عبد الحليم حافظ..موظف الثورة
وعلى صوت عبد الحليم عاش المصريون فترة من الزمن وهم يشعرون بأن إزالة إسرائيل أو إغراقها في البحر –وكان أحد شعارات المرحلة – أسهل من قضم قطعةٍ من الكعك
وعندما منع زكريا محيي الدين رئيس وزراء مصر عام 1966 عبدالحليم حافظ من الغناء، في أعقاب اتهامه بتهريب العملة إلى الخارج – إذ كان يسدد بها لعددٍ من الأشخاص جانباً من عائدات مصنع للأسطوانات كان مشاركاً في ملكيته في قبرص أو اليونان- تدخل عبد الناصر لإنهاء هذه المسألة، في الوقت الذي أجرى فيه عبد الحليم اتصالاتٍ هاتفية مع وزير الثقافة - ثم الإعلام- الدكتور محمد عبد القادر حاتم وكذلك مع شعراوي جمعة وزير الداخلية في ذلك الوقت. وهو الحوار الذي سمع فيه عبد الحليم من شعراوي: "ليس من المعقول أن تقدم مصر مطرباً يعبر عن ثورتها إلى محاكمة من هذا النوع". وهنا وجّه عبد الحليم الشكر العميق إلى شعراوي جمعة على هذا الموقف، مؤكداً محبته للزعيم جمال عبد الناصر
وفي عام 1964 وقع خلافٌ بين عبد الحليم وأم كلثوم بعدما أخرت دخوله إلى المسرح في حفلة عيد الثورة، وقال يومها قبل غنائه: "أنا مش عارف الغناء بعد أم كلثوم شرف ولا مقلب".وفي العام التالي، غاب عبد الحليم عن حفلة عيد الثورة بسبب موقفه من أم كلثوم، إلا أن جمال عبد الناصر رد له اعتباره عندما أعلن عن إقامة حفلة أخرى في الإسكندرية بعد الأولى بيومين وأصدر أمراً بأن يقوم عبد الحليم بإحيائها مع مَن يشاء من المطربين
وإذا كان صلاح جاهين قد شعر بمسؤوليته الأدبية عن الهزيمة وأدرك أن كلماته المشحونة بالحماس التي كان يعطيها لعبد الحليم حافظ كانت أحد أسباب وقوع الجمهور فريسة عالم خيالي نحن فيه الأفضل والأحسن والأقوى وما إلى ذلك من أفعال التفضيل الخادعة، فإن صلاح الذي كتب لعبد الحليم 15 أغنية - بدءاً من "إحنا الشعب" عام 1956 في أعقاب تولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية، ومروراً بأغنيات أخرى مثل "بالأحضان"، "صورة"، "المسؤولية"، "بستان الاشتراكية"، "يا أهلاً بالمعارك" - قرر أن يُكفِرَ عن هذه المسؤولية بالغرق في حالة من الاكتئاب حتى يوم وفاته
في فيلم "حليم" (إخراج شريف عرفة، 2006) يقول جاهين لعبد الحليم حافظ: "يا حليم إحنا جينا نغني للناس غنينا عليهم"، الأمر الذي أغضب عشاق جاهين الذين عاتبوا ابنه بهاء الذي قام بالدور على ترديده هذه المقولة، مع أنها تنطوي على قدرٍ كبير من الحقيقة المؤلمة
في عام النكسة قدم عبد الحليم بالتعاون مع عبد الرحمن الأبنودي وكمال الطويل عشر أغنيات متعلقة بالمعركة، لعل أشهرها أغنية "أحلف بسماها"، كما قدم أغنية "عدى النهار"
مبدئياً، لا بأس أن يؤدي أحدهم أغنية وطنية، ولكن من المهم أن نسأل عن مضمون ورسالة الأغنية. ولا بد أن نتذكر أن الأغاني الوطنية التي قدمها عبد الحليم وغيره تحولت إلى جرحٍ غائر في جسد المواطن المصري بعد حرب يونيو 1967، وبعضها أصبحت مثار سخرية مزعجة، لأن المواطن اكتشف فارق السنوات الضوئية بين الواقع والدعاية الصوتية التي كانت تتردد على مسامعه ليل نهار. صحيحٌ أن الأحلام مطلوبةٌ في تطلعات الشعوب، لكنها يجب أن تحترم العقل وأن تكون طبقاً للواقع ووفقا للإمكانات
إننا نتكلم عن فنان ارتضى لنفسه السقوط في براثن الدعاية السياسية وبيع الأوهام للمواطن العادي
إننا نتحدث عن عبد الحليم الذي غني في 23 يوليو تموز 1966 أغنية "المسؤولية" التي تقول كلماتها الحالمة:
"صناعة كبرى... ملاعب خضرا
تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا
في كل قرية عربية
دي مهيش أماني.. وكلام أغاني
ده بر تاني.. ده بر تاني
طب ما قريب يا معداوية يا معداوية"
لقد صعدت بنا حنجرة عبد الحليم بألحان وكلمات أسماء نحترمها جميعاً إلى عنان السماء، فإذا بالحقيقة المُرة تتكشف بعد أن نهوي على أرض الواقع لنجد آباء وأشقاء وأصدقاء لنا عائدين من أرض المعركة سيراً على الأقدام، منهكين ومصدومين، وهم يشعرون في حلوقهم بمرارة الهزيمة
ومع ذلك لم يستثمر عبد الحليم هذه الموهبة الفطرية التي يمكن أن توصف بالقبول أو الجاذبية، فتوقف عن دغدغة مشاعر الجمهور سواء بالأغاني الحماسية الوطنية التي أدت إلى نتائج عكسية بعد حرب يونيو 1967 أو بالأغاني العاطفية التي كان يشدو بها سواء في حفلاته الغنائية أو أفلامه التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل. فهو يقدم لنا نفسه دائماً في صورة الشاب الضعيف المكافح الذي يعاني فقد الحبيبة أو هجرها فيكتم أحزانه ولا يترجمها إلا غناء، حتى يأذن له الله بالنجاح والشهرة المدوية
بل إن مؤلفاً آخر هو -مفيد فوزي- خصص فصلاً كاملاً في كتابه يحمل عنوان "صديقي الموعود بالعذاب عبد الحليم" (مطابع روز اليوسف، 1991) يتحدث فيه عن مأساته الشخصية حين تعرض للفصل من مؤسسته الصحفية التي يعمل بها. عضو ثالث من الأعضاء المؤسسين للرابطة المذكورة –وهو مجدي العمروسي- ظل لسنواتٍ طويلة يعتبر عبد الحليم مياهه الإقليمية التي لا يجوز لأحد الاقتراب منها، بعد أن نصب نفسه حاكماً بأمر "السبوبة" على تراثه وأعماله الفنية، وكان ثمرة هذا الاحتكار العاطفي كتابه "أعز الحبايب" (1994)