المحروسة

gravatar

شارع المتعصبين


خطابٌ مسموم.

هكذا يمكن وصف الأجواء التي صاحبت مباراتي مصر والجزائر، في القاهرة أولاً وفي الخرطوم تاليـًا، في إطار تصفيات إفريقيا للتأهل إلى كأس العالم في جنوب إفريقيا 2010.

خطاب التسميم هذا استهدف قطع العلائق مع منظومة القيم والمبادئ السياسية التي استقرت في الوجدان المصري حينا من الدهر. وترتب على استمرار هذا الخطاب وتواصل حلقاته أنه أحدث تأثيره السلبي في بعض شرائح المجتمع المصري. والمنتمون إلى تلك الشرائح هم الذين اعتبرهم الكاتب فهمي هويدي "نماذج للمصريين الجدد"، متحدثـًا عن الوطنية التي تم استدعاؤها لكي تلبي أشواق المصريين جرى ابتذالها بشكل محزن.. "إذ لم تستدع لكي تستنهض همة المصريين في الدفاع عن حريتهم وكرامتهم وشرف وطنهم، وحقهم في مقاومة الفساد والاستبداد، وإنما أطلقت لتأكيد التفاف المصريين حول المنتخب القومي لكرة القدم. وهو ما عبرت عنه لافتة كبيرة رفعت فوق أهم جسر في قلب القاهرة، ظهر عليها علم مصر، وكتبت عليه العبارة التالية: ليس المهم أن نكسب كأس العالم ولكن الأهم صورتنا أمام العالم"[1]!

لقد سال حبر كثير، معظمه غير نظيف، وارتفعت أصوات عدة، معظمها موتور، فيها الرياضي وفيها الإعلامي وفيها لمؤسسات يُنتظر منها أن تكون أكثر رجاحة وحكمة، وكانت الخسائر في أغلبها سياسية، كأنها معول يهدم العلاقات التاريخية ويقوض التضامن الذي عاشه شعبان وثورتان ردحـًا من الزمن، ويهشم التاريخ الذي صاغ وجدان أجيال عربية لعقود طويلة.

المتعقلون في إعلام البلدين والإعلام العربي عمدوا إلى أربع إستراتيجيات جمع بينها قصور الطرح وليس واقعيته الناتجة عن التزام مفردات ومضامين التعامل الإنكاري المعهود مع الخلافات العربية - العربية. عن هذه الإستراتيجيات الأربع يقول الباحث د. عمرو حمزاوي: "البعض رفع لواء الأخوة العربية، مضيفـًا إليها بين الفينة والأخرى صبغة إسلامية، لتذكير المصريين والجزائريين بروابط العروبة المقدسة وبالمصير الواحد ولم يحصد على مستوى الشارع المجير للمتعصبين على الطرفين سوى التجاهل استنادًا إلى واقع الانقسام العربي والاستهزاء بعد تفنيد الادعاء بالهوية المشتركة بصياغات أنكرت على المصريين عروبتهم بعد أن "باعوا فلسطين" ووصفوا أنفسهم "بالفراعنة" واختزلت الجزائريين في "بربر لا يتحدثون اللغة العربية" والفرنسية لهم أقرب"[2].

وردت صحف جزائرية على حرب الفضائيات المصرية بالنبرة نفسها، حين وجهت اتهامـًا لمصر بأن "أم الدنيا" تعامل المغرب العربي كطفل غير شرعي للوحدة العربية؟!"[3]، وتحدثت عن "أمازيغ أحرار حطموا غرور الفراعنة عبر التاريخ: ششناق أدّبهم، المعز لدين الله بنى لهم القاهرة والأزهر، ابن معطي علمهم العربية، وابن زياد فتح الأندلس الذي ضيعوه"[4].

فريق ثان تحدث عن النضال المشترك بين البلدين، واستدعى ذكريات الدعم المصري للثورة الجزائرية ودعم الجزائر للمجهود العسكري المصري في حربي 1967 و1973، إلا أن  المتعصبين شوهوا صورة هذا النضال المشترك بالحديث عن "استقلال جزائري من الاستعمار الفرنسي حققه المصريون في تطاول رديء على بلد المليون ونصف المليون شهيد وكفاحه البطولي ضد المستعمر على مدار قرن ونيف من الزمان، أو إلى شماتة لا تقل رداءة في نكسة 1967 وتشكيك لا يليق في نصر أكتوبر 1973"[5].

ولجأ فريق ثالث إلى رفع شعار "إسرائيل.. العدو المشترك" لإعادة توحيد الصف، لكن السلام المصري- الإسرائيلي أضحى "عريضة تخوين يسوقها المتعصبون في الإعلام الجزائري ضد مصر الرسمية والشعبية، إذ تحدثت الصحافة الجزائرية عن "جرائم النظام المصري في فلسطين.. "أم الدنيا" تتاجر بقضايا الأمة وتقبض الثمن مرتين"[6]، وسط مزاعم أن "معاريف الإسرائيلية هنأت فوز مصر وتشفت في هزيمة الجزائر بالقاهرة"[7]، و"ناصر معظم الإسرائيليين أشبال شحاتة مؤكدين وقوفهم معهم في المباراة الفاصلة التي تجمع المنتخبين"[8]، وكان أصل الخبر أن صحيفة "معاريف" الإسرائيلية غطت مباراة 14 نوفمبر كما غطت مباريات أخرى، وقالت إن عماد متعب سجل هدف الفوز في الدقيقة الأخيرة.. فأين التهنئة[9]؟!

ووسط شماتة الإعلام الإسرائيلي في "الحرب" التي تدور رحاها بين مصر والجزائر[10]، لم تكف صحف جزائرية عن اتهام رجال الأمن في مصر بأنهم لم يتورعوا عن "إهانة العلم الجزائري في الوقت الذي يرفع فيه علم إسرائيل في العاصمة المصرية"، و"أمن مطار القاهرة مزق الأعلام الوطنية وداس على جوازات سفر جزائرية وقال للجزائريين المسافرين.. بلدكم بلد المليون ونصف مليون جزمة!"[11]، في حين وصف المتعصبون في الإعلام المصري - خاصة محدودو الثقافة والوعي بين مقدمي البرامج الرياضية - الشعب الجزائري "ببني صهيون العرب"[12].

فريق رابع عزا التعصب الجماعي في مصر والجزائر إلى وضعية الفشل والإخفاق التي تعيشها قطاعات واسعة من مواطني البلدين، وبحثهم المريض ومن ثم العنيف عن مساحات ولحظات لتصريف مخزون الإحباط اليومي، وإن على حساب أشقاء لهم في الإخفاق قبل العروبة. غير أن شارع المتعصبين في مصر والجزائر لم يقتصر محركوه على الفقراء والمحرومين، بل تمدد ليشمل الشرائح الوسطى والميسورة"[13].

وحسنـًا فعلت صحيفة مصرية في اليوم التالي لمباراة أم درمان الفاصلة، حيث أعلنت مع أخبار ونتيجة المباراة نفسها، تعادل البلدين في درجة "الفساد"، وفق تقرير "منظمة الشفافية الدولية"، ومقرها ألمانيا، والتي تصدر تقاريرها سنويـًا في منتصف نوفمبر من كل عام. وقد تزامن صدور تقريرها في عام 2009 مع مُباراة مصر والجزائر، وتشاء الصدفة وحدها أن تأتي مصر والجزائر متعادلتين في درجة الفساد. فقد تقاسمتا المركز 111، بين 180 دولة شملها تقرير منظمة الشفافية الدولية[14]. كما جاءت الدولة المضيفة للقاء الفاصل، أي السودان، في المركز 176، أي قبل الأخير بأربعة مراكز فقط[15].

بعض المحسوبين على الصحافة الرياضية، ممن يصفهم مسؤول سياسي ورياضي سابق بأنهم "يعيشون في عالم المرايا إياه، ولا يرون إلا أنفسهم وأنفسهم فقط"[16]، راحوا يطعمون النار بالقش والزيت، ويصورون المباراة وكأنها معركة حربية، وعمد جنرالات الردح التليفزيوني إلى دغدغة المشاعر الوطنية لدى المصريين بأسلوب فج تتويجـًا للانقلاب الذي حدث في منظومة القيم السياسية. وفي سياق تلك المهاترات، سادت أوهام الجهالة والولاء للغرض، واختلط الجد بالهزل والرسالة بالهوى والأخلاق بالانحلال.

وفي عصر التناحر الفضائي، رأينا "عامة تقود العامة"[17]!


 ويتذكر المشاهدون ما جرى على قناة "مودرن سبورت"، قبل المباراة الثانية بين مصر والجزائر بالقاهرة، عندما قرأ مدحت شلبي خبرًا لصحيفة "الخبر" الجزائرية يقول إن الجزائر ستفوز بهدف يحرزه بوتفليقة، وهو ما جعل شلبي يعلق قائلاً: "عاوز أقولهم خلي بوتفليقة يتغطى كويس"، لكنه خرج بعد فاصل ليعتذر بعدها للجزائر، قائلاً إنه اختلط عليه الأمر بين اللاعب بوتفليقة والرئيس الجزائري بوتفليقة[18].

أما بعد مباراة أم درمان، فقد خرج المعلق الرياضي أحمد شوبير في برنامجه "الملاعب اليوم" على قناة "الحياة"، ليقدم اعتذاره الرسمي لكل الشعب المصري عن زيارته الأخيرة للجزائر قبل المباراة التي جمعت المنتخبين المصري والجزائري في تصفيات كأس العالم بالقاهرة، قبل أن يصف ما فعله الجزائريون بالمهزلة وقلة الأدب والوقاحة والسفالة[19].

هوامش

هوامش
[1]  فهمي هويدي، المصريون الجدد، جريدة "الشروق"، القاهرة، 5 يناير 2010.
[2]  د. عمرو حمزاوي، مجتمعات تنتج التعصب وإنكار الآخر: مصر والجزائر مثالاً، جريدة "الحياة"، لندن، 19 نوفمبر 2009.
[3]  قادة بن عمار، "أم الدنيا" تعامل المغرب العربي كطفل غير شرعي للوحدة العربية؟!، جريدة "الشروق"، الجزائر، 25 نوفمبر 2009، ص 7.
[4]  سمير حميطوش، أمازيغ أحرار حطموا غرور الفراعنة عبر التاريخ: ششناق أدّبهم، المعز لدين الله بنى لهم القاهرة والأزهر، ابن معطي علمهم العربية، وابن زياد فتح الأندلس الذي ضيعوه، جريدة "الشروق"، الجزائر، 22 نوفمبر 2009، ص 6.
[5]  المصدر السابق.
[6]  __________،  "أم الدنيا" تتاجر بقضايا الأمة وتقبض الثمن مرتين، جريدة "الشروق"، الجزائر 22 نوفمبر 2009، ص 1.
[7]  جمال لعلامي، "الشروق" ستبقى شوكة في حلق "الأبالسة" وأعداء الجزائر، جريدة "الشروق"، الجزائر 22 نوفمبر 2009، ص 3.
[8]  ___________، إسرائيل تهنىء مصر وتشيد بفوزها على الخضر، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 19.
[9]  حسن المستكاوي، 5 أسئلة لن ترد عليها حكومة الجزائر؟، مصدر سابق.
[10]  أميرة بدر، إسرائيل "تشمت" في مصر والجزائر وتتمنى مباراة مماثلة بين "فتح" و"حماس"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 18 نوفمبر 2009.
[11]  كريم كالي؛ بلقاسم حوام، أمن مطار القاهرة مزق الأعلام الوطنية وداس على جوازات سفر جزائرية وقال للجزائريين المسافرين.. بلدكم بلد المليون ونصف مليون جزمة، جريدة "الشروق"، الجزائر، 22 نوفمبر 2009، ص 4.
[12]  د. عمرو حمزاوي، مجتمعات تنتج التعصب وإنكار الآخر: مصر والجزائر مثالاً، مصدر سابق.
[13] المصدر السابق.
[14] محيي وردة وهشام أبو حديد والشيماء عزت، تعادل مصر والجزائر في "الفساد.. منظمة الشفافية الدولية تضع الدولتين في المركز الـ"111 مكرر".. و"القرضاوي": مباراة المنتخبين ليست "بدر" ولا "حطين"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 19 نوفمبر 2009.  
[15] د. سعد الدين إبراهيم، مُباراة كُرة.. وثلاث دول فاشلة.. وخسارة شعبين، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 28 نوفمبر 2009.
[16] د. عبدالمنعم عمارة، "فضائياتنا" تنشر التعصب والعداء للأشقاء، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 14 نوفمبر 2010.
[17] علاء الغطريفي، عامة تقود العامة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 25 أكتوبر 2009.
[18] خير راغب، الصحافة الجزائرية خرجت بالمباراة من الرياضة إلى السياسة.. ووصفت مصر بـ"الصهيونية"، مصدر سابق.
[19]  هيثم عويس، شوبير يعتذر على الهواء عن زيارته للجزائر، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 19 نوفمبر 2009.

gravatar

ذكريات المباريات دي ذكريات تعد سبه في جبين مصر والجزائر واتجرجر السودان فيها
وده اكبر دليل علي ان الاعلام هو الفاسد الاول في بلدنا العربية

gravatar

ذكريات المباريات دي ذكريات تعد سبه في جبين مصر والجزائر واتجرجر السودان فيها
وده اكبر دليل علي ان الاعلام هو الفاسد الاول في بلدنا العربية

gravatar

الأخ العزيز / د. ياسر ثابت
تحية وسلاماً

مهما حاولت أن أكون موضوعياً فلن أستطيع مغالبة نفسي بأن الأخوة في الجزائر والمغرب العربي عموماً لا يكنون مشاعر صادقة لمصر والمصريين إلا في المؤتمرات الصحفية الرسمية ، وعلى المستوى الشعبي فلا أرى أي روح أو حرارة دافئة منذ وقت يسبق كثيراً واقعة أم درمان التي تعد في نظري القطرة التي أسالت الكأس ليس إلا ، مع خالص تحيتي ومودتي .

gravatar

الأخ العزيز / د. ياسر ثابت
تحية وسلاماً

مهما حاولت أن أكون موضوعياً فلن أستطيع مغالبة نفسي بأن الأخوة في الجزائر والمغرب العربي عموماً لا يكنون مشاعر صادقة لمصر والمصريين إلا في المؤتمرات الصحفية الرسمية ، وعلى المستوى الشعبي فلا أرى أي روح أو حرارة دافئة منذ وقت يسبق كثيراً واقعة أم درمان التي تعد في نظري القطرة التي أسالت الكأس ليس إلا ، مع خالص تحيتي ومودتي .

gravatar

شمس النهار

الإعلام ارتكب خطايا كثيرة غذت أزمة مصر - الجزائر

هناك عوامل مختلفة صنعت من هذه اللعبة أزمة شحنت النفوس والقولب بالغضب والعنف.. وهذا مؤسف ومحزن

gravatar

أبو البنات


ما جرى محزن ويكشف عن روح التعصب والعنف التي ملت نفوس كثيرين بضغطٍ من إعلامٍ منحاز وعقليات ضيقة الأفق، وصانعي قرار تركوا كرة اللهب تهبط علينا جميعاً لتلتهم عوامل التقارب، وتنشر عناصر الفرقة والاختلاف

ما جرى في أم درمان، ليس سوى حلقة من مسلسل بغيض، سقط فيه كثيرون على الجانبين المصري والجزائري

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator