المحروسة

gravatar

مصر والجزائر.. المصائر


"نحن في منتهى الغرابة والسذاجة أو منتهى التطرف في مشاعرنا.. إما أن نستقبل الجزائريين بالطوب والحجارة كما في مباراة القدم وإما أن نستقبلهم بالورود والأحضان والقبلات كما جرى في بطولة اليد.. كأنه حرام علينا أن نكون طبيعيين وموضوعيين.. لا نشتم ولا نضرب ولا نجرح ولا نهين أحدًا ونحترم الجميع.. ولكننا في نفس الوقت نغالي بشكل ساذج وفج فنرقص طربـًا فجأة في حضور من كنا قبل قليل لا نريد أن نراهم ولا نريد حتى أن نلعب معهم"[1]



الحماقة هذه المرة رياضية الطابع.

فقد شهدت العلاقات المصرية- الجزائرية مراحل صعود وهبوط منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين وصولا إلى يومنا هذا. وحين يحاول صنّاع القرار في الدولتين دفع هذه العلاقات اليوم نحو معطيات الواقع فإنهم يجدون أنفسهم امام تحديات كبرى عنوانها الأبرز هو تراجع دور الدولة – على الجانبين- في دوائرها الثلاث، المحلية والإقليمية والعالمية.

ومرت العلاقات بين البلدين بمحطات فاصلة معلنة، وأخرى ظلت متوارية، وواجهت تلك العلاقات أزمات ثلاث، يعود أولها إلى السنوات الأولى من استقلال الجزائر، وذلك حين اختارت مصر أن تقف إلى جانب الرئيس أحمد بن بلة باعتباره قيادة شرعية بعد ما يعرف في الأدبيات الجزائرية بالتصحيح الثوري، وبالانقلاب عند بعض المحللين وحتى الجزائريين في السنوات الأخيرة. لقد اعتبرت القاهرة بقيادة عبد الناصر يوم 19 يونيو 1965 - تاريخ الانقلاب الأبيض، الذي أوصل بو مدين إلى الحكم والرئيس بن بلة إلى الإقامة الجبرية لسنوات- فشلا للدور المصري في الجزائر بعد الاستقلال، فأصاب العلاقات الثنائية نوع من الفتور انتقل سريعـًا إلى خانة التوتر فالقطيعة[2].

وتعرضت العلاقات المصرية- الجزائرية لأزمة ثانية في أعقاب إبرام مصر معاهـدة "كامب ديفيد" مع إسرائيل، قبل أن تقع الأزمة الثالثة: صراع في ملاعب الكرة انتقل إلى ملاعب الحياة.

في الأزمتين، الجزائرية - المصرية الخالصة والثانية العربية - المصرية العامة، كان مجال الخلاف والتوتر، الفضاء السياسي على مستوى القادة، ولكن منذ نوفمبر 2009 تحول الخلاف إلى محنة أصابت العلاقات بين الشعبين بصدع يتطلب رأبه جهودًا كبيرة ووقتـًا ليس بالقصير. مواجهة كروية انحرفت عن معناها الرياضي لتؤسس لعداوة بين الشعبين المصري والجزائري، وعاصفة غضب مرتبطة أساسا بالأقدام، لكنها أضاعت العقول وأساءت إلى كرامة دولتين كبيرتين. الأزمة هذه المرة لم تكن على مستوى السياسات العليا، لكنها أزمة من نوع جديد تقود فيه الشعوب الدول. ليس بالمعنى الديمقراطي (حكم الشعوب) ولكن بمعنى السير وراء فوضى العواطف[3].



في ظل هذا الجو الغوغائي، انتقلت أزمة مباراة في الكرة من جمهور المدرّجات إلى كواليس الحكام، ومن اللعب إلى السياسة، في تسييس مراوغ يدغدغ عواطف الغوغاء وغرائز القتال لدى جماهير لا تستمع إلا إلى هدير عواطفها الغاشمة. وإذا كانت الأزمة كشفت عن اتجاه الدولتين نحو تسييس الرياضة – خصوصـًا لعبة كرة القدم- وهو اتجاه يضر بالاثنتين معـًا، السياسة والكرة، فإن الأزمة كشفت أيضـًا عن مخزون من الغضب والإحباط لدى شريحة عمرية من الشعبين المصري والجزائري (الشباب)، كانت مباراة الكرة فقط فرصة للتفريج عنها ولكنها مختزنة ويمكن أن تنفجر في أي وقت. وهنا يكون من المهم مراجعة الموقف ووضع استراتيجية لدفع هذه الشريحة العمرية إلى الانخراط في الحياة العامة والمشاركة فيها[4].

ينبغي أن نفهم أن ما حدث كان زلزالا كبيرًا يتجاوز في أبعاده حدود المنافسة في مباراة لكرة القدم.

ولعل ما جرى بين الشعبين المصري والجزائري بسبب مباراة يعكس حجم مخزون الحساسية ولا نقول الكراهية بين البلدين، وهو "أمر يدعو إلى الحزن والتأمل في وقتٍ واحد، ويؤكد أن درجة سوء الفهم عالية بين البلدين، وأن هناك عددا من العوامل المركبة التي تتحكم في طبيعة العلاقات بين القطرين الشقيقين، فالحساسيات متزايدة والمخاوف متبادلة كما أن حالة من التربص قد امتدت من مجال كرة القدم إلى مجالاتٍ أخرى بين البلدين الشقيقين، وهو أمر مؤسف لما له من دلالات سلبية ومؤشرات مرفوضة"[5].

والعجيب أن تكون نار الكرة قد تسببت في هذا الغضب العارم في مصر والجزائر، في حين لم يحدث شيء من هذا في أزمات بين مصر ودول عربية وأجنبية أخرى. وعلينا أن نتذكر - على سبيل المثال لا الحصر- الاشتباكات الدموية التي حدثت بين مصريين وكويتيين في منطقة خيطان، وأدت لأعمال تخريب، ومثلها حدث في ليبيا بين مصريين وليبيين، وكلها تخللتها أعمال قتل وترتبت عليها محاكمات انتهت إلى لا شيء، ومشكلات أخرى تكررت في حي المهندسين في القاهرة أدت إلى مقتل أكثر من عشرة لاجئين سودانيين معظمهم من الجنوب، ومعارك في العاصمة الخرطوم بين سودانيين ومصريين وتدخل الشرطة ضد المصريين، وخلافات مع السعودية بسبب عقود العمل ومحاكمة مصريين بتهم مختلفة، ومشكلة مع ألمانيا بسبب مقتل مروة الشربيني أعقبتها مظاهرات واحتجاجات، ومع إسرائيل التي قتلت جنودًا وضباطـًا لنا[6].

هنا قد نجد من قطع خطوة إضافية فقال: "سكت النظام إذن عن المقتولين المصريين في العراق والمجلودين في السعودية والمطرودين في ليبيا وعن المضروبين في الجزائر.. فكانت الخرطوم"[7]!

الأزمة الكروية بين مصر والجزائر انتهت، أو في أضعف الأحوال تراجعت، وقد يجادل البعض بأنه آن الأوان للأعصاب المتوترة والنفوس المشحونة أن تهدأ، ولكن الأخطر في نظرنا أنها كشفت مدى جهل المجتمعين المصري والجزائري ببعضهما البعض، ومدى مغازلة السلطة هنا وهناك لجماهير تتسم سلوكياتها وردود فعلها بالغوغائية والاندفاع غير المدروس.



في البداية، كان شحن المشاعر انتظارًا للحدث السعيد بالتأهل إلى مونديال جنوب إفريقيا، بعد غياب استمر 20 عامـًا بالنسبة لمصر و24 عامـًا بالنسبة للجزائر. وبعد بداية متعثرة، استهلها المنتخب المصري بالتعادل على أرضه أمام منتخب زامبيا بهدف لكل منهما، والخسارة أمام الجزائر على استاد مصطفى تشاكر في البليدة في 7 يونيو 2009 بنتيجة 3-1، تمكن المنتخب المصري من تحقيق الفوز في مبارياته الثلاث التالية في المجموعة، لتصبح مباراته مع الجزائر في القاهرة ذات طابع خاص.. فإما الفوز بفارق هدفين على الأقل، أو الإعلان عن حجز الجزائر بطاقة التأهل إلى كأس العالم 2010.

 عند هذه النقطة الفارقة من مشوار المنتخبين في التصفيات، أقيمت في الفضائيات خاصة ووسائل الإعلام بشكل عام سوق كرة القدم التي تشحن الجماهير بأمل الفوز والتأهل على حساب المنتخب المنافس. اندلعت شرارة الأزمة المباراة التي جمعت الجزائر ورواندا، حين أطلق عمرو أديب مقدم برنامج "القاهرة اليوم" على قناة "أوربت" الدعاء الشهير "يا رب نكِّد على الجزائريين"، وتساءل في هذه الحلقة عن سر الكراهية التي يكنّها الجزائريون للمصريين في مباريات كرة القدم تحديدًا. بعد هذا التصريح، اندلعت الصيحات الغاضبة من الجمهور والإعلام الجزائري على حد سواء ضد عمرو أديب باعتباره ممثلا للإعلام المصري وضد شبكة "أوربت" التي أمّنت له منبرًا لإطلاق هذه الكلمات[8].

وانتهزت أبواق في الإعلام المصري إمكانية الفوز الصعب على الجزائر في شحن استمر عدة أسابيع، وصوَّرت الأمر على أنه حلم ينقلب إلى حقيقة، بدعوى أن الجمهور المتحمس لفريقه هو أداته للنصر المؤزر. وفي صحيفة "الغارديان" البريطانية، قال الكاتب محمد الدهشان إنه "في اليومين السابقين للمباراة، احتفل مصريون كأنهم فازوا بالفعل"[9].

في بيزنس الصراع الكروي بين مصر والجزائر، برز لاعبون مؤثرون خارج المستطيل الأخضر، من سياسيين يصرفون الأنظار عن ألعابهم، وشركات من كل نوع، من رجال الأعمال نزولاً إلى صناع الأعلام والشارات والصور ورعاة المباريات من شركات المياه الغازية والاتصالات، وأخيرًا قنوات فضائية تبحث عن إعلانات الرعاة[10]. ودخل رجال الأعمال على الخط، حين قال رئيس اتحاد الكرة المصري سمير زاهر إنه اتفق مع أكثر من عشرين رجل أعمال على دعم المنتخب بمكافآت مجزية في حالة الفوز باللقاء والتأهل للمونديال[11].

وانساق الإعلام قبل مباراة القاهرة في 14 نوفمبر 2009 في شحن الجماهير تارة تحت شعار رومانسي "في حب مصر"، وتارة أخرى تحت شعار به نزعة استعلاء "مصر فوق الجميع"، مع مسحة دينية صاحبت الحجيج إلى الاستاد تجلت في ابتهال صوفي عنوانه "لا  إله إلاَّ الله.. منتخب الساجدين حبيب الله".. وتحدث مصدر كنسي عن صلاة البابا شنودة الثالث، بطريرك الأقباط الأرثوذكس، من أجل فوز مصر في المباراة[12]. وفي الخلفية كانت الأغاني الوطنية والحماسية التي لازمت الأحداث الكبرى في تاريخنا المعاصر تجعل من المباراة مشروع مصر القومي، ومن لاعبيها رموز الكرامة الوطنية، انتصارهم هو المجد لمصر والمنجاة لها من عثراتها، وخسارتهم ليست في حسبان أحد[13]. تحول الأمر إلى حدث قومي، يستدعي الهتاف "يا ليالي يا ليالي يا ليالي.. والحضري السد العالي"، وإذاعة الأغاني الوطنية الشهيرة، حتى داخل حافلة المنتخب المصري[14]، فيما وزع مسؤولو اتحاد كرة القدم المصري كلمات أغنية "يا حبيبتي يا مصر" على الجماهير لترديدها بصوت جماعي[15]، لتستبدل لاحقـًا مشاهد الجنود في لحظات النصر التي كانت تذاع مع مثل تلك الأغاني بمشهد اللاعب عماد متعب أثناء إحرازه الهدف الثاني في لقاء القاهرة[16].

لا صوت خارج سياق التعبئة الكروية.

الرئيس المصري السابق حسني مبارك نزل بنفسه من مقره الرئاسي ليحضر تدريبـًا للمنتخب المصري قبل المباراة بساعات، ويتحدث إلى اللاعبين بصيغ الحث والشحن، ما أشعر البعض بأننا مقبلون على معركة حربية لا مباراة كرة قدم[17]. أما الجزائر فقد أرسلت طائرة تقل 200 نائب وثلاثة وزراء لحضور المباراة[18]، في تمثيل سياسي وبرلماني من العيار الثقيل.

التنافس في ظل هذه المبالغة ألغى الذاكرة المتبادلة واختزل مصر في منتخب كرة القدم واللون الأحمر، كما اختزل الجزائر في فريقها الكروي واللون الأخضر، وهذا الاختزال المخل هبط بمستوى الإدراك، كما أنه صغّر كثيرًا من البلدين وهوّن من شأنهما، ما أوقعنا في "مصيدة التفاهة".

هوامش

[1]  ياسر أيوب، كرة القدم.. وحرب أهلية جديدة في مصر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 19 فبراير 2010.
[2]  خالد عمر بن ققه، العلاقات الجزائرية - المصرية... ثلاثة توترات في خمسين سنة، جريدة "الحياة"، لندن، 10 يوليو 2010.
[3]  وائل عبد الفتاح، دول الغرائز، جريدة "الأخبار"، بيروت، 2 ديسمبر 2009.
[4]  د. حمدي صالح، الأزمة وصوت العقل، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 28 نوفمبر 2009.
[5]  د. مصطفى الفقي، الفراغ القومي.. مباراة مصر والجزائر، جريدة "الحياة"، لندن، 24 نوفمبر 2009.
[6]  حسنين كروم، هل سيهاجم أعداء عروبة مصر في الحزب الحاكم "مبارك"؟، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 25 نوفمبر 2009.
[7]  إبراهيم عيسى، الكرامة المهدرة.. مَنْ المسئول عما حدث للجماهير المصرية في السودان ؟، 20 نوفمبر 2009، جريدة "الدستور"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.
[8]  محمد عبد الرحمن، عمرو أديب رأس الفتنة الجزائرية- المصرية، جريدة "الأخبار"، بيروت، 21 نوفمبر 2009.
[10] عزت القمحاوي، مصر والجزائر.. قراءة في بيزنس الحرب، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 17 نوفمبر 2009 .
[11] محيي وردة، علاء وجمال مبارك يساندان المنتخب.. بلاتر لن يحضر.. وزاهر يحشد رجال الأعمال، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 10 نوفمبر 2009.
[12]  محيي وردة وعمرو بيومي، شحاتة يطلب "بلياردو وبلاي ستيشن" لتهدئة لاعبيه.. والبابا شنودة يصلي للفوز.. وصحيفة جزائرية تتهم مصر بـ"السحر"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 17 نوفمبر 2009.
[13] حمدي قنديل، أطالب وزير الإعلام بالاستقالة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 7 ديسمبر 2009.
[14]  محمد ربيع ومحمد مراد، الأغاني الوطنية حيلة شحاتة لاستنفار طاقة اللاعبين، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني 13 نوفمبر 2009.
[15]  __________، دعاء الساعات الحاسمة: يارب، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 15 نوفمبر 2009.
[16]  ولاء نبيل، الأغاني الوطنية غذاء للتعصب.. ودعوة للشحن، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 18 نوفمبر 2009.
[17]  علاء الغطريفي، ١٤ نوفمبر .."تكوير" السياسة، جريدة "المصري اليوم"، مصدر سابق.
[18]  رمضان بلعمري، اقتراح عربي بمنع حضور السياسيين والفنانين مباريات الجزائر ومصر، موقع العربية نت، http://www.alarabiya.net/articles/2009/11/23/92112.html، دبي،  23 نوفمبر 2009.

gravatar

مقال جامد جداً يا أستاذ ياسر

gravatar

ما حدث بين مصر والجزائر كانت كارثة بحق ، كان هناك من يحاول زرع الفتنة والفرقة بين الشعبين الشقيقين لتحقيق مصالح شخصية وسياسية .. الحمدلله انه القصة انتهت على خير بين البلدين الشقيقين ..

gravatar

أحد التفاسير الشريرة جداً هو ما نشرته قبل أيام جريدة "الموجز" عن أن خلافاً على عمولة في صفقة سلاح بين "سعيد بو تفليقة" - الشقيق الأصغر للرئيس الجزائري- وبين "علاء مبارك" كان الشرارة الأولى لعودة الحرب الكروية المصرية الجزائرية..ولكل في بلده نفوذ ، سواء نفوذ "بو تفليقة" الأصغر وعلاقته بجريدتي "الشروق" و"الهداف" الجزائريتين ، أو نفوذ "علاء" وعلاقاته المتشعبة بصحف وقنوات من بينها "دريم" التي لعبت دوراً ضخماً في ما حدث..دون محاسبة أو مجرد استفسار..

والله تعالى أعلم..

gravatar

قلم جاف


هناك سيناريوهات كثيرة سآتي عليها بالتفصيل

بغض النظر عما نشرته "الموجز"، وأحسبه غير دقيق، فإن السعيد بوتفليقة لعب دوراً رئيسياً في تلك الأحداث المؤسفة، التي رسب فيها كثيرون

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator