المحروسة

gravatar

الصورة إن حكت (3): لن يمروا




الصورة: مواطن صيني مجهول الهوية يعترض طريق دبابات كانت متجهة شرقاً في جادة تشانغان (السلام الأبدي) بالقرب من ميدان تيانانمن (القبة السماوية)، أثناء حملة قمع مظاهرات المطالبين بإصلاحات في بكين، في 5 يونيو 1989. التقطت هذه الصورة من الطابق السادس في فندق بكين، من على بُعد نحو نصف ميل، باستخدام عدسة 400 ملليمتر

تصوير: جيف وايدنر- أسوشيتدبرس
Photographer: Jeff Widener -Associated Press



في الميدان الكبير، لا سقف يؤوي التعب
وأنا خفيفٌ كعلبة سجائر
أقف في جادة تشانغان بوجهٍ نحيل ناتىء العظام
نبيٌ في الشارع، الشمس هالته، مع أن جروحه ظاهرة
أصبغ ريش الهواء، وأنطفىء من الحسرة على الوطن
في الميدان المفروش بحشائش فقيرة وجوقة عسكرية وعمال مصدورين يقهرهم الحزن، أرى الحراس يتضاعفون في كل مكان، بين اللحم والظفر، فوق العشب وداخل صناديق البريد
أمر أمام الشجر المكسور الخاطر، حاملاً كيسين هزيلين من ألم وأمل: بعض التين الطازج هدية من الجارة، وحفنة من الأرز والأعشاب
سال قلب الظهيرة، وأنا أرقب شجرة الاحتجاج التي تكبر في تيانانمن. في ميدان القبة السماوية ثلاثة آلاف طالب صاروا بعد سبعة أسابيع مليوناً، لفحتهم الحرية بقُبلتها القوية
عظماء في قلب العاصفة، وعشاق نثرهم الموت نثراً
هذا الميدان يشبه جسدي، وعندما أتجول فيه، أرى ألمه ينتقل كل يوم من مكان إلى آخر
الشمس تعد القادمين من الطرق البعيدة لتنفض عنهم غبار الوحشة
أعد الساعات، والأيام جثث.. بعضها ينزلق بخفة طائر إلى القبر.. بعضها الآخر يتشبث بجدران المقبرة، رافضاً طمأنينة الدفن وطقوس النهاية
أسائل نفسي: كيف أعرف أن العابر أمامي حي وليس ميتاً يسير مترنحاً نحو الفناء؟ لماذا نحن خائفون من الحياة ونشوتها؟ ما هي الحرية؟
الذين تنكّروا لصوت الناي راحوا، وبقيت وحدي
أجفل حين أرى رتل الدبابات يزحف باتجاه الميدان الكبير. بَرقُ الضجيج يكتمُ كل الحناجر. الصوت البغيض لآلة القتل لا يستأذن أذنيك في الدخول. إنه فقط يقتحم، بكل صلافة أحذية الجند الثقيلة في ساحات القتال
قلت لأخي بالأمس إن ما يجري ضربٌ من الجنون، لكنه رد متهكماً: البطش قدرُنا، فلا تقف في وجه المطرقة وسوق الأكاذيب المزدهر
حانت ساعة الحقيقة إذاً. سأرد على أخي.. عليهم جميعاً، وأقتل الوحش رفيق منامي
سأقف في الطريق وحدي. لن يمروا إلا على جسدي الذي يسكنه الإحباط منذ زمن طويل
حين أقف في الطريق أعزل إلا من إرادتي، تعلو الدهشة حاجبيّ دبابة المقدمة. يوقفها قائدها حائراً.. ما العمل في وجه إرادة؟!
في تلك الظهيرة، وقفت أمام الكون المقفر، كلحظة هاربة متمردة
أواجه الدبابة وقائدها المسكون بالغموض في تابوته المعدني
نتفاوض على الحياة والموت، فيما بشرٌ يحتضرون وبيوتٌ تحترق
هذا الجسد لم يعد يأبه كثيراً بالموت
أنا متشبثٌ بخيط الوهج، وهو في مسافته المُحكمة
وقتلة الوقت لا يعرفون خطيئة الانتظار
البعض يحلم بامرأة تنتظره خلف الباب، البعض الآخر يطلب أصدقاء أو إخوة لا يلقونه في البئر
كل ما أريده في هذه اللحظة أن يكون لي وطن
أعانق الدبابة، هل شاهدتم من قبل رجلاً يعانق دبابة؟
إنها الثورة التي تعيد صناعة العلاقة بين الرجل والحديد الأصم
عناق وسط أهوال يونيو، يربط أحزان الماضي بآمال المستقبل غير الأكيدة
أهتف قائلاً للرجل الذي يختبىء في جوف الحديد: لماذا أنت هنا؟
ستقول لي من قبو خوفك إنها أوامر القائد الأعلى دينغ شياو بنغ. لكن يا رفيق، مدينتي غارقة في عرق الفوضى وبحر الدم بسبب تلك الأوامر
الزعيم الذي يرقد على سريره في المستشفى للعلاج من السرطان، لم يدرك أن الورم الخبيث في جسده، لا في جسد الوطن
لا تصدق قائداً يعطي شعبه مداد الألم، ويفخر بنيشان القمع إذ يستخف بالمظاهرات قائلاً إن "مليون صيني قد يكون رقماً صغيراً"
يبدو أن القائد بأزراره المضيئة نسي - والموت قط يقفز على فراشه برشاقة- أنه لكي تصبح زعيماً بحق يجب، قبل كل شيء، أن تكون رجلا عظيماً في نفوس أهل بلدك
كيف تطيع أوامر رجلٍ جناحه المصنوعُ من شمع يذوبُ؟
نعم، الصراع غير متكافىء، لكن غضبة الرفاق أقوى من حكمة الهوان
يا قائدَ الدبابة: أودعتُك وقتاً لا يشيخ، فلا تسرق الأكسجين من رئتي
إن قتلتني، سأكون مثل روحك مليئاً بالثقوب وأعبر الرصاص من غير خشية
سوف أتسلقُ الدبابة التي تشتهي الجثث، وأدفع على مهلٍ بابك الصامت وغرورك المشبوه، وأخاطبك
لا يهمني أن أصبح عنواناً رئيسياً في صحف العالم
كل ما أحلم به هو وطن تقف على أكتاف جنوده عصافير الثكنة، لا أولئك الذين يصرخون مع نار البنادق وفي أحشاء الخنادق بأصوات خشنة وهازئة بالسماء
أيها الجنود انسوا الأوامر قليلاً، فالذين أصدروها بملامحهم الزانية مات إحساسهم مع بدء لعنة الرصاص
أهمس في أذن العسكري الذي أسدل ستائر الفظاظة على إنسانيته: الدبابات لأعداء الخارج وليس لأبناء الوطن
يقول لي: اذهب إلى البيت!
لا بيت لي، بيتي في قلبي
عودوا أنتم أدراجكم، فالناس عندهم ما يكفيهم من اليأس والأعماق المقبضة
اللحظة لها كل المعنى
قائد الدبابة يطل بقناعه الخاوي لفترة وجيزة من فتحة بها. لا لسان ولا أذن، فقط عينان أصابهما رمد الطاعةِ تحملقان فيّ بدهشة
يُعاد تشغيل محركات الدبابات، استعداداً لمواصلة طريقها نحو الهاوية. عند هذه النقطة، أقفز أمام المدرعة مرة أخرى، لأعيد المواجهة إلى المربع رقم واحد
أهتف في وجه الدبابات: دعوا الشمس تسقط في كفي، واتركوا لنا القمرَ على النوافذ
والمصور يراقبُ المشهدَ من شرفته العالية في الفندق المجاور مذهولاً، إذ أنفق العمر كلّه يتأمّلُ الناس والحروب، لكنه لم يكن يتخيل يوماً أن يشهد مواجهة مثل التي نحن فيها الآن
شخصان بالزي الأزرق يقتادانني بعيداً، ويجرانني بفظاظةٍ من أذني الساذجة، لنذوب نحن الثلاثة وسط الحشود، فيما تواصل الدبابات طريقها
ربما أكون واحداً ممن أعدمتهم الحكومة في أعقاب الحملة العسكرية، وربما أكون ناجياً من هراوة تتقن التعذيب. قد أكون الآن تحت الأرض ببضعة أمتار، أو هارباً يمم وجهه شطر الريف الضاحك
الشيء الوحيد الأكيد هو انتصاري في الشارع الذي تغير كثيراً، وهزيمة كل الذين قاوموا في كهوفهم جرافات التاريخ
مجنون؟ ربما أكون كذلك، لكنه سيظل على الدوام جنوناً مقدساً
يوماً ما، ستغرق المناديل التي بكتني في دموع الفرح

gravatar
Anonymous في 10:12 PM

السلام عليكم
ولكنها مرت يا سيدي الفاضل

مرت على أجساد الطلاب منذ عقدين
و لم ينعم أهلهم بتأبين لائق لهم حتى
الآن
مازلت اتساءل

هل هذا وليد ثورة السيد ماو الثقافية؟
دمت بخير

gravatar
Anonymous في 10:16 PM

لكم تعجبني هذه المفارقة الذكية بين المتظاهر أو الطالب من ناحية
و بين الجندي داخل الدبابة

فكلاهما مضطر لأن يكون في مكانه
ربما رغما عنه
و موت احدهما يهب الحياة للآخر
******************

أواجه الدبابة وقائدها المسكون بالغموض في تابوته المعدني
نتفاوض على الحياة والموت،

gravatar

Sonnet

لا أحد يعرف أو يذكر رتل الدبابات، لكن شخصاً واحداً فقط بقي في الذاكرة: رجل الدبابة

هذا هو الاسم الذي اشتهر به، كونه مجهول الهوية، بعد أن تصدى بصدره الأعزل لآلة القتل

رجل واحد، أعزل، أجبر أسلحة ومعدات ثقيلة على أن تقف. هكذا سجل التاريخ طريق الحرية والإرادة

إن كانت الدبابات مرت، فإن هزيمتها النكراء في معركة غير متكافئة تبعث برسالة واضحة للتاريخ والإنسانية: إرادة الحرية أقوى دائماً من أسلحة القمع

شكراً لك على التعقيب الجميل

gravatar

اللافت للنظر كذلك ان الدبابة توقفت امامه ولم تكتف بدهسه و العبور فوق جثته..لا ريب ان هناك حدا ادنى من الاحترام لأدمية الانسان ايضا

gravatar

آخر أيام الخريف

ملاحظة مهمة وفي محلها

إن بعض التقاير عن تلك الواقعة تقول إنه في اللحظة التي توقف فيها رتل الدبابات أمام هذا الرجل المجهول، وُلِدَ بطلان: الرجل الأعزل، وقائد الدبابة التي تتقدم الرتل. ويرى هؤلاء أن قائد الدبابة حاول تفادي الرجل الأعزل الذي يعترض الطريق ولم يعمل على دهسه

في المقابل، هناك من يقول إن ما جرى كان لحظة مربكة، حتى بالنسبة لرجل عسكري وجد نفسه أمام شخص أعزل يمنعه من مواصلة طريقه

يمكن لمشاهد الفيديو التي التقطت اللحظة ووضعتها في المدونة، أن تنقل جانباً من المواجهة الاستثنائية

gravatar

هذه اللحظات التى يتحدث عنها الوجوديون
حين يختلط الجنون والتضحيه
حين يصبح معنى الوجود اكبر من الموت
معنى ان تختار مابين الحياه مثل ملايين الحيوانات
اواتختار ان تموت لتحيا فى الذاكره الخالده خلود الانسانيه على هذه الأرض

تحياتى لقلمك المبدع

gravatar

أبوأحمد


هذا بالضبط ما يفسر هذا التحدي المذهل: حين يصبح معنى الوجود أكبر من الموت

الموت بشرف يا صديقي العزيز قد يكون عنوان الخلود

أشكرك يا د. مجدي على تعليقك الجميل

gravatar

السلام عليكم كنت قد قرات دات مرة ان الدبابة دهست هدا الرجل ولم اتأكد من هده المعلومة وقرأت فى نفس المصدر ان قائد الدبابة قد اتصل بالقيادة شارحا الموقف ووصلته الاوامر بالتقدم نحو الامام والله اعلم
ولكن هدا هو طريق الحرية لن نسير عليه بدون دماء
وفقك الله استاد ياسر ودمت بخير بالمناسبة مبروك الكتاب الجديد ساحاول الحصول على نسخة منه

gravatar

العراب

تحياتي لك يا عزيزي. الشيء المؤكد أن رجلين يرتديان زياً أزرق ظهرا في المشهد واقتادا الشخص الذي اعترض طريق رتل الدبابات

يمكنك مشاهدة تفاصيل ما جرى على يوتيوب، فقط اطبع
Tank Man

شكراً لك على اهتمامك بالموضوع والكتاب الجديد

:)

gravatar

اسلوب الكتابة متميز جدا
:)

gravatar

Tears


شكراً على ذوقك وتقديرك الجميل للنص

دمت بخير

gravatar

أعجبني أسلوب طرحك المميز


يعطيك العافيه

والله يوفقك

gravatar

أضعت منظرتي


الشكر لك على قراءتك للنص وتقديرك للكلمات ورسالتها

وأهلاً بك دائماً

gravatar

بالامس كان بابا عم يحكي عن الواقعة و سببها و و اشياء كتير بترتبط فيها
بالفعل رجل مميز و ذكرني بالطفل الفلسطيني اللي واجه الدبابة - فارس عودة -


هو جنون مقدس

تحية للاسلوب المميز

gravatar

Jafra

تحياتي لك وللرجل الجميل الذي حكى لك تلك الواقعة وتفاصيلها

إنها ببساطة قصة رجل وقف من أجل وطنه ومبادئه أمام معدن لا يفهم سوى لغة القتل

نعم، هذا هو الجنون المقدس الذي يثمر في قلوبنا وأرواحنا أوطاناً لا تموت

gravatar

اعلم انه موضوع بعيد كل البعد عن موضوع المقال..لكنى احببت ان اشارك مع حضرتك فرحتى بالعثور اخيرا على رواية :رائحة القرفة لسمر يزبك..شكرا لتعريفى بهذا العمل الادبى الاخاذ يا دكتور

gravatar

آخر أيام الخريف

سعيد أيتها الصديقة بعثورك أخيراً على رواية سمر يزبك "رائحة القرفة". هي رواية جميلة بالفعل

أتمنى لك قراءة ممتعة

gravatar

لن تمر إلا على أجساد فانية
فتبقى الذاكرة والنفس حرة طليقة
لن تسجن سوى ما يفنى ويذوب في التراب
فتبقى ارواحنا محلقة ابداً


جميل جداً

gravatar

Khawwata

سعيد بمرورك الجميل مثلك

في لحظات فارقة من الحياة لابد أن نختار: الكرامة الشخصية والوطنية..أو الاختباء خلف ستار الخوف والجبن

والاختيار دائماً بيدنا

gravatar

رائع كالعاده٠٠ماتكتب صديقى العزيز لايمكن التعليق عليه حتى لايختل التوازن الرقيق الدقيق بين الشكل والمعنى فيه
*************
د ٠ياسر
الجلسه الطويله التى جلسناها سويا كانت من أمتع وأفضل ماحدث فى تلك الزياره القصيره للقاهره٠٠ وكنت كأنى أعرفك من سنوات٠٠أدرك أننا تحادثنا وتحاورنا مرارا على الشبكه العنكبوتيه وتكونت لدى صوره معينه عن شخصك الكريم٠٠ تتمثل فى الدماثه والرقه والجديه والتفتح ٠٠٠وهو ماوجدته تماما حين أتى الوقت لنلتقى وجها لوجه٠٠نفس الأنطباع خرج به كل من كان معنا ليلتها
وفى مكالمه سريعه مع صديقنا المشترك د٠وليد كان هذا هو تعليقه على
الساعات القليله التى جمعت بينكم٠٠الطريف أننا -د٠وليد وأنا- لم نستطع
اللقاء فى القاهره وأكتفينا بمكالمه تليفونيه سريعه حيث تصادفت مغادرتى للقاهره مع وصوله هو والفارق كان ساعات قليله٠٠يبدو أن حظ جيلنا كله هو اللقاء فى عجاله بصالات وصول المطارات ٠٠على النت أو تليفونيا٠٠٠ عسى أن تتيح لنا الأقدار فرصه لقاء آخر لتمتين صداقه جميله بدأت فى مقهى زودياك بمصر الجديده٠٠٠تحياتى وخالص مودتى٠٠٠خالد

gravatar
Anonymous في 1:27 AM

السلام عليكم د ياسر
اسمح لي أهديك هذه الصورة التي تتكلم وقد فازت بالمركز الثالث
بالمسابقة العالمية
http://www.worldpressphoto.org/index.php?option=com_photogallery&task=view&id=1725&Itemid=257&bandwidth=high
ربما تكون عنوان تدوينة قادمة
في سلسلة الإعلام
مع احترامي

gravatar

Sonnet

أشكرك على الصورة الموحية التي تملك دلالات عميقة

سأضمها إلى مجموعة الصور التي أعتزم الكتابة عنها بإذن الله

لك محبتي وتقديري

gravatar

صورة مؤثرة جدا جدا
شكرا لك

gravatar

تايلاند


شكرا لك كلماتك الرقيقة. أعتز برأيك وتقديرك

gravatar

فعلا صورة مثيرة وبلوج مميز
تقبل تحياتى على هذا الجهود الرائع

gravatar

egypt-panorama.com

شكرا لك على القراءة والتقدير
أرجو لك كل التوفيق

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator