المحروسة

gravatar

أثرياء مصر زمان.. والآن (12): دموع ملك القطن



ينتمي محمد أحمد فرغلي باشا ملك القطن، إلى أسرةٍ من أصولٍ صعيدية، فهي من مدينة أبو تيج ونزحت إلى الإسكندرية واستقرت بها. كانت أسرته محسوبة من الصفوة، حيث الثراء المادي والاقتصادي، بل إن الشارع الذي وُلِدَ فيه حمل اسم أسرته: شارع فرغلي
توارثت الأسرة العمل التجاري، فالجد والابن من بعده يعدان من كبار تجار الحبوب، وكانا يتاجران في القطن على الجانب المحلي وحده، ولا يخوضان تجربة التصدير إلى الخارج

تلقى محمد أحمد فرغلي تعليمه في مدرسة الجيزويت الفرنسية، ثم التحق بكلية فيكتوريا ذائعة الصيت، وكان من أبرز أصدقائه فيها أمين عثمان الذي اغتيل عام 1946. سافر فرغلي بعد ذلك إلى إنجلترا لاستكمال دراسته في مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية، لكن مرض الأب اضطره إلى العودة إلى الإسكندرية، لتحمل أعباء العمل التجاري للعائلة

كان رأسمال الأب في تلك الفترة يقترب من 30 ألف جنيه، وهو رقمٌ كبير آنذاك، لكن طموح الابن تجاوز ذلك بكثير. بعد فترة حاول العمل مستقلاً لمدة عامين، إذ أنشأ مزرعة لتربية الخنازير فوق أرض مستصلحة تبلغ مساحتها 900 فدان كانت تملكها العائلة في منطقة أبو الشقوق بالقرب من المنصورة. ثم استدعاه أبوه، فقرر تصفية مشروعه الذي حقق من ورائه ربحاً صافياً يقترب من ثلاثة آلاف جنيه، وهو رقمٌ ضخم بمقاييس عشرينيات القرن الماضي
وتحت إلحاح الابن محمد، سرعان ما بارك الأب تحول جزء من نشاط الأسرة التجاري إلى مجال تصدير الأقطان، الذي كان حكراً على الأجانب
تكبدت الصفقة الأولى في مجال تصدير القطن خسارة فادحة، تزيد على أربعة آلاف جنيه، غير أن محمد تعلم من التجربة جيداً
بدأت رحلة "ملك القطن" - الذي توفي والده عام 1927- مع التصدير بحصةٍ لا تتجاوز 0,25 % من إجمالي المحصول المصري من القطن. وبعد ما يزيد قليلاً عن عشر سنوات، كان محمد أحمد فرغلي يصدر 15 % من جملة المحصول. وبهذه النسبة كان يحتل المركز الأول في قائمة المصدرين، فضلاً عن أن نجاحه مَثَل دافعاً لأن يقتحم مصريون آخرون مجالاً كان مغلقاً دونهم (مصطفى بيومي، محمد أحمد فرغلي "ملك القطن"، سلسلة رواد الاستثمار، مركز إعداد القادة لإدارة الأعمال، وزارة المالية، مصر، 2008)
في عام 1935، انتُخِبَ محمد أحمد فرغلي وكيلاً لبورصة مينا البصل، وكان أول مصري ينهي سيطرة الأجانب الطويلة على المناصب القيادية. وفي مقابلة مع الملك فؤاد بعد انتخابه، ودعه الملك مخاطباً بكلمة "بك". ولما كان نطق الملك سامياً لا عودة فيه، فقد حاز محمد أفندي فرغلي رتبة البكوية. وفي عام 1941، في ظل وزارة حسين سري، حصل فرغلي على رتبة الباشاوية
غير أن محمد أحمد فرغلي باشا عاش كثيراً من الأزمات والمحن
ففي عام 1934 أدى ارتفاع أسعار القطن في بورصة نيويورك إلى توريده كميات كبيرة كان متعاقداً عليها بأسعار كلفته خسارة قدرها 600 ألف جنيه. غير أن حصوله على قرض من البنك الإيطالي بقيمة 100 ألف جنيه دون ضمان، أنقذه من ضائقةٍ مالية شديدة
وعاد الخط البياني إلى الصعود السريع حتى جاءت الأزمة الثانية عام 1949. وخلال السنوات الفاصلة بين الأزمتين، كان فرغلي قد أصبح من كبار المساهمين في عدد كبير من الشركات وعضواً في مجالس إدارات عدد من البنوك والمؤسسات الاقتصادية، وتوسعت شركة فرغلي للأقطان في أعمالها حتى وصلت أرباحها السنوية إلى ما يزيد عن مليون جنيه
وفي الأزمة الثانية، عجز صغار ومتوسطو التجار عن توريد الكميات المطلوبة في التوقيتات المحددة لمجموعة شرائية عملاقة تم الاتفاق بشأنها بين محمد أحمد فرغلي وعلي يحيى وآخرين. للإفلات من الحصار الذي يهددهم، لجأ هؤلاء التجار إلى تصعيد الأمر بالشكوى إلى الحكومة، وكانت المفاجأة في فتوى وزارة المالية بإمكان تسليم التجار لأقطان لا تطابق المواصفات
ويروي ملك القطن في مذكراته (محمد أحمد فرغلي، عشت حياتي بين هؤلاء، الإسكندرية، 1984) كيف اتفق كبار المصدرين على تحرك مضاد، وفوضوا علي يحيى بالسعي إلى استمالة الملك والحصول على دعمه، وكان إلياس أندراوس باشا هو الوسيط، وطالب بأن يحصل الملك على ربع مليون جنيه، أما الحاشية، أو ما كان يطلق عليها الأوركسترا، فحصة أفرادها من الرشوة 25 ألفاً
يؤكد فرغلي أن الملك فاروق مارس ضغوطاً على الحكومة الوفدية حتى تراجع وزير المالية زكي باشا عبد المتعال عن موقفه. وبفضل الحيلة والتلاعب، التف كبار مصدري القطن على مجلس الدولة ورئيسها آنذاك عبد الرزاق السنهوري باشا، مع أن فتوى مجلس الدولة جاءت لمصلحة صغار التجار، ولكن بعد فوات الأوان. انتقلت القضية بعد ذلك إلى ساحة المحاكم وظلت مستمرة نحو 20 عاماً، ليكسبها في النهاية فرغلي باشا ومن معه
يقول محمد أحمد فرغلي باشا بوضوح رجل أعمال لا ينكر اللجوء إلى سلاح الرشوة: "انتهت هذه الأزمة عام 1950 بعد ضجةٍ إعلامية كبيرة على صفحات الصحف، وفي المنتديات العامة، ولقد كسبت بعض الصحف نتيجة مساندتها لنا آلاف الجنيهات، كما كسب المحامون مبالغ طائلة وسميت هذه العملية أيامها بعملية "الكورنر"
ولم تكن تلك واقعة الرشوة الوحيدة التي كان تاجر القطن الشهير طرفاً فيها. فقد حدث في دائرة مينا البصل بمحافظة الإسكندرية أن رشح أحمد فرغلي نفسه. يومها دفع فرغلي باشا أكبر رشوة انتخابية وهي جنيه مصري كامل لكل من يمنحه صوته. وكان مندوب الباشا يعطي الناخب نصف ورقة الجنيه فإذا خرج من اللجنة الانتخابية وأعلن أنه انتخب الباشا حصل على نصف الورقة الآخر. وكان مندوب الباشا داخل اللجنة يعطي الناخب ورقة تؤكد أنه نفذ المطلوب، وانتخب تاجر القطن
ولم ينجح الباشا بل سقط أمام مرشح الوفد رغم الجنيهات الكثيرة التي دفعها؛ لأن الوفد في ذلك الزمان كان يكسب في كل انتخابات لم تمتد إليها يد التزوير في النتائج
وفي عام 1951، تعرض فرغلي باشا لأزمة ثالثة، دفعته إلى البكاء أمام زوجته
فقد تعاقد على بيع ربع مليون قنطار من القطن بسعر ثمانية جنيهات للقنطار، لتصل قيمة الصفقة إلى مليوني جنيه. بعد أن تم التعاقد، رفض خبراء البورصة القطن الذي قدمه فرغلي لأنه ليس مطابقاً للمواصفات. وعندما احتج المُصدِر الكبير على القرار، تشكلت لجنة ثانية أيدت ما وصلت إليه اللجنة الأولى
ويعترف محمد أحمد فرغلي بأنه دفع خمسة آلاف جنيه لأحد كبار الصحفيين ممن يملكون داراً صحفية، ليكتب مقالاً موقعاً باسم فرغلي باشا، حمل عنوان "إني أتهم"، يتهم فيه مندوب الحكومة في البورصة بالتحيز
ولم ينقذ فرغلي باشا من المحنة الثالثة سوى حريق القاهرة
ففي أعقاب حريق القاهرة الذي شب في 26 يناير كانون ثانٍ 1952، سقطت الحكومة الوفدية، وتشكلت وزارة جديدة قبلت القطن الذي سبق رفضه، وبدلاً من خسارة المليونين، حقق فرغلي ربحاً جديداً
ثم وقعت ثورة يوليو 1952 التي أعادت رسم ملامح مصر سياسياً واقتصادياً
في لقائهما الأول، قال محمد أحمد فرغلي للرئيس جمال عبد الناصر: "يا رفعة الرئيس، كيف لا أؤيد تغييراً يسعى إلى تحقيق الأفضل. لقد كنت أتوقع مثل هذا التغيير، بدءاً من عام 1949، وكان كل خوفي أن تقع السلطة في أيدي الإخوان المسلمين، فيعودوا بالمجتمع إلى الوراء"
غير أن الثورة حملت معها رياح التأميم الذي يرى الباشا أنه تم بطريقة عشوائية، أما فرض الحراسة على أموال ممتلكات الأغنياء فهي في تصوره أقرب إلى الأعمال الانتقامية التي تنتهك كرامة الإنسان
قًدِرَت قيمة شركات فرغلي بمبلغ مليوني جنيه، على الرغم من أن قيمتها الحقيقية تزيد عن ذلك بأربعة أضعاف. أما أول مرتبٍ شهري حصل عليه بعد فرض الحراسة على أمواله، فلم يزد عن جنيهين ونصف الجنيه
في الستينيات، تلقى محمد أحمد فرغلي عرضاً للعمل كمستشار في أحد البنوك الإنجليزية في لندن براتب يصل إلى 25 ألف جنيه بالإضافة إلى مسكن سيارة وسائق، لكنه رفض العمل خارج مصر
ووافق ملك القطن على العمل مستشاراً لمؤسسة القطن في مصر، بمرتبٍ يعادل مجلس الإدارة، غير أن المجلس في اجتماعه للموافقة على التعيين، رفض المرتب المقترح، وقرر ألا يزيد عن 100 جنيه
وهكذا تعامل رجال الثورة مع القطاع الخاص الوطني، فكان.. ما كان

gravatar

اولا اسمحلي اسجل الاعجاب الشديد قبل بداية التصفح في هذه المدونة الرائعة

حقا الكتابة موهبة ولا شئ سوى ذلك

انا ادرس بالسنة النهائية في كلية التجارة

و جل ما يكتب هنا اعرفه

و لكني لا استطيع سرده بهذه السلاسة

gravatar

محمد الكومي

أهلاً بك قارئاً وصديقاً للمدونة وصاحب هذه السطور

يا عزيزي، كل ما في الأمر هو أن المعرفة هي التي تصنع الرأي والرؤية

ولعل أبرز مشكلاتنا في مصر هي غياب المعلومة الصحيحة، ولذا تجد الكل يحاول الإفتاء أو الإدلاء بآراء مغلوطة تفتقر إلى الدقة

والنتيجة هي ما تراه يومياً في الشارع والجامعة والمكتب والمنزل

مودتي الخالصة

gravatar

د.ياسر الشباب مبهورين بمدونتك الرصينه...وهذا أسعدنى جدا..كما قلت لك..أن حصولك على جايزه أفضل مدونه عربيه يأصوات القراء أعطتنى أمل أن الجديه لها سوق..ده مش تعليق دى مجرد أشاره أعتقد أنك ستجد فى اللينك دى ماأعنيه
http://charkawy.blogspot.com/2009/02/blog-post_22.html
..تحياتى..خالد

gravatar

لا شك ان قرارات التأميم هى احدى خطايا الثورة التى لا تغتفر

شكرا يا دكتور على المعلومات القيمة و السرد الشيق

gravatar

أبو فارس


شكراً لك يا د. خالد على لفت انتباهي إلى هذه التدوينة وذلك النقاش

أعتز كثيراً بتقديرك الشخصي للجهد المتواضع الذي أقدمه هنا، كما أني لن أخفي سعادتي بأن يكون هناك قراء ومدونون أفاضل يتابعون موضوعات المدونة ويتفاعلون معها إيجابياً، وسيعرفون قيمة الجهد المبذول

تأكد أن هذا يعطيني دفعة أكبر لمواصلة الكتابة عن موضوعات تسهم في إضاءة بعض من المسكوت عنه في تاريخنا وأدبنا أيضاً

gravatar

آخر أيام الخريف

هناك كثيرون -ومنهم محمد أحمد فرغلي نفسه- يرون أن التأميم في حد ذاته لم يكن خطأ من حيث المبدأ، وإنما الاعتراض ينصب على الأسلوب الذي تم به

فقد لجأت الدولة إلى تأميم كل الشركات، الرابح منها والخاسر، وعمدت إلى ملكيتها بنسبة 100 %، وعينت على رأس هذه الشركات أهل الثقة ممن لا يملكون أي خبرة في إدارة أعمال مثل هذه المؤسسات المتخصصة

للدولة أن تتبع ما تشاء من سياسات، لكن التأميم العشوائي وتهميش دور القطاع الخاص الوطني ومطاردة كفاءاته لا يمكن أن يعبر عن أي سياسة، والاعتماد على أهل الثقة كارثة جعلت الاقتصاد المصري أسير طائفة لا تملك العلم والخبرة ولا تحوز مؤهلات تعين أفرادها على الإدارة الواعية

gravatar

اتفق مع حضرتك تماما فى كل ما ذكرت يا دكتور

gravatar
Anonymous في 9:53 AM

انا من قرية ابو الشقوق التي ورد ذكرها في المقال المنشور وهذه اول مره اسمع هذا الكلام
ورغم انني لا اعرف مدي صحة هذه المعلومات عن ابو الشقوق إلا انني احييك علي هذا المقال الرائع وادعوك وكل الزائرين لديك لزيارة مدونة قرية ابو الشقوق www.elbr.blogspot.com

gravatar

Anonymous

أهلاً بك دائما يا عزيزي


الأحداث التي أوردتها هي بالطبع موثقة تاريخيا بناء على مراجع ومصادر، وأرجو في أن يكون ذلك فائدة لك وللجميع

سأزور موقع أبو الشقوق بكل سرور

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator