المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

فوق حرير سحابة




لا نملكُ وقتاً فائضاً
فالرصاصةُ التي انطلقت نحو أعمارنا، توشكُ أن تصيبَ الهدف
لا نملكُ ترفَ إهدارِ الدقائق فوق جسرِ الحسرةِ على ماضٍ حافلٍ بالتمرد والعصيان
كل ما نملكُه الآن هو صدرٌ مليء بالأوسمةِ والجروح، وجسدٌ مطرزٌ بشظايا حروبٍ عبثيةٍ لا اسم لها
ليس لدينا سوى اليوم للحياة
فليكُن
لكنني على الأقل أعرفُ ملامحَ الوجوهِ المثقوبةِ بالأسى، وأحفظُ مواعيدَ صافرات القطاراتِ المحملة بالبضائع، وأرددُ أسماءَ القرى التي هربَ منها البؤس
لم أتلفع يوماً بطمأنينة الوهم، بل طحنتُ قمحَ الغربة، لأصنعَ خبز الذاكرة
لم أتصبب عرقاً.. فقط تصببتُ وطناً
لم يفترسني القادة والحكماء واللصوص..لأني ببساطةٍ لم أقدم نفسي لهم وجبةً ساخنة على طبق موشى بالتوابل
لم يفزعني الموت، ففي الحياة أمورٌ أشدُ رعباً وإيلاماً من الموت
وعندما كنتُ قارئاً فقط، كنتُ أؤمنُ بأن فعلَ القراءة يعني أنك تتركُ آخرين يجهدون من أجلك. إنه الشكلُ الأكثر لطفاً في درجاتِ الاستغلال. واليوم أؤمنُ بأن القارىء الجيد لا يقل أهمية عن الكاتب الجيد
فالقراءةُ الجادة هي الأرضُ التي تسطعُ حين تتلقفُ بذورَ المعرفة

إنها بوصلةٌ إلى فهم الذات، قبل أن تكونَ قنديلاً يهدي إلى فهم الآخر
والكتابة الواعية تحرضُ السيفَ على الزيف، والمطرقةَ على المنجل، والعاملَ البسيط على أحزانِه المعفاةِ من الضرائب
إنها الكتابة التي تبقى وتقاومُ صدأ الوقت لأنها تحترمُ العقول، لا تلك التي نستهلكها مثلَ مناديلَ ورقية، نُلقي بها فور استخدامها في سلة المهملات
وكاتبُ هذه السطور فتحَ حقائب التاريخ، حتى نفهم الحاضر، فدوائرُ الزمن حين تكتملُ تتشابه كأنها توائم سيامية
وتاريخُنا غبارٌ يعلو تمثالاً ذهبياً. وحين تنسى الاعتناء بالتمثال البراق يتغيرُ لونه يوماً بعد يوم حتى يصبحَ لونُه بلونِ الغبار
كتبتُ من مدنٍ لقنتني دروساً في الوحدة والاغتراب، وأصرت على أن تجعلَ من أفكاري ومشاعري كُرَّتها المفضلة للعب
تُهتُ وتوغلتُ في تيه مدنٍ تصنع لوحةً عبقريةً من التناقضات الفظة، حتى نَبَتَت أوردَتي في رُطوبةِ المنافي، وصرتُ أخشى السفر المليء بالصدماتِ والرضوض
لكنني أدركتُ مبكراً أنه كلما كتبنا بحروف الوعي، كلما أصبحت الأحلامُ أغنى، وكلما نقشنا جوهرةَ المعنى، كلما أصبح العالمُ أرحب وأغنى بالتفاصيل وأكثر اكتمالاً
والكتابة طرقاتٌ واثقةٌ على بابِ الحرية، وليست لصاً يهرب من باب الطوارىء، أو سهماً في سوق مالية خاسرة، أو صك إذعانٍ لسياسة الأبواب المواربة
وفي الكتابة يتدفقُ كل ما عرَفته سلالاتُ الرغبةِ من حنين حارق
ربما لهذا السبب فقط لا أودُ أن أموتَ دون أن أنهي ما أقرؤه، ولا أريدُ أن أترك خلفي صفحاتٍ بيضاء لم تتحول بعد إلى حقولٍ خضراء
كنتُ أتساءلُ دائماً: لماذا يلوذُ الكُتابُ بالصمتِ، حتى تستأسدَ الرداءة، وتسودَ التفاهة؟
لماذا نمنحُ عقولَنا لكلماتٍ مستهلكة وأفكارٍ متهالكة تخطُها أقلامُ ترتبكُ ارتباكَ أوراقِ الشجر حين يداهمُها الخريف؟
لماذا يبتكرُ الحمقى صوراً جديدة لحياةٍ زائفة، ثم يُصدقون الأكاذيبَ كالبلهاء؟
لماذا يتحلقُ العامةُ حول الذين يتعثرون في كلماتهم، ويعزفون لحن النشاز، لتلتهبَ الأكفُ بالتصفيقِ الحاد لهذه السيمفونية المعجزة / العاجزة؟
يبدو أن البعضَ تربى على الزعيق، والبعض الآخر على موتِ الصواب
وإذا كان التهافتُ وباءُ عصورِ الانحدار، فإن الأصواتَ الصادقة تنادي على الباحث عن الحق والحقيقة: فقط تلزمكَ قراءة متأنية لتشاهدَ نفسكَ من الداخل
إننا نكتبُ في مواجهةِ سلطةٍ تمارسُ علينا وصاية وتنصحُنا أن نُخرجَ أرواحنا لنزهةٍ في مواقيت مرسومة سلفاً، كمَن يُخرج كلباً، شريطة أن لا نسمح لها بأن تخربشَ الأفقَ بالنباح
ونحن نكتبُ في وجه أجهزة الأمن المسيلة للدموع، والسُلطة التي تريدُ أن تتحكمَ في الأرصادِ الجوية، وتلعبُ دورَ المُوِّجه حتى للطيور والغيوم، وتصادرُ الطائراتِ الورقية تحت ذريعة الأمنِ القومي
إنما نكتبُ لنوقظَ من السُباتِ من يكتفون باغتيابِ الحكام الطغاة في المقاهي ليلاً، والخضوع لرجالهم صباحاً
لقد قررتُ منذ زمن أن أقبضَ على كتفِ الوقتِ، حتى لا يعبثَ الآخرون بأحلامي المعاندة. وسعيتُ إلى تحريضِ الإسفلت حتى يتمردَ على قدره الأعمى لدقيقةٍ واحدةٍ كي يلهو مع الأطفال
لقنتُ أصدقائي كلمات جلال الدين الرومي "ابْدُ كما أنتَ، أو كُنْ كما تبدو"، وقرأتُ عليهم حكمة الحلاج "منْ لمْ يقف على إشاراتنا لمْ تُرشدْهُ عباراتُنا"، وعندما سألوني عن حكمتي الخاصة أجبتُ: نحن نتقنُ الفتكَ بروعتنا، لنتحسرَ عليها
وهكذا كتبتُ عن الأصدقاء الموشومين بغيابهم الأبدي
واحتفيتُ بالمرأة حين تكتبُ ولا تكتمُ، تبوحُ ولا تنوح
وبحثتُ عن الأماكن القصيةِ في الروح، وكشفتُ الأسرارَ الساذجة والأخطاء التي لا يمكن تداركُها، وفتحتُ الأبوابَ الموصدة دون أن يزعجني صريرُها المزعج
وتكلمتُ عن وطني: شوارعُه الطويلة التي تتوقُ إلى الغناء، شرفاتُ مقاهيه المقنطرة، أشجارُ تينِه المثقلة بالعصافير، سكانّه الذين يتآلفون مع الحزن كأنه أحدثُ نكتة
إن شعوبنا اليوم أرملة تجهدُ نفسها في سد ثقبٍ في إحدى النوافذ، وهي تحاولُ عبثاً إقناع نفسها وصغارها بأن العواءَ مصدرُه الريحُ وليس الذئاب
والمواطنُ أصبح لاعب شطرنج، يلعنُ تخاذلَ الوزير في حمايةِ الملك ويسخرُ من هشاشة البيادق، وهو نفسه جنديٌ مثقلٌ بذخيرةٍ فاسدة، تعصفُ به أولُ حركةٍ على رقعة يتناوبُ فيها الأبيض مع الأسود
وبعد
الطرقُ الواسعةُ إلى ما نريد، تَبدو مِن بعيد ممهدة، لكنها مِن قريبٍ مخيفة كأنها نارٌ تنامُ في حضن الريح

سلاحُنا الوحيد، مشروعٌ جليٌ للكتابة..فالكاتبُ بلا مشروع مثل عدَّاءٍ يبحث عن خط النهاية
ووسيلتُنا الأهم، صباحٌ جديد من الشغف، وحريرُ سحابةٍ نسيرُ فوقها بامتنان
ومع التكريم، أقولُ: شكراً.. أنا مدينٌ لكم جميعاً
تتصادمُ الأجراسُ في قلبي المنمق كباحةِ كنيسة، وأنا الذي يُقالُ إنني أبدو أصغر من سنّي، ربما لأنني لم أملك متّسعاً من الوقت كي أشيخ
الآن، بعضُ فُلِ أمي يضحكُ
وعيناي، مَنجمُ روحي، تختاران لي بحريةٍ أكبر ما أريدُ أن أراه
وحين يسألُني أحدُهم عمن أهديه الفوزَ، أقولُ من دون تردد: بلادي.. حقيقتنا الساحرة

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (11): راسبوتين من بولاق




كان أحمد حسنين باشا شخصية مثيرة للجدل، من المهد إلى اللحد
فهو ابن شيخ أزهري، وخريج أكسفورد
وهو ابن حي بولاق، الذي ذاق طعم القصور ودسائس أصحابها
قاد ولي العهد الذي أصبح ملكاً، مثلما قاد الملكة التي أصبحت عاشقة: راسبوتين مصري بامتياز

إنه المفتشُ بوزارة الداخلية إبان الحرب العالمية الأولى، والسكرتير بسفارة مصر في واشنطن، والأمين الثاني للملك فؤاد، الذي انتُدِبَ رائداً للأمير فاروق ولي العهد وأمير الصعيد، قبل أن يصبح الأمين الأول للملك، ثم رئيس الديوان الملكي اعتباراً من العام 1940

الرجل الذي أقام الوزارات وأسقطها، كان يرتدي مسوح البراءة حين يُسأل عن السياسة وكواليسها، زاعماً أنه لا يفقه في السياسة



إلا أنه كان يدير أمور البلاد بنفس مهارتِه كبطل مصر في الشيش، وينجو من أزمات الحكم بالطريقة نفسها التي نجا بها من الموت مرتين لدى محاولته قيادة طائرته الخاصة بمفرده من أوروبا إلى مصر، ويستكشف مواقف زعماء الأحزاب والسفراء القناصل، بأسلوبٍ يماثل واحتي العوينات وجبل أركنو في جوف الصحراء

وأحمد محمد مخلوف حسنين البولاقي –وهذا هو اسمه بالكامل- شخصية مصرية دخلت التاريخ من أبوابٍ عدة: باب الدبلوماسية، فقد كان الشخصية الثانية في الهيئة الدبلوماسية المصرية الأولى في واشنطن عام ‏1923،‏ وباب السياسة التي برز فيها بعد أن أصبح رئيساً للديوان الملكي عام ‏1940‏ وإلى أن لقي مصرعه في حادث سيارة غامض بعد ست سنوات من ذلك التاريخ

ولد أحمد حسنين‏ في 31 أكتوبر تشرين أول ‏1889‏ في بولاق ابناً لمحمد حسنين أحد مشايخ الأزهر‏،‏ وهو حفيد أحمد باشا مظهر حسنين آخر قادة البحرية المصرية. تلقى تعليمه أولاً في المدارس المصرية وبعد أن قضى عاماً في مدرسة الحقوق الخديوية قصد إنجلترا لإتمام تعليمه في أكسفورد - بعد أن ألحقه اللورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني بالجامعة- ليعود منها عام 1914‏ عشية قيام الحرب العالمية الأولى‏. وفي أثناء الحرب، تطوع حسنين في الجيش البريطاني - حيث ارتدى زي الضباط البريطانيين- ثم عُينَ سكرتيراً خاصاً للجنرال مكسويل قائد القوات البريطانية في مصر، إلى أن ترك هذا البلاد فنُقِل حسنين إلى وزارة الداخلية ليعمل تحت إمرة هورينلور كبير المفتشين الإنجليز بالوزارة‏ والمشرف على الأمن العام آنذاك

وتقول الوثائق السرية البريطانية إنه بحكم وظيفته تلك اصطحب عام‏ 1919‏ القوات العسكرية التي ذهبت إلى الصعيد لإخماد الثورة‏ والحركة الشعبية هناك،‏ واختير في العام التالي رئيساً للبعثة الرياضية المصرية في أولمبياد أنتويرب في بلجيكا‏،‏ فقد كان أحد أبطال لعبة الشيش‏،‏ ومنذئذ وحتى آخر نفس في حياته ظل مشمولاً برعاية الجالس على العرش‏،‏ سواء كان فؤاد الأول أو ابنه فاروق‏،‏ ما يمكن القول معه إن كان من أكثر الشخصيات تأثيراً في سياسات القصر
ومنذ البداية كان واضحاً أن نشأة الرجل حافلة بالمتناقضات‏..‏ الجد العسكري والأب الأزهري‏، التعلم في بولاق والتعلم في أكسفورد‏،‏ زاد منها ما نسج حول شخصه من أساطير بعد أن قام خلال الفترة الواقعة بين عامي ‏1921‏ و‏1923‏ برحلتين استكشافيتين في الصحراء الغربية‏، وكان عملاً فريداً بمقاييس العصر بالنسبة للأوروبيين ناهيك عن المصريين‏،‏ الأمر الذي استحق أن تُعنى به وسائل الإعلام المصرية والأجنبية. واحتفت الدولة بحسنين عندما أقامت له حفلاً كبيراً في دار الأوبرا مساء يوم الاثنين ‏19‏ نوفمبر تشرين ثانٍ 1923 حضره الملك فؤاد بنفسه‏،‏ وبعد أن ألقى أحمد حسنين محاضرةً طويلة عن رحلته دعمها بصور، أنعم عليه الملك بلقب البكوية

وانهالت على الرجل بعد ذلك الدعوات من الجمعيات العلمية في أوروبا وأمريكا فضلاً عن كبريات الصحف التي سعت إلى استكتابه‏،‏ وكان منها جريدة "تايمز" التي نشرت له في ‏3‏ يناير كانون ثانٍ ‏1924‏ مقالأ مطولاً وضعته تحت عنوان "في صحراء مجهولة‏..قطع ‏2200‏ ميل على ظهور الجمال..رحلة مملوءة بالمخاطر". كما نشرت مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" في عددها الصادر في سبتمبر أيلول 1924 أبرز نتائج رحلته المهمة في الصحراء، مصحوبة بخارطةٍ تفصيلية و47 صورة


وعن هذا الإنجاز، نال أحمد حسنين عام 1924 ميدالية ذهبية من الجمعية الملكية البريطانية، وهي أرفع وسام تمنحه الجمعية لمستكشفين، وقد نالها أشخاصٌ من عينة ديفيد ليفنغستون وغرترود بل وريتشارد بيرتون. وربما يسترعي الانتباه أن حسنين هو الشخص الوحيد غير الأوروبي الذي ينال تلك الميدالية منذ توزيعها عام 1831 وصولاً إلى يومنا هذا
وحاول أحد الأمريكيين استثمار رحلة حسنين بك إلى الولايات المتحدة، فاقترح عليه أن يدفع له عشرين ألف جنيه إذا وافق على أن يطوف في أنحاء البلاد ليلقي محاضرات في المسارح عما شاهده، على أن يرتدي زي شيخ بدوي، لكنه رفض قبول ذلك لأن مركزه يمنعه من الارتزاق بهذه الطريقة

وآثر الرجل أن ينصرف إلى تأليفٍ كتاب علمي حول رحلته‏،‏ وقد استعان في ذلك بمذكراته خلالها‏،‏ وبالصور التي التقطها والتي زادت عن التسعمئة‏،‏ وهو الكتاب الذي صدر بالفعل في العام 1925 بالعربية تحت عنوان "في صحراء ليبيا"‏،‏ وبالإنجليزية تحت عنوان ‏The Lost Oasis ،‏ وكان أحد الأبواب التي دخل منها حسنين التاريخ

والشاهد أن شخصية أحمد حسنين تعد من أكثر الشخصيات تأثيراً في الحياة السياسية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين


ومع ذلك، فإن محمد التابعي يقول في كتابه "من أسرار الساسة والسياسة: أحمد حسنين باشا: حياته الخاصة والعامة" الذي طبع عام 1959 وأعادت دار الشروق طبعه عام 2008، إن أحمد حسنين كان "يحب أن يعتقد الناس فيه الغباء بل "الهبل"! وأنه رجلٌ لا يُخشى شره! أو طرطور! أو ساعي بريد ينقل إليهم "الأوامر السامية" من جلالة الملك..أو "يرفع" آراءهم ونصائحهم إلى "السدة العلية الكريمة"..ومن غير أن يكون له هو رأي أو مشورة في الموضوع
"وصدقه بعضهم في أول الأمر. ثم اكتشفوا الحقيقة وعرفوه..وكرهوه!


"وآخرون عرفوا الحقيقة عندما عرفوه..فأحبوه! وغير هؤلاء وهؤلاء فريق من الساسة الذين "كشفهم" حسنين باشا أمام فاروق. وكشف عن ألاعيبهم ومناوراتهم وأطماعهم وأكاذيبهم"
لكن الأهم هو أن أحمد حسنين" لم يكن بطلاً..ولم يكن خائناً لبلاده..وإنما كان رجلاً ذا مطامع واسعة كثيراً ما أفلح في إخفائها وراء قناع من الزهد في المناصب..والجهل بالسياسة وأسرارها" (ص 27-28)

يقول صديقه حفني محمود إنه شاهد أحمد حسنين باشا وهو يقرأ كتاب "الأمير" لمؤلفه الفلورنسي نيقولا ميكيافيللي، الذي تعلم منه أحمد حسنين مبدأه الأهم: الغاية تبرر الوسيلة


كان الشاب النحيل القامة الوسيم الطلعة الأنيق الملبس، ساحراً في حديثه مع النساء. وقد استطاع أن يفتن ويخلب لب الفتاة لطفية ابنة الأميرة شويكار مطلقة الملك أحمد فؤاد. تزوج أحمد حسنين من لطفية – كريمة الوزير المفوض سيف الله يسري باشا- في عام 1926 وأصبح من أصهار الأسرة المالكة، وزوجاً لأخت الأميرة فوقية كريمة الملك فؤاد
وهكذا خطا حسنين خطوة مهمة على طريق السلطة والنفوذ



يقول حسنين للكاتب الصحفي محمد التابعي: "إن لطفية كريمة رقيقة حنون تستحق كل حب، وهي أم مثالية. ولقد أحببتها بعد الزواج كما لم أحب امرأةً أخرى" (ص 33)


أنجب حسنين من لطفية - التي كانت تصغره بستة عشر عاماً- ولدين هما هشام الذي أصبح ضابطاً بالجيش والثاني طارق الذي عمل بالتجارة، كما أنجب بنتين هما جيدة ونازلي


وفي كل خطواته كان أحمد حسنين يجري خلف طموحه، وكان يدرك أن ذلك يتطلب ما هو أكثر من مجرد قوام ممشوق ووجه وسيم وبنيان أنيق


وجاءت اللحظة الفارقة في حياة أحمد حسنين حين اختاره الملك أحمد فؤاد ليرافق – إلى جانب عزيز باشا المصري- ولي العهد فاروق في رحلة طلب العلم في إنجلترا

فقد أراد الملك أحمد فؤاد أن يلتحق ولي العهد بمدرسة ساند هيرست العسكرية التي يؤمها عادةً أبناء الأسر المالكة والعائلات الكبيرة في إنجلترا وخارجها. وفي البداية اتجه الرأي إلى اختيار حسنين "بك" آنذاك ولكن سرعان ما عدل عن اختياره حينما اعتذر حسنين بأن عليه التزاماتٍ مالية كبيرة لا بد له من الوفاء بها قبل سفره. ووقع اختيار الملك على عزيز المصري لما كان يعرفه عن نشأته العسكرية في معاهد تركيا وألمانيا، ولكن هذا الاختيار لم يلق قبولاً طيباً لدى الإنجليز الذين كانوا يعرضون منذ البداية ترشيح شخصية انجليزية وهو ما لم يوافق عليه الملك

ولتهدئة مخاوف الإنجليز، استقر الرأي على انتقاء شخصٍ يكون مقبولاً لديهم ليكون إلى جانب عزيز المصري. وهكذا عادت دائرة التفكير لتشير إلى أحمد حسنين، وطلب الملك من كبير الأمناء سعيد ذو الفقار باشا أن يدبر وسيلة مع أحد المصارف لتسوية ديون حسنين


وهنا يورد د. حسين حسني السكرتير الخاص للملك فاروق في كتابه "سنوات مع الملك فاروق..شهادة للحقيقة والتاريخ" (دار الشروق، القاهرة، 2001) معلومة على قدرٍ كبير من الأهمية، إذ يقول: "وأذكر أني أبديت دهشتي لذلك الطلب، مع أنه كان من الميسور بل من المنتظر أن يأمر الملك بأن تقوم الخاصة الملكية بالتسوية المطلوبة، فأجابني (ذو الفقار باشا): بأنه سبق للملك أن سدد ديون حسنين "بك" مرتين من قبل على شرط ألا يعود إلى ذلك مرة أخرى، ولهذا فإن الملك في هذه المرة أراد أن يلقنه درساً. على كل حال فقد نجح كبير الأمناء في ترتيب التسوية عن طريق بنك مصر على أساس توحيد الديون لديه بأن يتولى تسديدها عن حسنين "بك" ويستردها منه على أقساطٍ محددة في فترة معينة مع التأمين على حياته لطول تلك المدة، ولما كانت الأقساط تستنفد كل مرتبه تقريباً فقد تم التفاهم مع الحكومة على منحه "بدل تمثيل" بوصفه "رائد ولي العهد" بحيث تغطي قيمته قيمة الاقساط المطالب بها، وبذلك تم تعيين حسنين "بك" رائداً لولي العهد أي رئيساً للحاشية المرافقة للأمير" (ص 74)

وإذا كان الملك أحمد فؤاد قد اختار عزيز باشا المصري مربياً مساعداً ومرشداً عسكرياً لولي العهد، فإن أحمد حسنين نجح في استقطاب فاروق بعيداً عن عزيز المصري، وخاصة أن الأخير شخصية عسكرية صارمة، وفاروق كان في مرحلة المراهقة يحتاج إلى درجةٍ عالية من السماح والمرونة، وقد وجد ذلك في أحمد حسنين الذي قام بدور الأب لفاروق وملأ تلك المنطقة الخالية في نفسه، إذ حالت بروتوكولات الملك والطبيعة الشخصية المضطربة للأب والطريقة الجافة في التربية والرغبة المحمومة في إعداد الوريث دون إحساس فاروق بأبوة الملك فؤاد؛ فكان دائماً في احتياج لأب. وكان أحمد حسنين يتفهم هذا الاحتياج ويقوم به بذكاء شديد، مع الاحتفاظ لفاروق بمكانته الملكية. ويشهد كثيرون بأن حسنين هو الذي ساير فاروق - إن لم يكن أغواه- بارتياد أماكن السهر وزيَّنَ له حياة الليل، وفعل معه ذلك لاحقاً في مصر


ويبدو أن أحمد حسنين قرر أن يحوز ثقة فاروق بأي ثمن، خصوصاً أن والده الملك أحمد فؤاد كان يعاني من مرضه الأخير، ومن هنا أخذ يجاري نزوات ومغامرات ولي العهد المراهق، في حين كان عزيز المصري يسعى إلى إعداد فاروق للاضطلاع بمسؤولياته المقبلة عن طريق إلزامه بالانضباط والدراسة. وكان طبيعياً أن يصطدم الرجلان، ليعود عزيز المصري إلى البلاد تاركاً أحمد حسنين ينفرد بالأمير الشاب ويسيطر عليه. وإذا كان البعض يردد أن علي ماهر أفسد فاروق سياسياً، فإننا نطمئن إلى مقولة أن أحمد حسنين أكمل عليه وأفسده اجتماعياً..فهو الذي مهد له طريق اللهو والعبث وعدم الانضباط بالصورة التي أدت إلى سوء سمعة فاروق وإفساده الحياة السياسية في مصر


ويرى محمد حسنين هيكل الرأي نفسه في كتابه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الجزء الأول: الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية" (دار الشروق، القاهرة، 1996)، إذ يقول: "ولعل الخطأ الذي وقع فيه الملك فؤاد أن اختياره ل"عزيز المصري" كالمرافق الأول لابنه في إنجلترا، صحبه اختياره ل"أحمد محمد حسنين" أحد أمنائه لكي يكون المرافق الثاني لابنه. وكان هناك تناقضٌ شديد بين شخصية وفكر كل من الرجلين
"فأولهما كان يريد للأمير الشاب حياةً جادة صعبة، في حين كان الثاني من أنصار حياة سهلة ورخوة
"والحاصل أن وجود الرجلين في حياة الأمير الصبي أصابه بتناقضٍ عانى منه فيما بعد - وعانت مصر معه- عناءً شديداً" (ص 143)



مكث فاروق في إنجلترا بضعة شهور ليعود اضطرارياً قبل أن يكمل دراسته هناك، بعد وفاة والده الملك أحمد فؤاد في 26 إبريل نيسان 1936

هنا حانت الفرصة أمام أحمد حسنين. لقد كان في قصر كنري هاوس - الذي يقع في ضاحية كنغستون على مقربةٍ من لندن- في معية فاروق يوم الإعلان عن وفاة الملك فؤاد والمناداة بفاروق ملكاً على مصر. عاد حسنين في صحبة فاروق - الملك الشاب نصف الأمي- إلى مصر، وفي رأسه خطةٌ محكمة التفاصيل. كان هذا الداهية يعرف الكثير عن ظروف الملكة نازلي وعذابها وغيرة زوجها الملك فؤاد وتلهفها على الاستمتاع بحياةٍ حرة طليقة



ومن هنا عاد إلى القصر وهو يخطط لترويض هذه النمرة التي عاشت سبعة عشر عاماً في كنف زوجها القاسي الملك أحمد فؤاد، الذي كان يُحرِّم عليها مغادرة القصر ويضربها إذا خالفت أوامره. وبعد وفاته بأسابيع قليلة راحت تبحث عن حقها في الحياة والاستمتاع، فانطلقت بشراهة امرأةٍ محرومةٍ لتحطيم قيودها، ودأبت على السهر وهي لم تخلع بعد ثوب الحداد. تعددت علاقات نازلي في اتجاهاتٍ مختلفة وانفلت عيارها وشاعت أخبار غرامياتها، ما سبب حرجاً شديداً لفاروق، الذي تولى مُلك مصر تحت إشراف مجلس وصاية – يتألف من الأمير محمد علي توفيق، وعزيز عزت باشا، ومحمد شريف صبري باشا خال فاروق- حتى بلغ السن القانونية فأصبح ملكاً بلا مجلس وصاية عام 1937

أما أحمد حسنين فقد لعب معها وتلاعب بها. تركها تشدُه وتصدُه، تُعرضُ وتقبل، تروحُ وتعود..وهو هادىء لا يغضبُ ولا يثور، يمدُ لها في حبال الصبر مثل أي صياد ماهر

ألقى حسنين بالطُعم، وبقي يتفرج على السمكة وهي تحاول الإفلات

وبعد فترةٍ من المقاومة، استسلمت نازلي لصيادها وأسلمت له القياد، وبدأت تطارد أحمد حسنين وتحاسبه على كل خطوةٍ يخطوها وكل امرأة يلتقيها

ولكن، هل كان حسنين يحب نازلي؟

يرد التابعي في كتابه عن أحمد حسنين بالنفي، إذ يقول: "كلا. ولكنه كان حريصاً على استرضاء "ملكة مصر"..وأم ملك مصر..وصاحبة النفوذ الأعلى عند ابنها فاروق فقد كان فاروق يومئذٍ يحب أمه ويحترمها بل ويخشاها ويخشى غضبها ويعمل لها حساباً ولا يخالف لها أمراً..وكان حسنين يعرف هذا كله..ويدرك أن الذي يسيطر على نازلي يستطيع عن طريقها أن يسيطر في نفس الوقت على الملك فاروق" (ص 37)

وكانت الشرارة الأولى بين حسنين ونازلي.. في 6 مايو أيار 1936 : الليلة التي عاد فيها فاروق إلى مصر
تابع القراءة

gravatar

آخر رمية نرد






"الْجَمِيعُ أَدْرَكُوا أَنَّهُم جُزْءٌ مِنَ "التَّارِيخِ" مَا عَدَا المُتَوَفَّى
أَنَا الَّذِي لَمْ أَعْرِفْ بِالضَّبْطِ مَا الَّذِي يَحْدُثُ، حتى وَأَنَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ"
قَصِيدَةُ "المَوْتُ وَالشُّهْرَةُ"، أَلن غِنْسبِرغ (1997)



في ذلك النهار، كان الكونُ بلا ملامح
الشوارعُ التي تشبهُ صحراء مقصية من ذاكرة الأنهار، تهزأُ من الأسى الذي ينتظرُ الأحبة
المدينةُ سَطْحٌ والنهارُ غيبٌ، وواجهاتُ المباني تَحملُ بقعَ رطوبةٍ عالية كأنها جِراحُ ساكنيها
ذراعاه هما المنازلُ الآيلة للسقوط، وعيناه هما الأضواء الشاردة

يطلُ من الشُباكِ فيجدُ رباتِ البيوتِ المنهكَاتِ وهن يتشاجرن مع أزواجهن العابثين، والضابطَ المتقاعدَ وهو يهدمُ في ضِيقٍ عُشَ عصفورٍ نام على شرفته
البعضُ يخشى أن تُعطلَ العصافير نزهةَ الطائراتِ الحربية إلى القصف
الشابُ العاطل يجلسُ على حافةِ السرير الضيِّق، وراحتا يديه مبسوطتان على رُكبتيه، ينكِّسُ رأسُه وهو يُحدِّقُ إلى الأرض
الموتُ الحقيقي يسحقنا..وحده الموتُ المؤجلُ يُبكينا
امرأةٌ في الشرفة المجاورة تسقي أزهارها. ترفعُ ذراعيها لأعلى، يتسربُ الضوء تحت إبطيها، لتولَدَ طاقةُ نور..ويَنبُتَ الأقحوان
المراهقةُ تمسكُ بالرواية العاطفية، تحتسي النسكافيه، وتُبعثرُ ريشَها، ثم تهزُ ركبتيها المقدستين فوق مقعدٍ من خشبِ البامبو وهي ترفلُ في حريرِ الكسل

تتجملُ المدينة التي تعدّدت أسماؤها، حالها حال المدنِ الإلهية التي نتلو صفاتها، وهو منشغلٌ بالزرقة وهي في غُرفِ جنونِها
شمسٌ خفيفة تذوبُ كالسكر في ماء العيون، تربتُ أشعتها على أكتافِ المارةِ الصاخبين

في صفحةٍ داخليةٍ من صحيفتِه اليومية، يقرأ خبراً عن مصرع عددٍ من ركاب زوارق الموت الحالمين بأرضٍ جديدة
أية أوطانٍ تلك التي يدفعُ أبناؤها أعمارَّهم ثمناً للهروب منها




في بريدِه الإلكتروني نقرةٌ خفيفة على بابه: "اشتقتُ إليكَ"
في الأفراحِ والأتراحِ، لا يُمطِرُ سوى البكاء
يحدثُ أحياناً أن يغلبنا الشعورُ بالحزن، حين ننشدُ البهجة
نكونُ محاطين بأجواء أفراح الآخرين فتستدعي الذاكرةُ والمشاعرُ رغبة شديدة في البكاء، أو نعلقُ الحسرة بمشبكٍ على فستان السهرة
الأغاني التي تتطايرُ مثل ضحكة طائشة ليست سوى مفتتح للفرح وسطَ الآخرين .. أو الحزن في أمسياتِ الوحدة
دمعته واحدة وحيدة، فلماذا في يده ألفُ منديل؟
وهو برقٌ يتبعه الرّعد إذ يُقبل.. بطلٌ بلا سيرة، ولغزٌ بلا أسرار
يرفضُ أن يكون مِعصمُه بحجم القيد، ويأبى أن يصبحَ حقيبةً يَسهُلُ تفتيشُها
يضنُ بوقته على موهبتِه الثرّة، وينعمُ بحياتِه اليومية على حساب قريحتِه، ولم تسعفه الأيامُ بإصلاح ما فرّطَ فيه



رجالُ الأمنِ عند مدخل المؤسسةِ العملاقة، حادون مثل شوكِ السمك، لكنهم عميان يحرسون غرفَ الموتى
على بطاقته الممغنطة، تبرز حروفُ المهنة: جلاد
لكن القطيعَ غافله وسارَ وراءه، فألزمه ثوبَ النبوة الذي يخنقُ أيامه

في المكتبِ الذي تسبحُ فيه أضواء النيون الخافتة، تُحذِرُه عيونُهم من أي شيء قد يُفسِدُ تقطيبة الجباه.. إنها من لوازمِ النهار
زملاءُ العمل يثبتون له حقيقة غابت عن ذهنه لوهلةٍ: الإنسانُ خائنٌ منذ بدء الخليقة.. يخونُ الأقربين ويندم، ثم ينصرفُ إلى خيانة الأباعد
استعادَ مشهدَ صلاة الصديق الذي بُتِرت ذراعه في حادث سير..كان يُحرِكُ في صلاته ذراعه اليتيمة، فيما ذراعه الصناعية نائمةٌ على مقعدٍ مجاور، كأنها أرادت ألا تصلي


ينظرُ إلى الأمام، لأن "المتلفت لا يصل"
يسيرُ في الشوارع الممطرة الغارقة للآن بغيمة عطرها وبروق روحه
يتذكرُ: لا تمحو قبلة آثار قبلة أخرى..أحياناً، تثبِّتها أكثر
وهي تنسى: قبلة واحدة تكفي لإعلان حرب
المفارقة أننا نرى عيوبَ من نحبهم منذ البداية، لكننا نتعامى عنها أو نُوهِمُ أنفسنا بالقدرة على تغييرها لاحقاً

الفتاة التي تمنحُه فتحةٌ طويلةٌ في فستانها فرصة لسياحةٍ عابرة في فخذِها الممتلىء.. مترعةٌ بالشهوة ومثقلةٌ بثمار الله. تغطي وجهها نظارةٌ شمسية لإضفاء غموض غير حقيقي على شخصيتها المسطحة
جبهتها العريضة، وشعرُها السائلُ الموشحُ بحباتِ الماء، وحاجباها الخفيفان، وابتسامتُها التي تمنحُكَ خارطة لنهار كامل..تردِدُ مع ابن الفارض
دع عنك تعنيفي، وذُق طعـمَ الهـوى فــإذا عشـقـتَ، فبـعـد ذلـــك عَـنِّــفِ



ابتسامتُه المنصوبة على وجهِه فخٌ متيقظ، لاصطيادِ رعشة وجهها
اقتربَ ليلمسَ شعرها، لكن أصابعَه ذابت في الهواء وذهبت مُخلِفة عطرَها النافذ
لو أن قطرة حُلم حطّت على زئبق غيُومِها لَجُنت وجُنَ عِطِرها الذي لا يُعرَضُ أو يباعُ
امرأةٌ تخبيء تحت ثيابِها الكثيرَ من المفارقاتِ والأفراح..وخيبات الأمل
تتعلمُ انتقاءَ جواربها النايلون بعنايةٍ واختيارَ حمالاتِ صدرٍ بلونِ الفستق وسلالِ الرمان الجبلي
تبدو مستباحة كقطةٍ في موسم التزاوج
بشرتُها بياضٌ يُرتِبُ فوضى الألوان، قبل أن يخرجَ ليتنزهَ في أحراش الرغبة
عيناها تمارسان لغة التحريض: كُن مُنْفَلِتَ السَّهْم، لأكون عَصِيَّة الصَّيْدِ
شموعُها تطفيء الريح، وشجرُه لا ينام
استقتلَ كي ينامَ معها
أغرته بطُعم فنصبَ لها شبكة، ليصطادا بعضهَما البعض
في المنزل، ترقصُ بخفةٍ على خشب الأرضية الباركيه حتى استحالَ ماءً، فيما عقلُه مزدحمٌ بالأنبياءِ والملائكةِ والخاطئين والمرتدّين


بعدَ منتصفِ الليل لم يقلْ شيئاً..تولتْ يداه إنجاز المهمة
يداه تشتعلان حتى ينسى رجليه على نيران سريرٍ قرأ عليه كتاب "الإمتاع والمؤانسة"
يسقطان معاً، هو والشغفُ الهابط من الفردوس الوهمي ..حتى آخر رميةِ نرد
الجنسُ: بلقنةُ الأجساد
هذا الشاطرُ الفريد. شيخٌ بلا مريد.. ها هو يفتشُ عن اللذةِ بين شقوق غيمة
ومثلَ كل النساء بعد ممارسةِ الحب لحد الإشباع، بدت متوردة الوجهِ وغامضة
في الصباح، تحاصرُه أغطية السرير المتجعدة، أعقابُ السجائر المكسوة بأحمر الشفاه، زجاجاتُ الشرابِ نصف الفارغة، وبقايا الروائح في الغرفة
يتركُ لها بيتين من الشعر ويرحل
تَعلمَ منذ زمن طويلٍ حكمةً تقول إنك حين تهدي قلبك لامرأة فإنها قد تمضغه مع علكتها
تظلُّ في البهو دمعةٌ لم تتشربها السِّجادةُ الجديدة


المرأةُ الوحيدةُ تصنعُ الأبخرة على زجاجِ النافذة..ودقاتُ ساعةِ الحائط تقصي عنها بانتظام حلماً شفافاً مثل الزجاج، أملس مثل أسطح الأشياء
الوحدةُ .. قد تكون أحياناً منتهى الرومانسية
تعملُ طوالَ النهار، وتتسلقُ جدارَ الحزن في الليل
شيئان فحسب لا يمكن إخفاؤهما عن الآخرين هما: الإرهاقُ، والعُمر
تلمحُ قوامَها في المرآة: السُرةُ الأزلية مفتاحُ الكون
وهي: إبرةٌ تنتظرُ الخيط
عيناها تقولان لراكبِ المصعدِ وزميلِ المكتب: "تعالَ لزيارتي قبل أن تذبل الأزهار"
تحاولُ إنقاذ جزءٍ من الليل، لكنها لا تجد شيئاً سوى بصمةِ جسدِها فوق السرير
أيُّ حُلْمٍ يُعَذِّبُ هذي الوِسَادَةْ
تنتظرُ الليلَ، دون أن تفترشَ سريرَه مع أحد
تهاجمُها العُزلةُ مصحوبةً بصُداعٍ مؤلم في ليالٍ من الأرق، كعشبٍ ضارّ ينتظر جزَه في أية لحظة


فتاةُ الوحدة ارتمت الهالاتُ السوداءُ تحت عينيها بإهمال

ها هي تخططُ لمشاهدة مزيدٍ من العروض السينمائية هذا الشهر، ربما لتتمكنَ من الوصال مع أنوثتها التي تتسربُ مثل ماءٍ بين الأصابع
كانت الوحيدة التي تتحرقٌ شوقاً إلى قبلةٍ يطبعُها المخرجُ على شفتي البطلة، وتَقدُ في رأسِها قميصَ البطل من جميع الجهات
كم ودّت أن يشاهدَ معها عاشقٌ فيلماً رومانسياً، فقط لكي تحسَ بضغطِ يده الخفيف على يدِها حين يفترقُ الحبيبان
أصعبُ من الموت: المرأةُ التي أوهامها شُباكٌ، وقلبها أشراكٌ ويداها قيود

العجوزُ التي تملكُ قدماً زلت فانكسرت إلى الأبد، تتوزعُ التجاعيدُ على وجهها وجبينها بذكاء وأناقة لوحةٍ فنية
تلوكُ شيخوختَها الهرمة في عتمة الغرفة، وحين يصمت هاتفها تحدث نفسها قائلةً: "الآخرون يسقطون في الزمن، أما أنا فقد سقطتُ من الزمن"
تحت السرير ترقدُ طائرةٌ ورقية للحفيد

يزورُ في المستشفى مريضاً ينكمشُ كلما فتشوا عن وريده. يواسيه، لكن المريضَ يطالعُ أثر ثقبِ الإبرة على الجلد، ثم يردُ متذمراً: "ما الجدوى من آلامي؟ لستُ شاعراً حتى استثمرها أو أفخرَ بها"


في الخارج، يلاحظُ أن خطَ الدخان الأسود الممزوج بالأفق يشبهُ أرواحنا
وُجِدَت، في الماضي، يدٌ تقودُنا نحو الحياة ..هل ستوجدُ يوماً ما يدٌ تقودُنا إلى الموت؟
الشجرةُ التي لا يستبيّنُ نوعَها، على شيء من خضرةٍ وحياة رغم الجفاف
الأشجارُ التي نقصقصها مثل باقي أيامنا، تنمو حين نرويها بحكاياتِنا وقصصِنا المهمة والتافهة على حد سواء
فروعٌ تتمردُ وأخرى تنزوي في استكانة..وثالثة نطبعُ فوقها أسماءَ أحبتنا والذين "دوخونا"
وفي النهاية، تصبحُ تلك الغابة عنواناً للضياع الذي عشناه أو نتأهبُ له في أيامٍ لم تنبت بعد

يدوسُ عَلَى كرامةِ المَللِ..وَيبَدِّدُ ثَروةَ الأملِ فيِ إحدى حانَاتِ الحَيَاة
يعجُ المكانُ بالرجال البدناء والنساء الوحيدات. تحسُ في همهمتهم أنهم ضيوفٌ على الغبار
يلمحُ في ركنٍ قصي سيدة طويلة سمراء بصدرٍ عارم مهتز ووجهٍ يومضُ بالكبرياء. لا تتغنجُ قاصدة، لكنها أشياؤها تنفرطُ منها في كل اتجاه، تكادُ تسمعُ صدى رجعها
تنظرُ كلَّ حينٍ إلى ساعتها، كأنها ‏تنتظرُ موعداً تأخرَ أكثر من قدرتِها على الانتظار..والقلقُ شوكةٌ في عُنقِ الوقت

يختلسُ النظر إليها. تلحظُه، فتشدُ ثنيةَ التنورة إلى الأسفل، ثم تشعلُ سيجارة بين شفتيها ‏فيشتعلُ حريقٌ بين ساقيه

يكادُ جمالُها يرفعُكَ عن الأرضِ فلا تعرفُ متى يتذكرُ قانونُ الجاذبية إسحق نيوتن

الطاولاتُ التي ترث تنهداتِ الزبائن تَرجُمُ حيرتَه: كلُنا مشروعاتُ رغبةٍ لبعضنا البعض
أجملُ ما يمكنُ أن يحدثَ معك أن تلتقي امرأةً مجهولة فتحبُك وتشتهيها، ونقضاً لتخوّفك تجدُها مذهلة. الأجملُ ألا تلتقيها

يخرجُ حاملاً حسرةً تسجنُ الهواء
الليلُ يقتربُ، والسنترال يُغلقُ بابَه على آخر برقياتِ العزاء والبهجة، بعد أن غازلَ العاملون فيه الطالباتِ بتنوراتهن الضيقة وضفائرهن المتدلية، والعاملاتِ اللاتي تظهرُ حلماتهن الصلبة تحت روعة الثوبِ الخفيف، والزوجاتِ اللاتي تزوجهُن الفقرُ كرهاً، والمطلقاتِ بنظراتهن الحائرة، والباحثاتِ عن حبيب.. أي حبيب

الثرثرةُ لا تنتهي في المذياع.. صوتٌ يتحدثُ عن العدو..قد يكون هذا الصوتُ نفسه هو العدو


يسيرُ وهو يُغَالِبُ اللعناتِ المكتومةَ في طرقاتِ عبوره
يتحسسُ القطعَ المعدنية في جيبِه ويصطنعُ ابتسامةً عاجلة وهو يقتربُ من المحطة
القطارُ يترنحُ مثل سكير في آخر الليل.. كان للاهتزازِ الرتيبِ تأثيرٌ مُهدِّىء عليه
الراكبُ الأخير لا يفعلُ شيئاً سوى أن يطقطقَ أصابعه، كأنما يبحثُ عن نغمٍ شَرِيدٍ بين الأصابع
ينظرُ إليه في أسى قائلا بصوتٍ مبحوحٍ كأنه مارلون براندو في فيلم "العراب": هل لكَ أن تشتري عزلتي، أو أؤجركَ قلبي قبل أن ينام؟
السائقُ يصفرُ ويدندنُ بأغنية: حبيبتي لا تزال ضيقةً على جسدي، وألبستي أتلفتها الحروب

لا يأبهُ السائقُ لتلويحةِ يدٍ مودعةٍ من قطارٍ يأتي من الجهةِ المعاكسة.. كلُ ما يشغلُه هو الانتهاءُ من رحلتِه اليومية، قبل أن يرسو على دفء زوجتِه
بالقربِ من المحطةِ، عازفٌ يتسولُ بإيقاع يصعدُ سُلَّمَ الفرح. موسيقاه تنفذُ إلى الذاتِ واللذاتِ الشقية. ما من موسيقى حقيقية إلا تلك التي تجعلُنا نجسُ الزمن




على الكورنيش الذي رصفوه كي يتتلمذَ العشاقُ في مدرسةِ النجوم، يمشي الموجُ على أطرافِ أصابعه وتطفيء المنارةُ أنوارها خجلاً من عناقٍ مختلس
يعيشُ العشاقُ كل حكايةٍ بالسهد والغناء، حتى آخرها، كأنها المُنتهى، وحين تنتهي فجأة كعادتها، تنطلقُ الأفراسُ الجامحةُ باتجاه نبعٍ جديد
وحدَها المقاعدُ تحفظُ حجمَ الحنين في الأكفِ التي افترقت


تنبعثُ من البيوتِ أناتُ من تطاردُهم الكوابيس. الأصواتُ الغامضة للضحايا تَحرِمُ القتلة من النوم..توشوشهم مع حفيفِ الأغصان، وتُذكِرٌّهم بفداحةِ الذنب
أولُ الشارع عاهرةٌ ترتبُ جسدَها بثمن رخيص، ولا زبائن
تغمضُ السلطاتُ أعينَها عن بائعاتِ الهوى، مثلما يُغمضُ كلبُ الحراسةِ عينيه عن المارة، بعد أن يلتهمَ وجبتَه كاملة


صوتُ المؤذنِ يُلقي يدَ السكينة على جبهةِ المدينة التي تشربُ دمعَها
والسائرُ دوماً في الشوارع الغامضةِ تكنسُ الريح سؤالَه: لماذا نسيء الظنَ دوماً بالنهار حين يقفزُ من النوافذ؟
يُدرِكُ أخيراً أنه ليس نبياً، لكنه يحملُ روحَ الله

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (10): الموت في عصير الجوافة





غرقت مصر في ظلام هزيمة حرب يونيو حزيران 1967، وسط ضباب التساؤلات والشائعات والأسرار

وبعد دقائق من إذاعة عبد الناصر بيان التنحي أو الاستقالة مساء 9 يونيو حزيران اتصل وزير الإرشاد محمد فائق بمحمد حسنين هيكل ليبلغه بأن المشير عامر اتصل به صاخباً وغاضباً ليقول إن لديه بياناً يريد أن يذاع على الناس، وأنه –أي فائق- رد عليه بعدم استطاعته إذاعة أي شيء إلا بعد الاتفاق مع هيكل. وأضاف فائق قائلاً لهيكل إنه يرجح أن المشير سوف يتصل به الآن

ويروي هيكل ما جرى قائلاً: "صدق ما توقعه السيد محمد فائق، فلم أكد أضع سماعة التليفون بعد حديثي معه إلا والمشير عبد الحكيم عامر على الخط مهتاجاً بطريقةٍ لا يبين منها كلامٌ مفهوم، وحاولت تهدئته قدر ما أستطيع بأن طلبت منه أن يبعث إليَّ بالبيان الذي يريد إذاعته مع رجائي له بأن يكون ما فيه مساوياً لحرج الموقف كله
"..ودق جرس التليفون ثانية وكان المتحدث هو المشير عبد الحكيم عامر مرة أخرى يقول إنه يفضل إملائي البيان بدلاً من إرساله اختصاراً للوقت، وكان البيان الذي يريد إذاعته هو إعلان بأنه قدم استقالته من جميع مناصبه ابتداءً من الساعة السابعة والنصف مساء وأن استقالته قُبِلَت، وسألته من قبلها؟! واستغرب السؤال وقلت له إن الرجل الذي كان في اختصاصه قبول الاستقالة أعلن على الناس استقالته في الساعة السابعة، ولم يعد في إمكانه أن يقبل شيئاً أو يرفضه

"وفوجيء المشير، وقال إنه سوف يعود إلى الاتصال بي بعد دقائق، وعاد وكان اقتراحه أن يصدر إعلانٌ عنه ب "أنه ابتداءً من الساعة السابعة والنصف تخلى عن كل مسؤولياته". ورجوته في صياغة ما يريده وإرساله مباشرةً إلى الإذاعة اختصاراً للوقت، وأنني سوف أتصل بالسيد محمد فائق، والواقع أن هدفي كله في تلك الساعة كان كسب الوقت بأقل قدرٍ ممكن من دواعي التفجير، وكان غضبه قد بدا يتزايد، ولكني أشهدُ أن كلمةً خارجةً لم تصدر عنه"

كان الموقف مختلفاً في مكتب معلومات عبد الناصر، الذي كان تحت رئاسة سامي شرف

ويقول سامي شرف في شهادته: "بعد انتهاء الرئيس جمال عبد الناصر من إلقاء خطاب التنحي اتصل بي المشير عبد الحكيم عامر في مكتبي وقال لي: يا سامي حابعث لك بيان للإذاعة باستقالتي وكمان شمس بدران، وطلب مني تبليغ ذلك للرئيس، وكلمت الرئيس وأبلغته بهذه الرسالة، وفي نفس الوقت اتصلت بمحمد فائق وزير الإعلام وطلبت منه التزام اليقظة توقعاً لإرسال المشير عامر أو شمس بدران بيانا أو يذهبا بنفسيهما أو أحدهما لإذاعة بيان استقالتهما وقلت له إن تعليمات الرئيس تقضي بعدم السماح لأي شخص أيا كان بإذاعة بيانات لا بالتأييد ولا الاستقالة إلا بعد الاتصال بي شخصياً ورجوته ألا يترك مكتبه ويمنع دخول أي أشخاص لمبنى الإذاعة والتليفزيون. وبالطبع فقد أثارت هذه التعليمات مشكلاتٍ كثيرة وكبيرة بين محمد فائق وبين العديد من المسؤولين وغيرهم"

من جهته، يكمل منير حافظ الرجل الثاني في المكتب تفاصيل ما جرى قائلاً: "دق التليفون ورد سامي (شرف) عليه فإذا به عبد الحكيم عامر يصرخ ثائراً:
بقى أنت با بن (ال....) على آخر الزمن تمنع إذاعة بيان لي؟!
"ويرد سامي: أنا يا فندم! أنا يكون لي ميت سنة في القبر لو أرفع عيني في وش سيادتك..ده أنا تلميذك يا فندم، ولو جيت ضربتني بمسدسك مش حارفع عيني في وش سيادتك!
ولم توقف هذه الاعتذارات سيل الشتائم المريرة التي تدفقت على أسماع سامي شرف والقريبين من مكتبه


وبينما كانت مصر غاضبة من الهزيمة، كانت تلك الفترة تشهد محاولات يبذلها الرئيس جمال عبد الناصر للصلح مع المشير عبد الحكيم عامر
لعب دور الوساطة بين الرئيس والمشير أكثر من شخصية بارزة: صلاح نصر، عباس رضوان، أنور السادات، ثروت عكاشة، ومحمد حسنين هيكل
يقول السادات في مذكراته إنه دعا المشير إلى العشاء في منزله واستقبله أحسن استقبال كأن شيئاً لم يكن. ثم يضيف قائلاً: "وفي نهاية لقائنا رجوته أن يقبل منصب نائب رئيس الجمهورية الذي عرضه عليه عبد الناصر، ولكنه قال بجفوةٍ: "لا..طول ما جمال عبد الناصر بيشتغل رئيس جمهورية، أنا لازم أشتغل قائد على القوات المسلحة..لا كده لا بلاش"
كان جوهر القضية هو أن المشير ينظر إلى الجيش على أنه إقطاعيةٌ تابعة له ولا يريد التنازل عنها تحت أية ظروف، ويرى أيضاً في استرداده سلطاته في الجيش ردَ اعتبارٍ له في ضوء مسؤوليته الكبرى عن وقوع الهزيمة العسكرية
وبعد نحو شهرين من الحرب، وتحديداً في 3 أغسطس آب 1967، روى جمال عبد الناصر في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي (حسب ما جاء في محاضر اجتماعاته العربية والدولية، إعداد عبد المجيد فريد) جانباً من اتصالاته مع عامر بعد حرب يونيو حزيران، إذ قال: "حاولت شخصياً إحضار المشير إلى مكتبي في المنزل لمحاولة إفهامه واستعنت بصلاح نصر لإحضاره ولكنه رفض الحضور، بعد ذلك قابلت عبد الحكيم وحاولت دون جدوى إقناعه بأنه ليس منطقياً أن يبقى بعد الهزيمة العسكرية قائداً عاماً، ويكتفي بأن يكون نائباً لرئيس الجمهورية. رفض المشير كلامي رفضاً باتاً وسافر غضباناً إلى بلدته في المنيا، ثم اتصل بهيكل من هناك وأبلغه استنكاره التام لجميع تصرفاتي! بعدها حضر شمس بدران إلى منزلي وأبلغني أن الموقف العام يزداد سوءاً يوماً بعد يوم وأن البلد كله ضدي وأن الجيش ضدي وأن الحل الوحيد هو إعادة عبد الحكيم عامر لمنصبه القديم من أجل استقرار الأوضاع!"


وفي أعقاب إعفاء عامر من جميع مناصبه وإحالته إلى التقاعد، دخلت مصر في دواماتٍ لا تنتهي


ففي حوالي العاشرة من صباح يوم 11 يونيو1967 حضر إلى مبنى السكرتارية الخاصة لرئيس الجمهورية بمنشية البكري، بعض القادة العسكريين وطلبوا مقابلة الرئيس وحددوا مطالبهم في بند واحد هو "عودة المشير عبد الحكيم عامر إلى قيادة القوات المسلحة". ورفض عبد الناصر مقابلتهم ثم أصدر قرار باسم رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة بإحالتهم إلى المعاش وهم الألوية عبد الرحمن فهمي وعبد الحليم عبد العال وحمزة البسيوني


وانتقل المشير عبدالحكيم عامر بعد ذلك إلى منزله في الجيزة، وكان المنزل يتكون من طابقين وبدروم ويطل على النيل في المنطقة بجوار فندق شيراتون القاهرة وفيه حديقة كبيرة ومحاط بسور عال، وكان يوجد بالبدروم مكاتب السكرتارية والحراسة الخاصة للمشير. وفي هذا المنزل ازدادت الحركة حيث أخذ يتصل به الضباط من الذين عادوا حديثاً من سيناء وبعض العناصر المدنية والعسكرية الأخرى، إلى جانب إخوته وأقاربه الذين قدموا من أسطال بلدة المشير في محافظة المنيا وقد حضر عدد منهم بناء على طلبه للإقامة معه في منزله بالجيزة

ومع اتساع الحركة غير العادية في منزل المشير عبد الحكيم عامر بالجيزة، كلف الرئيس عبد الناصر مدير المخابرات صلاح نصر بالاتصال بالمشير وإبلاغه بأن هذا الوضع لا يليق بعبد الحكيم وغير مقبول، وأنه يجب إنهاؤه.. لكن المشير عامر رد عليه بأنه سوف يغادر منزله إلى بلدته أسطال في محافظة المنيا في صعيد مصر، وفعلاً سافر إليها.. وأخذ يلتقي أفراد عائلته وأبناء البلدة ويردد في جلساته معهم.. أنه لن يرضى إلا بالعودة لقيادة الجيش.. وأنه لن يقبل أن يكون "طرطورا".. أو تشريفاتي كصلاح الشاهد

سافر عامر إلى قريته أسطال في المنيا، ثم عاد في أول يوليو تموز 1967 بعد لقائه محمد حسنين هيكل الذي تمكن من إقناعه بأن بقاءه في أسطال يعني رضاءه بالنفي الاختياري بعيدا عن القاهرة


وبدأ في اليوم نفسه تنفيذ حملة اعتقالات وتطهير شملت عددا من قادة القوات المسلحة وبعض الضباط من دفعة 1948 وهي دفعة شمس بدران، الذين كانوا يشكلون تنظيما خاصا كان يتولاه شمس بدران بشكل سري، لم يعلم به القائد الأعلى للقوات المسلحة وكانت قد ضبطت نوتة في مكتب شمس بدران في مبنى القيادة العامة بكوبري القبة تحوي أسماء هذا التنظيم وسلمها الفريق محمد فوزي للرئيس عبد الناصر، وبناء على ذلك اتخذت إجراءات التحفظ، وأودع الضباط في إحدى الفيلات في منطقة المعادي، إضافة إلى عدد من أعضاء مجلس الأمة عن محافظة المنيا بعد إسقاط المجلس لعضويتهم عنه
لكن النشاط المسلح أخذ يتزايد في منزل عامر. وسرعان ما تحول منزل المشير إلى ثكنة عسكرية نقل إليها الكثير من العناصر والمعدات، ووصل به الأمر إلى استدعاء نحو ثلاثمئة رجل من أسطال للمشاركة في حراسته، علاوة على بعض أفراد من الشرطة العسكرية
وصلت عبد الناصر أنباء عن تخطيط المشير عامر ورجاله لمؤامرة لقلب نظام الحكم يتم تنفيذها يوم 27 أغسطس آب 1967 . وعلى الفور، أمر عبد الناصر بتشكيل مجموعة عمل ثلاثية من شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لوضع خطة لمواجهة وإفشال هذا المخطط، وهو ما بالفعل بعد إطلاق اسم كودي لهذه الخطة هو: "العملية جونسون"
وهكذا دعا الرئيس جمال عبد الناصر صديقه المشير إلى منزله في منشية البكري في السابعة من مساء يوم الجمعة 25 أغسطس لتناول طعام العشاء، وقد حضر اللقاء كل من زكريا محيي الدين وأنور السادات وحسين الشافعي، ولم يكن أحد منهم يعلم أي شيء عما سيحدث إلا زكريا محيي الدين فقط الذي كان على دراية بالخطة كلها بالتفصيل

وعندما دخل عامر إلى المنزل ووجد أعضاء مجلس قيادة الثورة قال: "هي محكمة ولا إيه؟!". ويقول سامي شرف إن عبد الناصر أخذ يشرح الموقف ثم طلب من عبد الحكيم أن يلزم منزله، فتساءل المشير قائلاً: "يعني بتحددوا إقامتي؟" فرد عليه عبد الناصر والآخرون بالإيجاب. ويضيف سامي شرف قائلاً: "وتدخل السيد أنور السادات في المناقشات محاولاً إقناع المشير عامر بقبول القرار. إلا أن المشير عامر تطاول عليه بألفاظٍ جارحة لم يتفوه بها مثلاً للسيد زكريا محيي الدين عندما كان يحاول إقناعه أيضاً. وقد جاء ضمن ما قاله: "قطع لسانك أنت بتحاكمني يا رقاص.. يا.. ابن ..."



يقول وزير الحربية أمين هويدي الذي كان موجوداً في منزل الرئيس ليلة الواقعة: "وقد سمعت الرئيس وهو يقول للمشير: "عليك يا عبد الحكيم تقدير الموقف الصعب الذي تمر فيه البلاد. وعليك أن تلزم منزلك في هذه الفترة الحرجة". وسمعت المشير وهو يرد على الرئيس قائلاً: "يعني بتحدد إقامتي وبتحطني تحت التحفظ. قطع لسانك" وكرر ذلك أكثر من مرة

وبعد فترةٍ، دخل أمين هويدي إلى الصالون، في حين استأذن الرئيس وصعد إلى الطابق العلوي من المنزل. يقول هويدي إن عامر بدا له هادئاً بالرغم من حرج موقفه ودقة الظروف. ثم خرج المشير ذاهباً إلى دورة المياه، لكنه أعد للجميع مفاجأة لدى عودته، إذ يقول هويدي: "وفجأة خرج المشير من دورة المياه وفي يده كأس زجاجي به بعض المياه وقال بأعلى صوته وهو يرمي الكأس على طول ذراعه: "اطلعوا بلغوا الرئيس أن عبد الحكيم خد سم لينتحر". ودخل في هدوء إلى حجرة الصالون ليجلس على الأريكة ذاتها وهو يبتسم في هدوء وكأنه لم يفعل شيئاً. وقد انزعجت أشد الانزعاج حين سمعت بذلك وصعدت إلى الدور العلوي حيث يوجد الرئيس قفزاً فوق الدرج واستقبلني الرئيس من أعلى السلم وقلت له: "المشير خد سم وانتحر"، فقال لي الرئيس: "عبد الحكيم أجبن من أن ينتحر. لو كان عاوز ينتحر كان انتحر لما ودَّانا في داهية". ويبدو أن درجة انزعاجي كانت شديدة لدرجة أن الرئيس كان يحلو له بعد ذلك أن يحكي عن ذلك في مناسباتٍ عديدة وكان يضيف قائلاً: "تمثيلية عبد الحكيم خَالَت على أمين"


وأثناء حوار عبد الناصر وعبد الحكيم عامر توجه وزير الحربية ورئيس الأركان الجديدان محمد فوزي وعبد المنعم رياض إلى بيت المشير وأمرا القادة المعتصمين بمنزل المشير بتسليم أنفسهم والأسلحة التي بحوزتهم, وتحت التهديد باستعمال القوة استسلم هؤلاء القادة وانتهى الاعتصام. وفي فجر يوم 26 أغسطس خرجت سيارة ليموزين سوداء من منشية البكري وهي تقل المشير عامر ، وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي، وتوجهت السيارة إلى منزل المشير، حيث تم تحديد إقامته فيه.. لكنه لم يحتمل ذلك خاصة في ظل الانهيار النفسي الذي كان يعاني منه عقب الهزيمة

وفي 14 سبتمبر أيلول 1967 تم الإعلان عن موت عامر منتحراً، ودفن في قريته أسطال التي ولد فيها قبل 48 عاما من وفاته

وأصدر النائب العام قراره فى الحادث يوم 10 أكتوبر تشرين أول 1967 وجاء فيه " وبما أنه مما تقدم يكون الثابت أن المشير عبد الحكيم عامر قد تناول بنفسه عن بينة وإرادة مادة سامة بقصد الانتحار، وهو في منزله وبين أهله يوم 13 سبتمبر أيلول 1967، قضى بسببها نحبه في اليوم التالي، وهو ما لا جريمة فيه قانوناً. لذلك نأمر بقيد الأوراق بدفتر الشكاوى وحفظها إدارياً"


أُثِيرت أقاويل تذهب إلى أن الجهاز الرسمي دفع عامر إلى الانتحار، أو دس السم له، وهو ما دفع عائلته وكذلك زوجته الممثلة برلنتي عبد الحميد، إلى المطالبة باستخراج جثته وتشريحها للتأكد من حقيقة موته. ونشر خبير السموم الدكتور علي محمد دياب في صحيفة "أخبار اليوم" في 27 سبتمبر أيلول 1975 أن المشير لم ينتحر، وإنما دس له سم (الإكونتين) في كوب عصير الجوافة الذي قُدِمَ إليه
وتقول برلنتي في كتابها "الطريق إلى قدري" إنه "تم الادعاء عليه بأنه انتحر، وتم تشويه سمعته الشخصية وتصويره بأنه الذي جر الهزائم، وتم قتله في عملية دنيئة لا يزال يحملُ بعضُ الأحياء وزرها"
على أن الصراع بين الرجلين استمر بعد وفاة عامر، وبقيت جذوره متغلغلة في المؤسسة العسكرية، إذ إن عبد الناصر واصل محاولاً اقتلاعها حتى يناير كانون أول 1967 –أي قبل رحيله بثمانية شهور فقط- عندما بادر إلى تطهير صفوف القوات المسلحة من الضباط الذين يدينون بالولاء لصديقه المشير عامر

في كتابه: "الافتراء على ثورة يوليو: هزيمة يونيو - مؤامرة رجال المشير عامر.. وانتحاره - الصلح مع إسرائيل" (دار الخيَال، القاهرة، 2003) يعيد المؤلف عبد الله إمام قراءة أوراق قضية رجال المشير عامر من خلال أقوالهم، واعترافاتهم أمام المحكمة التي حاكمتهم على مخططاتهم لإعادة عامر إلى موقعه كقائد عام للقوات المسلحة.. وهي الخطط التي أُعلِنَ رسمياً عن القضاء عليها بعد إبعاد عامر عن منزله، وعندما عاد إليه وجد أن رجاله قد ألقى القبض عليهم، وضاع أمله في العودة كقائد عام للقوات المسلحة. ويضم الكتاب النص الكامل للتقرير الذي أعده النائب العام وبه جميع التحقيقات التي أجراها حول واقعة وفاة المشير عامر


في مذكراته عن حرب أكتوبر، تطرق اللواء محمد عبد الغنى الجمسي رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر إلى فترة النكسة، قائلاً: "بينما كنت أجلس مع اللواء أحمد إسماعيل ليلاً في جبهة القناة نراجع كالمعتاد يومياً نشاط العدو في سيناء وكذا نتائج أعمال قواتنا، قبل أن يتوجه كلٌ منا إلى خندق النوم المخصص له، دق التليفون وكان المتحدث هو الفريق أول محمد فوزي من القاهرة. كان هدف المكالمة هو إخطارنا بانتحار المشير عامر في منزله بمادةٍ سامة شديدة المفعول كان يخفيها ملاصقة لجسمه تحت الملابس الداخلية"

وتابع الجمسي قائلاً: "أخذ اللواء أحمد إسماعيل يناقشني في رد الفعل المنتظر لهذا الحادث بين القوات في الجبهة، ووصلنا إلى نتيجةٍ مؤكدةٍ هي أن انتحار المشير عامر لن يكون له تأثيرٌ عام، فما زالت حرب يونيو بأحداثها ونتائجها المريرة تترك أثرها العميق في نفوس كل العسكريين بعد أن فقدنا سيناء، واستشهد لنا الآلاف من رجال القوات المسلحة، ولم يكن أحد قد نسي دور عبد الحكيم عامر في الهزيمة كقائد عام للقوات المسلحة، واستعدنا معا الحالة السيئة التي وصلت إليها القوات المسلحة في ظل قيادته، وكان ذلك سبباً رئيسياً من أسباب الهزيمة"

أحد قيادات الضباط الأحرار وهو عبد المحسن أبو النور - الذي كان أول قائد للحرس الجمهوري لأول رئيس جمهورية مصري اللواء محمد نجيب- يحكي في كتابه "الحقيقة عن ثورة يوليو" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2001، أن عبد الناصر أصبح في حالة نفسية سيئة جداً وأنه انعزل عن الجميع بعد انتحار المشير عبد الحكيم عامر، ويقول أبو النور إن السادات جاءه في هذه الفترة منزعجاً من الحالة التي عليها عبد الناصر وطالبا منه المشورة، فلم يكن من أبو النور إلا أن نصح السادات بأن يذهب إلى عبد الناصر وأن "يستحضر بعض القفشات والنكات المسلية" من أجل إخراجه من الحالة السيئة التي هو فيها
ويقول أبو النور إن السادات جاءه في اليوم التالي فرحاً وممتناً له لأن عبد الناصر تكلم معه كثيراً بعد أن ألقى عليه بعض النكات والقفشات فطلب منه أبو النور أن يستمر في دوره، بل إنه طلب منه أن يأخذ لعبد الناصر "شريط فيديو مسلياً"
أما المُسلي حقاً، وربما المأساوي أيضاً، فهو ما عاشته مصر ودفعته ثمناً لتلك الصداقة بين ناصر وعامر
تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (9): أسرار دولة..على سرير المشير





فجأة، وجد عبد الناصر في مواجهة مع صديق عمره الذي كان يصفه بأنه "قطة مغمضة"، فإذا بالقطة تفتح عينيها على اتساعهما
في عام 1962 شكل عبد الناصر مجلس الرئاسة ليكون القيادة الجماعية العليا والتي من شروط عضويتها الابتعاد من المناصب التنفيذية
التزم كل رفاق ثورة يوليو بهذا الشرط إلا عامر الذي أصر على الاحتفاظ بمنصب القائد العام وإلا فهو لا يضمن الجيش. كان الحل الوسط هو تسمية القائد العام بنائب القائد الأعلى –الذي هو رئيس الجمهورية- كناية عن خضوع الأول للثاني .. على الأقل رمزياً
وفي أواخر نوفمبر تشرين ثانٍ 1962، أراد عبد الناصر أن ينتفع من جو القيادة الجماعية ممثلة في مجلس الرئاسة لينتزع من "نائب القائد الأعلى" صلاحياته في تعيين الضباط العظام وإحالتها على المجلس. هذه المرة اختلف رد فعل عامر عن أي وقت مضى: لقد اختفى في مرسى مطروح معتصماً فيها عن الظهور، ومرسلاً بيان استقالة لعبد الناصر هو أقرب إلى بيان انشقاق كلي عن النظام، ثم مستحثاً قادة الفروع والأسلحة على إرسال العرائض لعبد الناصر معلنين أنهم لا يعترفون بغير عامر قائدا
انتهت الحكاية بعدول عامر عن استقالته واعتزاله، وعدول عبد الناصر عن مشروع قانون الضباط، واتفاقهما على تأجيل المسألة إلى يوليو تموز 1963
في عام ١٩٦٤ أصبح عبد الحكيم عامر نائباً أول لرئيس الجمهورية
لكن شيئاً لم يتغير في عامر: البشاشة والبساطة، والعصبية والفوضوية
وتفاصيل الحكاية التالية ربما تكشف طبيعة شخصية المشير عامر
وقائع الحكاية جرت في أوائل عام 1965 ويرويها أمين هويدي الذي شغل آنذاك منصب سفير مصر لدى العراق. يحكي هويدي عن زيارة المشير عامر على رأس وفد لبغداد، رداً على زياراتٍ متعددة قام بها الرئيس العراقي عبد السلام عارف. وقبل الزيارة أرسل هويدي إلى عامر مذكرة مختصرة عن الوضع في العراق والقضايا والموضوعات المهمة التي يمكن أن تُثار ومعلومات عن الشخصيات التي سيقابلها عند وصوله إلى بغداد. وعندما وصل عامر سأله هويدي عما إذا كان قد قرأ المذكرة التي أرسلها له، وهنا يقول هويدي: "فقال: مذكرة إيه! لم تصلني مذكرات!
واستدعى علي شفيق وسأله عن المذكرة فقال له:
آه دي وصلت من زمان
فرد عليه: طيب يا (.....) لِمَ لم تعرضها عليّ؟!"
ولا يحتاج الأمر إلى تعليق
الأخطر من ذلك، ما يرويه أمين هويدي في السطور التالية:
"أقام المشير في قصر بغداد هو ومرافقوه، وفي الصباح الباكر لليوم الثاني من الزيارة اتصل بي تليفونياً في منزلي عضو السفارة الذي خصصته للإقامة مع الوفد في قصر بغداد وطلب مني الحضور فوراً إلى القصر، ورفض الزميل أن يزيد حرفاً واحداً على ذلك. وحينما وصلت إلى هناك كان أحد ضباط القصر في انتظاري على الباب ومعه عضو السفارة وسلمني مظروفاً ذكر أن به أوراقاً وجدوها متناثرة بالأمس على سرير المشير أثناء وجوده بالقصر الجمهوري ورأوا من الأمانة أن يعيدوها داخل مظروف مغلق. وفتحت المظروف وكدت أصعق! كان بداخله عدة تقارير اصطحبها المشير معه من القاهرة ليقرأها وهو في بغداد وتسيء إلى العلاقة بين عبد الناصر وعارف وتتحدث عن عارف حديثاً شائناً مشككاً"
كانت التقارير – كما يقول أمين هويدي- سرية للغاية، ومع ذلك فقد تُرِكت على سرير المشير، ليطلع عليها من يشاء
وبطبيعة الحال، فإن الرئيس العراقي آنذاك اطلع عليها أو على نسخة منها، قبل أن تُعاد إلى الجانب المصري
يقول هويدي: "وذهبت إلى المشير لأقص عليه ما حدث. لم ينزعج الرجل بل قابل الموضوع بمنتهى السخرية والاستهزاء ولم يكن في يدي اكثر من أن أُعَنِفَ المسؤول عن جمع أوراق المشير. ولما ذهبنا للاجتماع مع الرئيس عارف كان الرجل بادي التأثر وأخذ في حديثه يرد على ما أثير في التقارير- مما يؤكد اطلاعه عليها – وأخذ يحذر بين وقتٍ وآخر ممن يحاولون الوقيعة بين بغداد والقاهرة"

ويورد الضابط أحمد حمروش مجموعة من الصفات الدقيقة لعبد الحكيم عامر فيقول: "أحاط المشير نفسه بحاشية سرعان ما عرفت فيه أسوأ الصفات، فتمادت في سلوكها اللا أخلاقي، واستغلت أموال الدولة أسوأ استغلال، وكان الذين يقتربون من رجال مكتبه ـ الذين يقودهم الصاغ علي شفيق ـ تأخذهم الدهشة من الجموح الكاشف، في مجال اللهو والبذخ المبالغ فيه، الأمر الذي أثر تأثيرا شديدا على قمة القيادة العسكرية، وانعكس على بقية مستويات الضباط"
ويستطرد حمروش قائلاً: "كانت المتعة الشخصية هي الفلك الذي يعيش فيه عامر، وأصبح ذلك معروفا ومتداولا، وكانت هذه المتعة تشمل تدخين الحشيش، والاتصال ببعض الفنانات، والبذخ، الذي وصل إلى حد السفه، ونتيجة لعلاقة الضباط بالفنانات تزوج المشير من برلنتي عبد الحميد، وعلي شفيق من مها صبري، وعبد المنعم أبو زيد من سهير فخري" (أحمد حمروش، مجتمع عبد الناصر، ص 233)
بهذه الشخصية التي تستحق الدراسة، قاد عامر القوات المسلحة، وظل نداً لعبد الناصر وصديقاً له في الوقت نفسه
واصل عبد الحكيم عامر رحلة الصعود بالرغم من السقطات والعثرات المتلاحقة التي مرت به أو تسبب فيها، غلى أن وقع ما عطل رحلة صعوده هذه بل قوضها، ووضع نهاية لمستقبله وحياته: حرب يونيو حزيران ١٩٦٧
والشاهد أن وقائع الأسابيع الثلاثة التي سبقت نشوب حرب 1967 تدلُ على اضطرابٍ كبير في تفكير وتصرف عبد الحكيم عامر، وعلى انفراده بقرار السلطة العسكرية، وتأثره بأشباح الماضي
فقد وصل عامر إلى سيناء في 20 مايو آيار مع الحشد العسكري ليرى بنفسه ويحاسب، ووصل إلى قرار بتغيير معظم قادة الفرق المحتشدة محملاً إياهم وزر الحشد. تبنى عامر نظرية أهل الثقة، حيث حل محلهم قادة آخرون لم تعرف عنها الخبرة المشهودة ميدانياً بل فقط الولاء السياسي. لم يكن هؤلاء القادة العسكريون يعلمون عن وحداتهم إلا القليل، ولم تكن أهميتهم نابعة إلا من كونهم "رجال المشير" أو أتباع شمس بدران..ومن هؤلاء اللواء عثمان نصار الذي عُيِنَ قائداً للفرقة الثالثة الآلية مكلفا بحماية خط الدفاع الثاني
ثم ضاعف عبد الحكيم الفوضى بقراره يوم 20 مايو استدعاء الاحتياطي للخدمة، الأمر الذي يعني أن من لم يتدرب دوريا على حمل السلاح أضيف في تلك المرحلة الحرجة وذلك التوقيت الدقيق إلى الجيش العامل مع عدم توفر عدد الضباط المناسب لقيادتهم، ما أدى إلى قرار أشد سوءاً وهو توسيع الوحدات العاملة بضم عناصر الاحتياط لها، والذي أضعف بنيانها وذوَّب فاعليتها
وسط هذه المعمعة، أضاف عبد الحكيم عاملاً جديدا على المعادلة المستجدة، وهو الضغط لإغلاق خليج العقبة
وعشية زيارته التفقدية لسيناء، قام عامر يوم 19مايو بنقل كتائب مظلات – لا مشاة – على عَجَلٍ إلى شرم الشيخ استعداداً لإقفال المضيق. وبعد عودته من سيناء حضر اجتماع القيادة السياسية العليا مساء 21 مايو في منزل عبد الناصر وأعلن فيه استعداد قواته التام لتأمين إغلاق الخليج حتى لو كلف ذلك حرباً مع إسرائيل، ثم كرر الإجابة نفسها عند سؤاله من عبد الناصر عن مدى الاستعداد للحرب أعلن الأخير إغلاق الخليج مساء 22 مايو من مطار أبو صوير، وبدأ سلسلة اجتماعات مع القيادة العسكرية أولها مساء 25 مايو وفيه حدد عبد الناصر رؤيته حول إدارة المواجهة، معلناً أن الضربة الأولى متروكةٌ لإسرائيل مع توقي نتائجها بالاستعداد لتلقيها وامتصاصها، وأن شرم الشيخ وقطاع غزة هما جزء من غطاء الدفاع المصري ما يستدعي تعديلاً على خطة قاهر للدفاع عن سيناء والتي جرى تبنيها في ديسمبر كانون ثانٍ 1966
لم يُخطِر عامر عبد الناصر بأنه كلَّف أركانه وضع خطة هجوم جوي على مطارات النقب اسمها الكودي "أسد"، وخطة هجوم بري على إيلات اسمها الكودي "فهد"
عرف عبد الناصر من السوفيت في الثالثة من فجر 26 مايو أن الأمريكيين والإسرائيليين علما بالخطتين وينذران بإيقافهما، وإلا فإن الولايات المتحدة ستكون مضطرة للاشتراك المباشر في الحرب دفاعاً عن إسرائيل. وفي الحال أمر عبد الناصر عامر بإلغاء الخطتين
والشاهد أن صورة حرب 1956 كانت مسيطرةً على عقل القائد العام للقوات المسلحة وكان تقديره أنها مقياسٌ لكل حرب. أراد عامر إزالة آثار تلك الحرب الانفصال وسوء إدارة حرب اليمن من سجله، ومن ثم تعزيز موقعه في النظام. لذلك فإن قرار الانسحاب كان شيئاً عادياً يصدره من دون ألم، أو دون أن يتحقق كقائدٍ عام من أن التشكيلات أدت واجبها العسكري أولاً
عاد عبد الناصر مساء 28 مايو للاجتماع بالقيادة العسكرية ليرى ما الذي تم بخصوص تأمين قطاع غزة إن نشبت الحرب، وليكرر التزامه بالضربة الثانية بعد استيعاب ضربة العدو الأولى
ليلتها كان شمس بدران قد عاد من موسكو لينضم للاجتماع ناقلاً لعبد الناصر رسالة تفتقر إلى الدقة عن تأييد مطلق من القادة السوفيت لمصر، علماً بأن السوفيت نصحوا في المباحثات الرسمية مع شمس بدران بعدم الاستمرار في الأزمة
ضاعف من سوء الموقف، غياب الديمقراطية على المستوى الاستراتيجي، حيث انفرد المشير عامر برؤية عن اتجاه هجوم العدو المنتظر، مفادها أن محور الهجوم الرئيسي لن يكون المحور الأوسط: أبو عجيلة – الإسماعيلية ولا حتى الشمالي: العريش – رمانة بل الجنوبي: الكونتيلا – متلا، ما دعاه لإعادة توزيع القوات في سيناء بما قضى على بقايا خطة قاهر الدفاعية في سيناء، وأرهق الوحدات المقاتلة في الذهاب والمجيء إلى مواقع جديدة تتغير بصفةٍ شبه يومية، من دون الوصول إلى قرارٍ أو تصورٍ لشكل الحرب المقبلة
عاد عبد الناصر مرة ثالثة للاجتماع بالقيادة العسكرية مساء 2 يونيو ليبلغهم أن معلوماته تؤكد قيام إسرائيل بشن هجوم جوي شامل على مصر إما الأحد 4 يونيو أو الاثنين 5 يونيو على أبعد تقدير. وفرت تلك المعلومات فرصة يومي 3 و 4 يونيو أمام قيادة الطيران لتقوم بإخلاء مطارات سيناء والقنال وإرسال القاذفات للسودان والمقاتلات للجنوب ..لكنها، وكما فعلت في السويس 1956، امتنعت عن ذلك بحجة أن خطوة كتلك ستفسد معنويات الطيارين
والأكيد أن عامر وشلته في الطيران (صدقي محمود وجمال عفيفي وغيره) مسؤولون عن فقر استعداده إذ إن عدد الطيارين لم يتجاوز 150 طيارا وهو أقل بكثير من عدد الطائرات (ما فوق الـ 300)، وليس هناك دُشم للطائرات واقية، والتدريب قاصر عن تهيئة الطيارين لأكثر من طلعتين في اليوم. بل إن تقييد نيران الدفاع الجوي، ووجود قادة التشكيلات الميدانية بالكامل في أحد مطارات سيناء لاستقبال المشير ترتب عليه النجاح المطلق للضربة الجوية الإسرائيلية
والثابت أن الإهمال كان سيد الموقف عبر أسلحة القوات المسلحة كلها مثال ذلك ما حدث ذات يوم من ربيع 1965 عندما وقع انفجارٌ على ظهر المدمرة "القاهرة" أثناء حضور عبد الناصر وعامر مناورات بحرية في المتوسط. طلب عبد الناصر إقالة سليمان عزت قائد البحرية ورفض عامر فكان للأخير ما أراد
لكن الطامة الكبرى في سلوك عامر العسكري كانت في قرار الانسحاب الشامل من سيناء في اليوم الثاني للحرب.. 6 يونيو
جاء ذلك على خلفية انهياره الصامت منذ ظهيرة الخامس من يونيو، أي بعدما عاد من سماء أبو صوير إلى مطار القاهرة الدولي أثناء الهجوم الجوي الإسرائيلي الشامل ليركب سيارة تاكسي مدنية مهرولا إلى مقر قيادته. وفي سحابة ذلك اليوم كان عامر يحاول شن هجوم مضاد على المحور الأوسط باستخدام الاحتياط الاستراتيجي، أي الفرقة المدرعة الرابعة الرابضة على خط الدفاع الثالث عند سفوح المضائق الشرقية، استنقاذاً للقسيمة التي وقعت بسرعة في يد قوات شارون المهاجمة
كان بذلك يحاول تصحيح خطيئته في التركيز على المحور الجنوبي بخطيئة أكثر إيلاما
مع بداية اليوم الثاني للحرب كلف عامر مجموعة أركان تضم علي عامر ومحمد فوزي وأنور القاضي رسم خطة انسحاب من سيناء. تداعت المجموعة للعمل ووضعت خطة تقضي بالانسحاب على مدى 4 أيام/3 ليالي تكفل الحفاظ على سلامة القوات مع تكبيد العدو خسائر مهمة
في الثالثة عصر يوم 6 يونيو توجهت المجموعة للقاء عامر وإبلاغه بنتيجة مداولاتها لتفاجأ بخبر وقع عليها كالصاعقة وهو أنه قد قام منذ برهة بالاتصال بقائد الجيش الميداني وقادة الفرق والألوية المستقلة آمراً إياهم بالانسحاب العاجل والتام من سيناء في غضون 24 ساعة تبدأ مع آخر ضوء من نفس اليوم وتنتهي مع منتصف ليل 7/8 يونيو


كان عامر قد أبلغ عبد الناصر بفكرة الانسحاب وبتكليفه مجموعة أركان بإعداد خطته. وافق عبد الناصر لعلمه أن الانسحاب المنظم والتدريجي وإلى خط المضائق واجب ومطلوب نظرا لسيادة العدو الجوية فوق سيناء. ما لم يخطر على باله أن يكون عامر مع تقدم ساعات النهار ومع وصول اضطرابه العصبي إلى الحضيض قد غير رأيه في شكل ومدى وطريقة الانسحاب لتكون وفق الصيغة السالفة الذكر
عندما علم عبد الناصر الأربعاء 7 يونيو بما فعله عامر مساء اليوم السابق عنفه مؤنباً، ومشيرا إلى ضرورة الاحتفاظ بخط المضائق. ذلك التعنيف قاد عامر إلى أمر صدقي الغول قائد الفرقة المدرعة الرابعة - والذي كان الأسرع في الانسحاب ليس فقط إلى الإسماعيلية بل وإلى الطريق بينها وبين القاهرة – بالعودة من حيث أتى طلباً لتأمين خط المضائق
كان الوقت قد فات إلا على تعرض هذه الفرقة للمزيد من التدمير من الجو بسبب خليطٍ من رعونة القائد العام وفرار القائد الميداني
أحس عامر منذ صباح الثامن من يونيو أنه قد تسبب بكارثة محققة فبدأت تراوده نزعات الانتحار، لكن حضور عبد الناصر ذلك المساء للقائه – وبعد امتناع دام طيلة يومي 6 و 7 يونيو والنصف الأخير من يوم 5 يونيو – أثناه عن ذلك
هذا الانهيار يعزوه الفريق أول عبد المحسن كامل مرتجي قائد القوات البرية سابقاً إلى أن عامر كان في رتبة رائد ثم وجد نفسه برتبة لواء ثم مشير..واستمر يقود القوات المسلحة..وشيء طبيعي أن تهتز شخصية عامر بعد قفزته من رائد إلى مشير من دون أن تتهيأ الظروف المناسبة ليكون قائداً يمارس القيادة فعلاً..إلى جانب انشغاله بالنواحي السياسية عن القوات المسلحة، ما جعل معلوماته العسكرية لا تزيد عما كانت عليه أيام كان برتبة رائد أركان حرب كتيبة..ولذا انهار المشير بسرعة في أعقاب بدء حرب يونيو 1967 وأصدر قراراً بالانسحاب، فقلب الهزيمة إلى كارثة



يقول الفريق أول محمد فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة سابقاً في شهادته أمام لجنة تسجيل تاريخ الثورة إن عبد الناصر وعامر كانا متفقين عاطفياً ووطنياً..اتفقا على تحقيق أهداف الثورة..ولكنهما في الوقت نفسه كانا متصارعين على قيادة القوات المسلحة صاحبة الثورة وأداة التغيير في الدولة في ذلك الوقت. ويضيف الفريق أول محمد فوزي في شهادته أن الصراع بين الصديقين نشأ من تحميل عبد الناصر مسؤولية الانفصال الأدبية والعسكرية بين القيادة السياسية والقوات المسلحة للمشير عامر..وتطور الصراع بعد هزيمة يونيو 1967 ليصل في نهايته بالتطورات التي أعقبت الهزيمة وصولاً إلى وفاة عامر (سليمان مظهر، اعترافات قادة حرب يونيو، كتاب الحرية، القاهرة)


لقد دخلت الشوكة في عيون الجميع..بقي أن نعرف كيف جرت محاولة اقتلاع تلك الشوكة..وماذا كان مصير العيون التي أدماها الحزن والانكسار
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator