جرائم العاطفة في مصر النازفة
مثل قطارٍ أفعواني في حديقة ملاهٍ، يشقُ الحب طريقه صعوداً وهبوطاً، وسط صيحات ابتهاج وأحياناً فزع الجمهور
وقصصُ الحب عجيبة وغريبة، لكن الأغربَ دائماً هو نهاياتها
تبدأ رحلة الحب بالعواطف الرقيقة أو الساخنة -لا فرق- حيث تتأججُ المشاعر وتتقارب النفوس، ويتناثرُ من أيدي العشاق ضوء يعبر منه العالم إلى الجنة، إلى أن تهبَ العواصفُ فجأة ليظهر الوجه الآخر لأحد الطرفين أو كليهما، لتنهار الأحلام الوردية وتظهر الحقيقة بكامل صورتها وتفاصيلها
وفي تلك اللحظة قد يقع خلافٌ وشجار وصراع، ينتهي بالدماء التي تسيل أو الأرواح التي تزهق، مصحوبةً بهمهماتٍ وتساؤلاتٍ وفضول لا ينتهي في أوساط الرأي العام أو وسائل الإعلام. وربما تتحولُ الجريمة العاطفية إلى قضيةٍ ذات أبعاد سياسية تشغل اهتمام الحكام والسفراء، ويلعب فيها الدبلوماسيون أدواراً مؤثرة
وجرائم العاطفة في تاريخ مصر لها أكثر من شكلٍ وصورة، فهي قد تكون ناجمةً عن علاقةٍ سرية تنتهي بفضيحة وأحياناً الموت على مرأى ومسمع من الناس، أو تبدأ بشجارٍ بين زوجين تتكثف فيه مختلف العوامل، وتطفو على السطح مشاعر الغضب المتراكمة، لتنتهي بمأساةٍ أو رصاصة أو دس السم في الطعام والشراب
وفي كلِ الأحوال، فإن الجريمة العاطفية في مصر وقعت في القصور مثلما حدثت في المنازل المتواضعة..وشهدتها عصور الفراعنة والمماليك والعثمانيين وما بعد ذلك طبعاً، وصولاً إلى اليوم. قد تكون وقائعها جرت في القاهرة أو الإسكندرية، أو حتى خارج الحدود..في مدينةٍ تسابق الوقت مثل دبي أو في ربوع أوروبا أو إحدى الولايات الأميركية، ولكنها تظل جرائم عاطفية يجلسُ فيها أحد الطرفين على الأقل متكئاً على عذابه وينامُ في سرير يأسه، بعد أن كان يظن أن العاشق يهرمُ..ولا تذبل أشواقه
وحين تقعُ مثل تلك الجرائم التي ترتدي ثوب العاطفة، تولَدُ مآسٍ تثير في النفس أكثر من تساؤل حول أسرارها وتفاصيلها ودوافعها
وفي الحب كما في الجريمة، تتداخلُ حدودُ الأشياء والمفاهيم وتضطرب الرؤية
والعاشقُ ينقشُ كلماته أفلاكاً على فضاء الذاكرة بأحاسيس أقرب من الدمعة وأبعد من المجرة
يصبحُ العاشق ظلاً لظل من يحب، يحلمُ بتفاح الفتنة وغواية العطر، ويصنعُ مع من يحب إرثاً مشتركاً من الأحلام، وحين يدخل محراب اللمس تضيع منه اللغة ويهرب الحرف
وفي أحوال العاشقين، تكونُ خارجاً للتو من النهر، فتشعرُ على استحياءٍ بالظمأ من جديد
وإذا كانت العاطفة تهزنا هزاً وتعبئنا بالغمام، فإن البعض لا يقرأ في قاموس المشاعر سوى كلمة انتقام.. هنا تنزف الوردة دماً، ويسير العشق عكس الاتجاه، وتقيم الحكاية مأتماً بين أصابعنا وفي قلوبنا
وفي تاريخ مصر حكاياتٌ لا تنتهي عن المحبة التي انتهت بحريق هائل يلتهم سوسنة الفؤاد، وقصصٌ عن الوجد الذي أتى حاملاً نعشَ أبطاله، والشوق الذي دفنته الغيرة في قبر الهواجس
وبدلاً من الألق، ينبت الأرق
والحكاياتُ التي اخترناها من عصور مختلفة وأزمنة متباعدة ترسمُ خرائطَ الروح، وتحولات النفوس، وتبحثُ عن أسباب هذه الانقلابات العاطفية التي تنتقل من صيدِ لؤلؤ الرغبة إلى عداءٍ مستحكم، يمنح فيه أحد أطراف العلاقة نفسه تصريحاً بالقتل
زيارةٌ جديدة لتلك الجرائم العاطفية تبينُ أن الموتَ الذي كنا قد واريناه الأيام لم يمتْ بعد بجدية
لم يكن الأمر سهلاً، فقد تطلبت الكتابة عن تلك الحكايات وشخصياتها المحورية قراءة مئات الكتب والمراجع والدوريات والصحف باللغتين العربية والإنجليزية. ولعله من الضروري أن نشير إلى أن جانباً لا يُستهان به من المواد والتفاصيل المنشورة في هذا الكتاب يُنشر لأول مرة باللغة العربية، وخصوصاً حكاية الأمير سيف الدين مع الأمير فؤاد الذي أصبح فيما بعد ملكاً على مصر، وقصة محاكمة مارغريت فهمي في لندن بعد أن قتلت زوجها الوجيه المصري في أحد فنادق العاصمة البريطانية
التوثيقُ هو أحد مفاتيح الكتابة في هذا المشروع المتواضع
غير أن هناك حرصاً على سهولة اللغة وسلاسة السرد واهتماماً بنقل الحوارات والأحاديث كما دارت أو وردت في المصادر المختلفة
إنها حكاياتٌ هدهدتها الأحلام، قبل أن تتحول إلى كوابيس، ولوحةٌ من ألوان البهجة وحب الحياة قبل أن تصبح ملطخة بالدم. والأبطالُ في هذه الحكايات من كل صنفٍ ولون: رجال أعمال وفنانات، ملوك وأميرات، قضاة وربات بيوت، نصابون ومطلقات. أما الذي جمع بين هؤلاء فكان الحب وقصص تغسلها فضة الأساطير..حتى فرَق بينهم الموت
اللافتُ للانتباه أن القتلَ كان يقعُ عادة تحت جنح الليل.. ربما لأن الظلام سترٌ لأصحاب الخيباتِ كما هو مطلبٌ للصوص
هؤلاء العشاق ماتوا بكل الطرق الممكنة، بدءاً من الرصاص وانتهاءً بالقباقيب. يا لها من نهاياتٍ مأساوية سببها من كانوا يحبوننا
لكنها كانت نهاياتٍ تستحق أن تُروى..وبداياتٍ جديرة بأن تُستعاد
لنبدأ معاً القراءة