المحروسة

gravatar

صراع العقول والأقدام



نداء التعقل كان صيحة في واد.


ووجدنا في الجزائر من يزعق بأعلى صوته قائلاً: "الجزائر تنتصر على مصر دبلوماسيـًا وتهزم التهور ببرودة الأعصاب"[1].


المشكلة أنه في الوطن العربي لا يؤخذ شيء أبدًا في إطاره‏. ومثّلَّ الشحن المعنوي عبر وسائل الإعلام نتيجة طبيعية لحالة الفراغ السياسي التي يعانيها المصريون والجزائريون على حد سواء. ولذا لمسنا اهتمام الرأي العام بالمواجهة الكروية بين منتخبي البلدين، كأنما الجمهور يحاول إخراج كل ما لديه من شحنة عاطفية في الرياضة باعتبارها المجال المسموح فيه بالتحزب والتحيز والانقسام‏،‏ والتفريغ لغضب مكبوت. لقد ظنت تلك الجماهير أنها بالكرة تمرر السياسة التي منعت عليها فإذا بمحتكري الحكم والسياسة هم الذين يحركون أيضـًا تلك الكرة ويديرون أنديتها وجحافل المشجعين والمحرضين والمشاغبين[2].


تدريجيـًا أصبحت ملاعب كرة القدم، وحلبات السجال التليفزيوني، مجال الاجتماع الطوعي للجماهير، بعد أن استسلمت هذه الجماهير لفكرة حرمانها من التجمع أو التظاهر لقضايا معيشية أو سياسية[3]. ويبدو أن القضية المركزية والجماهيرية، الآن باتت قضية كروية، وعليه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"[4]. وبهذا المعنى، فإنه حين اندفع المصريون والجزائريون في تشجيع منتخبي بلديهما بكل هذا التعصب، بدا أنهم يبحثون عن السعادة بأي طريقة‏، ويجدون في كرة القدم ما لم يجدوه في مجالات أخرى.


لم يكن هذا وليد اللحظة، فقد عرفت المواجهات الرياضية بين مصر والجزائر في العقود الأربعة الأخيرة درجات من العنف المتفاوت. ففي عام 1978، اجتاحت الشرطة الجزائرية اللاعبين والمشجعين المصريين خلال بطولة الألعاب الإفريقية، أثناء مباراة بين مصر وليبيا في الجزائر[5] . وفي ثمانينيات القرن الماضي، تكررت مظاهر العنف خلال المباراة المؤهلة للألعاب الأولمبية في لوس أنجليس التي أقيمت عام  1984 وانتهت بفوز مصر على الجزائر 3-1 وتأهلها للدورة الأوليمبية[6].


وشمل مسلسل الأزمات الاعتداء بالحجارة على حافلات تقل المنتخب المصري والفرق المصرية في الجزائر، واتهام لاعب منتخب الجزائر الأخضر بللومي بفقء عين طبيب مصري عام 1989[7]،  وإدانته في حكم غيابي بارتكاب الواقعة[8]، وصدور مذكرة اعتقال من شرطة الإنتربول ضده طوال عشرين عامـًا، على الرغم من قوله إن الواقعة بطلها حارس المرمى كامل قدري[9]، لكن أكثر الحلقات درامية على الإطلاق هو واقعة أم درمان.


وحين تؤاخي الرياضة "البلطجة"، فإن البعض ينسى أن البلطجة ترتد دائمـًا على مستخدميها.


وبدأت رحلة المراجعات.


فأمام اجتماع اللجنة المشتركة من لجان الشباب والشؤون العربية والدفاع في مجلس الشعب المصري، اعترف المهندس حسن صقر رئيس المجلس القومي للرياضة بوجود تقصير من الجانب المصري، سواء في نقل الجماهير والسفر العشوائي للسودان، مشيرًا إلى أن اختيار السودان لم يكن موفقـًا. وأوضح أن مبارك قال له صباح ذلك اليوم خلال لقائه مع الفريق القومي لكرة القدم "أوعى في أي مسابقة تجازف بنقطة دم واحدة لأي مصري"[10].


وفي خطوة اعتبرها الإعلام المصري أول اعتراف جزائري بسفر الآلاف من الخارجين عن القانون إلى السودان واعتدائهم على الجماهير المصرية في أم درمان، قالت جريدة "الشروق" الجزائرية في 13 ديسمبر 2009، إن وزارة الداخلية في الجزائر بدأت في استعادة جوازات السفر التي تم منحها للخارجين عن القانون من أجل حضور مباراة مصر والجزائر الفاصلة في تصفيات كأس العالم، التي أقيمت في السودان. ونقلت جريدة "الشروق" الجزائرية، عن وزير الدولة، وزير الداخلية، يزيد زرهوني، قوله: "إن مصالح الأمن فتحت تحقيقات عن كل جوازات السفر التي تم استخراجها يومي 16 و17 من شهر نوفمبر الماضي، في إطار الإجراءات التسهيلية التي منحتها الحكومة لنقل مناصري الخضر إلى الخرطوم، لسحب أي جواز سفر تمكن منه أحد الأشخاص المنزوع الحقوق المدنية من أصحاب السوابق القضائية"[11].


وزير الخارجية المصري حينذاك أحمد أبوالغيط فجَّر قنبلة مدوية عندما أكد في تصريحات له أن الخارجية المصرية ومن ثم الحكومة كانت على علم بمؤامرة الجزائر في السودان قبل أن تحدث. تصريحات أعادت فتح ملف أكثر خطورة من ملف الأزمة المصرية ـ الجزائرية الكروية ذاتها.. لأن أبوالغيط اعترف بأن الحكومة كانت على دراية بكل شيء قبل أن يحدث وأنه كانت أمامها ثلاثة اقتراحات.. الأول إقامة المباراة بدون جمهور لكن رئيس الوزراء الجزائري رفض، والثاني منع سفر جماهير مصر وذلك كان سيغضب المصريين، والثالث إرسال قوات مصرية خاصة بملابس مدنية لحماية الجماهير المصرية، لكن الجانب المصري خاف من عقوبات الاتحاد الدولي على الكرة المصرية لو اكتشف تدخل الدولة.


تصريحات أقل ما توصف به أنها كارثة بكل المقاييس.. أولا، لأن أبوالغيط خاف - حسب روايته- على زعل رئيس الوزراء الجزائري ونسي الجانب المصري كله بجماهيره بل وبسياسته.. ثانيـًا، خاف أبوالغيط على مشاعر المصريين غضبـًا من عدم سفرهم ثم تركهم يسافرون دون أي حماية.. ثالثـًا، خاف وزير الخارجية المصري حينذاك من عقوبات الاتحاد الدولي واعتبر ذلك مبررًا لأن يترك منتخب مصر وجماهيره بمن فيهم جمال وعلاء مبارك وغيرهما من كبار السياسيين لمواجهة ما أسماه هو بالمؤامرة الجزائرية، وكارثة أبوالغيط لم يكن من الممكن أن تمر مرور الكرام؛ لأنها فتحت جرحـًا أعمق من مجرد مباراة كرة قدم أيـًا كانت أحداثها وهو أن الحكومة المصرية قررت التضحية بالمصريين وهي تعلم ما قد يحدث لهم في بلد آخر من بلد آخر[12].


الأخطر من ذلك أن "العرب قد أصيبوا بخسارة فادحة ولا تعوض بفضيحة صراع الأقدام بين مصر والجزائر، التي أثارت "الأسى عند إسرائيل" كما عبر رئيسها شيمون بيريز"[13].


ويبقى أن ذلك التدني والهوس والعصاب الجمعي الذي رافق الأزمة تخلّق في الإعلام، وراج عبره، وحرَّف اتجاهات الجمهور حيال القضية، وجيّشه، وحرّضه، وتلاعب بعواطفه، وتدنى بوعيه.


ففي 31 يناير 2010، أصدرت "مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان ومؤسسة صاحبة الجلالة" تقريرًا بعنوان "دعاة الكراهية – الإعلام الرياضي في مصر والجزائر". تضمن التقرير نتائج دراسة تحليل مضمون شملت عشر صحف جزائرية ومصرية لنتائج التغطية الصحفية لمباراتي مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم  2010.


التقرير الذي جاء في 160 صفحة استهدف بحث معايير الحيادية والموضوعية في التغطية الصحفية للمباراة في مجموعة من الصحف المصرية منها (المصري اليوم- الأسبوع – صوت الأمة – نهضة مصر – الأحرار – الشروق المصرية) والصحف الجزائرية مثل (الهداف – الأيام- أخبار اليوم- الخبر اليومي- البلاد – صوت الأحرار).


وقد أكدت نتائج الدراسة أن 79.2% من تغطية الصحف الجزائرية كان تحريضيـًا ضد المنتخب المصري والقائمين على العمل الرياضي وطال بعض القيادات السياسية في مصر؛ فيما كانت الصحف المصرية أكثر موضوعية في التغطية، وجاءت جريدة "المصري اليوم" و"الشروق" في مقدمة الصحف التي تسعى للتهدئة بنسبة بلغت 94.6%.


الصحف الجزائرية والمصرية اتبعت نظرية التطهير والتنفيس الإعلامي، وذلك بأن جعلت المواطنين يقرؤون ويرون مشاهد العنف الذي يمارسه البعض، في محاولة للتنفيس عنهم وجعلهم يرون العنف، وبالتالي تفرغ طاقاتهم وميولهم نحو العنف. أما عن الأخبار المجهولة فقد احتلت الصحف الجزائرية وبخاصة صحيفتا "الهداف" و"الأيام" نسبة 94% من إجمالي أخبار الصحف الجزائرية.


وأشارت الدراسة إلى أن وسائل الإقناع المستخدمة في التغطية من الجانبين اعتمدت على عرض وجهة نظر واحدة، وبلغت نسبة هذا الاتجاه في الصحف الجزائرية 97% فيما كانت النسبة في الصحف المصرية 84.5%، كما أظهرت النتائج أن جريدة "الهداف" الجزائرية في مقدمة الصحف التي اعتمدت على أسلوب عرض وجهة النظر الواحدة[14].


هوامش

[1]  سميرة بلعمري، الجزائر تنتصر على مصر دبلوماسيًا وتهزم التهور ببرودة الأعصاب، جريدة "الشروق"، الجزائر، 21 نوفمبر 2009، ص 5.
[2]  عبدالوهاب بدرخان، الكرة "بتتكلم عربي"، جريدة الاتحاد"، أبوظبي، 24 نوفمبر 2009.
[3] Joseph Mayton, Feeble excuses for Egypt's football riots, http://www.guardian.co.uk/commentisfree/2009/nov/24/egypt-cairo-football-riots, The Guardian, London. November 24, 2009.
[4]  ماجد كيالي، عصبيات كروية وهويات سلطوية، جريدة "الحياة"، لندن، 24 نوفمبر 2009.

[6] ___________، هل يكون لقاء مصر والجزائر المقبل "مباراة كراهية" جديدة؟، موقع "سي إن إن" بالعربية، 13 نوفمبر 2009.

[8]  Brian Oliver, Twenty years on, the 'hate match' between Egypt and Algeria is on again, The Sport Blog, The Guardian, London, op. cit. 
[10]  أمل الحناوي، شهاب يعلن قطع العلاقات الرياضية مع الجزائر، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 23 نوفمبر 2009.
[11]  ________، جريدة "الشروق"، الجزائر، 13 نوفمبر 2009.
  [12]  فيصل زيدان، كارثة تصريحات أبوالغيط.. أسوأ ختام لسنة كروية فاشلة، جريدة "الفجر"، القاهرة، 1 يناير 2010.
[13]  طلال سلمان، شهادة فتى عربي عاشت مصر في وجدانه كقيادة للأمة والجزائر بوصفها الثورة، جريدة "السفير"، بيروت، 9 ديسمبر 2009.

[14]  منى نادر، دراسة تتهم الصحف الجزائرية بالتحريض ضد المنتخب المصري، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 31 يناير 2010.

gravatar

الحمدلله انه انتهت قصة الكورة على خير ورجعت العلاقة بين البلدين إلى سابق عهدها

سعيدة بمروري

كن بخير دائما

gravatar

وجع البنفسج


نعم، الحمد لله، لكن من المهم الاعتبار مما جرى حتى نمنع تكراره ونفك شيفرة الأزمات اللاحقة

لك خالص مودتي وتقديري

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator