المحروسة

gravatar

إعصار في استاد القاهرة



أول القصيدة إنكار

ففي الطريق إلى المباراة الأولى، نفت آلة الإعلام في مصر واقعة الاعتداء على حافلة المنتخب الجزائري[1]، وزاد عليها اتحاد الكرة المصري بالقول إن لاعبي الجزائر هم الذي حطموا نوافذ الحافلة من الداخل وأصابوا أنفسهم لافتعال أزمة[2].
ترويج إعلامي لرواية غير صحيحة، علمـًا بأن ثلاثة من أعضاء الاتحاد الدولي (الفيفا) كانوا يستقلون سيارة خلف الحافلة، ومعهم ممثلون عن التليفزيون الفرنسي، وهؤلاء سجلوا ما حدث وصوروه. الحادث الذي نلمس فيه أيضـًا تقصيرًا في إجراءات الأمن اللازمة[3]، دفع الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة إلى إجراء اتصالين هاتفيين بالرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، ليطمئن مبارك نظيره الجزائري بأنه سوف يتخذ جميع الإجراءات الأمنية الكفيلة لحماية الفريق الجزائري وأنصاره.

الغريب أن الإعلام المصري لم يسكت فقط عما جرى للحافلة، لكنه تجاهل أيضـًا ما جرى للمشجعين الجزائريين في مصر، الذين تقول وزارة الصحة المصرية إن 20 منهم أصيبوا بجراح مقابل 12 مصابـًا مصريـًا، في حين سجلت السفارة الجزائرية أن عدد المصابين 51 وقالت إن أحد المصابين الجزائريين طُعن بمطواة في بطنه[4].

هذا الإنكار الذي بدا نوعـًا من المكابرة، دفع كاتبـًا لبنانيـًا إلى أن يقول "أنا خجول بما حدث في مصر. أو بما قيل إنه حدث في مصر. أو بما نفي أن يكون قد حدث في مصر. أي أن تتحول مباراة "رياضية" إلى رشق بالحجارة، وتكاد تشعل حربـًا بين بلدين"، مؤكدًا أنه "لم يكن أبشع من الحجارة المصرية على الفريق الجزائري سوى بعض التعابير والمقالات في بعض صحف الجزائر. ولم يكن أبشع من أقوال المستفتين في الشارع المصري سوى أقوال العابرين العابسين والغاضبين في الشارع الجزائري"[5].

وإذا كان الإعلام المصري في أغلبه قد أنكر الواقعة، فإن صحيفة "الشروق" الجزائرية على سبيل المثال كتبت في المانشيت الرئيسي صبيحة يوم مباراة القاهرة في 14 نوفمبر: "اللاعبون المصابون في الاعتداء يتعهدون: حقرونا.. وسنحول حجارتهم إلى أهداف". العناوين الأخرى في الصفحة الأولى شملت: "الشروق كانت شاهدة على حادثة الاعتداء على الخضر: ليلة مشؤومة واجتماع عاصف"، "الرئيس بوتفليقة اتصل بالبعثة مرتين وروراوة رفض استقبال زاهر"، "رفيق حليش: الدم الجزائري غال ولن يذهب هدرا"، "كريم زياني: ضربونا وشتمونا لكننا سنفوز.. وتحيا الجزائر"[6]. وفي الصفحات الداخلية نقرأ عنوانـًا مفاده: "فضيحة "بجلاجل" تلاحق مصر وشهود زور لاغتيال حقيقة الجريمة"[7]!، وعنوانـًا ثانيـًا: "رغم استفزازكم.. سننتصر.. موتوا بغيظكم"[8]، وثالثا يقول: "السطايفية يبكون لدماء لموشية وزملاءه ويصرخون.. "ما دمتم تحسنون الرشق بالحجارة لماذا لا تحاربون الكيان الصهيوني؟"[9].

وتحت عنوان "فعلها أشباه الأنصار!" نقرأ ما يلي: "ما حدث للفريق الوطني أثناء دخوله للأراضي المصرية أوضح بشكل صارخ أن بعض المصريين فعلوها واستجابوا لنصيحة السيد زاهر الخبيثة"[10].

وأكد جمال لعلامي أن "هناك تواطؤ في مصر سهّل الاعتداء السافر على المنتخب الجزائري"، قبل أن يقول "على الجزائر أن تتحرك الآن، وقد انتقل مصريون  من مرحلة التلفيقات والإساءات والاستفزازات والسب، والغارات الفضائية على شهدائنا وثورتنا ولغتنا ورموز الدولة ورئيسنا وصحافتنا، إلى مرحلة الاعتداء  والضرب والإجرام"[11].

أما المدير العام مسؤول النشر في جريدة "الشروق" علي فضيل فقد كتب تحت "عنوان التفوق"، قائلا إن "أشقاءنا المصريين لم يتخلصوا بعد من "عقدة" التفوق المصري التي تمثلها مقولة "مصر أم الدنيا" وأن مصر - الشقيقة الكبرى- لا يجب أن "تزعل". وأضاف أنه "عندما تنطع أحد الإعلاميين المصريين الموتورين عقب مباراة الجزائر ورواندا، وتقيأ كلاما مهينا للجزائر والجزائريين، قال لنا بقية الزملاء المصريين: "لا مؤاخزة.. دا عيّل صايع لا يمسل الإعلام المصري". وأضاف: "لكن العدوان الذي تعرض له الفريق الوطني بعد وصوله القاهرة أمس والهبة الإعلامية المصرية الشاملة لطمس الحقائق وتضليل الرأي العام تركتنا مشدوهين مذهولين من الصدمة"[12].

الصحف المصرية شحذت أسلحتها أيضـًا صبيحة يوم مباراة القاهرة، وظهرت عناوين في الصفحة الأولى من عينة "يا منتخبنا فجّر إعصارك.. كأس العالم في انتظارك"[13]. وقبلها بأيام نقلت عن المهاجم المصري محمد زيدان قوله: "سنحرق قلب الجزائريين بعد الفوز عليهم في استاد القاهرة كما حرقوا علم مصر"[14].

عواطف وعواصف، أنست كثيرين أن اللقاء الكروي المرتقب بدأ بعزف السلام الوطني المصري الذي لحنه عبقري التلحين في مصر سيد درويش، قبل أن يبدأ عزف السلام الجمهوري الجزائري الذي لحنه الملحن المصري محمد فوزي وكتب كلماته الجزائري مفدي زكريا[15].

لنتوقف قليلا مع مشاهد داخل استاد القاهرة أثناء لقاء منتخبي مصر والجزائر، كما رواها شاهد عيان[16].

كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة، حين طلب المذيع الداخلي من الجماهير أن تصمت لرفع الأذان، فساد الصمت للحظات لتعود المدرجات الملتهبة إلى ثورتها العارمة المزدانة بعلم مصر، ليعود بعدها المذيع بدعوة الجماهير لترديد فاتحة الكتاب وراءه لتكرار ما حدث عام 1989. يستجيب الجمهور، ثم يعاود المذيع ترديد "قل هو الله أحد"، ثم يهتف "الله أكبر" ثم "يا رب"، والجمهور وراءه، لدقائق.

 وإذا كان الدين حاضرًا طوال اللقاء فإن السياسة لم تغب، ولعب المذيع الداخلي الدور نفسه بترديد اسم مبارك، راعي الرياضة - كما قال- لاصطياد تصفيق الجماهير، وقد نجح في ذلك لكنه لم يفلح في انتزاعه عند ذكر اسم نجليّ الرئيس المصري حينذاك، ليسود صمت مع استهجان ضعيف من المدرجات، وعلى المنوال نفسه استقبلت الجماهير حسن صقر، رئيس جهاز الرياضة في مصر، وإذا ما قارنت ما حصده محمد أبوتريكة أو نجوم المنتخب من تصفيق فالفارق شاسع كما هو بين الأرض والسماء.


"دعاء الساعات الحاسمة: يا رب"[17].

جمهور.. يشتم ثم يطلب مددًا من السماء!

إنه الجمهور المصري، فهو متقلب، يخدعك، لا تستطيع أن تتصور ردود فعله، هكذا بدا طوال المباراة، يغضب، يحزن، يهتف، يشتم، يصفق، يلعن، يفرح، بدأ بهتاف "كل الناس بيقولوا يارب" لكنه لم يتوان عن سباب جماهير الجزائر ودولتهم، وبعبقرية يحسد عليها قام بتأليف هتافات وشعارات يخجل القلم من كتابتها منها تحريف لأغنية "دقوا المزاهر"، وكان مؤدبـًا جزئيـًا عندما قال بكل حرارة "واحدة واحدة تاتا.. الجزائر هتشيل تلاتة".

إنهم حقـًا  "المصريون الرائعون وتناقضاتهم القاسية"[18]!

"المنتخب يهدي مصر وردة التحية في الدقيقة الأولى وقبلة الحياة في اللحظة الأخيرة"[19].

هكذا أعلنت الصحف المصرية صبيحة اليوم التالي للمباراة[20]، بعد اقتناص فوز صعب جعل الفريقين بحاجة إلى مباراة فاصلة، وسط ارتباك البعض في التقدير، قبل أن يتضح أن الفيفا لم يعتمد قاعدة احتساب الهدف خارج الأرض بهدفين لكسر التعادل، في لوائحه المنظمة للتصفيات المؤهلة لمونديال جنوب إفريقيا[21].

فرحة طاغية في مصر، قابلها بركان غضب في الجزائر، التي كانت تغلي تحت وقع مانشيت صحيفة "الشروق": "الخضر يحطمون غرور الفراعنة.. والحسم في الخرطوم"[22]، قبل أن تختار الصحيفة نفسها عناوين أخطر في اليوم التالي: "شهود عيان يكشفون لـ "الشروق" سقوط ضحايا وحجار ينفي: مناصرو الخضر قضوا ليلة رعب في القاهرة"، "لقنت مواطنا جزائريا الشهادة وهو يلفظ أنفاسه بالفندق: "رضا سيتي 16" يروي لـ"الشروق" تفاصيل العدوان"، "الشروق ساهمت في تحرير 400 جزائري بعد محاصرتهم داخل الملعب"، "الأمن المصري تعمد نقل حافلات المناصرين للأحياء الشعبية للاعتداء عليها"[23].

وصدرت تصريحات نارية عن وزير التضامن الوطني والأسرة الجزائري جمال ولد عباس الذي كان ضمن البعثة الجزائرية في مباراة القاهرة، إذ قال في حديث صحفي: "هجموا علينا كالوحوش وبحوزتنا شريط فيديو يكشف العدوان" و"كنا ضحية مسرحية أبدعت أبدعت السلطات المصرية في لعب أدوارها بكل نفاق" و"لم نسلم حتى في المنصة الشرقية ولجأوا إلى التصفير خلال عزف النشيد الوطني قبيل المباراة"[24]. وفتحت صحف جزائرية بابـًا للنواح المبالغ فيه، فنقلت - على سبيل المثال- عن أحد المشجعين الذين حضروا لقاء القاهرة قوله: "جوّعونا وتبولوا علينا وأحضروا لنا الرقاصات ليشوهوا سمعتنا"[25].

وظهر على الساحة ناشرو الصحف الجزائرية الذين أصدروا بيانـًا أدانوا فيه "أعمال العنف التي ارتكبت في حق الجزائريين والجزائريات بالقاهرة، والتي مست بالكرامة الوطنية، أمام مرأى ومسمع السلطات المصرية المتواطئة"، كما شجبت "هذه الأفعال الهمجية المبيّتة والإجرامية المخطط لها، منذ وصول الفريق الوطني لكرة القدم إلى القاهرة"[26].
وإذا كان أول خروج على قواعد "العراك الكروي" من نصيب الإعلام الرياضي المصري قبل أن تنساق الصحافة الجزائرية إلى لعبة التحريض، فإن الجماهير الجزائرية نقلت التجاوزات إلى مستوى أسوأ
 
هوامش

[2]  إيهاب الفولي ومحمد يحيى، اتحاد الكرة يرسل إلى "الفيفا" ملفا بأدلة "فيلم الجزائر"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 14 نوفمبر 2009.
[3]    John Leicester; Associated Press, Egypt-Algeria: When Fair Play Died, New York Times, http://www.nytimes.com/aponline/2009/11/17/sports/AP-SOC-John-Leicester-171109.html, November 17, 2009.
[4]  فهمي هويدي، بعد صدمة الخرطوم: الخطايا العشر، جريدة "الشروق"، القاهرة، 1 ديسمبر 2009.
[5]  سمير عطا الله، حروب الكرة، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 17 نوفمبر 2009.
[6]  ___________، اللاعبون المصابون في الاعتداء يتعهدون: حقرونا.. وسنحول حجارتهم إلى أهداف، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 1.
[7]  جمال لعلامي، فضيحة "بجلاجل" تلاحق مصر وشهود زور لاغتيال حقيقة الجريمة، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 5.
[8] رشيد فيلالي، رغم استفزازكم.. سننتصر.. موتوا بغيظكم، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 20.
[9]  سمير منصوري، السطايفية يبكون لدماء لموشية وزملاءه ويصرخون.. "ما دمتم تحسنون الرشق بالحجارة لماذا لا تحاربون الكيان الصهيوني؟"، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 21.
[10]  _________، فعلها أشباه الأنصار!، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 2.
[11]  جمال لعلامي، بص.. حرامية ونص!، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 4.
[12] علي فضيل، عقدة التفوق، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 2.
[13] بليغ أبو عايد ووائل عباس، يا منتخبنا فجّر إعصارك.. كأس العالم في انتظارك، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 14 نوفمبر 2009.
[14]  محيي وردة ومحمد، اتحاد الكرة يختار "السودان" لـ"المباراة الفاصلة" وزيدان يتعهد بحرق قلوب الجزائريين،  جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 11 نوفمبر 2009.
[15] سارة سند، ٥٠ عاما بين تلحين محمد فوزي للنشيد الوطني الجزائري.. ومعركة ١٤ نوفمبر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 13 نوفمبر 2009.
[16] علاء الغطريفي، مذيع الاستاد فشل في انتزاع التصفيق لجمال وعلاء مبارك.. وسائق تاكسي رئيسًا للوزراء، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 16 نوفمبر 2009.
[17] __________، دعاء الساعات الحاسمة: يا رب، مصدر سابق.
[18]  ياسر أيوب، المصريون الرائعون وتناقضاتهم القاسية، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 11 نوفمبر 2009.
[19]  محيي وردة، المنتخب يهدي مصر وردة التحية في الدقيقة الأولى وقبلة الحياة في اللحظة الأخيرة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 15 نوفمبر 2009.
[20]  في هذا اللقاء، فاز منتخب مصر على منتخب الجزائر بهدفين دون مقابل، أحرزهما عمرو زكي وعماد متعب، ليتساوى الفريقان في النقاط وفارق الأهداف، ويتم الاحتكام إلى مباراة فاصلة لتحديد هوية المنتخب المتأهل عن تلك المجموعة إلى كأس العالم في جنوب إفريقيا عام 2010.
[21] ________, Regulations 2010 FIFA World Cup South Africa, FIFA.com, http://www.fifa.com/mm/document/tournament/competition/fifa_wc_south_africa_2010_regulations_en_14123.pdf, FIFA, Zurich, July 2007, p. 21, §17.6.
[22]  الخضر يحطمون غرور الفراعنة.. والحسم في الخرطوم، جريدة "الشروق"، الجزائر، 15 نوفمبر 2009، ص 1.
[23]  ____________، شهود عيان يكشفون لـ "الشروق" سقوط ضحايا وحجار ينفي: مناصرو الخضر قضوا ليلة رعب في القاهرة ، جريدة "الشروق"، الجزائر، 15 نوفمبر 2009، ص 1.
[24]  سميرة بلعمري، وزير التضامن جمال ولد عباس ينقل لـ"الشروق" شهاداته حول الجحيم بالقاهرة: "هجموا علينا كالوحوش وبحوزتنا شريط فيديو يكشف العدوان"، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 3.
[25]  نوال بليلي، شاهد عيان من مناصري الخضر يفضح بطش المصريين: جوّعونا وتبولوا علينا وأحضروا لنا الرقاصات ليشوهوا سمعتنا، جريدة "الشروق"، الجزائر، 18 نوفمبر 2009، ص 6.
[26]  محمد مسلم، ناشرو الصحف ينددون ويطالبون الدولة بحفظ كرامة الجزائر، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 3.

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator