المحروسة

gravatar

معركة البرابرة



فجأة، تحولت الكرة إلى عالم من الكراهية

إذ إنه ما إن أعلن حكم اللقاء إيدي ماييه، من سيشل، انتهاء مباراة منتخبي مصر والجزائر وتأهل محاربي الصحراء إلى نهائيات كأس العالم 2010، حتى عمت الفوضى المكان، وتبين أن تلك المباراة بين مصر والجزائر فاصلة تمامـًا بكل ما تحمله الكلمة من معان.
لنفسح المجال قليلا أمام سامح الخطيب محرر وكالة "رويترز" الذي وصف في تقرير له ما جرى على النحو التالي: "في الطريق إلى المطار كانت المفاجأة، إذ قطعت بعض الجماهير الجزائرية المتعصبة التي استطاعت الخروج عنوة من الاستاد وأخرى لم تستطع أساسـًا دخول الملعب، الطريق على الحافلات التي تقل الجماهير المصرية ووقعت اشتباكات بين الجانبين أسفرت عن إصابة نحو 20 مصريـًا بإصابات مختلفة نتيجة رشق حافلات الجماهير المصرية بالحجارة ومهاجمتها بالأسلحة البيضاء"[1].
وأضاف محرر "رويترز": داخل المطار تكدست الجماهير المصرية التي تتطلع للعودة إلى بلادها في أسرع وقت بعد الهزيمة أمام الجزائر ومطاردة بعض الجماهير الجزائرية المتعصبة لهم. وتابع: "ومع توالي هبوط الطائرات المصرية، هرول المشجعون المصريون إلى صعود الطائرات دون أي إجراءات مغادرة وبدا المشهد كأنه هروب جماعي من أرض السودان".


وهكذا رأينا أشخاصـًا يظهرون على شاشات التليفزيون ويصيحون بأن هناك مذبحة مروعة يتعرض لها المصريون في الخارج‏،‏ لكن التليفزيون المصري عجز عن إظهار صورة واحدة لمصري واحد تسيل منه قطرة دماء واحدة‏.. وعجز التليفزيون عن إثبات حالة واحدة لإصابة خطيرة أو متوسطة الخطورة أو مصري يعالج في أحد مستشفيات الخرطوم[2]. بل إن لقطات الفيديو التي انتشرت آنذاك ويظهر فيها جزائريون يلوحون بالسكاكين، لم تكن سوى لقطات من مظاهرة في الجزائر تعود إلى يناير 2009 تضامنـًا مع أهل غزة[3]، وقد أشار كُتاب مصريون إلى أن الصور تعود إلى تاريخ يسبق مباراة أم درمان بفترة[4]. نُذّكر هنا بأنه في أعقاب المباراة الفاصلة في أم درمان، قال مجلس الوزراء في مصر إن إصابات المصريين في واقعة أم درمان لم تتجاوز 23 إصابة[5]، بينهم 12 مصابـًا رفضوا نقلهم إلى المستشفيات بناء على طلبهم، حيث تلقوا الإسعافات اللازمة فور وصولهم إلى القاهرة[6]، في حين لم يتم تحرير سوى 9 محاضر فقط لمشجعين مصريين في كل أقسام الشرطة السودانية، وكلها مقيدة ضد مجهول[7].
من استاد المريخ انطلقت الشرارة. والمريخ، كما هو معروف، أحد كواكب المجموعة الشمسية، ويرمز بحسب الأساطير إلى إله الحرب. أثارت المباراة، قبلها وبعدها، حربـًا إعلامية شرسة و"سيّئة"، إذ اتهم كل طرف الآخر بقتل رعاياه وتحطيم الممتلكات.
"معركة برابرة الجزائر"!


عنوان رئيسي اتسم بالتحامل وربما اتهم بالعنصرية، في صحيفة مصرية قالت إن الجماهير الجزائرية "مارست هوايتها وغلبت عليها الطبيعة البربرية وقامت بأعمال شغب واعتدت على جماهيرنا"[8]، واشتكت من أنه في أعقاب المباراة بدأت حرب العصابات من تحطيم زجاج الحافلات والتحرش بالنساء واستخدام الأسلحة البيضاء بوحشية واعتراض الحافلات ومطالبة سائقيها بإنزال المصريين حتى يتمكنوا من الاعتداء عليهم بالضرب والإيذاء، وأشارت إلى أن المطرب محمد فؤاد تعرض للضرب هو وابنه على يد مشجعين جزائريين قذفوا بالحجارة حافلة تقل عددًا من المشجعين المصريين فحطموا زجاجها.
حمل فؤاد هذه الشحنة، وفر مع من فروا إلى مكاتب شركة طارق نور للإعلانات في قلب الخرطوم (سودانا). وبينما كانت الثورة عارمة، والجميع يجري اتصالات بالقاهرة، بما فيها اتصالات بمؤسسات رسمية، تلقى أحدهم اتصالا هاتفيـًا من أحد أفراد سكرتارية الرئيس السابق مبارك.. وقال له: الرئيس يريد أن يكلمكم ليطمئن عليكم.. مَنْ إلى جوارك؟.. فأعطى متلقي المكالمة الهاتف لمحمد فؤاد.. وسمع استفسارات مبارك الذي بدا على اطلاع كامل بالأمر.. وفي المضمون، قال الرئيس المصري حينذاك كلامـًا تضمن التوعد - وليس التعهد فقط- بأن ينتهي هذا الموقف خلال ساعة. وكانت تلك هي الشحنة النفسية الثانية التي تمت تعبئة محمد فؤاد بها.. والاثنتان لم يتدرب عليهما جهازه العصبي من قبل[9].
 وكذلك الحال بالنسبة إلى إيهاب توفيق وهيثم شاكر وعدد آخر من الفنانين والمواطنين العاديين، الأمر الذي أدى إلى اختبائهم في المنازل ومقار شركات في الخرطوم، كما قال الصحفي وائل الإبراشي إنه حاول الابتعاد عن مسيرة الجمهور الجزائري بالاختباء في أحد المطاعم القريبة من السفارة الكينية، في حين أكدت المذيعة سلمى الشماع أنها عاشت أصعب أيام حياتها وأنها اختبأت هي وآخرين في منزل الوزير المفوض.
وذرف فنانون الدموع وهم يروون معاناتهم بعد المباراة، وسمعنا عن بكاء غادة عبدالرازق  في مطار الخرطوم وهي تطالب المسؤولين عن شركة مصر للطيران بمساعدة المجموعة المصاحبة لها بالدخول إلى المطار خشية أن يتعرض لهم الجزائريون، في حين اضطرت الفنانة فردوس عبدالحميد، ومعها كل من غادة إبراهيم وميسرة ونهال عنبر وأحمد عبدالوارث وأشرف عبدالغفور وبسام رجب، إلى افتراش الرصيف إلى أن يتم توفير طائرة تقلهم إلى مطار القاهرة[10].


وبينما قالت جريدة "الأهرام ويكلي" إن الحافلات المخصصة لنقل المشجعين المصريين إلى المطار تعرضت للتخريب، ما أجبرهم على التحرك تحت حراسة قوات سودانية[11]، دارت روايات مثيرة حول تفاصيل 160 دقيقة في شارع إفريقيا المجاور لمطار الخرطوم تحت عنوان: حرب الشوارع بين 22 عضوًا في مجلس الشعب، وحافلات المشجعين الجزائريين! وروى شهود العيان حكايات عن 7 ساعات احتجاز داخل الطائرة في المطار لنحو 300 مشجع من الفنانين والسياسيين بسبب منع الطائرة من الإقلاع بناء على تعليمات من سلطات المطار التي عجزت عن السيطرة على الموقف وفشلت في إدارته بين جمهور الجزائر الذي امتلأت به أرض المطار والمشجعين المصريين الذين اختفى بعضهم وسط السودانيين[12].
تقرير الوفد البرلماني المصري، الذي سافر إلى السودان لمؤازرة المنتخب، قال إن ما حدث لم يكن عفويـًا أو حوادث فردية. وأضاف التقرير الذي أعده النائب آنذاك محمد أبو العينين، رئيس الوفد البرلماني، أن أعضاء الوفد وجدوا في السودان ميليشيات من المرتزقة والبلطجية تم نقلهم على نفقة الدولة الجزائرية إلى السودان، و"أقامت لهم الحكومة الجزائرية معسكرات وخيام إيواء، وقاموا بشراء الأسلحة البيضاء من السودان وأعدوا العدة للاعتداء على المصريين"[13].


وتتواصل سطور التقرير:
"لاحظنا من جماهير الجزائر في المدرجات التربص والحقد على المصريين، ووضح ذلك من السباب والإشارات البذيئة والتهديدات بذبح الجماهير المصرية، ووجود لافتات مسيئة لمصر، وخلال المباراة قام بعض المشجعين الجزائريين برشق الضيوف في المقصورة الرئيسية بعلب العصائر الفارغة، ومن بينهم أعضاء الوفد البرلماني المصري، وفور خروجنا من الاستاد استقللنا السيارات متوجهين إلى المطار، فتعرض الوفد البرلماني لاعتداء من الجماهير الجزائرية التي لم تدخل الاستاد، حيث قامت برشق السيارات بالحجارة ووجهت إشارات بذيئة وسبابـًا لأعضاء الوفد. وفي أعقاب ذلك بدأت تتوالى الأحداث، حيث كان عدد كبير من المرتزقة الجزائريين متربصين في أكمنة للجماهير المصرية، وقطعوا الطريق على سياراتهم وتجمهروا حولها وقذفوهم بالحجارة وروّعوهم واعتدوا عليهم باستخدام الأسلحة البيضاء ولم يراعوا حرمة وجود نساء وأطفال"[14].
ومن الواضح أن جهود مصر لإجلاء جمهورها في مباراة أم درمان، كانت تعاني من ارتباك ما بعد المباراة.. خصوصـًا بين وفود الجهات التي لم تنظم الأمر بطريقة دقيقة. بدا إجلاء المصريين من الخرطوم إلى القاهرة كأنه يسير بطريقة الجزر المنعزلة. أحد التقارير التي قدمت إلى رئيس الوزراء المصري حينذاك د. أحمد نظيف بعد الأحداث قال "إن عملية نقل الجماهير من مصر إلى السودان خضعت للاجتهادات الفردية من مختلف الجهات دون تنسيق متكامل ولم يتم تشكيل لجنة منظمة.. تمثل فيها الجهات المختلفة للتنسيق بين مختلف الجهات لتنظيم عملية النقل وتتابع الرحلات وأماكن وجودها وطرق الإخلاء وخطة التحرك"[15].
ومن الجزائر، تلقَّى مذيع رياضي في القاهرة استغاثة جمدت الدماء في عروق كثيرين: "نحن محاصرون.. أنقذونا". لقد عاد حصار المصريين العاملين في الجزائر، بعدما هدأت نار الانتقام لـ"شهداء القاهرة". لكن لم يكن في القاهرة شهداء، وهذا ما أكده السفير الجزائري في القاهرة، عبدالقادر حجار، عندما أوقظه المذيع الرياضي من نومه. السفير أبلغ المذيع أنه كذّب الخبر، لكن صحفـًا لم تنشر التكذيب[16].
الأكاذيب هي الابنة البكر للكراهية والغوغاء.



ونتيجة للغوغائية التي سادت، تعرضت منشآت مصرية في الجزائر لأعمال تخريب، وعاد مصريون على متن طائرات هاربين من خطر يهدد سلامتهم الشخصية. وكشف تقرير لجنة حصر تلفيات وخسائر الشركات المصرية بالجزائر، التي تم تشكيلها من وزارات الخارجية والبترول والاستثمار والاتصالات والإسكان، أن التقديرات المبدئية لإجمالي الخسائر لن تقل بأي حال عن ملياري جنيه مصري، تكبدتها شركتا "أوراسكوم" و"المقاولون العرب" وعدد من سلاسل المطاعم والمحال المصرية، إلى جانب شركات بترول وغاز مصرية توقف نشاطها هناك بعد أحداث الشغب وعمليات التخريب والنهب الواسعة التي قامت بها جماهير جزائرية متعصبة ضد المنشآت المصرية هناك[17].
ووجهت الحكومة الجزائرية فجأة صفعة لشركة الاتصالات المصرية العملاقة "أوراسكوم"، عندما طالبت وحدتها في الجزائر "جيزي" بدفع ضرائب تصل إلى 596 مليون دولار[18]، وهي مطالب اعتبرت "أوراسكوم" أنها "عارية عن الصحة وغير مقبولة." ومنذ تلك المباراة، واجه رجل الأعمال نجيب ساويرس صعوبات في الجزائر، بعد أن اضطر لخوض مباراة في كرة التعنت، عرقلت مساعيه لبيع حصته في شركة "جيزي"، انتظارًا لعرض شراء رسمي تتقدم به السلطات الجزائرية[19] أو صفقة يتخلص بموجبها من هذا المأزق.
وزادت حدة الأزمة الدبلوماسية عندما أُرسلت طائرة مصرية لإنقاذ مصريين عالقين في الجزائر، لكن السلطات هناك رفضت منحها الإذن بالهبوط[20].

وكأن كل ما حدث قبل المباراة وأثناءها وبعدها لم يكن كافيـًا!


هوامش




[1]  __________، شاهد من "رويترز" يروي تفاصيل ساعات "الرعب" في السودان، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 22 نوفمبر 2009.


[2]  شريف الشوباشي، إعادة نظر في الإعلام، جريدة "الأهرام"، القاهرة، 2 ديسمبر 2009.


[3]  رشيد ولد بوسيافة، التليفزيون السوداني والفضائيات العربية يفضحون الإعلام المصري.. شريط الفيديو قديم ولا سُحب في سماء الخرطوم يا أغبياء، جريدة "الشروق"، الجزائر، 21 نوفمبر 2009، ص 32.


[4] Dina Ezzat, Start of the second half, Al-Ahram weekly online http://weekly.ahram.org.eg/2009/974/eg7.htm, Cairo, November 26, 2009.


[5]  خليفة جاب الله ومحمد عبدالعاطي ومحمد المهدي وشيماء عادل، مجلس الوزراء يكشف: مصر طلبت إقامة المباراة الفاصلة في قبرص أو دون جمهور، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 26 نوفمبر 2009.


[6]  طارق أمين وفاطمة أبو شنب، حصيلة الاعتداءات: 21 مصابًا مصريًا، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.


[7]  أسامة هيكل، مذيع أم مثير، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 28 نوفمبر 2009.


[8]  محمد ثابت، أهوال الليلة الحزينة.. وتفاصيل معركة برابرة الجزائر، جريدة "الشروق"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.


[9]  عبدالله كمال، كل الذي جرى: أول وأكبر تحقيق سياسي موثق عن مباراة مصر والجزائر، مصدر سابق.


[10]  إيناس عبدالله وزياد حسن وإنجي عزام، الفنانون دفعوا ضريبة شهرتهم ضربـًا وسبـًا في الخرطوم، جريدة "الشروق"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.


[11] Ahmed Morsy, Broken in every sense, Al-Ahram weekly online, http://weekly.ahram.org.eg/2009/974/sp1.htm, Cairo, November 26, 2009.


[12]  محسن سميكة، 160 دقيقة من "حرب الشوارع" ضد 22 برلمانيا وأعضاء "وطني"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.


[13]  محمد عبدالقادر، تقرير برلماني: الاعتداءات الجزائرية لم تكن عفوية.. والدولة شاركت بالتخطيط والتحريض، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 23 نوفمبر 2009.


[14]  المصدر السابق.


[15]  عبدالله كمال، كل الذي جرى: أول وأكبر تحقيق سياسي موثق عن مباراة مصر والجزائر، مصدر سابق.


[16]  وائل عبدالفتاح، ليلة الهروب من الخرطوم: حين تقود الغوغاء الشعوب، جريدة "الأخبار"، بيروت، 20 نوفمبر 2009.


[17]  مصباح قطب وأشرف فكري ومحمد المهدي، الحكومة تقدّر خسائر الشركات المصرية في الجزائر بـ"٢ مليار جنيه".. واتجاه للمطالبة بالتعويض أمام "القضاء الدولي"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 2 ديسمبر 2009.


[18]  حسن المستكاوي، 5 أسئلة لن ترد عليها حكومة الجزائر؟، جريدة "الشروق"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.


[19] عصام كامل، ساويرس والجزائر.. مباراة في كرة التعنت، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 23 سبتمبر 2010.


[20]  Jack Shenker, Crackdown in Cairo as football violence erupts, The Guardian, http://www.guardian.co.uk/world/2009/nov/20/egypt-algeria-riots-world-cup, London, November 20, 2009.

gravatar

و الآن بعدما ظهرت الحقية ؟

gravatar

أبو هاجر

تحياتي
هذه السلسلة تحاول رصد حقيقة ما جرى بشكل موضوعي، وتحدد من أخطأوا، وكيف وقعت كوميديا الأخطاء

إنها دراسة تجتهد لتحليل الأزمة وأبعادها الشائكة، من دون تحيزات مسبقة أو عنصرية مقيتة

مع الشكر

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator