المحروسة

gravatar

فنون الغزل والتعصب






لا أحد يمكنه أن يفهم لمصلحة من المعارك والمهاترات الإعلامية التي تزعمتها بعض الصحف الجزائرية والفضائيات المصرية، ولا أحد بوسعه أن يفسر ما جرى لشهور طويلة على خلفية مباراة لكرة القدم.
غير أنه وفي ظل فضاء يتمدد بصمت، وصحف تسعى إلى رفع أرقام توزيعها وإيرادات إعلاناتها، أصبح الصراع الإعلامي يدور حول القارئ أو المشاهد الباحث عن قائد، لذا لا تبدو غريبة هذه المبايعة المباركة للغضب الشعبي من مصر أو الجزائر بعيدًا من درجة الفرز بين حقيقة ما حدث وما لم يحدث. لقد اكتشف الإعلام - والنظام بدرجة أخرى- أن كرة القدم هي "عصا موسى التي تبتلع كل الثعابين"، وتصرف الأنظار عن التراجع والتردي والقبح والقصص المتداولة الكالحة السوداء، ووسيلة رائعة لاستخدام "عهدة الأغاني والأناشيد"، التي كادت تبلى في المخازن؛ لأن هزالة الواقع لا توافق إيقاعها النشوان، والإعلام الخاص لم يكن يحلم بأفضل مما حصل عليه.. جمهور بالملايين يتدافع على المشاهدة، ومعلنون يتسابقون على الأوقات المميزة[1].
وهكذا نفخت في نار الأزمة وسائل إعلام ترغب في تحقيق الأرباح والرواج، عبر تضخيم الحدث والنفخ فيه، لزيادة مبيعات الصحف، وجلب المزيد من الإعلانات والاتصالات التليفونية للفضائيات، وتكريس شهرة بعض مقدمي البرامج من محدودي الكفاءة والوعي المهني[2]. ولا يفوتنا هنا القول إن اجتماع رؤساء مجالس إدارات القنوات الفضائية الخاصة، للنظر في كيفية معالجة البرامج الرياضية في هذه القنوات لأزمة مباراة أم درمان، شهد هجومـًا شرسـًا على مقدمي بعض البرامج الرياضية في هذه القنوات، إذ حملهم عدد من الحاضرين مسؤولية إثارة وتأجيج الأزمة بين مصر والجزائر ووصفوهم بالجهل والسطحية والقصور في المعلومات[3].
هذه الأجواء المؤسفة هي التي دفعت نحو 200 مفكر ومثقف مصري إلى التوقيع على بيان يدين خطايا الإعلام والتلاعب السياسي بتغذية الخلاف المصري الجزائري[4]. في المقابل، أصدر 11 من أساتذة الجامعات الجزائريين بيانـًا نددوا فيه بـ"الأسلوب الشوفيني المقيت" الذي أدارت به بعض المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة في الجزائر ومصر بجميع أنواعها المرئية والمسموعة والمكتوبة تغطية مباراة كرة القدم بين المنتخبين الشقيقين، التي حوَّلت، بحسب البيان، التنافس الرياضي الأخوي النبيل إلى "فتنة بين الشعبين"[5].
وبحسب باحث مغربي، فإنه في أزمة مصر والجزائر، اخترقت السياسة الحقل الاجتماعي وحاولت اللعب على الإشكال الأكثر قمعـًا واحتقانـًا، من خلال الاقتراب من المزاج العام للشعب. بل إن السياسي في البلدين أُخضع المباراة لتفسير واحد هو: ضرورة إشباع الرغبات الوهمية في النصر. في الوقت نفسه، ابتلع الجميع منتوجـًا إعلاميـًا ضخّم بشكل كبير صورة الشر في الآخر، لكن هذا الابتلاع صار غير قابل للكبح؛ لأنه مدفوع بكل الخيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشعبان. إن حالة الهياج الشديد التي أعقبت المباراة صارت غير قابلة للكبح لأنها مبنية على الحرمان[6].
وربما كان ممكنـًا حصر هذا "الغضب" في ملاعب الكرة لو لم يُستغل سياسيـًا في مصر كما في الجزائر، ولو لم يُمنح طابعـًا "عصبيـًا" هو براء منه. الأمر المفاجئ والمؤلم  هو دخول بعض المثقفين، من صحفيين وكتّاب وفنانين، خضم هذا السجال، انتصارًا لجمهورهم أو لشعبهم كما خُيّل إليهم.


حرب الكرة انتقلت بدورها إلى صفوف النجوم، الذين انقسموا بين مؤيد لمنتخب كرة القدم المصري أو لنظيره الجزائري. وزادت مواقف الفنانين المتباينة تجاه هذه "المسألة الكروية" وآراؤهم حولها من حدة الصراع، إذ تحول كل فنان يساند المنتخب المصري إلى عدو للشعب الجزائري والعكس صحيح بغض النظر عما إذا كان هذا الفنان يشجع فريق بلده أصلا. بل أصبح هذا الفنان في نظر جمهور الفريق الآخر خائنا وناكرا للجميل ولا يستحق المتابعة والحب.
ومن عالم الفن، انتفض عمر الشريف وحسين فهمي ومحمود ياسين ويسرا أمام الأهرامات دفاعـًا عن كرامة زملائهم الفنانين والفنانات الذين لم يحسن السودانيون والجزائريون استقبالهم ووداعهم قبل وبعد مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر. وتحت سفح الأهرامات، وقف عمر الشريف وهو يحمل علم مصر في مشهد جنائزي، مع جوقة معظمها من نجوم الصف الأول في السينما والتليفزيون.
وبدا مستغربـًا أن هؤلاء النجوم لم يذهبوا يومـًا للاعتراض على استمرار العمل بقانون الطوارئ في مصر لعقود ثلاثة خلت، ولم يذهبوا مثلاً للامتعاض من تزوير كل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية والنقابية والطلابية والرياضية التي أجريت في مصر لسنوات طويلة. ولهذا دعا عمرو خفاجي "السادة الفنانين الذين سارعوا بمقاطعة كل ما هو جزائري عقب أحداث الخرطوم، أن يقاطعوا الدولة لو قررت تزوير الانتخابات، وأن يقوم هؤلاء الفنانون بدعوة الجماهير التي تحبهم إلى الذهاب إلى الصناديق والدفاع عنها"، كما ناشد "هؤلاء الشباب الذين توجهوا لسفارة الجزائر مطالبين بحرقها، أن يذهبوا إلى مقار الانتخابات ويحموها من التزوير ويحرقوا كل يد تحاول أن تمتد بالباطل لصناديق الديمقراطية"[7].
إلا أن النبرة العصبية في معسكر الفنانين لم تلتفت إلى هذه الحقيقة المُرة، فقالت يسرا في أحد لقاءاتها الصحفية: "هل نسي الشعب الجزائري أن موسيقى نشيدهم الوطني وضعها الفنان الراحل محمد فوزي، وأن النجمة ماجدة الصباحي عندما قدمت شخصية جميلة بوحيرد خسرت كل ما كانت تملك من أموال في سبيل عكس معاناة الشعب الجزائري أبان الاحتلال الفرنسي"[8]. وسمعنا الفنانة إسعاد يونس تصف نفسها في أحد البرامج التليفزيونية بأنها "فرعونية" مستنكفة أن تشير إلى هويتها العربية[9].
وفي المقابل، اتُخذت قرارات انتقامية غاضبة، إذ أصدر اتحاد النقابات الفنية، برئاسة ممدوح الليثي وعضوية كل من: أشرف زكي نقيب الفنانين ومنير الوسيمي نقيب الموسيقيين وإبراهيم الشقنقيري القائم بأعمال نقيب السينمائيين، قرارًا بوقف جميع أشكال التعامل مع المؤسسات الفنية والثقافية الجزائرية بما فيها المهرجانات الفنية سواء كانت سينما أو تليفزيون أو مسرح. كما تضمن القرار منع مشاركاتهم في أي مهرجانات تقام في مصر[10] لحين تقديم اعتذار رسمي صريح من الحكومة الجزائرية. ونظم رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، عزت أبوعوف، ونقيب الفنانين، أشرف زكي، وعدد من فناني مصر وقفة احتجاجية على السجادة الحمراء قبل حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي، كرسالة احتجاج على التصرفات الجزائرية[11].
وفي تلك الغواية الكروية المعصوبة العينين، استطلعت صحيفة جزائرية آراء عدد من فناني الجزائر تحت عنوان "الفنانون الجزائريون يدعون إلى مقاطعة السينما والأغاني والمسلسلات المصرية"[12].
وطال طوفان الغضب المصري فنانين جزائريين، مثلما حدث عندما أعلن شاعر غنائي في الصحف سحب أغنية نظمها للفنانة وردة الجزائرية، بعد أن رأى مصريون أن وقوفها إلى جانب المنتخب الجزائري في السباق إلى مونديال جنوب إفريقيا خيانة علنية لمصر التي احتضنتها فنيـًا وكانت السبب الرئيسي في شهرتها ونجوميتها بحسب وجهة نظرهم. وربما كان الموقف هنا ردًا على حرب الشتائم المتبادلة بين الطرفين، إذ كانت أول شتيمة من متعصبين جزائريين في ملاعب الكرة أن "مصر بلد الفنانات". كما عمد بعض هؤلاء المتعصبين إلى تركيب صور مسيئة وضعوا فيها رؤوس بعض الفنانات المصريات، وهن ليلى علوي ويسرا ومنة شلبي وإلهام شاهين وياسمين عبدالعزيز ونادية الجندي ونبيلة عبيد ودينا وفيفي عبده وشيرين ونرمين الفقي، على أجساد لاعبي المنتخب المصري.


وردًا على مطالبة مصريين بمنع المطربة وردة الجزائرية من دخول مصر، طالب جزائريون بمنع الفنانة اللبنانية نانسي عجرم من دخول الأراضي الجزائرية، بعد أن ساندت المنتخب المصري قبيل مواجهته نظيره الجزائري، قائلة: "بإذن الله سيفوز الفراعنة، وسيصلون إلى نهائيات كأس العالم، ويحققون نتائج طيبة في هذا المونديال". وغضب الجزائريون أكثر بعد أن قدمت نانسي عجرم أغنية خاصة بعنوان "مصر العروسة المحروسة" والتي أدتها في حفل ختام مهرجان الإعلام العربي وهي تحمل العلم المصري بين ذراعيها، احتفالاً بفوز المنتخب المصري على نظيره الجزائري في لقاء القاهرة.
وبالمثل، هاجمت أقلام جزائرية عبر الصحف والمواقع الإلكترونية الفنانة هيفاء وهبي، بعد أن ارتأت أن واجبها الوطني يحتم عليها تشجيع المنتخب المصري لكونها من أم مصرية ومتزوجة من رجل الأعمال المصري أحمد أبوهشيمة[13]. هيفاء التي قدمت في قلب الأزمة أغنية عن مصر عنوانها "80 مليون إحساس" من كلمات بهاء الدين محمد وألحان محمد الصاوي وتوزيع أحمد إبراهيم، قالت في تصريحات صحفية إن معظم اللبنانيين شجعوا المصريين، وأضافت مبررة انحيازها للجانب المصري إن "موقفي بالأساس هو ضد العنف فما حدث ليس له علاقة بالرياضة، وهناك لبنانيون كثيرون غضبوا مما حدث لأن الجزائريين لديهم قابلية للشر بشكل كبير، كما أنهم غير متقبلين لفكرة أن يفوز أحد عليهم"[14]. وردًا عليها، قالت صحيفة جزائرية إن "ذلك لم يضر الجزائر بشيء، فلا مرحبـًا، مثلما قال العديد من المواطنين، بفريق تناصره هيفاء صاحبة بوس الواوا"[15].
وعلى الوتيرة نفسها، غازلت الفنانة المغربية سميرة سعيد جمهورها في مصر، حين قالت: "أنا مصرية أكثر من أي شخص آخر، وأغار عليها جدًا، وأرفض بشدة ما حدث في السودان من قبل الجزائريين فمعروف أنهم متعصبون جدًا، نظرًا لأنهم عاشوا حروبـًا لسنوات طويلة، لكن هذا لا نعتبره مبررًا لما بدر منهم من عنف بسبب مباراة كرة قدم، أما المصريون فمعروف أنهم شعب طيب". الأخطر هو قول سميرة: "لا يوجد تكافؤ بين جمهور الفريقين، فالمشجعون الذين ذهبوا من مصر فنانون ومثقفون ورجال سياسة وصفوة المجتمع، أما الجزائريون فأرسلوا جمهورًا من طبقة أخرى، لذلك كان لابد من إرسال المشجعين المصريين الحقيقيين، وخاصة مشجعي المناطق الشعبية الذين يستطيعون خلق نوع من التفاهم مع الجزائريين"[16]!
وغضب مصريون من نجمهم المفضل تامر حسني بعد أن نشرت بعض مواقع الإنترنت صورة له وهو يرفع علم الجزائر، على رغم توضيحه أن الصورة التقطت له في إحدى الحفلات التي أحياها في الجزائر قبل فترة وجيزة من وقوع الأزمة.
غواية جماهيرية جرفت كثيرين بعيدًا عن الحقيقة.
وعلى رغم محاولات بعض الفنانين إخماد نار الفتنة، مثلما حدث في الحفل الغنائي المشترك الذي جمع النجمين محمد منير والشاب خالد في 12 نوفمبر - قبيل مباراة القاهرة- على مسرح أكاديمية أخبار اليوم في مدينة 6 أكتوبر[17]، فإن مساحة سوء الفهم بقيت قائمة، بل إنها أخذت منحى أكثر خطورة.
هوامش

[1] ياسر عبدالعزيز، مصر مرتبكة، مصدر سابق.
[2] ياسر عبدالعزيز، خطايا الإعلام، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 29 نوفمبر 2009.
[3] خليفة جاب الله، أصحاب القنوات الخاصة يحملون مقدمي البرامج الرياضية مسؤولية أزمة مباراة الجزائر.. ويدعون إلى التوحد خلف هدف وطني، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 26 نوفمبر 2009.
[4] AFP, Egyptian intellectuals condemn politics of soccer violence, Daily Star, http://www.dailystar.com.lb/article.asp?edition_id=1&categ_id=4&Article_id=109146, November 27, 2009..
[5] _ الأمن يفرق تظاهرة أمام سفارة الجزائر.. ووقفة احتجاجية تحمل شعار "كرامة المصري أولاً"، مصدر سابق.
[6] عزيز مشواط، كرة القدم... أفيون الشعوب أم دين كوني جديد، مصدر سابق.
[7]  عمرو خفاجي، رقابة الانتخابات وأبطال (حرب) الجزائر، جريدة "الشروق"، القاهرة، 30 نوفمبر 2009.
[8]  رانيا أبوزيد، حرب الخضر والفراعنة.. نجوم يحشرون "أنفهم" في ما لا يعنيهم فيلقون ما لا يرضيهم، مجلة "هيا"، دبي، 26 نوفمبر 2009.
[9]  فهمي هويدي، بعد صدمة الخرطوم: الخطايا العشر، مصدر سابق.
[10]  وكالة أنباء الشرق الأوسط، نقيب الموسيقيين: منع المطربين المصريين من الغناء في الجزائر، جريدة "الشروق"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.
[11]  محسن محمود وحمدي دبش ومحمد طه، النقابات الفنية تقاطع المهرجانات الجزائرية.. والفنانون يختتمون مهرجان القاهرة السينمائي بوقفة احتجاجية ضد أحداث "معركة الخرطوم"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.
[12]  آسيا شلابي، الفنانون الجزائريون يدعون إلى مقاطعة السينما والأغاني والمسلسلات المصرية، جريدة "الشروق"، الجزائر، 20 نوفمبر 2009، ص 22.
[13]  رانيا أبوزيد، حرب الخضر والفراعنة.. نجوم يحشرون "أنفهم" في ما لا يعنيهم فيلقون ما لا يرضيهم، مصدر سابق.
[14]  محسن محمود، هيفاء وهبي: لا أخشى تهديدات الجزائريين، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 1 ديسمبر 2009.
[15]  قادة بن عمار، فنانون مصريون سقطوا في فخ التطرف وفرطوا في شعبيتهم بسبب المباراة، جريدة "الشروق"، الجزائر، 20 نوفمبر 2009، ص 22.
[16]  محسن محمود، سميرة سعيد: حبي لمصر أكبر من مباراة كرة قدم، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 29 ديسمبر 2009.
[17]  أمجد مصطفى، منير وخالد أذابا الجليد بالغناء، جريدة "الشروق"، القاهرة 13 نوفمبر 2009.

gravatar

اكتشفت أننا كنا نفهم المغاربيين خطأً..

توزيعة القوى السياسية والاقتصادية والإعلامية وحتى الفنية دائماً ما كانت تميل نحو الشرق ، دول البترودولار ودول الشام وحتى مصر .. حتى الفنون في ليبيا وتونس والمغرب والجزائر كانت شبه مهمشة في مصر..

الشللية العربية استفزت المغرب العربي ، وجعلته يشعر أكثر بأنه منطقة درجة ثانية ، وكلما زاد هذا الشعور احتاج لأن يتعامل بشيء كبير من الندية مع الدول العربية الأخرى ، ندية لا تتناسب معها التناكة التي تمارسها دول ومؤسسات إعلامية مختلفة في ربوع المشرق العربي..

ما يحدث في مباريات كرة القدم ليس إلا مجرد عرض صغير لمشكلة كبيرة.. يفترض بنا الآن ، وليس بعد ، أن نعيها ونفهمها..

gravatar

قلم جاف


الاكتشافات المتأخرة، آفتنا

الشعور بالإقصاء والتهميش، يقود إلى حماقات لا تقل عن حماقة جهلنا بالآخرين

دمت بكل خير يا شريف

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator