المحروسة

gravatar

صراع الكباتن


انتشر ورم الغضب الكروي في جسد مصر والجزائر بعد موقعة أم درمان

امتد الأمر إلى التطاول على السودان بصورة فيها من الاستعلاء والجهل الكثير حتى وصل الأمر بأحد "الكباتن الكبار" في عالم كرة القدم إلى أن يقول عن ملعب استاد المريخ: "بأنه صغير وضيق حتى إن الكرات التي يلعبها عصام الحضري تذهب مباشرة لحارس الجزائر، وأن الركلات الركنية كانت تخرج بعيدًا عن منطقة الجزاء"، مع أنه ملعب أقيمت عليه آلاف المباريات الدولية وعاين كل شبر فيه ممثل الاتحاد الدولي[1]. وفي ظل أزمة غير معلنة بين وزارتي الخارجية والإعلام بسبب أحداث مباراة مصر والجزائر في السودان، كان أول انتقاد للسودان في أزمة الجزائر في التليفزيون الرسمي المصري، ما دعا الحكومة السودانية إلى استدعاء السفير المصري في الخرطوم[2].
وهاجمت أقلام وأصوات في مصر أداء أجهزة الأمن في السودان خلال مباراة أم درمان، علما بأن الخطة الأمنية التي نفذها السودان تضمنت تفريغ أم درمان بالكامل لعدم حدوث اختناقات مرورية خاصة بالمنطقة المحيطة بالاستاد بعمق كيلومترين على الجانبين، ووضع مسارات محددة لكل فريق ومشجعيه، إضافة إلى 18 ألف فرد ما بين ضابط وعسكري انتشروا في هذه المسارات[3]، وبالفعل تدخلت القوات السودانية لفض الاشتباكات[4].

لقد استراح كثيرون في مصر لفكرة أن أكلة كسكسي في الجزائر أو خناقة في الخرطوم، هي سبب عدم التأهل إلى نهائيات كأس العالم في جنوب إفريقيا. غير أن تلك الأزمة الكروية المفتعلة والتي تحولت إلى كرة ثلج تكبر وتزيد الموقف تعقيدًا، تكشف أمراضـًا أصابت مجتمعاتنا العربية وتهدد بأن تتكرر بين فترة وأخرى.

أمراض لم تغب عن بال كاتب حصيف هو المفكر السوداني د. غازي صلاح الدين، الذي قال إن الأزمة كشفت عن مظاهر بعض الأمراض النفسية لدى الشعوب إذ عمدت عمليات التعبئة التي صاحبت المباراة إلى مسخ الذاكرة وإلغائها، فمسحت تاريخ أمة عظيمة كمصر من ذاكرة المتحمسين والمتلقين. وفي لحظة لا وعي غاب عن عقول المتحمسين لنصرة فريقهم بأي ثمن المصلحون والساسة من الإمام محمد عبده على سبيل المثال لا الحصر إلى سعد زغلول ومن حسن البنا إلى عبدالناصر، أما علماء مصر الذين زحموا التاريخ بمناكبهم أمثال الليث بن سعد وابن منظور وجلال الدين السيوطي وطه حسين ومن في حكمهم من الأفذاذ فقد انزووا في أجواء المباراة إلى ركن قصي.
وبالمقابل غابت عن نواظر المتحمسين من الطرف الآخر إسهامات الجزائريين في التاريخ وشدة بأسهم في مجالدة المستعمرين التي ألهمت الشعوب المستضعفة وقدمت لها ملحمة عظيمة من ملاحم الجهاد ضد المستعمر. هكذا غاب أو غيب الأمير عبدالقادر الجزائري وابن باديس والمجاهدة فاطمة نسومر والمجاهدة جميلة بوحريد وبالطبع اختفى عن ناظرينا تمامـًا علماء ومفكرون كالبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي، أما المليون شهيد فلم يعودوا أكثر من إحصائية في مكتب سجلات الوفاة.

هكذا من خلال عملية الإلغاء، تم الاختزال وهو في رواية جورج أورويل (1984) حيلة يلجأ إليها "الأخ الأكبر" من أجل برمجة أعضاء المجتمع ومغنطتهم حتى يفقدوا الإرادة والقدرة على التفكير والاختيار الحر وهذه البرمجة التي تقوم بها "وزارة الحقيقة" في دولة أوشينيا تعتمد في جانب منها على إلغاء المفردات اللغوية والاكتفاء بمفردة واحدة ما أمكن حتى تختفي الظلال الدقيقة للمعاني وتتبسط المضامين إلى درجة الابتذال وفي مباراة مصر والجزائر جرت عملية برمجة اختزلت الدولتين إلى لونين أحدهما أحمر والآخر أخضر.. فمصر، بغض النظر عن رمزيتها وإسهامها، هي محض لون أحمر، والجزائر، لا يهم تفردها التاريخي وامتيازها، هي فقط لون أخضر والأمر باختصار أمر حرب والحرب في صميمها بين طائفتين مختزلتين في لونين وأنت بالخيار ويا لضخامة الخيار بين أن تؤيد الأخضر أو الأحمر، أما وقد اخترت فالمعركة كما في ألعاب الحاسوب صارت معركة كسر عظم ولا مخالفات فيها[5].
وفي تصورنا أن الأحداث التي أعقبت مباراة مصر والجزائر الفاصلة لم تكن مجرد نتيجة لمباراة، وإنما كانت معركة حاسمة أثبتت أن مصر لم تعد تتمتع بالريادة الإعلامية التي كان البعض يتشدق بها صباح مساء، بل تأكد أن مصر بكل ترسانتها الإعلامية لم تكن مسموعة للإعلام العربي والعالمي، وإنما انساقت بالأساس إلى حرب إعلامية رخيصة استُدرجت إليها ترتب عليها ممارسات من قبل بعض المشجعين المتعصبين على الجانبين. ويمكن القول إن تلك الأجواء الهستيرية في الإعلام[6]، استغلت في حملتها الطبيعة العنيفة لجمهور الجزائر، علما بأن احتفالات الجزائر بالفوز الكروي على المنتخب المصري راح ضحيتها 24 قتيلاً في الجزائر وحدها، فما بالك لو كانت أجواء خسارة!


واستفاضت أقلام وبرامج تليفزيونية في تأصيل هذه النظرية، "فالجزائري المتهم بحدته وعنفه وقسوته عندما يتعلق الأمر بـ"‏النيف" أي الكرامة‏، يعبر بطريقته عن "عقدة الشقيقة الكبرى" التي تستأثر بالتاريخ والحاضر والفن والسياسة والثقافة، وتريد أن تضم الرياضة إليها‏.‏ أما المصري المتهم بالمبالغة والفهلوة والانغلاق على الذات فيستغرب أن يحاول أحد منازعته مكانته أصلا‏، ويوظف قدرته المتاحة في مواجهة هذا التحدي"‏[7].‏ إلا أن هذه النظرية تنزع إلى التبسيط المخل، المخالف للواقع‏، وفيها تجن شديد على المصريين والجزائريين على حد سواء‏.‏
"الإعلام الطائش"[8]!
كانت إصبع مجلة "الإيكونومست" تشير إلى الإعلام بلا تردد، كمسؤول أول عن التوتر بين مصر والجزائر في سباق بدأ بالكرة، وانتهى بالكره.

 والشاهد أن الإعلام الرسمي في مصر لم يقم بدوره المنوط به، وترك بعض القنوات الخاصة تقع في تجاوزات لا علاقة لها بالرياضة أو أخلاقيات العمل الإعلامي. واندلعت حرب الألسنة الطويلة التي تروج أفكارًا سيئة ومغلوطة ضد "الطرف الآخر"، في مقابل تفرغ وزير الإعلام المصري حينذاك أنس الفقي لافتعال صراع مع الفضائيات المصرية بدلاً من التنسيق معها لتكوين جبهة موحدة من الإعلام المصري لوقف هذه الحرب الإعلامية[9].

الوزير الذي شجع الإعلام الخاص في أول العام، وقال في "البيت بيتك" إن الإعلام الخاص جزء أصيل من الإعلام إجمالا في البلد، وإنه يتحمس له ويشجعه، وجدناه في آخر العام يخذل الإعلام الخاص في آخره[10]، ويعاقبه بحرمان القنوات الخاصة من نقل مباراة مصر مع الجزائر في القاهرة[11] مكتفيا ببيان غامض لاتحاد الإذاعة والتليفزيون[12]. وعندما وقعت تجاوزات من الإعلام الخاص، أغمض وزير الإعلام المصري حينذاك عينيه، ليستمر مسلسل التناقضات. وخلال اجتماع مشترك للجان الشباب والشؤون العربية والدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب، دافع الفقي عن القنوات الخاصة التي تشن هجومـًا حادًا على الجانب الجزائري، وقال: "سيبوا الناس يفشوا غليلهم في الإعلام الخاص من اللي شافوه في السودان"[13].
في تلك الجلسة، قال الفقي أيضـًا: "إن تبادل الأدوار في هذا التوقيت مطلوب جدًا، وممكن أطلب من إعلام القنوات الخاصة أن يقول ما أريد أن أقوله لأن إيده مفكوكة وأنا إيدي مش مفكوكة"، واصفـًا مشجعي الجزائر في الخرطوم بأنهم مجموعة من "الغوغاء والعربجية والبلطجية".
ويجوز القول إن سكوت الفقي أعطى حماية لكل من أخطأ.. سواء كانت الفضائيات التي شحنت الجماهير قبل وبعد المباراة.. أو الإعلام المصري الذي فشل في توضيح الرؤية[14].
هوامش




[1] المصدر السابق.


[2] حسام صدقة، خلاف حاد بين "الخارجية" و"الإعلام" بسبب أحداث مباراة الجزائر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 2 ديسمبر 2009.


[3]   Opheera McDoom; Andrew Heavens, Sudan readies for trouble ahead of World Cup decider, http://af.reuters.com/article/sportsNews/idAFJOE5AH0AG20091118?sp=true , Reuters, Khartoum, November 18, 2009.


[4]  رانيا بدوي، السفير المصري في السودان يفجر مفاجآت صادمة في حوار لـ"المصري اليوم": أبلغنا القاهرة بتحركات الجزائريين وشراء الأسلحة قبل المباراة بثلاثة أيام، مصدر سابق. 


[5]  د. غازي صلاح الدين، كرة القدم والوقوع في مصيدة التفاهة، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 23 نوفمبر 2009.


[6]  Michael Slackman; Mona el Naggar, This Time, Egyptian Riot Over Soccer, Not Bread", New York Times, http://www.nytimes.com/2009/11/21/world/africa/21egypt.html, November 21, 2009,  p. A4.


[7]  د. عبدالمنعم سعيد، لم تكن مباراة في كرة القدم؟!، جريدة "الأهرام"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.


[8] علا عبدالله، "الإيكونومست": النزعة القومية و"الإعلام الطائش" يغذيان التوتر بين مصر والجزائر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 28 نوفمبر 2009.


[9] ريمون فرنسيس، كيف أفلت أنس الفقي من التغيير رغم خطاياه العشر القاتلة؟، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 8 يناير 2010.


[10] سليمان جودة، لماذا انقلب أنس الفقي؟، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 16 نوفمبر 2009.


[11] في خطوة غير متوقعة، أوقفت مجموعة من القنوات الفضائية المصرية الخاصة بثها بشكل مؤقت طوال فترة مباراة منتخبي مصر والجزائر في القاهرة، احتجاجا على احتكار الإعلام المصري الحكومي لحقوق بث المباراة. وفاجأت قنوات عدة بينها "دريم" و"الحياة" و"مودرن" جمهورها بوقف بثها، ووضعت بدلا من البث المباشر رسالة جماعية منددة بقرار وزير الإعلام المصري أنس الفقي الذي منعهم من بث المباراة المهمة التي حظيت بمتابعة الجمهور المصري وباقي الجماهير العربية بما يجعل وقت بثها وقتا إعلاميا وإعلانيا مميزا.


[12]  شيماء البرديني ومحاسن السنوسي ومحمد طه ومصطفى صلاح، أزمة مباراة مصر والجزائر بين الفضائيات الخاصة والتليفزيون تتصاعد.. والحرب تتواصل، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 16 نوفمبر 2009.


[13]  محمد عبدالقادر، مشادة في مجلس الشعب بين وزير الإعلام وأحمد شوبير بسبب "مباراة الجزائر الأولى"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 25 نوفمبر 2009.


[14]  صبري غنيم، الحكومة ضربتنا من الداخل، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة ، 3 ديسمبر 2009.

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator