المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

فتوات تحت الطلب (3): سكسكة وأخواتها





في عالم الفتوات والبلطجية، لكل حادثٍ حديث، ولكل مهمة ثمن
ولعل ما يسترعي الانتباه‏ أن المرأة دخلت بثقل لا بأس به - يصل إلى نسبة الثلث- في بلطجة الشارع المصري، حسبما أوردت وزارة الداخلية من إحصائية رسمية لعام 2003.‏ والبلطجي الآن موجود في الشارع المصري وبتسعيرة متدرجة حسب نوع العنف المستخدم أو حسب قوة الترهيب والتخويف والتأديب التي يستخدمها الآخر ضد الآخر
والنساء الفتوات - مثل فتوات الرجال الذين تحفل بهم قصص وروايات الأديب الكبير نجيب محفوظ- أشكالٌ وألوان، البعض منهن تخصص - خاصة أثناء سبعينيات القرن الماضي- في مزاحمة الأخريات في الطوابير الممتدة أمام الجمعيات الاستهلاكية للحصول على نصيب الأسد من السلع التموينية، من دون أن تجرؤ سيدة أخرى على بسيطة الحال على الاعتراض أو تحدي سطوة هؤلاء النساء اللاتي يعرفن كيف يصبحن مصدر ترهيب وتخويف لكل من تسول لها نفسها تحدي هذه البلطجة الاستهلاكية
تطورت الحال بعد ذلك لتصبح المرأة الفتوة مطلوبة لإدارة لعبة الانتخابات بطرق وأساليب التحايل، حيث تتولى مثل تلك النساء مهمة تخويف المرشحات والناخبات على حدٍ سواء، ومنعهن من الإدلاء بأصواتهن في الدوائر الانتخابية، في حين تتستر هؤلاء الفتوات على ألاعيب الذين يغشون ويزوِّرون الأصوات ويدفعون الموتى والغائبين رغماً عنهم للإدلاء بأصواتهم لمصلحة هذا المرشح أو ذاك
ويذكر كثيرون ما جرى مع جميلة إسماعيل –زوجة النائب السابق أيمن نور- حين ترشحت لعضوية مجلس الشورى عن دائرة الجمالية في العاصمة في 2001، لكنها صُدمت آنذاك نتيجة استخدام البلطجية ضدّ حملتها الانتخابية. جميلة –التي كانت المرأة الوحيدة بين 658 مرشحاً- واجهت في الانتخابات أحد أقطاب الحزب الوطني الحاكم، وهو زعيم الأغلبية في مجلس الشورى محمد رجب. غير أنها اضطرت إلى الانسحاب في 7 ينويو حزيران 2001، بعد أن تعرضت لمهزلةٍ أخلاقية ناجمة عن تأجير منافسيها مجموعةً من النساء الفتوات للإساءة إليها وتمزيق ملابسها وتقبيلها بالقوة بطريقةٍ مقززة
جميلة اسماعيل قالت في بيان انسحابها: "إنني أعلن انسحابي من هذه المهزلة وأسحب كل مندوبي من اللجان الانتخابية وأترك الساحة التي تحولت إلى مظاهرة عسكرية وأكتفي بالمساحة الكبيرة التي نشغلها في القلوب الطاهرة النظيفة"
غير أنها تحدثت بعد ذلك بتفصيل أكبر عما جرى لها شخصياً، حين قالت في سياق تفسير انسحابها من سباق الانتخابات: "لم يكن عندي من الشجاعة وقتها أن أقوم بعمل بلاغ، رغم أن ما حدث للصحفيات والإعلاميات على باب نقابة الصحفيين في استفتاء 25 مايو 2005 على تعديل المادة 76 من الدستور هو بالضبط الذي حصل معي قبلها بسنوات"
وجرائم البلطجيات في الانتخابات المصرية ألاعيب تتكرر وتقع، بعد دفع مبلغ معلوم لمثل هؤلاء الفتوات اللاتي يفضلن أساليب البلطجة ويملكن أسلحة وأدوات الضرب والإيذاء ولا يتورعن عن ارتكاب جرائم مختلفة بمقابلٍ مادي
بل إن الكاتب الصحفي سلامة أحمد سلامة نشر في عموده الصحفي في جريدة "الأهرام" أثناء معركة انتخابات مجلس الشعب عام 2000 شكوى من سيدتين فاضلتين كانت إحداهما د. هدى بدران رئيسة رابطة المرأة العربية، تحدثتا فيها عن معاناة الإدلاء بالأصوات بسبب تدخل هؤلاء الفتوات لمنع السيدات من الاقتراب من مراكز الاقتراع، وذلك حتى يتسنى لآخرين "طبخ" النتائج لمصلحة أحد المرشحين. إن هؤلاء البلطجيات يعملن في موسم الانتخابات ويزداد الطلب عليهن بقوة؛ لأنهن ببساطة يفعلن ما يعجز عنه الرجال، وهو "التعامل" مع النساء وتخويفهن لتحقيق مصلحة مرشح ضد آخر
وإذا كانت السينما قد استقطبت بعض هؤلاء الفتوات للمشاركة في أعمال فنية، خاصة في أدوار نزيلات السجون اللاتي تبدون مسترجلات، تتسم طباعهن وسلوكياتهن بالفظاظة والعدوانية، فإن عدداً من فتوات السينما كن يمارسن هذه المهمة بنجاح، على الأقل حين تدور عدسات الكاميرا، ليقدمن فاصلاً من الضرب والردح والتهديد..وفي بعض الأحيان كن يقدمن مشاجرات سينمائية يتولين فيها مهمة ردع وتأديب نساء أو رجال بنجاحٍ قد يثير موجات من الضحك والدهشة لدى البعض في دور العرض السينمائي
ولعل أشهر كومبارس لعبت دور الفتوة في السينما المصرية هي فايزة عبد الجواد، صاحبة مقهى بعرة في شارع عماد الدين وسط القاهرة، والتي بدأت رحلتها في السينما في فيلم "تمر حنة" أمام رشدي أباظة ونعيمة عاكف (1957، إخراج حسين فوزي). على أن أشهر من قدمت دور المعلمة الفتوة هي الراحلة تحية كاريوكا التي يُذكر لها على سبيل المثال لا الحصر دورها في أفلام "المعلمة" (1958، إخراج حسن رضا) و"سمارة" (1956، إخراج حسن الصيفي) وأيضاً دورها في "شباب امرأة" (1956، إخراج صلاح أبو سيف) الذي جسدت فيه شخصية المعلمة شفاعات، رمز الأنوثة والغواية. ولامست عبلة كامل خيط البلطجة والفتوة في فيلم "خالتي فرنسا" (2004، إخراج علي رجب)

وعلى أرض الواقع، برزت فتوات من العيار الثقيل، لعل أشهرهن تدعى "سكسكة"، التي يروي لنا حكايتها أستاذ علم الاجتماع د. زيدان عبد الباقي في ص 531 من كتابه "المرأة بين الدين والمجتمع" (مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1981). فقد كانت سكسكة سيدةً مرهوبة الجانب، يخشاها الجميع، وتحولت إلى أسطورة مخيفة نسج حولها العديد من الحكايات المبالَغ فيها؛ لأن الثقافة الشعبية تحب الإضافة والزيادة والمبالغة في التفاصيل لتصبح الحبة قبة
وسكسكة كان مقر نشاطها في شارع أبو هريرة في شياخة رابعة بالجيزة. ففي هذه المنطقة كان يوجد "سوق البرسيم" الذي يتردد عليه الكثير من التجار، وكان المعلم مرسي صاحب المقهى الشهير في هذه المنطقة متزوجاً من "أم سيد" التي اشتهرت باسم "سكسكة". وكان هذا المقهى ملتقى فتوات القاهرة والجيزة، حيث كانوا يقضون فيه سهراتهم التي تمتد إلى الساعات الأولى من الصباح
وبعد وفاة زوجها، تولت هي إدارة شؤون المقهى. وكانت سيدة فارعة الطول قوية الجسم ولها عضلات تمكنها من التغلب على من يقف أمامها، وكان على ذراعها وشمٌ، شأنها شأن الرجال يومئذٍ، وكانت ترتدي "الصديري" والجلباب البلدي الرجالي والكوفية مثل التجار الكبار المعروفين بلقب "المعلمين". وكانت تمسك بيدها عصا غليظة طويلة "شومة". أخذت سكسكة توسع نشاطها حيث كانت تستأجر - مع آخرين- أرض السوق من الحكومة وتؤجرها هي للمترددين على السوق من تجار الدواجن والغلال والأقمشة وما إلى ذلك. ولم يكن لأحد من هؤلاء أن يمتنع عن دفع المستحق لها، فقد كانت تضربه بعصاها، وتضرب كل من ينضم إليه مهما كان عددهم
توفيت "أم سيد" وتركت وراءها محمد وسيد، واتسم كلاهما بحسن الخُلق والشهامة، كما تركت شقيقة لهما تدعى نفيسة، حاولت أن تتشبه بأمها، ولكنها لم تحظ بأي شهرة. أنجبت نفيسة هذه كلاً من قرني وسلامة، وكلاهما مثل أخوالهما في الطيبة وحسن الخُلق. وكانت شقيقتهما جليلة تضربهما في الصغر. وأطلقت جليلة هذه على نفسها اسم جدتها وهو "سكسكة"، وقد فاقت في شهرتها شهرة جدتها، وكانت حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي لا تزال على قيد الحياة، وإن كانت قد جاوزت آنذاك الثمانين من عمرها، ولم يعد لها أي شهرة سوى التاريخ فحسب
وكانت جليلة هذه ترتدي زياً مماثلاً لزي جدتها، ولم يكن لها عمل طوال النهار سوى استغلال قوتها البدنية في إيذاء الآخرين والاعتداء على أبناء الحي وأبناء الأحياء المجاورة، وتفرض عليهم "الفِردة" أو الإتاوة، وويلٌ لمن لا يقوم بدفعها، الأمر الذي يؤكد اختلاف أسلوبها عن أسلوب جدتها التي كانت تتشبه بالفتوات من الرجال ذوي المروءة وليس فتوات شارع عماد الدين وشارع محمد علي، فقد انحرفت إلى أن عرضت نفسها للإيجار، وبات من يرغب في ضرب شخص أو طرده من مسكنه أو تلفيق تهمة له، يلجأ إلى سكسكة حتى تتولى أداء المهمة نظير أجرٍ معين
تزوجت سكسكة الحفيدة من كلٍ من عامل بناء يدعى حسن السمّاك، ثم ارتبطت بآخر من عائلة "الكوامل" وهو صاحب سيارات نقل ركاب وبضائع، وقد أغدق عليها من ماله وأنجبت له ولدين أخذهما بعد انفصاله عنها لعدم استجابتها لأمره بالبعد عن المشاحنات مع الناس، وتمت تربيتهما تربيةً صالحةً مع جدتهما لأبيهما. وتزوجت بثالث يدعى عباس عامر، من فتوات الحي ومن تجار المخدرات. وقد تولت الاتجار في المخدرات مكانه بعد صدور حكمٍ ضده بالسجن
أما الزوج الرابع لها فإنه يدعى حسن، وكان كل من هؤلاء يتم زواجه بها بناء على رغبتها وبأموالها عادة، وليس لأحدٍ منهم أي شيء عندها، فقد كان حسن هذا يصغرها في السن، ولكنه وقد أعجبتها قوته فقد أحاطته بحبائلها وأغدقت عليه من أموالها حتى وافق على تحويل علاقته بها من علاقةٍ غير مشروعة إلى زيجةٍ رسمية، وقد كلفها ذلك كل أموالها تقريباً. ومن أولادها: مرسي، عقدة، مبروك، نوال، سيد، عامر، عبلة، رجاء
لم تنجب سكسكة الحفيدة من زوجها الرابع، إذ تزوجته بعد أن بلغت سن الخامسة والأربعين. وبدلاً من بيع الدواجن، تركت هي زوجها هذه الحرفة إلى فتح "غرزة" شاي. ومع الشاي، كان زوجها الرابع يتاجر في المخدرات. ولم يكن زوجها يشاركها الاعتداء على الناس، وإنما كانت هي تشاركه هوايته في الاعتداء على رجال الشرطة، حتى أصبحت أشبه بمن كان يطلق عليه "أبو طاقية سوداء" والذي كانوا يخيفون به الأطفال في شجارهم مع الآخرين.. تركل بالأقدام وتنطح بالرأس وتضرب بالنبوت وتعض بالأسنان...إلخ
أخذ نجم سكسكة الحفيدة في الأفول بعد أن تلقت علقة ساخنة على يد المواطن سيد عجلان، إضافة إلى ظهور سيدة قوية أخرى تدعى "حميدة" كانت قوية على الظالمين ونصيرة للمظلومين، أي أنها كانت فتوة بالأسلوب الرجالي القائم على الشهامة. وقد انعكس أسلوبها على كل أبنائها، ولم يستطع أي واحدٍ منهم أن يحتل مكانة الأم في ملاعب الفتوات، الأمر الذي جعل سكسكة تعيش أيامها الأخيرة وهي تجتر ذكرياتها الأليمة حزينةً على شهرتها ومتحسرة على سمعتها والسنوات التي قضتها في السجون نتيجة الاعتداء على إحدى السيدات وفقء عينها وكسر ذراعها لمجرد إظهار قوتها، والاعتداء على كثيرات غيرها. ولم ينس لها البعض أنها لعبت دور "المرشد" للشرطة ضد كل من لا يدفع لها "الفِردة"
ومن أشهر النساء الفتوات أيضاً المعلمة توحة فتوة حي المطرية، وعزيزة الفحلة، وزكية المفترية التي تذكر مراجع عنها أنها فتوة سوق الخضراوات الموجودة في حي المناصرة، إضافة إلى "مجانص الدهل" التي تقول إنها منذ أن دخلت السجن في قضية مشاجرة أفضت إلى موت، وهي تحترف مهنة البلطجة
وتعتبر "شر الطريق"، كما يسميها أنصارها، أشهر بلطجية حريمي في منطقة الجيارة بمصر القديمة، واسمها الحقيقي "كيداهم". هناك أيضاً "نفتالين بلية" و"مهبولة الشوارع"، والأخيرة بلطجية تجيد استخدام المطواة قرن الغزال، وتتقن رياضة "الكونغ فو" أيضاً
حكاية الفتوة توحة يرويها سيد صديق عبدالفتاح في كتابه "تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية" (مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995) فيقول عنها: "قبض البوليس على المعلمة توحة فتوة المطرية، بالقاهرة، ضربت 5 رجال وسيدتين في معركة، أغلقت المنازل والدكاكين في شارع بأكمـله، كانت تجري في الشارع وفي يدها السكين والمبرد، لم يجرؤ أحد على التعرض لها، عندما حضر البوليس استسلمت بلا مقاومة، إن سبب كل المعارك التي دخلتها توحة هو زوجها، إنها لا تطيق أن تراه في خطر، إنها تسرع إلى نجدته، وتبدأ المعركة، وتنتصر توحة دائماً. لقد ضربت توحة قبل ذلك 20 رجلا، ولها معارك كثيرة في حي المطرية
"في سنة 1951 دق التليفون في مكتب ضابط بوليس المطرية وقال المتحدث: إلحقونا، المعلمة توحة دبحت خمسة وقفلت الدكاكين في شارع الشهانية! وقبض البوليس على المعلمة التي وقفت بجانب ضحاياها والدم يقطر من سكين في يدها، ولا أحد أمامها!
"وبدأت القصة عندما توجه سيد العجلاتي وهو قزم طوله متر واحد، وعمره 30 سنة يطالب زوجها بدين قدره 60 قرشاً، وهددها القزم بإبلاغ البوليس إن لم يدفع زوجها المبلغ ولم تعجبها هذه اللهجة فشتمته وكانت نعناعة والدة سيد القزم تستمع لهذه المناقشة وفجأة أفرغت صفيحة ماء على رأس المعلمة
"وما كادت المعلمة توحة تتنبه حتى تناولت سكيناً بيدها اليمنى ومبرداً باليد الأخرى، وهجمت على القزم سيد وطعنته في رأسه بالسكين ثم عاجلته "بروسية" في وجهه، فسقطت أسنانه وشاهده شقيقه إبراهيم فجرى هرباً وأراد أن يدخل منزله، ولكن توحة لحقت به عند عتبة الباب وطعنته بالمبرد في ذراعه، و"روسية"، سقط على أثرها فاقداً الوعي! وأخذت تعمل يدها ورأسها وقدميها في أجساد ضحاياها، واستقبلت الأب بطعنة سقط على أثرها ثم قذفت نفسها مرة أخرى على نعناعة، وتصادف مرور رجلين حاولا إنهاء الخناقة فضربتهما توحة "بالروسية" فسقطا على الأرض وعندما أفاقا أسرعا بالفرار ولم يبلغا البوليس
"وأمام هذه المذبحة والصرخات التي تعالت وسمعها سكان المطرية والسكين والمبرد يقطران دماً، والمعلمة "الهائجة" تضرب كل من يقترب منها، أمام كل هذا لم يستطع أحد من الأهالي أن يتقدم لإنقاذ أسرة أبو اليسر، وأغلقت المنازل والدكاكين أبوابها. أصيب السكان بالرعب، وتصوروا أن توحة ستقتحم البيوت لتذبح من بداخلها، إلى أن رأت الأم نعناعة ما حدث لولديها فنزلت وتلقتها المعلمة الهائجة بعدة طعنات في يدها ووجهها، وجذبتها من شعرها وسقطت بجوار ولديها
"وحضرت أم نعناعة العجوز وهي تلطم خديها ولكن المعلمة استقبلتها "بروسية"، سقطت على أثرها العجوز والدماء تنزف من أسنانها، وعلم الأب بما جرى لأفراد أسرته فذهب مسرعاً إلى مكان الحادث، وتمكن أحد الأهالي من الاتصال تليفونيا بالبوليس وقبض على توحة ونقلت الإسعاف الضحايا الخمسة وتولت النيابة التحقيق معها، ثم أفرجت عنها بكفالة خمسة جنيهات مع أخذ تعهدٍ عليها باعتزال "الفتونة"

وفي 5 مايو أيار 2008، نشرت جريدة "الجمهورية" المصرية خبراً مفاده: "قضت محكمة جنح البساتين بحبس سيدة فتحي أبو زيد 3 سنوات وغرامة 30 ألف جنيه وتعويض مؤقت 2001 جنيه.. لاتهامها بالتعدي بالضرب على 3 رجال وإصابتهم بكسور وجروح.. إضافة إلى تحطيمها زجاج وديكور مقهى بالبساتين أثناء مشادة بينها وبين الرجال الثلاثة الذين أصروا على عدم جلوسها وسط رواد المقهى.. اعترض 3 من رواد أحد مقاهي البساتين على اقتحام المتهمة المقهى حيث إنها "فتوة" المنطقة ومسجلة خطر بلطجة ونشل ومشهورة "بالمتهورة"، إلا أنها أصرت على اقتحام المقهى وجلوسها على طاولة خاصة وسط الزبائن.. قدرت الخسائر بـ 30 ألف جنيه"
لا أحد يدري ما هو مصير أو نهاية سكسكة الحفيدة أو توحة أو سيدة، لكن الشيء المؤكد أن أحفاد سكسكة من النساء الفتوات ينتشرن الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، وأنهن فتوات تحت الطلب
تابع القراءة

gravatar

فتوات تحت الطلب (2): الحرافيش قادمون







على الرغم من تزايد الجماعات الهامشية وانتشارها، فإنها ظلت لفترات متفاوتة تندرج تحت باب المسكوت عنه
لم يأخذ هذا الملف الساخن حقه من الدراسة والبحث في المؤلفات والدراسات ذات الصبغة التاريخية، على عكس الأدب الذي اتخذ منها مادة حية بخاصة في الكتابة الروائية، مثلما فعل نجيب محفوظ في "الحرافيش" و"أولاد حارتنا" و"حكايات حارتنا" و"دنيا الله" و"الثلاثية". بل إن الأديب الفائز بجائزة نوبل استخدم بعض الحكايات الحقيقية وأدخلها في نصوصه، كما استخدم في ثلاثيته حكاية فتوات الحسينية الذين اشتهروا بأنهم واجهوا الإنجليز. ومن أشهر ما فعله الفتوات أيامها أنهم قاموا بحفر حفرة كبيرة وأسقطوا فيها سيارات الإنجليز، وهي الحادثة التي ذكرها محفوظ في رواية "بين القصرين"، عندما قام بردمها بطل الرواية السيد أحمد عبد الجواد
وينهي محفوظ سيرة عاشور، فتوة روايته الأشهر "ملحمة الحرافيش" والتي تناول فيها سيرة عشرة أجيال من فتوات القاهرة، بالقول: "انتصر عاشور الناجي على فتوات الحارات المجاورة فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحق لها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة". وكان عاشور يسهر في الساحة أمام التكية يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعياً: "اللهم صُن لي قوتي وزدني منها، لأجعلها في خدمة عبادك الصالحين"
وفي "ملحمة الحرافيش" ساوى عاشور الناجي بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة. وحتَّم عاشور على الحرافيش أمرين: أن يتدربوا على الفتوة حتى لا تتراجع قوتهم يوماً فيتسلط عليهم وغدٌ أو مغامر، وأن يعتاش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات. وبدأ عاشور بنفسه، فعمل على بيع الفاكهة، وأقام في شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأقصى درجات النقاء
ودخل الفتوة السينما أيضاً، بفضل محفوظ، من خلال العديد من الأفلام، مثل "فتوات الحسينية" و"الفتوة" (1957، إخراج صلاح أبو سيف) و"الحرافيش" (1986، إخراج حسام الدين مصطفى) و"التوت والنبوت" (1986، إخراج نيازي مصطفى) ومسلسل تليفزيوني بعنوان "السيرة العاشورية" (2002، إخراج وائل عبد الله)
في كتابه "الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث" (مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، القاهرة، 2003)، يسعى الباحث الدكتور سيد عشماوي إلى تقصي الجذور التاريخية لنشأة هذه الجماعات في مصر كمحصلة لظروف وأوضاع مجتمعية سياسية واقتصادية واجتماعية بخاصة في الفترة منذ أواخر العصر المملوكي وحتى البدايات الأولى لعصر محمد علي، كاشفاً طبيعة الدور الذي قامت به، وتمردها وصراعها مع الواقع ونمط العلاقات السائد في المجتمع آنذاك، كما يرصد ويحلل مسارات هذه الجماعات وبخاصة النشالين والبلطجية وشذاذ الآفاق وقطاع الطرق، وأثر ذلك على مكانة السلطة الحاكمة ونسق تماسكها في المجتمع
صاحبت نشأة حركة هذه الجماعات مجموعة من المصطلحات والمفاهيم والدلالات. من هذه المصطلحات التي كانت تطلق على هذه الجماعات: الغوغاء، النهابة، الحثالة، الهباشة، الجراد، الفلاكة، المناشير، العيارون، العياق، الفتوات، الخلابص، الأوغاش، الفلاتية، الحرافيش، العصبجية، وغيرها
وعلى رغم تباين هذه المصطلحات أحياناً، فإنها عكست الموقف الفكري المحدد تجاه هذه الجماعات وأطلقت عليهم لتوصيف أفعالهم ومواقفهم المتدنية المتمردة. كما أن هذه المصطلحات عكست تصورات الفئات العليا في السلم الاجتماعي عن هذه الجماعات ولتشويه الحركية الاجتماعية والسياسية لهم، وتسليط الضوء عليهم كجماعات هامشية منبوذة اجتماعيا، تحترف السرقة والنهب والسلب والبلطجة وتتمرد على القانون والأعراف
هذه الظواهر بدأت تنتشر بشكل لافت في مصر أواخر العصر المملوكي، وحتى البدايات الأولى لبناء دولة محمد علي الذي استطاع أن يقضي على هذه الظاهرة أو على الأقل حد منها بقوة القانون وعنف الدولة. وازدهر نمو الجماعات الهامشية مع الانهيار التدريجي لنظام الطوائف الحرفية الشهيرة والذي كان لها دورٌ مؤثر في تحديث الدولة والعمران، أو في دعم النظام الاقتصادي الاجتماعي الموجود آنذاك في مصر. وقد أدى تآكل نظام الطوائف إلى نمو وتكاثر جماعات هامشية رصدها الكثير من المؤرخين وبخاصة الجبرتي وإدوارد لين، وتجاوز مجموع هؤلاء الأفراد في القاهرة وحدها مليوني شخص. وقد كان لهذه الجماعات دورٌ سياسي من حيث انحيازها للعوام في مقابل جبروت السلطة وقهرها، وقد انضمت إلى بقايا المماليك والعوام في محاربة الأتراك خاصة حرب العصابات التي دارت بعد هزيمة الجيش المملوكي في موقعة "الريدانية"
ومع تعدي طوائف العسكر بعد ذلك وازدياد المظالم وملاحقة الناس بالدعاوى الكاذبة، انضمت بعض جحافل هذه الجماعات الهامشية الفقيرة إلى انتفاضات العوام وأصحاب الحرف والطلاب والعلماء. وكان لدورهم أثر كبير في رفع الكثير من المظالم عن كاهل الشعب، كما كانت شعاراتهم في هذه الانتفاضات تحمل بعداً سياسياً واجتماعياً واضحاً، ومنها على سبيل المثال "شرع الله بينا وبين الباشا الظالم"، و"يارب يا متجلي أهلِك العثملي"
هؤلاء الهامشيون لعبوا أدواراً متناقضة في المجتمع، فتارة كانوا يقومون بانتفاضاتٍ بحثاً عن الرزق والمال، وتارة أخرى يرتكبون أعمال بلطجة وعنف لحساب الحكام الذين كانوا أيضاً يستعينون بهم في حالة تعرض البلاد لهجمات من الخارج، مثلما حدث مع طومان بأي زمن الفتح العثماني لمصر، حيث استعان بهم في الحرب ضد العثمانيين، ما جعلهم موضع تنكيلهم بعد دخولهم

وللعيارين والشطار والعياق دور آخر مهم قاموا به ضد السلاطين والأمراء يتناقض مع وقوفهم معهم في مواجهة الغزوات الخارجية، فقد كانوا يتضامنون في لحمة ونسيج واحد مع العامة والطلاب والعلماء في انتفاضاتهم التي يقومون بها ضد الولاة عندما تكون هناك مطالب معينة لهم. وقد كانوا يلجؤون في وقت المجاعات إلى عمليات نهب واسعة للبيوت، ما كان يؤدي إلى قلاقل لا تختلف كثيراً عن القلاقل التي كانوا يسببونها للملوك عندما يواجهونهم في الأسواق وتنطلق ألسنتهم في حقهم
كل هذا وغيره له دلالة واضحة في أن هذه الجماعات لم تكن تتحرك إلا بناء على ظرف ما، وكان هذا الظرف هو الذي يملي عليهم ويحدد طبيعة ما يقومون به، فلم يكونوا إلا باحثين عن مصادر للرزق، وطالبين للقمة عيش. وهذا ما يفسر دخول بعضهم إلى مجال التصوف، وكان منهم رموزهم التي ما زلنا نتذكرها حتى الآن مثل الشيخ صالح بن حديد والزجال الحكيم الناقد والمصلح ابن عروس، صاحب الكتابات التي نددت بمرتكبي المظالم ووقفت إلى جانب الفقراء والمظلومين
تجدر الإشارة إلى أن الشرطة المصرية في ثلاثينيات وأربعينات القرن العشرين حين أرادت التخلص من الفتوات، ولم يكن بإمكانها فعل ذلك، لجأت إلى الحيلة، والمؤامرة، فكانت توغر صدور بعض الفتوات على بعضهم البعض، فتحدث معركة تنتهي بسقوط فتوة، وهكذا تخلصت الشرطة من الفتوات. ولعل أشهر تلك المعارك هي التي وقعت في ميدان "الخمس فوانيس" بالاسكندرية حتى بدأت الشرطة تتحمل مسؤوليتها، بعمل أقسام شرطة. في بداية الأمر كانت الشرطة تلجأ للفتوات عند حاجتها إلى القبض على أحد اللصوص، إذا كان مختبئاً في حاراتهم، أو بأن يقوموا بتسليط أتباعهم للقبض عليه. وقد قام الفتوات بضرب بعضهم البعض حتى قضوا على أنفسهم من دون أن تتدخل الشرطة

تابع القراءة

gravatar

فتوات تحت الطلب (1): أولنا الخليفة




ربما حان الوقت لكي تعرف حكاية الفتوة سكسكة
ولكن قبل أن نروي حكايتها، لا بد أن نلفت الانتباه إلى أن ظاهرة الفتوة والبلطجة لم تكن يوماً مقصورة على الرجل، فالعدوانية لا جنس لها، ونبتة العنف الجهنمية تساوي بين كثيرين
وفي ظل الفوضى، تطل أدوات الشر لتصبح من مستلزمات مشاجرات الشارع المصري، ليخرج علينا أنصار نظريةٍ قوامها: الفتوة تخويف وتأديب..والبلطجة ردع وتهذيب
نظرية عرجاء، بطلها الرئيسي هو المال ولغة المصالح الضيقة
ظهر مصطلح "الفتوة" في القرن الثاني الهجري، وظهرت جماعات الفتوة في بغداد مرتبطة بجماعات "الشطار" و"العيارين" أو قطاع الطرق المنظمين الذين عمدوا إلى سرقة الأغنياء لصالح الفقراء. وبدأ ذلك في القرن الثاني الهجري أيضاً
ولا بد من الإشارة إلى دور العيارين أو الفتيان في الحرب التي دارت في بغداد بين الأمين والمأمون، وانضموا إلى الأمين دفاعاً عن بغداد لا عن الأمين نفسه، وقد ذكر المسعودي بطولاتهم الفردية رغم نقص العتاد لديهم
غير أن المصطلح أخذ شكلاً جديداً مع ضعف السلطة في العصر العباسي الثاني، إذ انتشرت حركات الشطار والعيارين الذين كانوا يمثلون تكتلات شعبية لا تلتزم بنظام أخلاقي ولا بعرف اجتماعي تعيث في الأرض فساداً، حتى خطا الناصر لدين الله (575هـ - 622هـ) خطوة كبيرة عندما سعى إلى تنظيمها. وبذلك استمرت حركات الشطار والعيارين ضمن حركة واحدة هي حركة "الفتوة"، وكان يريد بذلك امتصاص الطاقة التي كانت مبعث شر وفساد وتحويلها لصالح المجتمع والدولة، فكانت "الفتوة" امتداداً لحركة الشطار والعيارين، ولكن ضمن إطار أخلاقي متين
وثمة أمر في حركة الفتوة يميزها عن حركة الشطار والعيارين وهو مشاركة الأكابر والأعيان فيها، إذ لم تقتصر على العامة، وذلك لأن الخليفة الناصر نفسه اعتبر رئيساً "للفتوة" سنة 604 هـ ( ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، ص 223). وكان كثيراً ما يشتغل برمي البندق واللعب بالحسام المناسب، ويلبس سراويل الفتوة، وقد اعتبر ابن خلدون ذلك دليلاً على هرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها (ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ج3، ق1، ص 1102). ولكن هناك من المؤرخين والباحثين من رأى أن الناصر بحركته الجديدة حاول أن يرجع للدولة شبابها ويعيد لها تماسكها إلى حد ما بعد أن فقدته مدة طويلة
وفي بداية نشوء الحركة لم يكن نظامها واضحاً، بل تبلور تدريجياً فلم تكن هناك شروط والتزامات منذ البداية، ولكن حدث أن اختصم أحد رفقاء فاخر العلوي - المقرب من الوزير الناصر بن مهدي - مع رفيق لعز الدين نجاح الشرابي، وصارت فتنة عظيمة بمحلة قطفتا، حتى تجالدوا بالسيوف، فلما علم الناصر بذلك أنكره وجمع رؤساء الأحزاب، وقرأ عليهم نظام الفتوة وشروط العضوية، وتقرر أن من يخالف ذلك تبطل فتوته ( ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، ص 223). وقد تضمن نظام الفتوة الجديد (ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، ص 223-255) ما يلي:
1- إذا ارتكب الرفيق جريمة القتل، فإن رفيقه يتبرأ منه في جمع من الفتيان، وبذلك يخرج عن دائرة الفتوة
2- إن كل فتىً يحوي قاتلاً ويخفيه ويساعده على أمره ويؤويه يتبرأ رئيسه منه
3- إن الفتى متى قتل فتىً من حزبه سقطت فتوته ووجب أن يؤخذ منه القصاص، فإن كان القتيل ليس من الفتيان، بل عوناً من الأعوان أو متعلقًا بديوان في بلد الإمام الناصر، فإن القاتل تسقط فتوته ويؤخذ القصاص منه
وبذلك أصبحت الفتوة حركة منظمة ذات قواعد قانونية وأسس أخلاقية، وقد طبق النظام الجديد زمن الناصر لدين الله، فعندما قام اثنان من الفتيان سنة 604هـ بقتل ابن حسان، وكان أحد النقباء بباب الشحنة أخذت سراويلات الفتوة منهما وقتلا (ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، ص228 )
وانتشرت طوائف الفتوة العيارين ونظموا صفوفهم تنظيماً حربياً، فكان على كل عشرة منهم "عريف"، وعلى كل عشرة "عرفاء" "نقيب"، وعلى كل عشرة "نقباء" قائد، وعلى كل عشرة قواد "أمير"، وأصبح لهم زي حربي متميز وكانت لهم وقائع مع الدولة والشرطة
ومع تزايد الضعف العباسي، انضم إلى الفتوة كثيرون من أرباب الحرف وأصبح لطوائف الفتيان قضاة كان أشهرهم في بغداد يُدعى أبا الفاتك الديلمي، وقد حرص على أن يقدم للفتيان فتاوى ونصائح
ولكن يبدو أن حركة الفتوة فقدت حيويتها بعد الناصر لدين الله، وعادت حركة الشطار والعيارين إلى الظهور من جديد، فقد ترأس العندي - وكان من أولاد المماليك الناصرية - جمعاً كبيراً من الفتاك والعيارين، وخرج هؤلاء على طاعة الخليفة، فلاحقتهم السلطة وقتلت بعضهم، فتفرقوا، وسجن العندي، فلما تولى المستعصم وأطلق السجناء، كان من جملتهم العندي الذي عاد إلى الفساد، وقاد جمعاً من العيارين، فطلبه أيبك الحلبي شحنة بغداد، فهرب إلى همذان، وهناك قتله شحنة المدينة، وحمل رأسه إلى بغداد، فعلق بظاهر سوق الظفرية سنة 645هـ (ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، ص 221-222)
وفي خلافة المستعصم نشطت حركة العيارين ببغداد، وساعدت ظروف المجتمع في هذه الفترة على ازدياد نشاط الشطار والعيارين واللصوص، وذلك بسبب الفتن المذهبية والطائفية الكثيرة، وظهور عصبية المحلات والمناطق بشكل قوي، وانشغال السلطة بإطفاء الفتن، مما أضعفها وأنهكها، فكان العيارون يعيثون ببغداد فساداً، يسرقون الأموال، وينهبون البيوت، وبلغت بهم الجرأة إلى مهاجمة دور الأمراء (ابن الفوطي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة, ص 254)
ومما يسترعي الانتباه أن المؤرخين لم يعطوا جماعات الفتوة حقها في التسجيل، وبعض مؤرخي الحوليات التاريخية منحوهم بعض السطور في الأحداث اليومية مثلما فعل ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" وخلط بينهم وبين العيارين وقطاع الطرق، من دون أن يوضح الفارق بين قطاع الطرق العاديين وطوائف الفتوة. بل إن الشطار نالوا نصيباً أوفر من البحث والدراسة، ومن الكتب التي تحدثت عنهم باستفاضة كتاب "الشطار والعيارين..حكايات في التراث العربي، عالم المعرفة، الكويت، 1981)
وللدكتور حسين مؤنس كتاب مهم صدر قبل سنواتٍ بعيدة تحت عنوان "عصر الفتوات: عصر البطولة للمصريين أيام الاحتلال والوزراء والباشوات" (دار الرشاد للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993) ، ربما كان أجمل ما فيه، هو ما تعرض له الكاتب بأسلوبه الأدبي الرفيع إلى الدور البارز الذي لعبه الفتوات في التصدي للحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وكيف تلاحم هؤلاء الفتوات العظام مع صفوف الشعب المصري في التصدي للفرنسيين، وأظهروا مقاومة باسلة في ثورتي القاهرة الأولى والثانية
ويشير علي مبارك في خططه التوفيقية إلى أن نابوليون كان يضيق كثيراً بالشغب الذي يثيره هؤلاء الفتوات، الذين كان يطلق عليهم لقب "الحشاشين البطالين"، بل إنه كان في كثير من الأحوال وعندما يضيق به الأمر، يصدر منشوراته إلى طوائف الشعب يناشدهم فيها عدم سماع كلام هؤلاء الحشاشين. وكان بونابرت حينما بلغ بجيوشه منطقة إمبابة في طريقه إلى مصر، استنجد الأمراء المماليك بالعامة من الناس، بعد أن تخاذلت جنودهم، فخرج له "أولاد الحسينية" يتقدمهم الفتوات، ونازلوا الجيش الفرنسي بعصيهم فحصدتهم مدافعه حصداً
ويحفل تاريخ فتوات زمان بالعديد من الأسماء اللامعة، وبخاصة هؤلاء الذين عُرِفوا في أحيائهم بنصرة الضعيف ومساعدة المحتاج، والتصدي لظلم فتوات الأحياء الأخرى، ومن أبرزهم من أعلام فتوات الحسينية العطوف عتريس وحكورة، ومن أعلام حي الخليفة كم العرى - اسمه هكذا - والملط ويوسف بن ستهم، ومن أقطاب قلعة الكبش وطيلون بلحة والفولي، ومن أبطال حي السيدة، ممبوك وخليل بطيخة والإن - بكسر الألف - وإئة - اسمه هكذا- وكان الأخير ضريراً. يُضاف إلى هؤلاء محمود الحكيم فتوة حي الكحكيين بالقاهرة القديمة، وخليل بطيخة فتوة السيدة زينب، وعفيفي القرد فتوة حي بولاق أبو العلا، أما حي الدراسة فسيطر عليه المعلم حسن كسلة، كما سيطرت المعلمة عزيزة الفحلة وابنها محمد على حي المغربلين
وعلى يد فتوات مصر القديمة ظهرت فنون الخناق على تعبير أصحاب الشأن، وهو حسبما يقول عبد العزيز البشري في حديثٍ أذيع بالراديو في ديسمبر كانون ثانٍ من عام 1934، فن مصري قديم يكلف به أولاد البلد ويتباهون، إذ كان يعتبر ضرباً من الفروسية، والسعيد من يذهب له في الخناق صيتٌ وذكرٌ في البلد. وكان في كل حى من أحياء القاهرة فتواته، وكان لفتوات كل حي زعيمٌ هو المتقدم في البطولة عليهم، لا يُعصى أمره ولا يُخالَفُ حكمه، وهو الذي يدعوهم إلى الصراع ويدبر لهم الخطط، ويقودهم في المعارك الكبرى، فإذا كانت المعركة مما لا يرتفع إلى شأنه، عقد لواء السرية لمن يختاره ممن قبله من الفتوات
أما البلطجة فهي شيء آخر
حيث يؤكد سامح فرج مؤلف "معجم فرج للعامية المصرية والتعبيرات الشعبية للصناع والحرفيين في النصف الثاني من القرن العشرين" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006) أن كلمة بلطجي تعني حامل البلطة باللغة التركية، وأنه في عهد الدولة العثمانية كان الجنود البلطجية – بمعنى حاملي البلطة - يتقدمون القوات الغازية يقطعون الأشجار بالبلطات ويشقون طريقاً أمام القوات المتقدمة وكان دورهم أيضاً عمل فتحات أو هدم أجزاء في جدران الحصون والقلاع حتى تقتحمها قوات المشاة ويضيف قائلاً: "ولم تكن كلمة بلطجي تحمل معاني سيئة، حتى أن أسماء البعض كانت مشابهة لها مثل (بلجه جي مصطفى باشا) الذي كان والياً على مصر قبل الدولة العثمانية 1752 - 1755، وفي عصر محمد علي والي مصر كانت قوات البلطجية موجودة في الجيش، ولكن في الثلث الأول من القرن العشرين أصبحت كلمة بلطجي صفة سيئة وتعني الشخص المستهتر الأقرب إلى الفتوات في الحياة الشعبية في فترات سابقة، حتى وصل الأمر إلى صدور قانون في السنوات القليلة الماضية "لمكافحة أعمال البلطجة وترويع الآمنين" لتصبح كلمة البلطجي في نهاية الأمر مرادفاً للمجرم"
البلطة التي كانت أداة من أدوات الحرب تحولت الآن إلى أداة تخويف وترويع للآمنين بتعدد أشكالها من مطواة قرن غزال إلى "سنجة" وسيف وخنجر ثم أسلحة نارية مروراً بأسلحة ماء النار الحارق ثم البخاخات المخدرة، فضلاً عن العض والردح، وهي أدوات البلطجة الحريمي
والآن، تتنوع أعمال البلطجة في الانتخابات مثلاً من تمزيق لافتات الخصوم وإفساد الاجتماعات الانتخابية ومصارعة بلطجية منافسين وصولاً إلى الاعتداء على الناخبين ومقار اللجان الانتخابية وانتهاء بقيادة سيارة مسرعة وصدم أنصار المرشحين أو المرشحين أنفسهم
وحذرت دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية من ارتفاع معدلات البلطجة في الانتخابات والتي ارتفعت نسبتها خلال انتخابات عام 2000 ولجوء عدد كبير من المرشحين إلى العنف، واستخدام الزجاجات الحارقة والذخيرة الحية لإثبات نفوذهم وسطوتهم في مواجهة منافسيهم
الحديث عن ظاهرة الفتوات والبلطجية يقودنا بالضرورة إلى فتح ملف الجماعات الهامشية التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي
ويا له من ملف
تابع القراءة

gravatar

رسائل الغرقى



شمال إفريقيا، شجرةٌ تتدلى منها الحكايات
أجملُ أغصانِها يرتدي عباءةَ الفضاء: الأمازيغ
بشرٌ يلعبون كثيراً بفكرةِ الموت، قلقون على خلاصهم، خائفون من موتٍ مؤجل، وناجون من خطرٍ يحاولون نسيانَه
هُم إن ضحكوا، صنعوا فوضى الولاداتِ والصخب: هدايا وقهقهات مرحة يبللُها مطرٌ خفيف، وأشداقٌ يسيلُ منها لعابُ الكرامةِ والشرف، وفاكهةٌ تنمو في جزرٍ مستحيلة
وإن غضبوا صاروا فجراً يندلعُ كحريق: رؤوسٌ يائسة من اجتياز المضائق، وعروقٌ تبث أخباراً غامضة، وأرواحٌ تجلس وحيدة على الرصيف
تتذوقُ صمتهم وتلعنُ صخبهم: إلهامٌ ينشرُ اليقين، ولذةٌ يدخرُها الشيطان، ورصاصٌ طائشٌ من بندقية مجهولةٍ تصولُ فوقَ شوارع المدينة
وحيدون رغم معاطفِ الأصدقاء، مثل عازفين أدركَهم الليل
تُبصِرهُم على حافةِ القيامة جاهزين دوماً لكي يُولَدوا من جديد.. والبصيرةُ هي الآفةُ الوحيدةُ التي تجعلُ الإنسانَ حراً
يومياتهم تثيرُ غبارَ السؤال: هل الحياةُ كلها شغفٌ؟


(1)




المغربية التي فتكت بها إيطاليا، تبحث عن رجلٍ، فتسقط في أحضان رجال
ثغرُها المكتنزُ، يقطرُ الجنسُ من وهجِه
ولمعةُ القلادةِ الفضية في عنقِها الباذخ تفرشُ أسرارَ جوعٍ عريق
سيدةُ طنجة، فستقةٌ ناضجة

عشبُها نافرٌ بالغواية
تلوبُ مثلَ مصابٍ بحمى ما بين أغطيةٍ لا تطاق
تملكُ آلة قبضٍ تعتصر كرومَ الأرض، حتى تتساقطَ دموعُ العنب
لحمُ وِرْكَيها الساخنُ يراودُ أنياب عشاقها، ونهداها يرتجان بعذوبةٍ تحملُ نداءُ الغابةِ
نارٌ تضاجعُ ماءها
كلما قَبلتَها شعرت بأنكَ مقبلٌ على موتٍ جميل
زوجُها الأول كان يعانقُها بآليةٍ، مثلما يزورُ ضريحٌ ضريحاً. ومع شريكٍ لا تطيقه، يكون القبر مفتوحاً على احتمالاتٍ لا تحصى
في فراش الزوجية تتجلى نبوءةُ كواباتا في "الجميلات النائمات"، حيث تنامُ فاتناتٌ في سريرٍ واحدٍ مع عجائز لا يستطيعون سوى ملامسةٍ جسديةٍ مع موت الرغبة
يحدثُ أحياناً أن تحبَ ما لا تطيق؛ لأن احتياجَك ورغبتك أكبرُ من قدرتِكَ على الرفضِ والنفور والاستنكار
أحزانُها كرةٌ، كلما ركلتها عادت إليَّها
عندما سابقها العمر سبقها، حتى لم تعد حقولُها الخضراء تسر الأعين
ها هي ترمي أقدارَها في سلةِ المهملات
المرأةُ مأساة، يدركُها الحب وتنكرُها المرآة

(2)



الجزائريةُ ابنة عنابة الحالمة بالشهرة في الصندوقِ الصغير
قادرة في الفراش على أن تُحَوِلَك من مادةٍ صلبةٍ إلى سائل
امرأةٌ تتوقعُ أن يعثروا على جثتِها يوماً مقتولةً في شقةٍ فاخرة على يد قاتلٍ مأجور تقاضى مليوني دولار ثمناً للمهمة
قالت لحبيبها يوماً إنها تفكرُ في رسم وشم أسفل ظهرها..وردة أو ما شابه
سألها: ولكن من سيراه هناك؟ أجابت بابتسامةٍ مُغويةٍ: المحظوظون فقط
امرأة تجعلُكَ تعدو في الحلم عارياً
تصعدُ أدراجَ بحرها، فارداً سهركَ فضةً للشبقِ وجمرةً للنوم
تحتسي القهوةَ وتغري الفنجانَ بمذاقِ الحلاوة في الشفتين
فمُها يفيضُ بالشوق حتى يبلغَ ياقةَ قميصك، وهي تسردُ لك أحلامَها الطويلة
تُسدِلُ رموشَها كما يُسدَلُ الستارُ على النافذة
حين يلاحقُها شبابُ الحي بصفيرهم يسيلُ ريقُها بين شفاهِهم
تخافُ أن تلمسَها، ربما تكونُ قد وضعت لكَ في منحنياتِها واستداراتِها عبواتٍ ناسفة
حضورُ ساقيها يُربِكُ وقارَ الرجال، ورائحةُ أنوثتِها إضافةٌ ماكرةٌ إلى فنِ الغواية
كلُ ذلك وأكثر
لكنها ما زالت عالقة في حُلم الشاشة، كما تعلقُ أسرابُ الطحالبُ في صخور صماء

(3)



اسمها مريم، لكن لا عيسى في رحمها
صوتُها الخافتُ يدعوكَ إلى الغوصِ فيها، مع أن حديثها يكشفُ أمامك جبلَ رأسِها الفارغ العظيم
في حُضنِ امرأةِ بجاية، يلوذُ الموتُ بفرصةٍ، كي يولَد
تعيشُ حياةً تختارُ فيها عشاقَها بعنايةِ اختيارها مجوهراتٍ نادرة، دفع ثمنَها العشاقُ أنفسهم
جسدُها برقٌ في سماءٍ مُضطرمةٍ بالهلاك
توسعُ ثيابَها فتفضحُها الريح، تُضيقُها فتأكلُها: شبقٌ لا تغسله نشوةٌ، وذروةٌ لا تلجمها هزةٌ
الرجرجاتُ والملابسُ الملتصقة بالأرداف تُحدِثُ الشرارة التي تريدُها النساء، وتختزلُ جهودَ مصممي الأزياء للوقوع على لغةٍ جديدةٍ للإثارة
تبحثُ عن عاشقٍ غير متفرغ، مسرة دون خشيةٍ من دفع الثمن..رجل يمكنها احتضانُه دون أن يلزمها ذلك بعبء غسلِ جواربِه
تدعُه يكتشفُ أبجدية جسدِها الفريدة..وما أدراكم ما الجسدُ إذا غرَّد
تقولُ له على إيقاع أغنيات إيدير: خُذني، كُلِّي رَهْنُ أَرِيجِ النَّارِ
وفي المرةِ الوحيدة التي أحبت فيها، تركت الحبَ مرمياً تحت الأغراضِ في قاعِ حقيبة يدها، وهو نسي الحبَ في المقعدِ الخلفي لسيارته
كم هي وحيدةٌ صرخةُ الماء

(4)




تعرفُها من الجلسةِ المنحنيةِ المتربعة، والنهدِ الهزيل المتدلي من أثر الانحناء
الفتاةُ ذات العينين المشوبتين بصُفرةٍ، لم تتأملْ مرةً جسدَها عارياً
وإن استلطفتكَ يوماً ستخبرك أن الحياةَ لا تُطاقُ بدون حمالةِ صدر
جذابة، لكن نهديها ضامران، وهذا محزنٌ
تطلُ برأسِها من عباءةِ البرودِ الكافرِ بالمتع
ثمة نظرة في أعين كثيرٍ من النساء تقولُ إنهن أُخذن، إنهن خُدعن، فلا تعرف ما الذي يمكنك فعله لهن
تنكمشُ على نفسها كلما دقت طبولُ الرغبة، كموجةٍ تنسحب من شاطئها لحظة الجزر
تحلمُ بإنجاب طفلة تمنحها مصوغاتِها الذهبية وملابسَها ووصفاتِ طعامها
في الأمسياتِ الطويلة تجاهدُ ابنة أغادير كي تكفَ عن النوم مقوسة كالجنين، فالأجنة لا يبلغون الأربعين
همومُها ووِحدتُها تستلقي بجانبِها، محدقةً في وجهِها بعيونٍ باردة
وفي قلبِ الليل تصيخُ السمع، فلا يصلُ إلى أذنيها سوى كرّ الدراجات في الشارع الجانبي، وطقطقة السرير في شقة في الطابق الأول، والضحكة المكتومة بين عاشقين في الطابق الأخير
صباحُها معرفةٌ
قارئةٌ لا تشبع، تسعى نحو "سر الظرف المودع في الحرف"، تُحَدِثُكَ عن أقطابٍ وأئمةٍ وشعراء وعشاق مثل عبد الكريم الجيلي وعمر بن الفارض وجلال الدين الرومي والحسين بن منصور الحلاَّج وابن عربي والنفّري، بالحماسةِ نفسها التي تقرأ لكَ فيها في خشوع قصائد بول إيلوار وأندريه بريتون ورينيه شار وبونفوا
تهزمُها نتيجة الحائطِ، ويجرفُها الطوفان إلى أماكن قصيةٍ من النفس
الثلجُ شرير
وفي الشتاء، ترتدي شجرةُ الكرز ثوبَ الكفن..وتستريح
في آخر مرةٍ رأيتها فيها، كانت تخفي دمعتَها خلف روايةٍ لميلان كونديرا

(5)





هذا الناقمُ، الهائمُ، الداهية، الألعبان
فتى جزيرة جربة، محايدٌ لدرجة تثير الريبة
يملكُ جبهة تعلوها خطوطٌ كثيرة مشوشة بالزمن
مولعٌ بالفتنةِ والبهاء، يتساءلُ في نزقٍ: كيف يكونُ الرجلُ مخلصاً لامرأةٍ واحدة طوال حياته؟
يشعرُ كأنه آثمة في كنيسة
يقولُ لك: أؤيدُ الحكومة؛ لأنها حتى وإن سرقتنا فلن تترك أحداً غيرها يسرقنا
سائقٌ بارعٌ، يحدثكَ وهو لا يلتفتُ إليك: فقدتُ أحلاماً إلى الأبد، وبنيتُ أحلاماً أخرى، وأنا ممسكٌ بهذا المقودِ الأسود
إطاراتُ السيارةِ الفارهةِ تغازلُ الإسفلتَ الملتهب
صديقتُه الروسيةُ لا تفهمُ لغتَه إلا حين يلمسُها
لاَ يَمِيلُ إِزمِيلُهُ إِلا إِلى ظِلِّ مَرْمَرِهَا؛ يَنْقُشُ فِيهِ أَلْوَانَ طَيفِهِ الساحِرة
كلُ البناتِ اللاتي عَرَفهُن قبلها، ذواتُ بطونٍ مثالية شكَّلتها ساعاتٌ من الرياضةِ والمضاجعة
عاشقٌ فذٌ، وجلادٌ فظٌ
صعلوكٌ يخلط أسماء المدن بأسماء الفتيات، ويصلُ إلى الأبواب من دروبٍ مظلمة
الذئبُ حقيقي هذه المرة، ويوسف لن ينجو بكذبةٍ لا تنطلي على أحد
حذار، حين ننشغلُ بذيلِ الذئب، يتذكرُ هو أنيابه

(6)


عملاقٌ يرتدي الكسل
ضعيفٌ في رياضياتِ الجسد واللون
يتوارى في استحياءٍ، مثل عمود ضوءٍ معطل في شارع طويل. يهبُ على عجل ليحيي امرأةً عابرة، أو ينهضُ كي تسترخي على مقعده امرأةٌ أخرى
ابن منطقة القبائل، تجاوزَ الثلاثين من دون أن تعرفَ شفتاه عددَ النتوءاتِ حول حلمة ثدي المرأة
تعوَّد عشقَ النساءِ المستحيلات
يستعيدُ غرامياتِه الفاشلة المرتبكة، وتلعثَمه أمام تلك الفتاةِ التي كان ينتظرها يومياً أمام مدرستِها، مستنداً على دراجتِه
يغازلُ في مخيلته تفاصيلَ الفراغَ في ثيابِها، ويشهقُ وهو يمتصُ تفاصيلَ وجهِها الذي لسعته الشمس وحوَّلته إلى برونز يتقدُ بنضارةٍ دافقة تلهجُ بالصراخ السري
حين يحثه الأصدقاءُ على مفاتحةِ من يحب، يهزُ رأسه قائلاً: الغرباءُ الذين يُفرَضون على بعضِهم البعض بشكلٍ أو بآخر، نادراً ما يشكلون ثنائياً جيداً
يشربُ من نهرِ سفينةٍ جانحة، يمطرُ المرفأ القديمَ بالأحجياتِ الساخرة
لم يستطع مقاومة إغراء سن الأربعين، فمات
ربما كان الحلُ الوحيدُ للعشق، هو الموت
سيكونُ دخولُه الجنة هادئاً، كأنه يدخلُ إلى بيتِه
بقي رمزاً، ولم يمت مثل غيرِه داخل فقاعة الذكريات التافهة
هذه هي لعبتُنا مع الذكريات

(7)


رحالة، صار رغماً عنه سندباد العائلة
لم يجدوا له خارجَ ثوبِه وطناً، ولا خارجَ نعله سكناً
ًيحتفظُ في جيبِه بشفرةٍ سميكة يكشطُ بها صفعاتِ الطفولة، ليطويها في آخر الليل بعنايةٍ في دُرجٍ قديم للذاكرة
وعند الفجرِ تكونُ المقصاتُ مهيأةً للعملِ وقطعِ وهمِ الخيال
يحتفظُ من الفنادقِ والنساءِ والطرقاتِ بتذكار: منديل، أو شال، أو عُقب سيجارة، أو حصاة يحيره لونها
في صباه، أدماه صوتُ عراكِ أبويه، كان الصوتُ يصلُ إلى أذنه كصرير الحشراتِ القارضة وأصواتِ موج البحر الهائج. في تلك اللحظة قررَ أن الوقتَ قد حان لهجرِ البيت وتركِ العائلةِ إلى الأبد
حينما رضعَ فتى سوس سحابةً ظن كلَ السحب أمهاتٍ له، فامتطى ظهرَ إحداها، وتوَّسد حضنَ الأخرى
متلعثمٌ، مبعثرُ الملامح، مشتتُ النظرات، قليلُ الوسامة، هاربٌ من عيونِ الآخرين
حين تعرفه عن قربٍ، تفهمُ بالضبط لماذا انتحرَ هيمنغواي
في هدأةِ الليل، يسقطُ من السيارةِ مُخلفاً فيروز، تثرثرُ مع الظلمةِ التي تضغطُ على الشارع الفارغ إلا من سياراتٍ تناوشُ الهدوء
والسمكُ لا يُفرِقُ بين قُبلة الماء، وما يرسلُ الغريقُ من تحايا أخيرة

(8)




وحيدٌ، لم يكن لديه صديقٌ يحبُه إلى درجةِ أنْ يزعجه بالاتصال به هاتفياً
يبدو كأنه مُجتثٌ من العالم الحقيقي، وقد حلت عليه لعنةُ من يحيا نصفَ ميت، أو نصفَ شبح
كان إذا ثملَ يتصببُ عرقاً، مُجهَداً كأمٍ تُرضِعُ توأمين في اللحظة نفسها
يُبعِدُ الذبابةَ المقلِقةَ ويقولُ لكَ عن عائلته: جاءت كلُ الطائرات أثناء نومي وابتلعتهم، وبقيتُ وحدي دون طائرة
بعضُ الأيامِ التي بترَها من أيامِه تحوّلت إلى زوارقَ ورقية أو طائراتٍ صدئةٍ لا تصلحُ إلا للمتاحف
يهربُ إلى سريرِه ليحتضنَ جسدَه وينام
يرقدُ مثل غيمةٍ مستنفدة على الشاطئ بلا حراك
يستسلمُ لنومٍ مضطرب، مستمتعاً بملمسِ البطانية الخشن على جلده مباشرة
تهزُه لحظاتُ صحوٍ تداهمه فيها أصواتٌ تأتيه كآذان فجرٍ من مئذنةٍ بعيدة، ليوقظه بعد ذلك هديرُ شاحنةِ القمامةِ وصياحُ عمالها، وارتطامُ دلو حديدي بالأرض قبل أن يتابعَ تدحرَجه على طولِ الزقاق
يستيقظُ نجلُ باتنة في صباحاتِ هذا الخريفِ الجائرِ كقاطع طرقٍ مخذول
قِطَعُ الزجاجِ المتهاوية، أحلامٌ نسيها القاطنونِ على حافَّةِ النافذةِ خارجاً
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator