المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

صراع الكباتن


انتشر ورم الغضب الكروي في جسد مصر والجزائر بعد موقعة أم درمان

امتد الأمر إلى التطاول على السودان بصورة فيها من الاستعلاء والجهل الكثير حتى وصل الأمر بأحد "الكباتن الكبار" في عالم كرة القدم إلى أن يقول عن ملعب استاد المريخ: "بأنه صغير وضيق حتى إن الكرات التي يلعبها عصام الحضري تذهب مباشرة لحارس الجزائر، وأن الركلات الركنية كانت تخرج بعيدًا عن منطقة الجزاء"، مع أنه ملعب أقيمت عليه آلاف المباريات الدولية وعاين كل شبر فيه ممثل الاتحاد الدولي[1]. وفي ظل أزمة غير معلنة بين وزارتي الخارجية والإعلام بسبب أحداث مباراة مصر والجزائر في السودان، كان أول انتقاد للسودان في أزمة الجزائر في التليفزيون الرسمي المصري، ما دعا الحكومة السودانية إلى استدعاء السفير المصري في الخرطوم[2].
وهاجمت أقلام وأصوات في مصر أداء أجهزة الأمن في السودان خلال مباراة أم درمان، علما بأن الخطة الأمنية التي نفذها السودان تضمنت تفريغ أم درمان بالكامل لعدم حدوث اختناقات مرورية خاصة بالمنطقة المحيطة بالاستاد بعمق كيلومترين على الجانبين، ووضع مسارات محددة لكل فريق ومشجعيه، إضافة إلى 18 ألف فرد ما بين ضابط وعسكري انتشروا في هذه المسارات[3]، وبالفعل تدخلت القوات السودانية لفض الاشتباكات[4].

لقد استراح كثيرون في مصر لفكرة أن أكلة كسكسي في الجزائر أو خناقة في الخرطوم، هي سبب عدم التأهل إلى نهائيات كأس العالم في جنوب إفريقيا. غير أن تلك الأزمة الكروية المفتعلة والتي تحولت إلى كرة ثلج تكبر وتزيد الموقف تعقيدًا، تكشف أمراضـًا أصابت مجتمعاتنا العربية وتهدد بأن تتكرر بين فترة وأخرى.

أمراض لم تغب عن بال كاتب حصيف هو المفكر السوداني د. غازي صلاح الدين، الذي قال إن الأزمة كشفت عن مظاهر بعض الأمراض النفسية لدى الشعوب إذ عمدت عمليات التعبئة التي صاحبت المباراة إلى مسخ الذاكرة وإلغائها، فمسحت تاريخ أمة عظيمة كمصر من ذاكرة المتحمسين والمتلقين. وفي لحظة لا وعي غاب عن عقول المتحمسين لنصرة فريقهم بأي ثمن المصلحون والساسة من الإمام محمد عبده على سبيل المثال لا الحصر إلى سعد زغلول ومن حسن البنا إلى عبدالناصر، أما علماء مصر الذين زحموا التاريخ بمناكبهم أمثال الليث بن سعد وابن منظور وجلال الدين السيوطي وطه حسين ومن في حكمهم من الأفذاذ فقد انزووا في أجواء المباراة إلى ركن قصي.
وبالمقابل غابت عن نواظر المتحمسين من الطرف الآخر إسهامات الجزائريين في التاريخ وشدة بأسهم في مجالدة المستعمرين التي ألهمت الشعوب المستضعفة وقدمت لها ملحمة عظيمة من ملاحم الجهاد ضد المستعمر. هكذا غاب أو غيب الأمير عبدالقادر الجزائري وابن باديس والمجاهدة فاطمة نسومر والمجاهدة جميلة بوحريد وبالطبع اختفى عن ناظرينا تمامـًا علماء ومفكرون كالبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي، أما المليون شهيد فلم يعودوا أكثر من إحصائية في مكتب سجلات الوفاة.

هكذا من خلال عملية الإلغاء، تم الاختزال وهو في رواية جورج أورويل (1984) حيلة يلجأ إليها "الأخ الأكبر" من أجل برمجة أعضاء المجتمع ومغنطتهم حتى يفقدوا الإرادة والقدرة على التفكير والاختيار الحر وهذه البرمجة التي تقوم بها "وزارة الحقيقة" في دولة أوشينيا تعتمد في جانب منها على إلغاء المفردات اللغوية والاكتفاء بمفردة واحدة ما أمكن حتى تختفي الظلال الدقيقة للمعاني وتتبسط المضامين إلى درجة الابتذال وفي مباراة مصر والجزائر جرت عملية برمجة اختزلت الدولتين إلى لونين أحدهما أحمر والآخر أخضر.. فمصر، بغض النظر عن رمزيتها وإسهامها، هي محض لون أحمر، والجزائر، لا يهم تفردها التاريخي وامتيازها، هي فقط لون أخضر والأمر باختصار أمر حرب والحرب في صميمها بين طائفتين مختزلتين في لونين وأنت بالخيار ويا لضخامة الخيار بين أن تؤيد الأخضر أو الأحمر، أما وقد اخترت فالمعركة كما في ألعاب الحاسوب صارت معركة كسر عظم ولا مخالفات فيها[5].
وفي تصورنا أن الأحداث التي أعقبت مباراة مصر والجزائر الفاصلة لم تكن مجرد نتيجة لمباراة، وإنما كانت معركة حاسمة أثبتت أن مصر لم تعد تتمتع بالريادة الإعلامية التي كان البعض يتشدق بها صباح مساء، بل تأكد أن مصر بكل ترسانتها الإعلامية لم تكن مسموعة للإعلام العربي والعالمي، وإنما انساقت بالأساس إلى حرب إعلامية رخيصة استُدرجت إليها ترتب عليها ممارسات من قبل بعض المشجعين المتعصبين على الجانبين. ويمكن القول إن تلك الأجواء الهستيرية في الإعلام[6]، استغلت في حملتها الطبيعة العنيفة لجمهور الجزائر، علما بأن احتفالات الجزائر بالفوز الكروي على المنتخب المصري راح ضحيتها 24 قتيلاً في الجزائر وحدها، فما بالك لو كانت أجواء خسارة!


واستفاضت أقلام وبرامج تليفزيونية في تأصيل هذه النظرية، "فالجزائري المتهم بحدته وعنفه وقسوته عندما يتعلق الأمر بـ"‏النيف" أي الكرامة‏، يعبر بطريقته عن "عقدة الشقيقة الكبرى" التي تستأثر بالتاريخ والحاضر والفن والسياسة والثقافة، وتريد أن تضم الرياضة إليها‏.‏ أما المصري المتهم بالمبالغة والفهلوة والانغلاق على الذات فيستغرب أن يحاول أحد منازعته مكانته أصلا‏، ويوظف قدرته المتاحة في مواجهة هذا التحدي"‏[7].‏ إلا أن هذه النظرية تنزع إلى التبسيط المخل، المخالف للواقع‏، وفيها تجن شديد على المصريين والجزائريين على حد سواء‏.‏
"الإعلام الطائش"[8]!
كانت إصبع مجلة "الإيكونومست" تشير إلى الإعلام بلا تردد، كمسؤول أول عن التوتر بين مصر والجزائر في سباق بدأ بالكرة، وانتهى بالكره.

 والشاهد أن الإعلام الرسمي في مصر لم يقم بدوره المنوط به، وترك بعض القنوات الخاصة تقع في تجاوزات لا علاقة لها بالرياضة أو أخلاقيات العمل الإعلامي. واندلعت حرب الألسنة الطويلة التي تروج أفكارًا سيئة ومغلوطة ضد "الطرف الآخر"، في مقابل تفرغ وزير الإعلام المصري حينذاك أنس الفقي لافتعال صراع مع الفضائيات المصرية بدلاً من التنسيق معها لتكوين جبهة موحدة من الإعلام المصري لوقف هذه الحرب الإعلامية[9].

الوزير الذي شجع الإعلام الخاص في أول العام، وقال في "البيت بيتك" إن الإعلام الخاص جزء أصيل من الإعلام إجمالا في البلد، وإنه يتحمس له ويشجعه، وجدناه في آخر العام يخذل الإعلام الخاص في آخره[10]، ويعاقبه بحرمان القنوات الخاصة من نقل مباراة مصر مع الجزائر في القاهرة[11] مكتفيا ببيان غامض لاتحاد الإذاعة والتليفزيون[12]. وعندما وقعت تجاوزات من الإعلام الخاص، أغمض وزير الإعلام المصري حينذاك عينيه، ليستمر مسلسل التناقضات. وخلال اجتماع مشترك للجان الشباب والشؤون العربية والدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب، دافع الفقي عن القنوات الخاصة التي تشن هجومـًا حادًا على الجانب الجزائري، وقال: "سيبوا الناس يفشوا غليلهم في الإعلام الخاص من اللي شافوه في السودان"[13].
في تلك الجلسة، قال الفقي أيضـًا: "إن تبادل الأدوار في هذا التوقيت مطلوب جدًا، وممكن أطلب من إعلام القنوات الخاصة أن يقول ما أريد أن أقوله لأن إيده مفكوكة وأنا إيدي مش مفكوكة"، واصفـًا مشجعي الجزائر في الخرطوم بأنهم مجموعة من "الغوغاء والعربجية والبلطجية".
ويجوز القول إن سكوت الفقي أعطى حماية لكل من أخطأ.. سواء كانت الفضائيات التي شحنت الجماهير قبل وبعد المباراة.. أو الإعلام المصري الذي فشل في توضيح الرؤية[14].
هوامش




[1] المصدر السابق.


[2] حسام صدقة، خلاف حاد بين "الخارجية" و"الإعلام" بسبب أحداث مباراة الجزائر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 2 ديسمبر 2009.


[3]   Opheera McDoom; Andrew Heavens, Sudan readies for trouble ahead of World Cup decider, http://af.reuters.com/article/sportsNews/idAFJOE5AH0AG20091118?sp=true , Reuters, Khartoum, November 18, 2009.


[4]  رانيا بدوي، السفير المصري في السودان يفجر مفاجآت صادمة في حوار لـ"المصري اليوم": أبلغنا القاهرة بتحركات الجزائريين وشراء الأسلحة قبل المباراة بثلاثة أيام، مصدر سابق. 


[5]  د. غازي صلاح الدين، كرة القدم والوقوع في مصيدة التفاهة، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 23 نوفمبر 2009.


[6]  Michael Slackman; Mona el Naggar, This Time, Egyptian Riot Over Soccer, Not Bread", New York Times, http://www.nytimes.com/2009/11/21/world/africa/21egypt.html, November 21, 2009,  p. A4.


[7]  د. عبدالمنعم سعيد، لم تكن مباراة في كرة القدم؟!، جريدة "الأهرام"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.


[8] علا عبدالله، "الإيكونومست": النزعة القومية و"الإعلام الطائش" يغذيان التوتر بين مصر والجزائر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 28 نوفمبر 2009.


[9] ريمون فرنسيس، كيف أفلت أنس الفقي من التغيير رغم خطاياه العشر القاتلة؟، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 8 يناير 2010.


[10] سليمان جودة، لماذا انقلب أنس الفقي؟، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 16 نوفمبر 2009.


[11] في خطوة غير متوقعة، أوقفت مجموعة من القنوات الفضائية المصرية الخاصة بثها بشكل مؤقت طوال فترة مباراة منتخبي مصر والجزائر في القاهرة، احتجاجا على احتكار الإعلام المصري الحكومي لحقوق بث المباراة. وفاجأت قنوات عدة بينها "دريم" و"الحياة" و"مودرن" جمهورها بوقف بثها، ووضعت بدلا من البث المباشر رسالة جماعية منددة بقرار وزير الإعلام المصري أنس الفقي الذي منعهم من بث المباراة المهمة التي حظيت بمتابعة الجمهور المصري وباقي الجماهير العربية بما يجعل وقت بثها وقتا إعلاميا وإعلانيا مميزا.


[12]  شيماء البرديني ومحاسن السنوسي ومحمد طه ومصطفى صلاح، أزمة مباراة مصر والجزائر بين الفضائيات الخاصة والتليفزيون تتصاعد.. والحرب تتواصل، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 16 نوفمبر 2009.


[13]  محمد عبدالقادر، مشادة في مجلس الشعب بين وزير الإعلام وأحمد شوبير بسبب "مباراة الجزائر الأولى"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 25 نوفمبر 2009.


[14]  صبري غنيم، الحكومة ضربتنا من الداخل، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة ، 3 ديسمبر 2009.
تابع القراءة

gravatar

ليلة الرعب في السودان




وكأن كل ما حدث قبل مباراة أم درمان وأثناءها وبعدها لم يكن كافيـًا

 فقد خرجت علينا صحف ومواقع صحفية إلكترونية بعناوين من قبيل "السفارة الجزائرية تحت الحصار ودعوات لإبادة الجزائريين في مصر"، "الهزيمة أفقدت المصريين توازنهم العقلي.. الشعب الجزائري يتعرض لحملة شتم وتشويه غير مسبوقة"، "تصريح رسمي يتحدث عن تلفيق وإشاعات وتضليل إعلامي.. الأمن السوداني يفضح أكاذيب المصريين بوقوع مذابح"، "الرئيس حسني مبارك هدد بتدخل عسكري في السودان"[1].
 واختارت صحف ومواقع إلكترونية أخرى عناوين من طراز "عنتر يحيى يغتال أحلام المصريين ويصعد بالجزائر إلى المونديال" و"الجزائر تصرع الفراعنة بهدف وتتأهل إلى المونديال"، وأخرى بمانشيتات مثل "الله أكبر... ظهر الحق وزهق الباطل" (من الصحافة الجزائرية المحتفية بفوز منتخبها) و"تفاصيل الحرب الجزائرية على مصر" و"قدر الله.. وما شاء فعل" (من الصحافة المصرية المنددة بعنف بعض المتعصبين الجزائريين والحزينة على خروج المنتخب)[2].


وظهرت يوم الجمعة الموافق 20 نوفمبر صحيفة يومية مصرية يتصدرها عنوان بالخط الأحمر العريض "رعب في السودان" ويحتوي على صورة فوتوغرافية ملونة كبيرة لنساء مضمدات الرؤوس، وشرطي يحمل سكينـًا ذات نصل طويل، وتحت الصورة قال الشرح التوضيحي، إن السكين الطويلة استخدمها مشجع جزائري ضد مشجع مصري[3].
حملات الكراهية المتبادلة بين المصريين والجزائريين امتدت إلى المواقع الإلكترونية التفاعلية مثل "يوتيوب" و"فيسبوك"، وامتلأت تلك المواقع بأعداد متزايدة من التعليقات والرسوم الكاريكاتيرية والمواد الفيلمية والغنائية (خاصة أغاني الراب) التي تبادل فيها المصريون والجزائريون الإهانات واللعنات بأقذع الألفاظ .وشهدت مواقع مثل "يوتيوب" نشر مقاطع من أفلام أجنبية مشهورة تمت دبلجتها بحيث تروي قصة تسيئ للمنتخب المنافس، ليس فقط على مستوى التاريخ الرياضي، ولكن أيضـًا على المستوى السياسي، ليرد الجانب الآخر بالأسلوب ذاته[4].
ونلفت الانتباه إلى أن مستخدمي هذه الوسائط الحديثة، هم بوجه عام في البلدين من المتميزين اجتماعيـًا واقتصاديـًا، ما ينفي صفة الفقر المادي عن جموع الغوغاء في تلك الأزمة.
وبحسب تقرير لمراسل محطة "سي إن إن" الإخبارية الأميركية، فإن "المشكلة الأساسية على ما يبدو لا علاقة لها بكرة القدم أو الجزائر، بل بوجود استياء عميق بين المصريين، الفقراء والأغنياء على السواء، ضد النظام المصري الاستبدادي والكهل، الذي ينظر إليه كثيرون على أنه أكثر اهتمامـًا بالحفاظ على نفسه ووجوده والإثراء الذاتي أكثر من اهتمامه بتوفير الرفاه العام".


وشعر البعض بالقلق حين عقد الرئيس السابق مبارك اجتماع "مجلس أمن قومي" ضم رئيس الحكومة وعددا من الوزراء ورئيس المخابرات العامة ورئيس أركان حرب القوات المسلحة وقيادات سياسية أخرى، فيما استدعت مصر سفيرها لدى الجزائر عبدالعزيز سيف النصر للتشاور[5]. ولم تمانع الدولة من قيام مظاهرة أمام سفارة الجزائر. ولولا السرعة التي تدخل بها الأمن لتحولت المظاهرة التي تجمعت أمام سفارة الجزائر إلى كارثة مروعة إذا شارك فيها عاطلون ولصوص، والتحول لنهب المتاجر والمنازل وتدميرها، ومع ذلك تم تحطيم واجهات أربعة محال[6] ومحطة بنزين وتعرضت 15 سيارة خاصة وتابعة للشرطة لخسائر وتلفيات[7]، وأصيب 35 ضابطـًا وجنديـًا[8]، إضافة إلى إصابة عدد من المتظاهرين بجروح، على الرغم من إغلاق الأمن حي الزمالك[9]، واعتقال 20 شخصـًا[10].
وعلقت الصحافة الجزائرية على ذلك التطور بعناوين صارخة، مثل: "تسللوا على متن زورق لمقر إقامة السفير وحاولوا حرقها: مصريون يقتحمون إقامة حجار، يهاجمون السفارة ويحرقون العلم الوطني"[11]. ورأى محمد يعقوبي أن ما يتعرض له السفير الجزائري في القاهرة "دليل قاطع على أن مرارة الهزيمة في أم درمان أفقدت المصريين إعلامـًا وسياسيين أعصابهم"[12].
عززت تلك التطورات المؤسفة من رؤية الذين روَّجوا لنظرية مفادها أن الدولة المصرية‏ بدأت تدفع الثمن، بعد أن كانت قد "ركبت الموجة‏" وتعمدت غض الطرف عن المشاحنات الإعلامية بين مصر والجزائر التي سبقت مباراتي القاهرة وأم درمان،‏ لتبدو انتصارات الفريق القومي وكأنها من إنجازات النظام والحزب الحاكم‏.‏
وما بين حرب التعصب والاتهامات المتبادلة، فاجأ مجلس الوزراء في مصر كثيرين بتفاصيل محاولة لم تكتمل للابتعاد بالمباراة الفاصلة عن المحيط العربي والإفريقي، حين قال د. مجدي راضي، المتحدث باسم مجلس الوزراء، إن مصر طلبت إقامة المباراة في دولة أوروبية بدلا من إفريقيا، أو دون جمهور في إفريقيا، وتم اختيار قبرص، إلا أن رئيس الاتحاد الإفريقي عيسى حياتو "رفض الطلب المصري"، وقال إنه لا يمكن إقامة مباراة فاصلة على أرض غير إفريقية، فيما رفضت الجزائر أن تكون المباراة دون جمهور[13].
ونزع أحمد ماهر وزير الخارجية المصري سابقـًا عباءة الردود الدبلوماسية، حين رأى أن "أحداث مباراة القاهرة كشفت تعصب المشجعين الجزائريين، أي أن الأزمة بدأت من القاهرة وليس من الخرطوم، فلماذا لم نهتم بها إلا بعد أحداث الخرطوم؟.. وهو ما يعكس تخبطـًا وعدم تنسيق بين الأجهزة المصرية في مواجهة الأزمة"[14].
لماذا مصر مرتبكة كما لم تكن من قبل؟
سؤال بدا منطقيـًا، وجاءت إحدى إجاباته شديدة البساطة: لأنها راهنت بكثير مما تملك على "جلد منفوخ على خواء"، تتقاذفه أقدام "لاعبين"[15].
ويبدو أن النظام لم يستطع اقتناص فرحة الفوز، فقررت بعض أجنحته استثمار لحظة الاكتئاب والهزيمة. الملايين في مصر شعروا بالخيبة، غالبـًا ليس بسبب هزيمة المنتخب الكروي فقط، بل لتوقف الكرنفال والبهجة وفرصة الحرية المختلسة من أيام الملل والرتابة واليأس. ومن المؤسف حقـًا أن الجانب المصري لم يكن مستعدًا بشكل كاف لتأمين المشجعين وسلامة تنقلهم في أم درمان، على رغم تحذيرات السفير المصري في السودان عفيفي عبدالوهاب للحكومة المصرية[16]، وانصب الاهتمام على نقل محاسيب وقيادات الحزب الوطني و133 فنانـًا وفنانة[17] وبعض الإعلاميين، على اعتبار أن الأمر يحتاج إلى "زفة" إعلامية وسياسية (لأننا اعتبرنا الفوز في الجيب)، يحتفل فيها قيادات الحزب الحاكم الذين ذهبوا إلى الخرطوم مع "نجوم المجتمع" من مشاهدي كرة القدم بالنصر الذي لم يأت[18].
لقد سافر سياسيون وإعلاميون وفنانون وبرلمانيون ورجال أعمال إلى الخرطوم، لا لمشاهدة مباراة فاصلة قد تنتهي بفوز أو خسارة، وإنما لمجرد أن يكونوا جزءًا من صورة النهاية السعيدة ولحظة تحقيق حلم المونديال[19]. فلما ضاع الحلم، كانت الفاجعة كبيرة على هؤلاء الذين ضاعت منهم لحظة الاحتفال.
وفي ذلك يقول وائل عبدالفتاح: "الكرنفال انتهى مبكرًا، وهذا سر الصدمة لدى قطاعات عريضة من شعب لا يعرف الفرح العام وحريته مقيدة بآلاف الممنوعات. كان هناك من يخطّط لسرقة الكرنفال وتحويله إلى سرادق انتخابي. ومن يريد تحويله إلى "معركة مصير" في لحظات حساسة داخل أروقة السلطة. وهذا سر التوسع في إرسال الوفود الرسمية (نواب وحاشية الحزب الوطني) وطبّالي المعارك الانتخابية، لا الجمهور المحترف في كرة القدم أو حتى الجمهور المشتاق إلى البهجة. الغالبية كانت من جمهور المواكب الرسمية"[20].


وبما أننا كما ذكر الناقد الرياضي د. علاء صادق "لم نكن فاعلين ولو في الضرب"، ولم نعمل على تخريب المصالح والمنشآت الجزائرية في مصر (وهو أمر محمود)، فإنه كان مأمولاً أن نكون فاعلين في السلم، أي الإدارة الرياضية والإعلامية والسياسية، ولكننا فشلنا فيها جميعـًا بامتياز، إذ تفرغ البعض لحملة ردح عشوائية أساءت لكرامة مصر قبل أن تسيء لكرامة الجزائر.
"وفشلت كتائب الشتائم المصرية في تحديد خصم محدد، كالقول مثلاً إنه الإعلام الجزائري أو صحيفة "الشروق" البذيئة لمواجهتها، ولا هدف واضحـًا يتم العمل من أجل تحقيقه كإيقاف اعتداءات بعض الجزائريين على المصريين في الجزائر، بدلاً من شتم كل الجزائريين"[21].
ووصل الأمر إلى إلغاء التاريخ، وعقاب الجزائر بنكهة محلية.. أو قل: كوميدية!
فقد بحث أعضاء المجلس المحلي بالجيزة عن وسيلة يردون بها على أحداث أم درمان، وتنبهوا إلى وجود اسم "الجزائر" على أحد الشوارع الرئيسية بالمهندسين، فطالبوا برفعه واستبداله باسم "حسن شحاتة" المدير الفني للمنتخب. ودعا بعض الشباب على موقع "فيسبوك" إلى تغيير اسم ميدان الجزائر بالمعادي إلى شارع "عماد متعب" أو "حسن شحاتة" أو "14 نوفمبر"[22]. وفي محافظة الوادي الجديد جنوب غرب مصر، وافق المجلس المحلي للمحافظة على طلب أهالي قرية الجزائر بتحويل اسم القرية إلى "مبارك المصريين". ووفقا لما ذكرته صحيفة "الأهرام" فإن طلب أهالي القرية جاء "تأكيدًا لحرصهم على قوميتهم"[23]!



هوامش

[1]  _________، السفارة الجزائرية تحت الحصار ودعوات لإبادة الجزائريين في مصر، جريدة "الشروق"، الجزائر، 20 نوفمبر 2009، ص 1.
[2]  د. عمرو حمزاوي، بعد الحدث.. أنت دائمـًا أذكى، جريدة "الشروق"، القاهرة، 22 نوفمبر 2009.
[3]  بن ويديمان، الفساد والتوزيع غير العادل للثروة وراء حمى الكرة المجنونة في القاهرة، موقع "سي إن إن" بالعربية،http://arabic.cnn.com/2009/middle_east/11/24/football.fever_cairo/index.html، 23 ديسمبر 2009.
[4]  توفيق أحمد، حمى كرة القدم تعم القاهرة قبل مباراة مصر والجزائر، موقع "بي بي سي" العربي، http://www.bbc.co.uk/arabic/sports/2009/11/091113_aq_egyptalgeriamatch_tc2.shtml، 13 نوفمبر 2009.
[5] جمعة حمد الله وشريف إبراهيم وهشام عمر، مبارك يعقد "مجلس أمن قومي" لمناقشة "الاعتداءات الجزائرية" على المصريين، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.
[6]   Sheera Frenkel, Egypt erupts in anti-Algeria riots after World Cup football defeat,  The Times http://www.timesonline.co.uk/tol/news/world/middle_east/article6926078.ece, Cairo, November 21, 2009.
[7]  وكالة الأنباء الفرنسية، جرح 35 من عناصر الشرطة في مظاهرة أمام السفارة الجزائرية في القاهرة، جريدة "الشروق"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.
[8]  __________، يوم الغضب: مظاهرات حاشدة تطالب بـ"رد الاعتبار" وطرد السفير الجزائري، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.
[9]  د. محمد أبو الغار، الاستبداد وكرة القدم، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 29 نوفمبر 2009.
[10]  Associated Press, Egyptian Soccer Fans Riot Against Algeria, New York Times, http://www.nytimes.com/aponline/2009/11/20/world/AP-ML-Egypt-Algeria-Soccer-Row.html?scp=7, November 20, 2009.
[11]  ____________، تسللوا على متن زورق لمقر إقامة السفير وحاولوا حرقها: مصريون يقتحمون إقامة حجار، يهاجمون السفارة ويحرقون العلم الوطني ، جريدة "الشروق"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009، ص 1.
[12] محمد يعقوبي، شاهد على شهامة حجار وخساسة الإعلام المصري، جريدة "الشروق"، الجزائر، 21 نوفمبر 2009، ص 4.
[13] خليفة جاب الله ومحمد عبدالعاطي ومحمد المهدي وشيماء عادل، مجلس الوزراء يكشف: مصر طلبت إقامة المباراة الفاصلة في قبرص أو دون جمهور، مصدر سابق.
[14]  محمود جاويش، أحمد ماهر: أؤيد مساعي الصلح بين مصر والجزائر "لكن اللي غلط لازم يتحاسب"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 5 ديسمبر 2009.
[15]  ياسر عبدالعزيز، مصر مرتبكة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 22 نوفمبر 2009.
[16]  رانيا بدوي، السفير المصري في السودان يفجر مفاجآت صادمة في حوار لـ"المصري اليوم":  أبلغنا القاهرة بتحركات الجزائريين وشراء الأسلحة قبل المباراة بثلاثة أيام، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 26 نوفمبر 2009. 
[17]  Ramadan Belmary; translator Sonia Farid, Egypt & Algeria soccer spat reaches Arab League, op. cit.
[18]  د. عمرو الشوبكي، ما هو أبعد من مباراة كرة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 4 ديسمبر 2009.
[19]  ياسر أيوب، عدى النهار.. والمغربية جاية، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.
[20]  وائل عبدالفتاح، أمراء الانتقام، مصدر سابق.
[21] د. عمرو الشوبكي، ما هو أبعد من مباراة كرة، مصدر سابق.
[22] منى ياسين وحنان شمردل، مطالبات برفع اسم الجزائر من على شارع بـ"الجيزة" وميدان بالمعادي.. واستبدالهما بـ"حسن شحاتة" و"متعب"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.
[23]  وكالة الأنباء الألمانية "د. ب. أ"، تغيير اسم قرية "الجزائر" بجنوب مصر إلى "مبارك المصريين"، جريدة "الرياض"، الرياض، 30 نوفمبر  2009.
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator