المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

عبد الحليم حافظ..موظف الثورة






بدأ عبد الحليم حافظ حياته الفنية نافخاً في الأوبوا، قبل أن ينال شهرته في عالم الغناء

والنافخ في هذه الآلة الأوركسترالية – التي تعد أصغر آلات النفخ وأكثرها علواً في طبقات الصوت- يتحكم في أنفاسه بصرامة كي يضبط النغمات الدقيقة الحزينة التي تصدر عنها. وبدون التحكم الصارم في أنفاسه ينفلت منه عيار الأوبوا لتملأ الجو عويلاً وتفجعاً، على حد قول الناقد الموسيقي الكبير كمال النجمي

ويبدو أن عبد الحليم حافظ، تأثر غناؤه بانضباط عازف الأوبوا، فكان صوته الهادىء المحدود الدرجات - بشهادة الكثير من العارفين والدارسين- مستأنساً. هذا الاستئناس لقي قبولاً لدى قيادة ثورة يوليو 1952 التي وجدت أمامها مطرباً شاباً يحاول اعتماد أوراق شهراته كأي شابٍ يتقدم بأوراقه إلى وزارة القوى العاملة

وفي ظل أبوية القائد التي جسدها "الريس" جمال عبد الناصر، ورمز الأمومة الذي لعبته "الست" أم كلثوم، اكتملت الدائرة بالابن الذي يتعاطف معه الجميع، وهو ما تقمصه العندليب عبد الحليم

وبالفعل تم قبول أوراق عبد الحليم شبانة، الذي سيصبح لاحقاً معروفاً باسم عبد الحليم حافظ، خاصةً بعد أن تبين للجميع أن هذا الصوت الغنائي يستطيع تعويض ضعف حنجرته ومحدودية مقامات صوته، بالجاذبية التي تكمن في نبرات هذا الصوت، ويستطيع الميكروفون تجسيمها

وكانت أول أغنية وطنية أداها عبد الحليم في حياته الفنية تحمل اسم "العهد الجديد" عام 1952 من كلمات محمود عبد الحي وألحان عبد الحميد توفيق زكي، وقد غناها بعد قيام ثورة يوليو. وفي 18 يوليو تموز 1953 أحيا عبد الحليم حفلة "أضواء المدينة" في حديقة الأندلس، واعتبرت حفلة رسمية إذ تزامنت مع أول احتفال بإعلان الجمهورية، حيث كان فنان الشعب يوسف وهبي يقدم المطرب الشاب بقوله: "اليوم أزف لكم بشرى ميلاد الجمهورية، وأقدم لكم الفنان عبد الحليم حافظ"

ولم يُضيع عبد الحليم الفرصة


تدريجياً تحول عبد الحليم بصوته الذي يشبه البكاء المختنق إلى أحد كبار الموظفين في عالم الغناء. صحيحٌ أنه صوتٌ تتعاطف معه وتدندن بالكلمات العاطفية التي يرددها، خاصةً إذا عرفت ما يكفي عن طفولته اليتيمة وصحته المعتلة، لكنه يظل موظفاً ربطته السلطة بإحدى الدرجات الوظيفية كي يغني للثورة وإنجازاتها، والقائد وحكمته وحنكته

وعلى صوت عبد الحليم عاش المصريون فترة من الزمن وهم يشعرون بأن إزالة إسرائيل أو إغراقها في البحر –وكان أحد شعارات المرحلة – أسهل من قضم قطعةٍ من الكعك

وعندما منع زكريا محيي الدين رئيس وزراء مصر عام 1966 عبدالحليم حافظ من الغناء، في أعقاب اتهامه بتهريب العملة إلى الخارج – إذ كان يسدد بها لعددٍ من الأشخاص جانباً من عائدات مصنع للأسطوانات كان مشاركاً في ملكيته في قبرص أو اليونان- تدخل عبد الناصر لإنهاء هذه المسألة، في الوقت الذي أجرى فيه عبد الحليم اتصالاتٍ هاتفية مع وزير الثقافة - ثم الإعلام- الدكتور محمد عبد القادر حاتم وكذلك مع شعراوي جمعة وزير الداخلية في ذلك الوقت. وهو الحوار الذي سمع فيه عبد الحليم من شعراوي: "ليس من المعقول أن تقدم مصر مطرباً يعبر عن ثورتها إلى محاكمة من هذا النوع". وهنا وجّه عبد الحليم الشكر العميق إلى شعراوي جمعة على هذا الموقف، مؤكداً محبته للزعيم جمال عبد الناصر

وفي عام 1964 وقع خلافٌ بين عبد الحليم وأم كلثوم بعدما أخرت دخوله إلى المسرح في حفلة عيد الثورة، وقال يومها قبل غنائه: "أنا مش عارف الغناء بعد أم كلثوم شرف ولا مقلب".وفي العام التالي، غاب عبد الحليم عن حفلة عيد الثورة بسبب موقفه من أم كلثوم، إلا أن جمال عبد الناصر رد له اعتباره عندما أعلن عن إقامة حفلة أخرى في الإسكندرية بعد الأولى بيومين وأصدر أمراً بأن يقوم عبد الحليم بإحيائها مع مَن يشاء من المطربين

كان العندليب الأسمر يحلو له أن يطلق على نفسه اسم "ابن الثورة"، وربما تعين تصويب هذا الخطأ غير المقصود بالقول إنه "موظف الثورة"، الذي استثمر عادة الانضباط القديمة التي اكتسبها من نفخ الأوبوا ليكون مطرب الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية التي تتحدث عن شعبٍ تورط في حروبٍ وصراعات تمتد من اليمن إلى الكونغو، حتى صحا ذات يومٍ على هزيمة يونيو 1967. ومنذ ذلك اليوم انكسرت أحلام الشعب الذي كان يردد أغاني عبد الحليم الوطنية ويصافح بها عنان السماء، وإذا به يجد نفسه فجأةً مُلقى على الأرض جثة بلا حراك



وإذا كان صلاح جاهين قد شعر بمسؤوليته الأدبية عن الهزيمة وأدرك أن كلماته المشحونة بالحماس التي كان يعطيها لعبد الحليم حافظ كانت أحد أسباب وقوع الجمهور فريسة عالم خيالي نحن فيه الأفضل والأحسن والأقوى وما إلى ذلك من أفعال التفضيل الخادعة، فإن صلاح الذي كتب لعبد الحليم 15 أغنية - بدءاً من "إحنا الشعب" عام 1956 في أعقاب تولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية، ومروراً بأغنيات أخرى مثل "بالأحضان"، "صورة"، "المسؤولية"، "بستان الاشتراكية"، "يا أهلاً بالمعارك" - قرر أن يُكفِرَ عن هذه المسؤولية بالغرق في حالة من الاكتئاب حتى يوم وفاته

إن محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي الشهير بـ "صلاح جاهين" كان شديد الإيمان بثورة يوليو، ودافع عنها باستماتة، حتى إنه قال عن عبد الناصر "مصر حترجع تاني تولدك". وحينما عرف أن الحلم بحياةٍ كريمة راح إلى غير رجعة، أصيب بحالة اكتئاب حاد، وطوى صفحة الكلمات الحماسية الرنانة؛ لأنه اكتشف الحقيقة بدون رتوش. بل إن نجيب محفوظ قال لرجاء النقاش في اعترافات صريحة وساخنة إن صلاح جاهين انتحر، بعد أن تحطم التمثال الذي ظل يبنيه بأشعاره وأغانيه وإحساسه للوطن.. الذي حلم به وله طويلاً

لكن عبد الحليم لم يفعل ذلك

في فيلم "حليم" (إخراج شريف عرفة، 2006) يقول جاهين لعبد الحليم حافظ: "يا حليم إحنا جينا نغني للناس غنينا عليهم"، الأمر الذي أغضب عشاق جاهين الذين عاتبوا ابنه بهاء الذي قام بالدور على ترديده هذه المقولة، مع أنها تنطوي على قدرٍ كبير من الحقيقة المؤلمة
أما عبد الحليم حافظ فلم يكن ببساطةٍ.. صلاح جاهين
وربما يجوز القول إن غناءه الوطني أصبح أشبه بوظيفةٍ رسمية. ولذا استمر في أداء مثل هذه الأغاني بعينين ذاهلتين تستجديان وتتوسلان الجمهور، واستمر في الوقت نفسه في تقديم أغنياتٍ عاطفية بوجهه الشاحب الذي يعطيك إحساسه بالمرض واليتم، مراهناً على أن الذاكرة القصيرة للجمهور ستمنحه صكوك العفو وتغفر له أغانيه الوظيفية..أي الوطنية
في عام النكسة قدم عبد الحليم بالتعاون مع عبد الرحمن الأبنودي وكمال الطويل عشر أغنيات متعلقة بالمعركة، لعل أشهرها أغنية "أحلف بسماها"، كما قدم أغنية "عدى النهار"

وبعيد حرب أكتوبر تشرين 1973 غنى عبد الحليم "عاش اللي قال" من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي وكانت أول أغنية أشاد بها بدور الرئيس أنور السادات في تحقيق النصر العسكري..وجاء موعد آخر عمل بين عبد الحليم وكمال الطويل مع أغنية "صباح الخير يا سينا" وذلك في عام 1974. وبعد افتتاح قناة السويس للملاحة العالمية عام 1975 غنى عبد الحليم آخر أغانيه الوطنية تحت عنوان "النجمة مالت على القمر" من كلمات محسن الخياط وألحان محمد الموجي، وأغنية "المركبة عدت" من كلمات مصطفى الضمراني وألحان محمد عبد الوهاب

والأكيد أننا لم نسمع عن شعبٍ متقدم - أو متأخر- يملك هذا الرصيد الهائل من الأغاني الوطنية والحماسية


مبدئياً، لا بأس أن يؤدي أحدهم أغنية وطنية، ولكن من المهم أن نسأل عن مضمون ورسالة الأغنية. ولا بد أن نتذكر أن الأغاني الوطنية التي قدمها عبد الحليم وغيره تحولت إلى جرحٍ غائر في جسد المواطن المصري بعد حرب يونيو 1967، وبعضها أصبحت مثار سخرية مزعجة، لأن المواطن اكتشف فارق السنوات الضوئية بين الواقع والدعاية الصوتية التي كانت تتردد على مسامعه ليل نهار. صحيحٌ أن الأحلام مطلوبةٌ في تطلعات الشعوب، لكنها يجب أن تحترم العقل وأن تكون طبقاً للواقع ووفقا للإمكانات

إننا نتكلم عن فنان ارتضى لنفسه السقوط في براثن الدعاية السياسية وبيع الأوهام للمواطن العادي

إننا نتحدث عن عبد الحليم الذي غني في 23 يوليو تموز 1966 أغنية "المسؤولية" التي تقول كلماتها الحالمة:

"صناعة كبرى... ملاعب خضرا

تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا

في كل قرية عربية
دي مهيش أماني.. وكلام أغاني

ده بر تاني.. ده بر تاني

طب ما قريب يا معداوية يا معداوية"


لقد صعدت بنا حنجرة عبد الحليم بألحان وكلمات أسماء نحترمها جميعاً إلى عنان السماء، فإذا بالحقيقة المُرة تتكشف بعد أن نهوي على أرض الواقع لنجد آباء وأشقاء وأصدقاء لنا عائدين من أرض المعركة سيراً على الأقدام، منهكين ومصدومين، وهم يشعرون في حلوقهم بمرارة الهزيمة

ولا جدال في أن كوميديا الأخطاء السياسية والاقتصادية والاجتماعية - ونضيف الغنائية- ساهمت في رسم صورة خيالية بعيدة كل البعد عن الواقع، فلما نظرنا في المرآة بعد الانكسار وجدنا الحقيقة ماثلةً أمامنا
اللافت للانتباه أن عبد الحليم لم يجد مانعاً في أن يغني للحاكم والنظام بغض النظر عن اسم النظام وهوية الحاكم، ولذا تجده فعل ذلك في مصر مثلما كرر الأمر نفسه في المغرب في ظل الملك الحسن الثاني..من دون أن يشعر بالفارق الهائل بين الرؤيتين والنظامين السياسيين
هكذا يعيش البعض على أكتاف السلطة..وفي أكنافها

لقد ظل عبد الحليم الصوت الأكثر جاذبية لدى المستمعين الذين كانوا يرونه عاشقاً بالنيابة عنهم.. يهمس "أهواك" ويشكو "بتلوموني ليه" وينكسر في "تخونوه" ويصرخ من الألم "جبار"


ومع ذلك لم يستثمر عبد الحليم هذه الموهبة الفطرية التي يمكن أن توصف بالقبول أو الجاذبية، فتوقف عن دغدغة مشاعر الجمهور سواء بالأغاني الحماسية الوطنية التي أدت إلى نتائج عكسية بعد حرب يونيو 1967 أو بالأغاني العاطفية التي كان يشدو بها سواء في حفلاته الغنائية أو أفلامه التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل. فهو يقدم لنا نفسه دائماً في صورة الشاب الضعيف المكافح الذي يعاني فقد الحبيبة أو هجرها فيكتم أحزانه ولا يترجمها إلا غناء، حتى يأذن له الله بالنجاح والشهرة المدوية
دعونا لا ننسى أن الجمهور شاهد عبد الحليم على شاشة السينما لأول مرة في 3 مارس آذار 1955 لدى عرض فيلم "لحن الوفاء" (إخراج إبراهيم عمارة) في دار عرض الكورسال، وقدم في مسيرته السينمائية نحو 16 فيلماً –إضافة إلى مشاركته بالغناء فقط في أفلام أخرى مثل "بائعة الخبز"، "بعد الوداع"، "الغجر"- كان آخرها هو "أبي فوق الشجرة" (إخراج حسين كمال) والذي عُرِضَ في 17 فبراير شباط 1969. وطوال تلك الفترة لم يكبر عبد الحليم، إذ يكفي أن نشير إلى أنه أدى في فيلمه الأخير دور طالب، في حين أنه كان في الأربعين من عمره، إذ إنه من مواليد 21 يونيو حزيران 1929
وإذا كان تقديرنا للرجل واحترامنا للثورة أمراً قائماً، فإن هذا لا يعني بالضرورة "الدروشة" عند الاستماع إلى أغاني العندليب أو خطب الثورة، ثم نقول بعد ذلك "آمين". إن فضيلة التفكير تثير حفيظة البعض ممن اطمأنوا إلى موروثهم السياسي والاجتماعي والغنائي، ثم تثاءبوا واستغرقوا في سباتٍ عميق، قبل أن توقظهم الحقيقة أو الرؤية المختلفة. ونحن نعتذر لهؤلاء بشدة إن كنا بهذه السطور قد أقلقنا منامهم وأرقنا مضجعهم، لأن حديثنا هنا منصبٌ على قضية أساسية، وهي توظيف الفنان سياسياً واستغلاله في الدعاية لمصلحة النظام والترويج للحاكم والحديث عن الإنجازات، وإغماض العين عن العيوب والعثرات.. والنكسات
إن مشكلة عبد الحليم حافظ في جزء منها مصدرها جمهوره الذي يرفض أن يسمع ولو كلمة واحدة تقدم رؤية مغايرة للصورة التي يعرفها عن العندليب، ويتحول إلى ما يشبه الكاوبوي الذي يتحسس مسدسه عندما يواجه خصومه، لأن هذا الجمهور يفضل الصورة المرسومة في ذهنه عن مطربه المفضل، حتى ولو كانت تلك الصورة لوحة زيتية تدخلت فيها الريشة في أكثر من موضع لتضفي لمسات جمالية أو تجميلية تخفي عيوباً تظهر في الأصل

ووسط هذا الجمهور الغفير من عشاق "حليم"، برزت أسماء معينة أسست في غفلةٍ من الزمن "رابطة المنتفعين بعبد الحليم حافظ"، فهي تروي قصصاً وحكايات لا أول لها ولا آخر وتؤلف كتباً كشهود عيان على الكفاح الفني الذي خاضه العندليب الأسمر، ورحلة مرضه، وحتى غرامياته التي أفرد أحدهم كتاباً تُفاجأ عندما تقرؤه بأن جزءاً من المغامرات الواردة فيه من بطولة المؤلف نفسه، ونعني بذلك منير عامر في كتابه "نساء في حياة عبد الحليم"


بل إن مؤلفاً آخر هو -مفيد فوزي- خصص فصلاً كاملاً في كتابه يحمل عنوان "صديقي الموعود بالعذاب عبد الحليم" (مطابع روز اليوسف، 1991) يتحدث فيه عن مأساته الشخصية حين تعرض للفصل من مؤسسته الصحفية التي يعمل بها. عضو ثالث من الأعضاء المؤسسين للرابطة المذكورة –وهو مجدي العمروسي- ظل لسنواتٍ طويلة يعتبر عبد الحليم مياهه الإقليمية التي لا يجوز لأحد الاقتراب منها، بعد أن نصب نفسه حاكماً بأمر "السبوبة" على تراثه وأعماله الفنية، وكان ثمرة هذا الاحتكار العاطفي كتابه "أعز الحبايب" (1994)

وأعضاء هذه الرابطة يثيرون الضحك - وأحياناً الغضب- عندما يتحدثون حتى يومنا هذا في وسائل الإعلام المختلفة عن مطربهم المفضل، فيقسمون بأغلظ الأيمان أنه لا يوجد طرب ولا يحزنون بعد رحيل عبد الحليم حافظ في 31 مارس آذار 1977 ليحكموا ببساطة متناهية بالإعدام على كل الأصوات الجيدة والموهوبة التي أتت بعده

إن من قرأوا وتابعوا حياة عبد الحليم حافظ يدركون جيداً أنه اعتمد على ماكينة الإعلام بتروسها الثقيلة بهدف ضمان شهرته. لقد رغب عبد الحليم في تكوين بلاط شخصي له، الأمر الذي جعله يمارس نوعاً يقترب من التسلط على أغلب من يحيطون به، ولذا فقد جند جيشاً هائلاً من الصحفيين والإعلاميين والفنانين، كان منهم الهواة الذين حملوا على عاتقهم المهمة في بداياتها بمنتهى الإصرار بفضل حماس الهواة وعنادهم. ثم جاء جيش المحترفين الكبار في وزن أو على شاكلة مفيد فوزي ومحمد حمزة ومنير عامر ومجدي العمروسي ووجدي الحكيم، إضافة إلى ملحنين في قامة كمال الطويل ومحمد الموجي، لتبقى التروس دائرة، من دون أن يحول ذلك دون اعتماد البعض منهم نهج الاسترزاق و"السبوبة". ولذا تجد شهر في مارس من كل عام مولد "سيدي عبد الحليم".. وهو مولد بالفعل، إذ يوجد ضريح ومقام ومجاذيب طريقة وأفاقون وجمهور وجوقة، لتكتمل حالة التغني بالعندليب "كامل الأوصاف"
والشاهد أن عبد الحليم الذي اتسم بالذكاء الفني، كان أكثر الناس سعادة بما يكتب عنه في حياته، وأنه لم يكن يمانع في أن يكون نصف ما هو مكتوب عنه مديحاً لغنائه، والنصف الآخر تصويراً لمعاناته في طفولته ورحلته مع المرض..فالاثنان يصنعان في أذهان الجمهور البسيط نجماً قريباً إلى القلب والنفس، بعد أن رسم جمهور الأغنية لعبد الحليم صورة الإنسان الذي تعذب حتى يغني لهم، غير متوقعين أنه في غنائه الوطني كان "يغني عليهم"

ولن أنسى ما حييت ما قرأته ذات مرةٍ على لسان الشاعر الراحل كامل الشناوي، عندما قال: "لا تصدقوا عبد الحليم حافظ إلا في حالةٍ واحدة فقط..حين يغني.. إنه يكذب علينا كثيراً في الحياة..ويبدو أنه ضعيف وهو الذي نسج من ضعفه أعتى قوة.. إنه يتواضع ولكنه تواضع المغرور"
رحم الله عبد الحليم حافظ، فقد كان صوتاً جذاباً..وموظفاً حكومياً

تابع القراءة

gravatar

الصورة إن حكت (2): يا وحدي




الصورة: يد طفلة من عائلة الضياء قضت تحت أنقاض منزل عائلتها الذي دمره قصف صاروخي إسرائيلي أطلقته طائرات اف 16 على حي الزيتون شرق قطاع غزة بعد ظهر يوم الثلاثاء السادس من يناير كانون الثاني عام 2009. أودى القصف بحياة 13 من تلك العائلة، بينهم 7 أطفال تتراوح أعمارهم بين عام و12 عاماً، وثلاث نساء

تصوير: محمد صابر
Image: Mohammed Saber/epa/Corbis



كنتُ سماءً قصية
كنتُ أغنية لم ترددها شفاه، وعصفورة تسطعُ ألوانُ العيدِ البعيدِ في عينيها
ألثغُ بالراء في اسمي، لكن كلماتي تتشابكُ كأنها شالٌ غزلته أمٌ لابنتها ليدفئها في ليلِ الشتاء
أحلمُ بأبٍ يربتُ على كتفي في حنو، وفي الغدِ زوج تستكينُ كفي إلى دفء كفه
وأحِنُ إلى أمٍ تقولُ لكل منهما: لا تترك رقبتها هكذا من دون جوهرة تليقُ بها، وهي بلاغةُ البهجة
في حي الزيتون، أشجارٌ اختلست هيئةَ الغابة، وكلُ قُبلةٍ من أمي تُغذي شجرةً في تلك الغابة
إخوتي يطاردون معي السائلَ الأزرق الناعم الذي يُلونُ السماء، لتضحكَ أفلامُ الغرامِ والانتقام مثل أي طفل شقي
نسرحُ في البريّة بالحرّية ذاتِها التي تسرحُ بها الشمسُ في مدارِها، نوشوشُ تجاويف الشجر بأسرارِنا، ونُلاحِقُ العصافيرَ وهي تنفضُ الطلعَ على الجدران
وضحكُنا الصاخِبُ يبحَثُ عن فضاءٍ لا يَصنَعُ فِيه البَارودُ قُبّة الخَوفِ
يدسُ أبي يديه في جيوبه التي مزّقها الدهرُ ليمنحنا وينفحنا ما نشتري به قطعة حلوى نخففُ بها مرارة الحياة
وتمسحُ أمي على جبهتي وهي تغني لصغيرتِها بصوتٍ كالتَّـوَاشِيحِ التي بينها وبين القلبِ عهدٌ
في حي الزيتون، النهارُ دائماً يصفعُك، حتى يحينَ الليلُ الأكثر تسامحاً مع خطاياك
فتية يُلِحُّون في سَعْيهِم ليَشبّوا عن الطوْقِ، وشبابٌ يمشون بتُؤدة وكأنهم في حِلٍ من أمور الدنيا، ونساء تلمحُ أثر حرق على أصابعهن من مغامراتِ المطبخ، وشيوخٌ تشردوا بين بلادٍ يسكنونها ولا تسكنهم، وبلادٍ تسكنهم ولا يسكنونها، وعجائز يخفين مفاتيحَ علاها الصدأ للبيوتِ القديمة التي ينامُ فيها الغرباء
هي الذكرياتُ التي يحرقها ذوو القلوب المسكونة بالفجيعة، ويحتفظون برمادِها في غرفِ المعيشة على سبيل الذكرى
النارُ لا تفكرُ وهي تضطرم، وكذلك الذكريات، فهي مجردُ وقودٍ نعبئه داخلنا، لنواصلَ كابوسَ الحياة
الناس يعيشون في الأماكن، أما في غزة فنحن نعيشُ المكان: الحقيقة ما نعيشه لا ما نتعلمه
شعبٌ يليقُ بمأساة، حائرٌ بين القطيع وقاطع الطريق
ومدينة كانت، بزهْوٍ، خادعة ومخيبة للآمال وقد بدت كأنها الحياة ذاتها، إلا أنها كانت حرباً فوق حرب، بناءً من العداوات- بالوهمِ
الحظ الجائح أو الجانح يطلُ في دربنا
السمُ في كل الكؤوس، فما عسانا نشرب؟
لقد استغرقني الأمرُ زمناً قصيراً للغاية كي أفهمَ قلوباً كثيرة، وأدرك أن كل ما نستطيع تصنيفه قابلٌ للتلف لا يدوم، إلا ما هو قابلٌ لتعددِ التأويل
ونحن لا نكرهُ سوى العدو، من دون أن نأبه لحقيقة أنك حين تكره أحداً فأنت تكره فيه ما يشبهك
في القطاع الغارق في البؤس، كلما تَقدَمَ الناس في السن فإنهم يدركون واقعهم، ويستسلمون لحقيقة أنهم ليسوا متحررين من أي شيء
والظلُ يسيرُ خلفك متحدياً خُطاكَ المتسارعة مثل خفقات قلبٍ خائف
لكن، لا طفلَ هنا يكفنه الخوف
أنت تخافُ فقط حين تفقد نفسك في سوق مزدحمة
وفي دارِنا، كانت الساعةُ تلعقُ الوقتَ وتحدقُ في أحزاننا
كانت للخزانة القديمة الممسوخة بالرطوبة رائحة احتفظت بها على مر السنين. رائحة تظل عالقة بالملابس الباهتة التي أذهبَ الزمنُ لونها
الجوعُ ضيفنا الثقيل، يسكنُ في الحجراتِ والمطابخ، ويجوبُ في الشوارع الخالية إلا من الفقر
الماءُ شحيحٌ، والفرحُ مراوغٌ كَعُرُوقِ اُلسَّرَاب
نركضُ إلى البحر الذي نشتاقُ إليه، مثل زجاجة خمر تؤرق السكارى طالما بها هذا السائل
ذيلُ فستاني المُوشَّى بالورود يغوصُ تحت كعبيّ وأنا أدوس حافيةً
ينحسرُ الماء عن قدميّ فلا يبقى سوى ملمس الرمال الناعمة
الشقوق المجرّحة: الزينة الوحيدة للأقدام الحافية
نتأملُ زوارق قضمتها الديدان، ونبعثرُ أمنياتٍ زرقاء في الأعيادِ النادرة
ثم نعودُ إلى بيوتنا ببعض حبات الرمل والحصى الذي يُحيرنا لونه، وما تبقى من الحزن
لا يأخذُ الحزنُ من ملح الشّاطئ.. فالملح ينكأ الجراح
أحياناً تصبحُ دفقة الحياة في شرايين اعتادت الانسدادَ خطراً حقيقياً على الإنسان
في المدرسةِ يُعلمونَك كُلَ صباح كيف تكونُ يائساً كالخشبِ، كالحجارةِ، كالدمعةِ في صلادتِها
لكن الأطفالَ يغافلون صرامة المُعلم ويُطلون من النافذةِ التي تهشمَ زجاجُها ذاتَ قصف: لا شيء سوى حفنة مقاتلين في داخلهم تَغرَقُ البِحار، وتحترِقُ الجُزُرُ
نقتفي بعيونِنا آثار أحذيةٍ على الرمالِ تؤكّدُ أن مسلحين لم يُهذبوا لحاهم مَرّوا من هنا، في طريقِهِم إلى الحدودِ والأسلاكِ الشائكةِ
المشهدُ من نافذةِ الصفِ الدراسي ممتلىء دوماً برفيفِ أجنحةِ الملائكة وصيحاتِ الأتباعِ والخاطئين، والمخلصين والمرتدّين
الموتُ هنا ابتكارٌ يأتي مصادفة.. ألمٌ لم يَعُدْ يدهش أحداً
الألمُ الحقيقي هو الذي يُبقي الأشياءَ يقظةً، ويُلهمك أن تُردَ له ضربته
في الأزقة تعلمنا أن الشقوة ليست في أن نموت، ولكن في أن ننتظر الموت
إلى أن جاءت الحرب التي تشتهي أرواحنا
سَمها ما شئت: الرصاص المتدفق، الفرقان، أو فقط القتل
المهم أننا ضحاياها، أنا وأمي وأبي وإخوتي وجيراني، وجيران جيراني
ضحايا بلا ثمن، تحت أنقاض المنازل، أو على أبوابِ المشرحة، نستجدي اسماً وهوية، فمن لا اسمَ له لا وجودَ له
في أرضنا، البعضُ يُدمن مزية السقوط: نحن لا نتشاجرُ إلا داخلنا
والحربُ هنا أخطبوطٌ، تمتدُ أذرعُه وتشتبِكُ حتى تحارَ أيها قاتُلك
وحينما تُدرِكُ أن الحربَ يخوضُها أكثر من طرفين، تيقن أن الطرف الفعلي يقبع في الخفاء
عصر الثلاثاء السادس من يناير عام ألفين وتسعة، كانت الوجوهُ المتخفية في صباحاتنا اليائسة تميلُ شطرَ القيلولة
وحده أبي جلس يراقبُ القلق وهو يُحيلُ الأرض مسوَّدة لحزنٍ هائل
تبتلعُ الطائراتُ خيوطَ الشمس..غربان تتسلقُ جدارَ الموتِ وتكسرُ الهواء
الجنودُ يعملون بأسلحةِ المستقْبَلِ والصواريخ "الذكية" على إزالةِ حي ضاربٍ بجذوره في الماضي
شاشةُ الرادار ترصد هشاشتنا وتحرق كل شيء، حتى دميتي المحشوة بالقطن..هل كان صندوقُ اللعبِ في غرفتنا خطراً على أمن القتلة؟
المدينة تتلوّى وتصرخُ "يا وحدي"، والمقاتلُ لم تنبتْ لعنةُ الحبِ تحت إبطيه
بدأ القصفُ الجوّيُّ هادئاً ثم اشتدَّ فجأةً. الجيرانُ كلّهم في شارعنا المزدحمِ، لم يسمعوا صافرات إنذار لتحذيرهم ولم يجدوا خنادق لتحميهم من هدير الطائرات
فقط الموتُ يهبطُ بجناحيه العملاقين وظلالِه التي لا تؤنِس
لم يَدَعوا أحداً يتلو وصيته
تحت نيران القصف، أتركُ ظلي وأختبيء في الصورة
أرى بشراً يسيلون وهم يسيرون
تسقطُ أمي وأبي وإخوتي وسط الوجوهِ المارقةِ على عَجَل
نصبحُ أكواماً من اللحمِ الحي لها رائحة الشواء، يهرعون بها إلى ثلاجة الموتى
بين اللهيبِ والصقيعِ ينامُ الحمامُ الذبيح
الضياء: عائلة منذورة للحزنِ والأسى
والموتُ أسهلُ من فراق
نصيرُ نحيباً في صدورِ من لا يملكون أن يحتفظوا في جيوبهم بذاكرة غير القوت
عندما انزلقتْ ذراعي بفعل شظية تركتُها تتدلّى بجانبي، واهنةً، عديمةَ الجدوى، وغريبة
لو كانت أمامي دقيقة إضافية لكنتُ التقطت دفترَ التلوين ورسمتُ دماً يتدفّق وجلاّدين يتقاتلون كالوحوش
دمي الذي ينزُ، يلطخُ وجوهَ وأيدي القتلة..ولا أحد يأبهُ للبراءةِ التي غَابَتْ فِي الرَّمَاد
بعضهم لا يعرفُ كم هو متورطٌ في القتل: السلطان الذي تدمره السلطة، الغني الذي يقتله الغِنى، الخاضع الذي يسحقه الخضوع..ومن يتلذذ تبدده اللذة
أيها القتلة: اتركوني أكبرُ قليلاً
أريدُ أن أصيرَ أماً، وأمُرَ بيدٍ حانية على ملمس غطاء مهد صغيري
أريدُ أن أصيرَ زوجة لرجلٍ وسادتُه شاهدُ قبر طالما أنه لا يرقد ناعساً وسط شعر حبيبته
ثَمّة شخصٌ ما، هنا.. يمتدح الأصابع النحيلة لمن يضغط على الزناد
ينامُ القناصُ في جُحره، وأنامُ على أرضٍ لا تنتهي، مضمومة مثل جنين
كم تتسعُ عينا القناصِ في الظلام وكم تضيقان نهاراً. وعيونُ الجناة تتغذى على السواد
أيها القاتلُ الذي لا يدري: خيطُ الماء في صنبور حمامِك لا يسيلُ منه سوى دمي
أيها القاتلُ الذي لا يريدُ أن يعرفَ الحقيقة: لماذا أصواتنا عالية كمئذنة، وأفعالنا واطئة كحظيرة
أيها القاتلُ الذي يبكينا: دموعُك، هذا الحزنُ الحارق المندفعُ كالبركان، هو كأسي الأخيرة
أيها القاتلُ الذي يبتسم: لن تُعطيكَ الخَوذَةُ مَذَاقَ الانتِصَار
أيها القاتلُ الذي يُحصي جثثنا على الفضائيات: جرائمك تزدادُ باطراد
أيها اللاهي بالسلاح: أنتَ ضيّعتني، ثم ضعتْ
أيها الصغير الذي يسمعُ عن حكايتنا: أنت بادلتني الحلمَ، فلا تخذلني
أيها الراقدُ في رحمِ أمك: ها هي العتمةُ تأسرُك، فتحرر منها في سِفرِ الخروج
أيها الراقدون في كل مكان: لا تحاولوا أن ترموا حنانَ الزهرة على قبري
ربما أكونُ قد متُ، لكنكم لن تعيشوا بعدي
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator