الذي أدرج النائب العام اسمه بعد يأسِ أحد وزراء المجموعة الاقتصادية من محاولة إقناعه بالعودة وسداد مديونياته. وكان الوزير نفسه قد نجح في مرةٍ سابقة في إقناعه بالعودة في ظروفٍ مشابهة. وبالفعل عاد رامي، وفي اليوم الذي نشرت الصحف فيه خبر عودته إلى القاهرة نشرت أيضاً خبر إحالة رجل الأعمال مصطفى البليدي إلى محكمة القيم وفرض الحراسة عليه وعلى أولاده. وكان قرار المدعي الاشتراكي كذلك هو منعه من السفر، إلا أن قرار المنع جاء بعد أن هرب مصطفى البليدي بالفعل قبل أكثر من شهرين

في المطار، أعلن رامي لكح اعتزامه خوض انتخابات مجلس الشعب بصفة مستقل، ونفذ وعده ونجح في الفوز بمقعد نيابي، لكن الصحفيين لاحظوا عند وصوله من باريس أنه دخل البلاد بجواز سفرٍ فرنسي. ولدى سؤاله عن ذلك قال بأسلوبٍ لا يخلو من التباهي: "أنا معي جنسية مزدوجة "

ولم يكن رامي لكح يدرك أن هذه الجنسية المزدوجة ستدخله متاهاتٍ وتقصيه عن مجلس الشعب

فقد نشرت صحيفة "الأهرام" خبر وصوله في اليوم التالي مع إشارةٍ عابرةٍ إلى دخوله بجواز السفر الفرنسي. وكانت هذه الإشارة كافية لفتح ثغرة في جدار قلعة رامي لكح الذي هرب إلى فرنسا، وسط أنباءٍ تتواتر بين فترة وأخرى عن مساعٍ تُبذل لتسوية مديونياته للبنوك الدائنة
وبالرغم من تحديد مكان هروب رامي لكح في فرنسا وضبطه، فإن السلطات هناك رفضت تسليمه وإعادته لمصر، لأنه يحمل الجنسية الفرنسية. ويعيش لكح في باريس حيث يدير شركة "لافاييست" الصحافية وشركة الطيران الخاصة "بورال إير" كما امتلك أيضاً صحيفة "فرانس سوار"

وضمت قوائم الإدراج رجل الأعمال عمرو النشرتي الذي كان يملك فرع شركة "سينسبري" في مصر، والذي لا يعرف أحدٌ كيف نجح في الهروب من مصر إلى بريطانيا. وكانت محكمة مصرية قد أصدرت حكماً بسجن عمرو النشرتي 15 عاماً وشقيقه هشام 7 سنوات وسعيد سيف اليزل 10 سنوات (مسؤول في شركة النشرتي) بعد إدانتهم بالاستيلاء على أموال بنك قناة السويس والبنك الوطني بدون ضماناتٍ أو بعضها وهمية، وغسل الأموال والتربح والرشوة والتزوير في أوراق رسمية
وبعد الهرب من مصر، أقام عمرو النشرتي في لندن، ليدير عدداً من المشروعات التجارية بعد أن استطاع الحصول على توكيلات لشركات عالمية، أما هشام فإنه يمتلك مجموعة فنادق بمدينتي لوزان وجنيف في سويسرا، ويديرها من هناك
وفي قائمة الهاربين أيضاً إيهاب طلعت، إمبراطور الدعاية والإعلان، والذي اتهم في قضايا عدة من قبل مع عبدالرحمن رئيس مدينة الإنتاج الإعلامي
وظل عبد الحكيم عبد الناصر نجل الرئيس المصري جمال عبد الناصر مدرجاً على تلك القوائم إلى أن توسط زعيم عربي لدى السلطات المصرية، قبل أن يساهم في تسوية مديونيات عبد الحكيم وإنهاء متاعبه المالية. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُوضَع فيها اسم أحد أبناء عبد الناصر على قوائم ترقب الوصول، فقد سبقه إلى ذلك شقيقه خالد عبد الناصر، عندما ورد اسمه في قضية تنظيم "ثورة مصر" الذي اغتال وأصاب بعض أعضاء السفارة الإسرائيلية في ثمانينيات القرن الماضي

ولسنواتٍ، تمكن رجل الأعمال الفلسطيني محمد علي الصفدي، أو "حوت السكر" كما كان يطلق عليه، من الهروب - عبر أحد الموانىء - من مديونيات وأحكام في قضايا تتعلق باتهامه بتحرير شيكات بدون رصيد لصالح شركات وبنوك. وكان الصفدي أقام في مصر شركة مجمع "الأخوة العرب" الصناعي وهو شركة مساهمة مصرية، قبل أن يتورط في قضايا مالية، هرب بعدها من البلاد إلى أن تمت استعادته من السعودية في منتصف العام 2004، نتيجة تعاونٍ بين الإنتربول المصري والسلطات السعودية


وسبق الصفدي في الهروب رجل الأعمال حاتم الهواري الذي تم إدراج اسمه مرتين، نجح في الأولى في التفاوض والعودة معززاً مكرماً، لكنه سرعان ما تورط مجدداً في مديونيات وقروض، قبل أن يتمكن من الهروب إثر إدراج اسمه على قوائم المنع من السفر. وقيل إنه هرب عن طريق لنش بحري من الغردقة، ثم استقل بعد ذلك إحدى السفن. وترك الهواري الذي هرب إلى كندا عام 1997، وراءه مديونيات ضخمة للبنوك والشركات والأفراد تقترب من 2 مليار جنيه، معظمها قام بتحويلها في حساباته بالخارج، بمساعدة شركتين ثبت قيامهما بعمليات غسيل أموال، حيث ساعدتا الهواري في تقديم بيانات ومستندات وهمية وبوالص شحن مزورة، واستطاع الهواري من خلالهما أن يحصل على 300 مليون جنيه من بنكي القاهرة والأهلي، ليحولها بعد ذلك إلى البنوك الأجنبية بالدولار. كان والد حاتم الهواري أيضاً قد سبقه بالهروب إلى كندا، بعد أن حصل على عدة ملايين من البنوك، لكن حاتم تفوق على والده وتجاوز المليار جنيه قروضاً من خلال عدد ضخم من الشركات الوهمية تجاوزت 13 شركة، أسند إدارتها إلى عدد من أقاربه . ويقيم الهواري حالياً في شقة أنيقة في لندن، ويمتلك محلاً شهيراً للأزياء يتردد عليه المشاهير في حي "ماي فير" بوسط العاصمة البريطانية
المفارقة في حادث هروب رجل الأعمال متعدد الجنسيات عادل آغا - يحمل جنسيات سورية وأمريكية ومصرية- إلى خارج مصر يوم ٧ يونيو حزيران 2008، المتهم فيها مقدم وأمين شرطة، أن التحقيقات كشفت عن مفاجأة أكبر، إذ تبين أن الهارب كان قد دخل مصر في عام ٢٠٠٦ دون القبض عليه، بالرغم من أنه مدرجٌ علي قوائم ترقب الوصول

وبحسب مقدم الشرطة فؤاد وليم فؤاد، الذي اتهم بتسهيل هروب آغا بأوراق مزورة، فإن الأول كان معيناً في ٧ يونيو حزيران 2008 ضابط إجراءات من الساعة ١٢ بعد منتصف الليل، وتقدم له راكب بجواز سفر أمريكي ضمن ركاب الطائرة المتوجهة إلى فرانكفورت، باسم عادل جوزيف عادل، وأضاف أنه كان رجلاً مسناً، يسير مستعيناً بعكاز


وأضاف وليم في أقواله، أن المسافر قدم جواز سفر دون أختام تثبت دخوله البلاد، وبرر ذلك بأن جوازه فقد واستخرج من القنصلية الأمريكية بديلاً عنه، كما قدم صورة من جواز سفره المفقود يثبت بها تاريخ وصوله في ٧ أكتوبر تشرين أول ٢٠٠٦، فتم الاتصال بقسم التحركات للكشف عن تحركات المسافر. كما تم الاتصال برئيس قسم جوازات مطار برج العرب العقيد يسري خضر، الذي كان في مأمورية بالعلمين، فأوصى بالكشف عليه، وقال: "إذا كان سليم.. أعمل له كارت وسفره"

أما أمين الشرطة خميس محمد إبراهيم فقال في تحقيقات النيابة، إنه ربما سحب أوراق الكشف بشكل خاطئ، فالتصقت ورقتان معاً، ما أدى إلى عدم الكشف عن اسم الراكب عادل جوزيف، فوضع الختم على "الكارت" الخاص به بطريق الخطأ. يذكر أن عادل آغا كان مطلوباً للمحاكمة والمثول أمام جنايات القاهرة في أول سبتمبر أيلول 2008، لاتهامه بالاستيلاء على مليار جنيه من بنك القاهرة، وبلغت مديونياته بالفوائد 2.6 مليار جنيه

وعن الفن وقوائم الترقب والمنع، حدث ولا حرج

وقد تم إدراج اسم الفنانة اللبنانية سوزان تميم - التي عُثِرَ على جثتها مقتولة في دبي في 29 يوليو تموز 2008- على قائمة الممنوعين من السفر من مصر بعد أن أصدر قاضي التحقيق في لبنان مذكرة غيابية بحق سوزان سجلت تحت رقم 41/2386 وذلك بناء على شكوى عادل معتوق.. ثم صدور مذكرة توقيف دولية عن قاضي التحقيق في بعبدا تحت رقم 1425/2004 وعممت بواسطة منظمة الإنتربول الدولية
وفي أغسطس آب 2004، ألقى الإنتربول المصري القبض عليها في مطار القاهرة، أثناء محاولتها مغادرة الأراضي المصرية، وذلك بناء على طلبٍ من نظيره اللبناني الذي يبحث عنها بتهمة "سرقة 230 ألف دولار من زوجها" عادل معتوق في بيروت، ثم أخلت السلطات القضائية المصرية سبيلها بكفالة من السفارة اللبنانية. غير أن سوزان نجحت في الخروج من مصر بالرغم من قرار منع السفر، ولم يعرف أحد بالأمر إلا بعد أن أصبحت في لندن ثم دبي التي شهدت نهايةً دامية لحياتها
ومن نجوم الفن الذين انضمت أسماؤهم إلى قوائم ترقب الوصول
الفنانة ماجدة الخطيب بعد هروبها إلى أثينا لصدور حكم قضائي بحبسها لمدة عام، إثر حادث سيارة قتلت فيه رجلاً بطريق الخطأ، وأقنعها محاميها بالسفر إلى الخارج قبل النطق بالحكم، ولدى صدور الحكم تم إدراج اسمها على قوائم ترقب الوصول، لكنها صممت على العودة إلى مصر وتقديم استشكال. وبالفعل، عادت ونفذت الحكم بالحبس، ثم استأنفت نشاطها الفني بعد الإفراج عنها

ودفع عدد كبير من نجوم الفن العرب ثمن الحب والغيرة

فقد جرى ترحيل الفنانة اللبنانية نبيلة كرم بشكل مفاجىء من القاهرة بحجة أنها شخصية غير مرغوب في وجودها. وألقي القبض عليها أمام باب المسرح، حيث كانت تستعد للمشاركة في بطولة مسرحية جديدة، ولم يشفع لها زواجها من مصري. وقيل إن إبعادها جاء نتيجة نفوذ وزير داخليةٍ سابق، سعى إلى إبعادها عن نجله الذي اشتهر بالمغامرات العاطفية ووقع في حبها
أما المطربة السورية ميادة الحناوي فقد تم ترحيلها من مصر بسبب الغيرة الشديدة من جانب نهلة القدسي زوجة الموسيقار محمد عبد الوهاب، حتى أنها لجأت إلى المطربة فايدة كامل زوجة وزير الداخلية النبوي إسماعيل، وقيل إنها وعدتها بأن تشدو بأغنيةٍ وطنية من ألحان عبد الوهاب إن هي ساعدتها في إبعاد ميادة الحناوي. ونجحت الصفقة في ترحيل ميادة ووضعها على قوائم المنع من دخول البلاد، لتؤدي فايدة كامل الأغنية الموعودة

واللافت للانتباه أن إدراج بعض الفنانين العرب على قوائم المنع من دخول مصر كان شفهياً في أحيانٍ عدة، إذ يتم إبلاغهم بذلك أثناء وجودهم بالخارج، مع "نصحهم" بعدم العودة. وقد يكون ذلك لأسباب سياسية مثلما حدث مع وردة الجزائرية في ستينيات القرن الماضي، وقيل إن الفنانة برلنتي عبد الحميد زوجة وزير الدفاع آنذاك المشير عبد الحكيم عامر، كانت وراء القرار. وبالفعل لم تعد وردة إلى مصر إلا في عهد الرئيس المصري أنور السادات

ومن النجمات اللاتي عانين لفترةٍ من المنع من دون سببٍ واضح المطربة اللبنانية ماجدة الرومي، بعد أن كال لها البعض اتهامات بمهاجمة مصر، مع أن ماجدة نفت ذلك جملة وتفصيلاً، قائلةً إنها نصف مصرية – من جهة الأم- فكيف تهاجم نصف كيانها تكوينها. وبعد سنواتٍ، عادت ماجدة الرومي إلى القاهرة بعد رفع قرار المنع

أما المطرب السوري مجد القاسم فتم ترحيله من مصر بسبب غضب السلطات المصرية من شقيقه فيصل القاسم مقدم برنامج "الاتجاه المعاكس" على قناة الجزيرة، وسط صيحات مجد بأنه غير مسؤول عن تصرفات وأقوال شقيقه. سرى قرار الإدراج لمدة تقترب من ستة أشهر، وحظي مجد بتعاطفٍ شعبي وإعلامي كبير، خصوصاً بعد رسالة استعطافٍ مؤثرة نُشِرَت في "بريد الأهرام"، ما دعا الجهات الأمنية إلى رفع اسمه من قوائم المنع، والسماح له بالعودة


كما تم منع المطربة اللبنانية نجوى كرم من دخول مصر، بعد أن تداولت صحف عربية خبراً - تبين لاحقاً عدم صحته- عن إساءتها إلى الرسول الكريم في حوار لها على إحدى القنوات الفضائية. وهكذا فوجئت نجوى لدى حضورها للقاهرة وبرفقتها شقيقتها على متن الطائرة اللبنانية المقبلة من بيروت بأن اسمها مدرجٌ على قوائم المنع من دخول مصر، ما دفعها إلى العودة على متن الطائرة ذاتها


ومن ألغاز قرارات الإدراج والمنع ما حدث عندما منعت سلطات الأمن في مصر الأمير عبد الرحمن بن ترك من السفر إلى اليابان على متن الخطوط الجوية السنغافورية، لوجود اسمه على قوائم المنع بناءً على طلب النائب العام. وبعد 48 ساعة فقط تم رفع الاسم والسماح للأمير عبد الرحمن بن ترك بالسفر. وقيل إنه كان هناك خطأ في إدراج الاسم، نظراً لانتهاء القضية التي جرى إدراجه على أساسها

وإذا كان كلام كثير قد أثير حول منع الداعية الإسلامي عمرو خالد من العودة إلى مصر، فإن أجهزة الأمن المصرية منعت الداعية الإسلامي الحبيب علي زين العابدين الجفري -اليمني الجنسية- من دخول البلاد. وقيل إن السبب في ذلك تَدخُلُ وزير مرموق، لتأثير الداعية اليمني على عددٍ من نجمات الفن ونجاحه في إقناعهن بالاعتزال. وبعد 48 ساعة سُمِحَ بدخول الحبيب علي الأراضي المصرية، بعد تَدخُل شخصياتٍ عربية كبيرة


ومن أشهر قصص الإبعاد عن مصر، قصة طرد سيدةٍ سورية كانت تحضر حفل زفاف إحدى سيدات المجتمع في مدينة الإسكندرية، بعد أن تعدت على بعض المدعوات بالضرب والسب والقذف وتفوهت بالفاظ وعباراتٍ ماسة بالشرف والعرض، وقالت بالحرف الواحد: "أنتوا المصريات نصفكم خدامات للعرب ونصفكم عاهرات للسواقين العرب". تم تحرير محضر لهذه السيدة برقم 1999 وتقدمت السيدات المعتدى عليهن بطلبٍ إلى وزير الداخلية بطرد السيدة السورية من البلاد، وأرفقن بالطلب صورة من التحقيقات


والأهم من قصة هذه السيدة - التي لا تمثل إلا نفسها ولا تجسد إلا موقفها، بعيداً عن أي نعرة شعبوية لدى البعض- هو منطوق الحكم الذي صدر ضدها والذي وضع بشكلٍ مفصل، ربما لأول مرةٍ، قواعد إبعاد الأجانب عن مصر. وجاء في هذا الحكم "إن الأجنبي عندما يخرج على النظام العام للدولة أو يهزأ بشعبها ويهين كرامة أبنائها ويخدش حياءهم وكبرياءهم ويتطاول على حرماتهم وأعراضهم، وهو قابعٌ على أرضهم ينعم بالإقامة فيها ولا يكترث بأحاسيسهم ومشاعرهم، فإن إبعادَ هذا الأجنبي عن البلاد أو منعَ دخوله إليها لا يكونُ مجرد حقٍ للدولة تترخص في استعماله كيفما تشاء ولكنه يصبح واجباً والتزاماً قومياً"


وفي الوقت الذي كان العالم يتابع فيه أنباء تفجيرات وهجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول في الولايات المتحدة، كانت أجهزة الأمن في صعيد مصر ترصد تحركات عددٍ من الأجانب وفدوا فجأةً إلى مصر بحجة أنهم مراسلون أجانب يجرون تحقيقات صحفية عن أسر المتهمين بالإرهاب
البداية كانت في أسيوط، وبعد أحداث سبتمبر مباشرة، حيث ضبطت أجهزة الأمن المصرية شخصاً أمريكياً يدعى جورجي قال إنه يعمل محرراً صحفياً في جريدة "واشنطن بوست"، وغنه حضر إلى مصر بعد هجمات سبتمبر بنحو أسبوعين وأقام في القاهرة لمدة ثلاثة أيام، ثم سافر إلى أسيوط كمحطةٍ أولى لعددٍ من المدن في صعيد مصر، حاملاً معه قائمةً كاملةً بأسماء القيادات الإرهابية الهاربة وأسرهم وأماكن إقامتهم
واسترعى انتباه الأمن المصري أن هذا الرجل لم يكن يحمل معه أي تصريح من هيئة الاستعلامات بالعمل في مصر، وقد تم ترحيله بعد ضبطه بأسبوعين


وفي الوقت الذي لم تكن فيه أجهزة الأمن في صعيد مصر قد أفاقت من قصة جورجي، وقع في قبضتها مواطن أمريكي ثانٍ يدعى دبلر نزونينست، ادعى هو الآخر أنه يعمل محرراً صحفياً، وكان يجوب أرجاء الصعيد بحثاً عن قيادات إرهابية هاربة. وقد جرى ترحيل دبلر صباح يوم 29 ديسمبر كانون أول عام 2001 برفقة ضابط أمريكي وأحد أعضاء السفارة الأمريكية في القاهرة
وقال المتحدث الصحفي باسم السفارة الأمريكية إن دبلر رُحِلَ من مصر على اعتبار أنه مطلوب جنائياً لدى إحدى محاكم نيويورك، نظراً لأنه مشتبه به، ويواجه اتهاماتٍ عدة
أما ما الذي كان يفعله في صعيد مصر، فهذا هو اللغز الذي يحتاج إلى تأمل


ودائماً، في قضايا الترحيل والمنع من السفر وترقب الوصول، لله في خلقه شؤون..وشجون أيضاً

تابع القراءة

gravatar

عُد للأرض.. كي تستريح






"هزمتكَ يا موتُ الفنون جميعها
هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين،
مسلةُ المصري، مقبرةُ الفراعنة،
النقوشُ على حجارةِ معبدٍ، هزمتكَ
وأفلتَ من كمائنكَ الخلودُ
فاصنع بنا، واصنع بنفسكَ ما تريد"
("جدارية"، محمود درويش، منشورات رياض نجيب الريّس للكتب والنشر، 2000)




قُل لي: أبَعدَ الموتِ موتٌ؟

هل كنتَ تعرفُ أن الأغنياتِ الأثيرة يسيلُ منها دمك، فآثرت حفظَ مائكَ الفضي واتخذتَ من القلوبِ منازل
لم تقلْ للموتِ هذه المرة: انتظرني قليلاً
لم تفاوضه أو تساومه على قصيدة
فالموتُ يعشقُ فجأةً مثلك.. والموتُ لا يحبُ الانتظار
لم تمنحْ المسافرين هذه المرة آخرَ نظراتكَ الحزينة، التي تشبهُ دمعةً تسيلُ على ساقيةِ القلب
ربما أدركتَ الحقيقة التي تعلمناها في غيابك: عندما نموتُ نصيرُ سادةَ العالم

الأعراسُ والأجراسُ في انتظاركَ، لكن زيتونَ فلسطين يجهشُ في البكاء
وأنتَ الذي بللتَ شفتيَ القصيدة بهواءٍ ناضجٍ كالقمح
علَمتها حُمى الوقت، ودسستَها في حقائبِ السفر، وحفظت قلبكَ كلّه عن ظهرِ قلب

بصوتِكَ المعبأ بالدخان والأحزان، الآتي من غياهبِ بئرٍ عميقة، كنت تَخيطُ روحكَ إلى روحِنا، وأنت تُلقي قصائدكَ وتوزعُ حكمتكَ بعينين نزقتين وطيفِ ابتسامةٍ، وخصلات شَعرٍ - منذ ثلاثين عاماً ـ خائف أن يشيب

شِعرُك أيها المُسجى فوق أرضٍ غريبة، كان الحجارةَ التي تعيدُ بناءَ أنقاض القرى التي أزالوها من على وجهِ الأرض وحذفوها من الخرائط المعدلة
قصائدُكَ كانت تقولُ لليائسين: لكي تبني المحارةُ قوقعتَها، يتوجبُ عليها أن تمررَ في جسمها ما يعادلُ وزنَها خمسين ألف مرةٍ من مياه البحر
يا لها من حكمةٍ نازفة
ظِلُكَ المثقوبُ يُقَلِمُ أغصانَ حيرتنا، وصوتُكَ المجروحُ مطرزٌ بهديلِ النجومِ الشاردة وغَمزِ الغيُومِ التي تراوغُ في وعودِها، وضحكتُكَ المبتورةُ تعانق جذور زهرةٍ يتيمة
طوبى للعاشقِ الذي ينسى دوماً بابَ قلبِه مفتوحاً، ليزفَ النايُ للشتاتِ بشارةَ العودة

أيها الأندلسيُ الذي تسلقَ جدارَ الموتِ، هارباً من نوافذ قرطبة وبحرِ بيروت ومآذنِ القاهرة وشرطة عَمَان، لماذا تركتَ القصيدة عالقة في شِباكِ مَن سرقوا عيونَ البحر كي لا نرى الحقيقة
‎‏
لماذا ضيَعتَ فرصتكَ في الموتِ مُذ كنتَ صغيراً؟ لماذا ضيَعتَ النهايةَ من البداية؟
أترانا أيها الرائقُ، المارقُ، الحاذقُ، محكومين بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ؟

أما الآن وقد امتلأت بكلِ أسبابِ الرحيل، فإنني أوصيكَ: كن رشيقاً كحروفكَ، موجعاً كالكلامِ حين تمضي إلى تلك المسافة الفاصلةِ ما بين حلمٍ واستفاقته


مطمئنونَ نحن إلى أن الموتَ لن يستقبلكَ بفظاظة حارسٍ ليلي، فهو يحفظ قصائدك المغناة ويرددُ في أوقاتِ فراغه قولك: ''وأعشقُ عمري لأني إذا متُ أخجل من دمع أمي''

لكنكَ تموتُ، بعيداً عن قهوةِ أمك وخبزِ أمك ولمسةِ أمك
ها هو الموتُ يُضبطُ متلبساً بالانضمامِ إلى باقي القتلة

متَ يا درويش، والخوفُ كل الخوفِ أن يخرُجَ لنا من الجحور دراويش، يتنازعون على لونِ عينيكَ، وإطارِ نظارتِكَ الطبية، وحبيبتكَ الأولى وقصيدتِكَ الأخيرة، ويتحدثون عن بطولاتٍ زائفة وانتماءاتٍ كاذبة مثل أردأ مساحيق التجميل

"يحبّونني ميّتًا ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا"
("ورد أقل"، محمود درويش، دار العودة، 1993)
أولئك الذين يُمجدون صياغتكَ إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر، وينسون استقالتكَ من اللجنة التنفيذية لمنظمة
التحرير احتجاجاً على اتفاق أوسلو، حين صرخت بأعلى صوتِك:

"كل شىء مُعَدٌ لنا
فلماذا تطيلُ التفاوض،
يا ملكَ الاحتضار ؟"
("أحد عشر كوكباً"، محمود درويش، دار الجديد، 1993)

أخطأ الأطباءُ في المستشفى الأميركي تشخيصَ الداء..لم تكن المشكلةُ في إصلاح ستة وعشرين سنتيمتراً من الشريان الأبهر لقلبِكَ المُنهَك

كانت الأزمةُ تكمن في 365 كيلومتراً مربعاً هي مساحة قطاع غزة..وفي قولٍ آخر، كانت المشكلة في قلبكَ تمتد 5844 كيلومتراً هي مساحة الضفة الغربية

ولأن أطباءكَ في هيوستن، أيها الغزالُ الحرُ في بريةِ الروحِ، لم يتذوقوا قصائدك، ولم يقرأوا عن فلسطين الجريحة في دواوينكَ الشعرية، فقد أغفلوا احتمالاتٍ أخرى:

السلطةُ الوطنية التي داخت مثلَ ذبابةٍ أصابَها مبيد حشري، الدمُ الفلسطيني الذي لم يعد خطاً أحمر، رائحةُ البرتقالِ التي تختفي يوماً بعد يومٍ عن بيادر يافا
لم يعرفوا خطورة هذه "الأمراض" على رجلٍ كان يُذكِرُنا دوماً بأن فلسطين التي تضيع..لن تضيع


الصراعاتُ التافهةُ قضمت شرايينكَ كعيدان قصبٍ جافة، ولعلَكَ سئمتَ مِنْ تقطيرِ الحزن في قلبِكَ دَمْعَةً دمْعَةً

ولأن العاملين في ذلك المستشفى لا يفقهون اللغة العربية، فإنهم لم يفهموا مغزى الوصيةِ المنقوشة فوق أحدِ أوردتك لأبناء وطنك:

من يحلم بالكرامةِ.. فهو حيٌ ذليل. وحدهم الذين يعرفونَ توقيتَ الصلابةِ ويتقنون فن السيولة، هم الذين لا يتبخرون في فضاءِ الكونِ مثل غازاتٍ ضائعة


وحدهم الذين يملكون بوصلةَ الوعي والنضج، قادرون على أن يبقوا بشراً بدلاً من أن يصبحوا مجردَ كائنٍ رخو

أليست مفارقةً تدعو إلى التأمل أن تُسلِمَ الجسدَ المعطوبَ للجراح العراقي الأصل حازم صافي؟

العراقي الممزقُ بين المنافي يعالجُ الفلسطيني المحترقَ بنارِ وطنٍ محتل

كلاكما تبحثان عن وطن وحرية.. والجميلُ في الحرية أننا نتعلقُ بها في النطاق ذاته الذي تبدو فيه مستحيلة

جيمس جويس رفضَ أن يزورَ مدينته دبلن بعد أن غادرَها، ليظلَ يكتبُ عنها من الذاكرة الخائنة

لكنكَ آمنتَ بأن الكتابة وترٌ مشدودٌ بين الحريّة والتذكّر، فعُدتَ دوماً لتقاومَ بأصابع ينزُ منها دمُ الكلام "ذاكرة للنسيان"

هذه المرة فقط..لن تعود

الغيابُ الآن كفٌّ ملساء من دون خطوط

البروة، قريتُك التي كانت، تئنُ وتقيمُ سرادقُ عزاء تحت الأرض، تقرأ فيه المدنُ ما تيسرَ من "مديح الظل العالي"، وتدرسُ فيها القرى "أحد عشر كوكباً" وتتساءلُ البلدات "لماذا تركت الحصان وحيداً"، فيما الشعراءُ يقتفون "أثر الفراشة"

أنتَ الآن تشبهُ نفسك "كزهر اللوز أو أبعد"
أنتَ الآن طفلٌ يتوجبُ أن يتنازل هذا الكونُ الكاملُ عن ألعابِ طفولته من أجلكَ
أنتَ الآن وحيدٌ في البياض، تمَشِّطُ ضفيرة الريح، وقلبُك قميصُ الشفق
وما بين ضبابِ المخدرِ وبياضِ الغيبوبة، يناديكَ الغمام

"أرى السماءَ هُناكَ في متناولِ الأيدي
ويحملُني جناحُ حمامة بيضاءَ صوبَ
طفولةٍ أخرى. ولم أحلم بأني
كنتُ أحلمُ. كلُّ شيء واقعيّ. كُنتُ
أعلمُ أنني ألقي بنفسي جانباً
وأطير. سوف أكونُ ما سأصير في
الفلك الأخير. وكلّ شيء أبيض"
("جدارية"، محمود درويش، منشورات رياض نجيب الريّس للكتب والنشر، 2000)


أيها العائدُ من تخومِ الموتِ، خُذ "جداريتك" وعُد للأرض كي تستريحَ يا إمامَ التعب


جلجامش، لم يبقَ فوق الأرضِ سوى الرجال الذين يعجزُ الموت عن تطهيرهم من ذنبِ الحياة


أيها المارون بين الكلمات العابرة .. ها هو "أحمد العربي" يحاصرُ حصاره، ويهزمُ الموتَ، ويرتقي مدارجَ البهاء وحيداً حافلاً بالأمنيات

تابع القراءة

gravatar

نجوم على القوائم السوداء(1): هاربون..والله أعلم



يُقلِبُ ضابطُ الجوازات صفحاتِ جواز السفر ويركزُ نظراته على بياناتِ صاحب الجواز، وينقرُ بأصابعه على لوحة جهاز الكمبيوتر أو يحيل الأمر إلى موظفٍ أقل درجةً يجلس في كابينة ملاصقة، قبل أن يضع ختم الوصول أو المغادرة، أو يبلغ المسافر الذي أمامه بأحد أمور ثلاثة: إما أنه مدرجٌ على قوائم ترقب الوصول أو أنه ممنوعٌ من دخول البلاد، أو أنه ممنوعٌ من السفر

وفي مصر، لا تكتفي وزارة الداخلية بقرارات المنع من السفر أو دخول البلاد أو الإدراج على قوائم ترقب الوصول، وإنما تعذب أيضاً كثيرين في المطارات والمنافذ الحدودية تحت عنوان مزعج: تشابه الأسماء


ولعل هذا هو ما دفع محكمة القضاء الإداري في نهاية إبريل نيسان 2007 إلى تأكيد أن امتناع وزارة الداخلية عن إزالة تشابه الأسماء كسبب في وضع الأشخاص على قوائم الممنوعين من السفر أو ترقب الوصول يعد قراراً سلبياً يجب وقف تنفيذه. وأشارت المحكمة إلى أنه من أخص واجبات هيئة الشرطة كأحد قطاعات الوزارة في مجال الحفاظ على الأمن القومي للبلاد، هو توخي الحذر المطلوب في خروج المواطنين بالشروط المنصوص عليها قانوناً، وهو ما يقضي من القائمين على تلك الهيئة بضرورة الإسراع في اتخاذ الإجراءاتِ الكفيلة بإنهاء دخول المواطنين إلى البلاد والتأكد من صحة البياناتِ والإجراءاتِ بما لا يحمل اللبس أو الاختلاط أو التشابه بين الأسماء


بطبيعة الحال، فإن وزارة الداخلية لم تهتم كثيراً بكلام محكمة القضاء الإداري




والفارق بين قوائمِ ترقب الوصول والمنع من دخول البلاد، هو أن الأول يسري على المواطنين، كما يسري أيضاً على الأجنبي إذا كان مطلوباً في إحدى القضايا أو هارباً من تنفيذ حكم قضائي. أما المنع من دخول البلاد فيسري على الأجانب فقط ، إذ تُخطرهم السلطات بأنهم شخصيات غير مرغوب في دخولها البلاد، وتخيَرهم بين العودة على الطائرة نفسها التي أقلتهم إلى البلد الذي جاءوا منه أو اختيار أي دولة أخرى توافق على استقبالهم، أو الترحيل إلى وطنهم الأصلي

وتضم قوائم الإدراج في مصر العديد من أسماء المشاهير الذين تملأ صورهم وأخبارهم الصحف والمجلات. وعلى سبيل المثال فإن الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مدرجٌ على قوائم ترقب الوصول في المطارات والموانىء المصرية، ما يعني أن القرضاوي يلقى معاملة المشتبه فيهم على يد سلطاتِ الأمن في زيارته المتكررة إلى بلده، في حين أنه يحظى بمعاملة خاصة لدى زيارته لدولٍ عدة في مختلف أنحاء العالم

ولنتحدث قليلاً عن قرار المنع من السفر

فقد أثيرت دوامات من الجدل بعد صدور حكم القضاء الإداري بمجلس الدولة المصري في يوليو تموز 2008، بأحقية وزير الداخلية في إصدار قرار بالمنع من السفر لكل من تتصف أفعالهم بالخطورة. ففي حين يراه البعض محاولة لتقييد المعارضة السياسية في البلاد، يعتبره آخرون حقاً لمنع تشويه سمعة البلاد في الخارج

ولعل أهمية هذا الحكم تنبع من عوامل متشابكة، بينها ما أوردته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في تقرير لها من أن عدد الممنوعين من السفر وصل إلى ٥٠ ألفاً، يأتي على رأسهم قيادات جماعة الإخوان المسلمين وعدد من قيادات حركة كفاية، إضافة إلى المتهمين في قضايا جنائية

وبحسب رئيس محكمة القضاء الإداري في مصر المستشار أحمد الشاذلي، فإن الحكم حدد أحقية وزارة الداخلية في المنع من السفر في حالات محددة، مثل أن يكون الشخص مطلوباً في قضية أو صدر ضده حكم قضائي أو يكون قد تهرب من سداد أموال. واستبعد أن تكون الأفكار السياسية سبباً لمنع بعض الأشخاص من السفر، لأن المنع من السفر لابد أن يكون بحكم قضائي، وهو من حق النائب العام والمخابرات العامة، وأخيراً وزارة الداخلية في الحالات المذكورة

غير أن أحقية وزير الداخلية في إصدار قرار المنع من السفر تلقفتها قوى المعارضة السياسية بعين الاعتبار، لقولها إن استخدام أجهزة الأمن هذا الحق لا يكون إلا معها، وحسبما يقول القيادي الإخواني الدكتور جمال حشمت، أحد أشهر نماذج الممنوعين من السفر، إن الداخلية لا تستخدم - وربما لا تنفذ- قرار المنع مع المتورطين في جرائم نهب البنوك، لكنها تستخدمه مع السياسيين والقيادات

إلا أن اللواء فؤاد علام مدير جهاز مباحث أمن الدولة سابقاً يقول إن وزارة الداخلية هي صاحبة النصيب الأكبر من باقي السلطات القضائية في المشاركة في قرارات المنع من السفر، باعتبارها هي التي تحدد الخطر علي أمن الدولة. ويضيف قائلاً: "هذا إجراء متبع في كل بلاد العالم، حيث إن وزارة الداخلية هي الجهة المنوط بها إدراج أسماء من يسيئون للبلاد والخطرين علي الأمن العام ويهددون الأمن في الخارج"

غير أن فكرة حق وزارة الداخلية في المنع من السفر مخالفة للمواثيق الدولية والدستور المصري، لأن المنع من السفر من إجراءات التحقيق، ولا يجوز أن يمنع أحدٌ من السفر إلا بإذن السلطات القضائية وذلك بنص الدستور، حتى في ظل قانون الطوارئ، يجب أن يمنح هذا الحق إلى السلطة القضائية

أما الواقع فإنه يؤكد استعمال أجهزة الأمن هذا الحق بالمخالفة للقوانين، لأن وزارة الداخلية سلطة تنفيذية وليس لها الحق في أن تقول: هذا يُمنع.. وهذا يسافر

إن الناظر إلى بعض القضايا المرفوعة أمام محكمة القضاء الإداري يجد أمرين أساسيين بميزانها: أولاً التفاوت الكبير في تسبب الجهات التي يختصمها المواطنون المصريون المتضررون من قرارات منعهم من السفر أو قرارات وضعهم علي قوائم الترقب.. نجد أن وزير الداخلية يتصدر قائمة المختصمين بنسبة ٦٨% من إجمالي الدعاوى، ويليه النائب العام بنسبة ٦٢% ثم مدير مصلحة الجوازات والهجرة بنسبة ٢٥%، في حين تساوى كل من وزير العدل ومدير وحدة تنفيذ الأحكام ومدير المخابرات الحربية في حصول كل منهم على نسبة أقل من ٧% من إجمالي عدد الدعاوى

وربما كان مستغرباً أن مجلس الشعب المصري عجز حتى كتابة هذه السطور عن صياغة مشروع قانون ينظم مسألة المنع من السفر، بحيث تنص بنوده على أن يكون هناك نص صريح بعدم منع أي مواطن من السفر إلا في واحدةٍ من حالتين: الأولى أن تتطلبه ضرورة التحقيق، بحيث يستخدم المنع من مغادرة البلاد كبديل للحبس الاحتياطي، على أن يكفل للمواطن جميع الحقوق المقررة له في حالة الحبس الاحتياطي، مثل أن يكون قرار المنع سبباً، وأن يصدر من النائب العام وحده، وأن تكون الواقعة محل التحقيق جناية، وأن تتوافر دلائل جدية وكافية على الخشية من هروب المتهم وتعطل التحقيقات، وأن يكون محدداً بمدة زمنية معينة، وأن تكون هناك رقابة قضائية في حالة تجاوز المنع الفترة القانونية المحددة

والحالة الثانية هي سحب الحق في المنع من السفر من أيدي السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الداخلية، مع الاحتفاظ بحق الوزارة في اللجوء للقضاء في حالة وجود ضرورة تقتضي المنع من السفر أو الوضع على قوائم الترقب

ومع أن رئيس مجلس الشورى المصري صفوت الشريف قال إن الحكومة لديها مشروع قانون يضع ضوابط جديدة للمنع من السفر، تمت مناقشته داخل الحزب الوطني، مشيراً إلى أن الحكومة ستتقدم به قريباً إلى البرلمان ("المصري اليوم"، عدد 20 فبراير شباط 2008) فإن الوضع استمر على ما هو عليه بعد هذه التصريحات

من جهة ثانية، فإنه من الضرورة بمكان اعتبار القضايا المتعلقة بالمنع من السفر أو الوضع على قوائم ترقب الوصول قضايا مستعجلة، نظراً لوجود فجوة بين أعداد القضاة وأعداد القضايا التي ينظر فيها، بحيث لا تتعطل مصالح المواطنين، ما قد يؤدي إلى انتفاء السبب في سفرهم، وكذلك ضرورة توحيد وتحديد الجهة التي يتعين على المواطنين اللجوء إليها للتظلم من هذا القرار، حيث ينص القانون على أحقية محكمة القضاء الإداري في الفصل في صحة الأسباب التي يرتكن إليها النائب العام وباقي الجهات القضائية في إصداره لقرارات المنع من السفر


والشاهد أن معظم الهاربين - أو المتهربين من قرارات منع السفر- سافروا أو هربوا إلى خارج مصر عن طريق الموانيء والمطارات بحيلٍ مختلفة، بل إن بعضهم توقف في طريق المغادرة في استراحة كبار الزوار، لصدور قرار المنع من السفر بعد سفرهم مباشرة، أو لاستخدامهم الجنسية المزدوجة وجواز السفر الأجنبي


ومن أشهر الهاربين عضو مجلس الشورى ممدوح إسماعيل، مالك عبارة "السلام 98" التي غرقت في البحر الأحمر في 3 فبراير شباط ألفين وستة وأودت بحياة أكثر من ألف شخص. وعلى الرغم من الملاحقة القضائية فإن ممدوح إسماعيل هرب مع نجله عمرو ليستقرا في بريطانيا، بعيداً عن طائلة القانون المصري الذي حكم في 27 يوليو تموز 2008 بتبرئتهما من التهم الموجهة إليهما


وربما كان أقدم الهاربين هو رجل الأعمال توفيق عبد الحي الذي فر في 18 فبراير شباط 1982 إثر الإعلان عن ضبط صفقة استيراد دواجن فاسدة (1426 طناً) كانت على وشك التوزيع على منافذ البيع، بجانب قضايا مالية أخرى، بعد أن حصل على ما لا يقل عن 15 مليون دولار من ثلاثة بنوك كبرى بلا أي ضمانات أو مستندات. وعندما استدعته النيابة اكتشفت أنه استغل رئاسته لبعثة إحدى الألعاب الرياضية في التسلل إلى الخارج، وبمعنى أصح فقد هرب بقرار وزاري صدر قبل قرار الإدراج على قوائم المنع بيومين فقط. فقد صدر قرار منع توفيق عبد الحي من السفر في 20 فبراير شباط 1982. وسرعان ما كبرت كرة الثلج لتصبح الاتهامات أكبر وأخطر بعد شهر من سفره، أي في مارس آذار من ذلك العام

وفور علمه بقرار إدراج اسمه استقر في اليونان، لعدم وجود اتفاقية بين القاهرة وأثينا تقضي بتبادل تسليم المتهمين الهاربين. وللمفارقة، فإن زوجة توفيق عبد الحي غادرت مصر في مارس 1982، ليصدر قرار منعها من مغادرة البلاد بعد سفرها بيومٍ واحد


وتوفيق عبد الحي، عضو الاتحاد الاشتراكي وقيادي التنظيم الطليعي وعضو الحزب الوطني، وأحد المقربين إلى "المعلم" عثمان أحمد عثمان صهر الرئيس الراحل أنور السادات، هو ابن جيل السبعينيات و"فتى التنمية الشعبية المدلل". وإذا كانت محكمة أمن الدولة العليا قد برأته في 28 إبريل نيسان 1994، فإنه ظل متخوفاً من العودة إلى مصر، خصوصاً أنه ما زال موضوعاً على قوائم الممنوعين من السفر إلى الخارج، بقرارٍ سابق من المدعي العام الاشتراكي
وإذا كان توفيق عبد الحي قد توقف لعب دور التاجر في مصر، فقد ارتدى أخيراً ثوب المفكر، ليُصدِرَ في مطلع العام 2007 كتاب "الإصلاح في مصر.. قضايا للنقاش والرأي" الذي يتحدث فيه عن نفسه وإنجازاته ويقدم رؤيه للإصلاح الاقتصادي. وفي حديثه مع "المصري اليوم" بتاريخ 29 أكتوبر تشرين أول 2006، قال توفيق عبد الحي إن "الرئيس السادات أصدر قراراً بمنح "إيريك" قرضاً من بنك التسليف الزراعي وقعَ عليه نائب الرئيس ورئيس لجنة السياسات في الحزب الوطني حينئذ حسني مبارك وبفائدة ٣% فقط بغرض إنشاء منافذ توزيع، وكنت باعمل كل حاجة بدعم من السادات وعثمان"
يبقى القول إن توفيق عبد الحي نزل بقوة في مجال الاستثمار العقاري في إمارة دبي مع ولديه محمد وتامر، وفي عام ألفين وستة تجاوز حجم استثماراته في الإمارة مليار درهم، إضافة إلى أعماله في اليونان وبلجيكا ووروسيا البيضاء
وعلى القائمة نفسها يبرز اسم سيدة الأعمال هدى عبد المنعم والتي أطلق عليها وصف "المرأة الحديدية" بعد أن اتُهِمَت في القضية التي تحمل رقم 3565 لسنة 1984 وصدر حكم بحبسها ثلاث سنواتٍ مع الشغل لإصدارها شيكاً بدون رصيد بقيمة 50 مليون جنيه. وكانت هدى عبد المنعم التي شغلت منصب رئيس مجلس إدارة الشركة الدولية للإنشاء وهيدكو مصر، قد حصلت على تسهيلاتٍ ائتمانية بموجب أوراق مزورة، وأكد تقرير الرقابة الإدارية وقتها أن هدى حصلت على العديد من التسهيلات من بنوكٍ عدة من دون ضمانات، وأخرى بضمانات مزورة من بنك القاهرة والبنك العربي الإفريقي، وبنك قناة السويس، وأيضا البنك التجاري الدولي
وبالرغم من إدراج اسمها في قائمة الممنوعين من السفر فإن هدى عبد المنعم تمكنت من الفرار باستخدام حيلةٍ ذكية، وبمعاونة أيادٍ خفية. فقد دخلت صالة السفر وهي ترتدي حجاباً وتضع مكياجاً متقناً لتقترب من ملامح ابنتها الكبرى التي كانت تحمل جواز سفرها

سيناريو الهروب كما تخيله رجال الأمن بعد ذلك، تضمن قيام معاونها الذي سهلَ لها السفر بتسليم جواز سفرها وختمه من دون أن يرى الضابط صاحبة جواز السفر، لتتمكن "المرأة الحديدية" من الهروب بجواز سفر الابنة إلى اليونان، التي تمتلك فيها حالياً شركة باسم "جولدن جلف" للشحن البحري ومقرها. وهذه الشركة ليست لها مراكب، ومكتبها عبارة عن غرفة صغيرة في إحدى البنايات، وتم تسجيلها في بنما وتحصل على إعفاءات ضريبية وتمنح الإقامة للجنسيات الأجنبية، وهو ما تستغله هدى عبدالمنعم، حيث تقوم بالمتاجرة والسمسرة في العمالة الآسيوية

ثم توالت عمليات الهروب، والتي شملت عادل مبارك فهمي صاحب شركة "دوارف" وقد هرب إلى لندن ومعه 375 مليون جنيه بعد أن نصب على خمسة بنوك، ومحمود وهبة الذي استولى على 300 مليون جنيه من بنكي الأهلي وأمريكا اكسبريس، وهاني يعقوب شقيق الجراح العالمي مجدي يعقوب والذي هرب بـ 200 مليون جنيه، ومبارك حلمي 500 مليون، وحاتم الهواري بـ 700 مليون ومحمد الجارحي بـ700 مليون ومنى الشافعي 43 مليوناً... إلخ

وكاد رجل الأعمال فوزي السيد أن ينجح في الهروب عن طريق أحد العاملين الذي ختم جواز سفره وطلب من أمين الشرطة عدم عرض الورقة الخاصة ببيانات رجل الأعمال في الكمبيوتر، ما جعل رجل الأمن يرتاب فيه ويعرض الأمر على ضباط المباحث الجنائية، الذين وضعوا الاسم على الكمبيوتر فتبين أنه مدرجٌ على قوائم المنع من السفر، فأحضروه من الطائرة التي كانت تستعد للإقلاع

الطريف أنه في الانتخابات العامة التي أجريت في نوفمبر تشرين ثان عام 2005، أصدر المهندس فوزي السيد المرشح المستقل علي مقعد الفئات عن إحدى دوائر مدينة نصر كتاباً شاملاً يحكي قصة حياته بالكامل والسنوات الثلاث التي قضاها خلف القضبان حتي حصل على البراءة

أما علية العيوطي، العضو المنتدب السابق لبنك النيل والتي تمتلك عائلتها ما يزيد على 50 بالمئة من أسهم البنك، فقد غادرت مصر في يوليو تموز 1999 بطريقةٍ رسمية ما زالت تثير علامات الاستفهام . إذ فوجيء ضابط الجوازات عند وضع البيانات الخاصة بها داخل الكمبيوتر بأنها مطلوبة واسمها مدرج على القوائم بناء على قرارٍ من النائب العام المستشار رجاء العربي. وقبل أن يتكلم ابتسمت له علية قائلةً: معي قرار من النائب العام المستشار رجاء العربي بالسماح لي بالسفر لمرة واحدة بقصد العلاج في باريس". كان ذلك قبل أن يصدر ضدها حكم بالسجن لمدة عشر سنوات في 13 يوليو تموز 2002، في أكبر فضيحة فسادٍ مصرفي، وعرفت بقضية نواب القروض، التي تورط فيها عدد كبير من نواب مجلس الشعب ورجال أعمال ووزير سياحة
وهذه القضية ترجع وقائعها إلى عام 1995، عندما تقدم عيسى العيوطي رئيس بنك النيل ووالد علية بشكوى ضدها زعم فيها أنها سهلت لزوجها رجل الأعمال وعضو مجلس الشعب محمود عزام، الحصول على قروض من البنك دون ضمانات، وصلت إلى 119 مليون جنيه
وبالطبع كانت رحلة واحدة إلى فرنسا تكفي علية، لأنها لم تعد منذ ذلك الحين، فعلاجها الوحيد كان حكم البراءة أو إسقاط الحكم الصادر ضدها، وهو ما لم يحدث

وبقيت علامات استفهامٍ وشبهات تحيط بقرار النائب العام السابق الذي منح علية العيوطي إذناً بالسفر قبل أيامٍ من إحالته إلى التقاعد

السلطات الفرنسية ردت على طلب الحكومة المصرية برفض تسليم علية، لأن الاتهامات الموجهة إليها ليست موجودة في القانون الفرنسي، كما أن فرنسا لم تضمن محاكمة عادلة لها في مصر

إلا أن هناك من هربوا مرتين، ونجحوا في الإفلات من قبضة الأمن وعينه الساهرة..بقدرةِ قادر
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator