المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

في البيت بيتك





بيني وبين التليفزيون المصري حكايات يطول شرحها

لكنني وافقت هذه المرة على الظهور على شاشته لأسباب كثيرة.. من بينها أن الدعوة تأتي من الصديق العزيز محمد هاني رئيس تحرير برنامج "البيت بيتك" وهو أيضاً مدير تحرير روز اليوسف

كما أنها فرصة للقاء صديق آخر هو عادل حمودة رئيس تحرير جريدة "الفجر" الذي سبق أن عملت معه مديراً لتحرير جريدة "صوت الأمة" أيام كان هو رئيس تحريرها

أما البرنامج فهو "البيت بيتك".. وأما المناسبة فهي أول أيام عيد الأضحى المبارك..والفقرة ستكون قراءة في أهم أحداث عام ألفين وستة محلياً وعربياً وعالمياً..مدة الفقرة نحو أربعين دقيقة

أعتقد أن موعد عرض البرنامج سيكون بعد العاشرة مساءً بتوقيت القاهرة

صحيح أننا لا نستطيع قول كل ما نريد قوله على شاشة التليفزيون المصري.. لكن الرسائل ستكون واضحة ولن تخطئها العين

موعدنا إذاً على القناة الثانية للتليفزيون المصري مساء السبت الموافق الثلاثين من ديسمبر كانون أول

ربما لا تسعفني معرفتي التكنولوجية في تحميل الفقرة التليفزيونية على المدونة.. ولذا أرجو أن يبادر صديق من أصدقاء المدونة مشكوراً بتسجيلها على الإنترنت حتى يمكن لاحقاً تحميلها على موقع المدونة إن أمكن

انتظرونا في العيد

وكل عام وأنتم ومن تحبون بخير
تابع القراءة

gravatar

فتش عن"التوربيني" الكبير















يا.. كبدي

تعبير مصري صميم يستخدم للعطف على شخص أو التعاطف معه حين يعاني من ألم أو يتعرض لأزمة أو تسحقه قوة تفوق قدراته

هكذا لخص المصريون ببساطة علاقاتهم مع الآخرين.. بالكبد

لكن أكباد المصريين لم تعد قادرة على الصمود..انهارت تحت وطأة نظام فاسد فعل كل شيء من شأنه تليف تلك الأكباد وإصابتها بالأمراض التي تأكل أصحابها أكلاً

وفي بلد مثل مصر تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد المصابين بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي "سي" يبلغ 12% من عدد سكان المحروسة، وهو ما يقارب عشرة ملايين مصري. وبهذا تحتل مصر المرتبة الأولى على مستوى العالم في الإصابة بالمرض

تقديرات مخيفة لهذا المرض.. وتصورات مختلفة لسبب انتشاره مع أن السبب الرئيسي معروف: السلطة التي شاخت في مواقعها فلم تعد ترى في صحة المواطن أولوية تذكر، وانصرفت إلى إنفاق الأموال على تأمين المواكب الرئاسية وحماية الحاشية وشراء ولاء البطانة والتمهيد للتوريث
وفي بلد يهلك أبناؤه تحت وطأة مرض لايرحم.. رفعت القيادة الحكيمة في مصر شعاراً هزلياً مفاده: المحروسة..للمحروس

تريدون أن تعرفوا السبب في الانتشار المخيف لأمراض الكبد في مصر.. ابحثوا إذن عن "التوربيني" الكبير

انسوا رمضان "التوربيني" الذي ارتكب حوادث بشعة من اغتصاب وقتل وسرقة على أسطح القطارات وفي سراديب سرية ما بين الإسكندرية والقاهرة.. فهو في الأصل ضحية لبلطجي، في حين أن المجتمع بأكمله أصبح أيضاً ضحية لبلطجي أكبر
ورمضان ليس سوى تلميذ مبتديء في مدرسة "التوربيني" الكبير الذي أهلك الزرع والنسل ونشر بالإهمال تارةً والتواطؤ تارةً أخرى أمراضاً أصبحت متوطنة، تأتي في مقدمتها أمراض الكبد التي ترفع بعض التقديرات نسبة الإصابة بها إلى 25% من مجموع السكان..بل إن نسبة عالية من الإصابة وصلت إلى التليف والأمراض السرطانية، لتحتل أمراض الكبد المرتبة الأولى بين الأمراض في مصر بعد أن كانت في المرتبة السابعة

كل هذا يحدث والدولة بقيادتها ورمزها التي تتصدر صورها المبتسمة وسائل الإعلام ولافتات الدعاية تكتفي بالجلوس في مقاعد المتفرجين، كأن ما يجري للمصريين شأن خاص بمواطني كوكب زحل
إنها دولة تشبه تمثال الشمع الصامت وتحته شعار المرحلة : لا أرى .. لا أسمع .. لا أتكلم
والشاهد أن الحكومات المصرية المتعاقبة خلال ربع القرن الأخير فشلت في وضع سياسة واضحة لاكتشاف المرض وعلاجه والوقاية منه. هذه الحكومات لم تكن وحدها المسؤولة فهي في النهاية خاضعة للسلطة التنفيذية التي تقود المسيرة المظفرة وتتغنى بها الاحتفالات وتهتف لها حناجر رجالها وأعوانها وبطانتها المصابة بتليف في الضمير

تواطؤ مريب إذن بين الحكومات والحاكم أدى إلى إفساد أكباد المصريين من خلال الطعام الملوث والمطعم بالمبيدات المسرطنة والتطعيمات المهرمنة، ومياه الشرب المختلطة بالصرف الصحي والملوثة بالميكروبات والفيروسات. والذاكرة ما زالت تحفظ ما كشفت عنه حوادث التسمم الواسعة التي تعرض لها مئات المواطنين في بعض قرى الدقهلية والكثير من قرى مصر بشكل عام، والتي تنذر بتردي الخدمات الأساسية التي يتلقاها المواطنون خاصة السواد الأعظم من البسطاء والفقراء وسكان الريف والقرى الذين يشربون مياه ملوثة ويعانون من شتى أنواع التلوث البيئي وتردي الخدمات

ويكفي أن نشير إلى أن الملوثات أدت إلى ارتفاع ضغط الدم للشباب فوق 20 سنة إلى 26% كما تسبب الطعام الملوث في 35% من الإصابة بالسرطان

وعن النيل حدث ولا حرج.. فالنيل أصبح مصرفاً لعوادم مئات المصانع التي تلوث المياه بمخلفاتها ليل نهار والتي تحتوي على بعض المعادن الثقيلة الخطيرة على صحة الإنسان، والتي يصعب التخلص منها عند تكرير المياه، فضلاً عن تلوث مياه النيل بمياه الصرف الزراعي وما تحمله من كميات من المبيدات الزراعية الخطيرة. ونضيف إلى ذلك ما يلقى في النيل من مياه صرف صحي وخلافه من القاذورات

إن السلطة في مصر متهمة بالتسبب في وفاة مئات الألوف من أبناء الشعب بسبب أمراض الكبد، والإهمال الشديد في وضع منظومة إعلامية للوقاية والحد من هذا الوباء الخطير، وعدم وضع مخصصات مناسبة للبحث العلمي لإيجاد دواء مناسب لعلاج الفيروسات. وهي متهمة أيضاً بالفساد وإهدار المال العام عن طريق استيراد دواء انزفيرون طويل المفعول والخاص بعلاج الكبد بأسعار باهظة، في حين أنه كان يمكن توفيره بسعر يقل 1100 جنيه عن السعر الرسمي أي بسعر 350 جنيهاً بدلاً من 1450 جنيهاً

حال لا تسر أحداً..لكن الدولة تفضل الانشغال بأمور أخرى أهم من صحة أبنائها

لقد طرح الحزب الوطني حزمة من التشريعات بلغت ٤٨ تشريعاً على حد إحصاء وزير الدولة للشؤون القانونية والمجالس النيابية الدكتور مفيد شهاب، لإقرارها من البرلمان في دورته المقبلة، لم يتطرق تشريع واحد منها إلى صحة المصريين

دولة مسكونة بهموم البقاء وقيادة حريصة على أن تبقى في الحكم حتى آخر نبض فيها، من دون أن تسأل نفسها ماذا فعلت لحماية المصريين ورعايتهم صحياً، ولماذا تسكت عن انتشار أمراض الكبد وتجارة بيع الكلى والكبد في مناطق معينة تحت سمع وبصر وزارة الصحة

لم يكن مستغرباً في ظل هذا الإهمال الجسيم الذي أدى إلى استفحال المرض أن يتقدم نائب دائرة فاقوس بالشرقية فريد إسماعيل باستجواب إلى وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلي حول انتشار أمراض الكبد في مصر بصورة وبائية. فقد فشلت حكومة الدكتور أحمد نظيف -مثل سابقاتها- في السيطرة على المرض، لتبلغ حالات الإصابة والتليف والوفاة أرقاماً قياسية تهدد الأمن القومي لمصر

مصر.. نعم مصر التي كلما لامست قاعاً وجدناها تهبط إلى قاع آخر بفضل حكمة السلطة وبعد نظر القيادة وشفافية الدولة ونزاهة المؤسسات

لقد تحول الكبد إلى مرض اقتصاد قومى مع تزايد أعداد مرضاه.. حتى أصبح يمثل ثقباً فى الخزانة العامة للدولة ولجيوب المواطنين أنفسهم، حيث تتجاوز تكاليف العلاج اليومي عدة ملايين من الجنيهات في الأدوية مرتفعة الثمن.. لكنها لا توقف زحف نشاط التليف وفيروس سي الذي يتحول معه المرض إلى مجرد أجساد نهشها وحش لا يرحم

وفي غياب الدولة وإهمال السلطة عجز المصريون عن حماية أكبادهم من المرض، كما عجزت جيوبهم ودخولهم المتواضعة عن تحمل نفقات تدهور حالتهم الصحية، خاصةً في ظل حقيقة ارتفاع النفقات المادية -التي تتجاوز حدود قدرات أسرة أو حتى خزانة الدولة- لعلاج من يصل إلى مرحلة الفشل الكبدي عبر جراحات زرع الكبد


وفي بلدٍ محاصر بالأمراض والأزمات يبدو التبرع حلماً بعيد المنال، مما يزيد من حدة الأزمة لأسر تبكي مرض أحد أفرادها وتقف في طابور انتظار أمل زرع كبد للعودة من جديد إلى الحياة


ولكن ماذا عن الدولة؟


لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.. فالدولة تستعد دوماً للاحتفالات وفي مطابخها يوجد طهاة بارعون للأرقام والإحصائيات التي تجمل وجه النظام وتشير إلى أن مصر قوة عظمى وعملاق ناهض ونمر على النيل وما إلى ذلك من تخاريف

هي في الحقيقة نمر من ورق.. رسمته سلطة كرتونية

السلطة في مصر هي من بث السرطان في النفوس بتلويثها الزرع والسماد ونشرها "فيروس سي" في أكباد المصريين وتدميرها كلى الشباب بعد تلويث مياه الشرب

ولم نسمع مثلاً عن برنامج وقائي فعال تنفذه الدولة للحد من أسباب أمراض الكبد الوبائية التي تبدأ بالبلهارسيا وتلوث المياه والطعام والهواء. ولم نر تحركاً جاداً لتخفيف المعاناة التي يعيشها مرضى الفشل الكبدي في انتظار الأيدي الرحيمة لالتقاطها قبل أن تنهار بها جسور الحياة

عندي لكم مفاجأة


هناك من يقول بأن استخدام السرنجات خلال الخمسينيات والستينيات في الحقن خلال حملة مكافحة البلهارسيا في مصر بالطرطير هي السبب في انتشار أمراض الكبد في مصر. لكن الدراسات كشفت أن نسبة 19% فقط ممن تم حقنهم بالطرطير في هذه الفترة تم اكتشاف فيروس "سي" لديهم وبالتالي فلا يمكن أن نجزم بأن استخدام السرنجات الزجاجية هو السبب في انتشاره فلماذا لم ينتقل إلى 81%

ووفق الأبحاث والدراسات التي تم إجراؤها فإن هناك تراكمات للعديد من الأسباب من البلهارسيا ومضاعفاتها في حين أن 50% من المرضى غير معروف مصدر إصابتهم به
تراكمات ناجمة عن الفساد والإهمال والجهل.. فأما الجهل فموجود ومعروف، لكن ما يعنينا هنا هو ذلك التحالف المشبوه بين الفساد والإهمال في وطن تقوده سلطة أدمنت الأصفار في كل المجالات: من الساحة السياسية إلى ميادين الرياضة ومن مؤسسات الثقافة إلى دور التعليم ومن وسائل الإعلام إلى مواقع السياحة


سلطة تمنع عن مواطنيها سبل الحياة الكريمة وتدفعهم دفعاً إلى مزيد من الانهيار والتدهور، وتطاردهم وتزج بزهرة أبناء هذا الوطن إلى المعتقلات والسجون بدون محاكمة. سلطة تتشبث بالمقاعد أكثر مما تتمسك بكرامة المواطنين، وتحرص على قانون الطواريء أكثر مما تطالب بحقوقها في دير السلطان وأم الرشراش مثلاً، وتسعى إلى الإثراء غير المشروع وتولية من لا يصلح أكثر مما تسعى إلى استعادة دورها الإقليمي ومكانتها الدولية التي استبيحت وانتهكت، وهي عن ذلك مغمضة العينين ومقيدة اليدين

وفي عهد الرئيس حسني مبارك تنهش البلهارسيا أكباد المصريين، ويعيش ثلاثة ملايين مصري في المقابر، ويغرق أكثر من ألف في عبارة يملكها نائب له صلا واسعة بالمقربين من أهل الحل والعقد، ويُحرق مثلهم في قطارات متهالكة ويُلقى كثيرون مصرعهم على طرقات لم تنل حظها من هندسة التخطيط والنقل.. ويموت أكثر من ذلك من المشردين في شوارع جانبية وقرى نائية لم يصل صوتها بعد إلى قصر العروبة

لعلكم تذكرون ما كتبه الزميل الصحفي مجدي مهنا في 25 نوفمبر الماضي في عموده "في الممنوع" في جريدة "المصري اليوم" بعد تجربة أليمة مع المرض انتهت بزرع كبد جديد له. يومها تحدث مجدي مهنا وتحت عنوان "وصيتي" عن محنته الشخصية مع المرض الذي يشير إلى أن هناك مليوني مصري من بين مرضاه يحتاجون إلى عملية زرع كبد. وبحسبة بسيطة تبلغ هذه الفاتورة ثمانية مليارات جنيه، أي بما يزيد على حجم ميزانية مصر السنوية بأكثر من عشرين مرة كارثة بكل المقاييس..والكارثة الأكبر هي كيف وصل بنا الحال إلى ما هو عليه؟

ويتساءل كاتب المقال: "من المسؤول عن هذه الجريمة التي لم تكن معروفة من قبل؟ وفي أي سنوات وفي أي عهد انتشر هذا الداء الخبيث؟ وأي حكومات تتحمل هذه الجريمة؟ هل توجد غير حكومات الحزب الوطني، الذي يحدثنا كل يوم عن الإصلاح الكاذب؟"

والإجابة على هذه التساؤلات بسيطة ومشروعة: لا توجد غير الحكومات المتعاقبة، والسلطة التي تحركها كالدمى وعرائس الماريونيت. هي المتهم الرئيسي في تدهور حال المصريين وانتشار أمراض تنهش أكبادهم حتى صارت دول عربية تفرض شروط اجتياز اختبارات وتحاليل طبية لكل مصري يريد العمل بها للتأكد ما إذا كان هناك نشاط للفيروس من عدمه من خلال تحليل الأجسام المضادة. وكم من مواطن مصري تحطمت آماله عند صخرة هذه الاختبارات الطبية بعد أن يكتشف أنه مصاب في كبده في هذا العهد الميمون


دعونا نتذكر أنه خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كانت مصر تعاني من تناقض شديد ناجم عن وجود قوائم تحذيرية من استخدام أو تسويق أو استيراد عشرات الأنواع من المبيدات الزراعية في صورة جدول، وأمام كل نوع منها كتب اسم المرض الذي تسببه، وأقلها: سرطان الرحم والدم والكبد والمثانة

غير أنه في المقابل كانت تلك المبيدات -التي حذرت منها وزارة الزراعة أيام الدكتور يوسف والي- موجودة في السوق وتباع بسهولة ويسر. ثم تبين بعد ذلك تورط قيادات من وزارة الزراعة وجهات أخرى في فضيحة نشر المواد المسرطنة والمسببة للأمراض التي نشرت الأمراض في بيوت المصريين بلا حساب

والسؤال هنا: من المسؤول.. وزارة الزراعة أم القيادة التي عينت هذا الوزير؟ ومن نحاسب.. وزيراً بقي في منصبه نحو عقدين من الزمان أم القيادة التي منحته صك فعل ما يحلو له، فكانت النتيجة الفتك بأجساد ملايين المصريين؟ من يستحق أولوية المواجهة.. اللصوص الصغار والموظفون المرتشون في المكاتب والمؤسسات الحكومية أم اللصوص الموجودون على رأس الهرم الذين فسدوا ونشروا فسادهم بيننا وتحركهم مصالحهم الشخصية والعائلية؟ ألا يكفينا الوباء السياسي الحالي..حتى يعاني المواطنون من أوبئة وتسمم غذائي بسبب الفساد والإهمال وتردي الخدمات؟

إن مصر بهذه القيادة تسير نحو هاوية سحيقة بلا قرار.. هاوية زخرفتها أبواق الدعاية الرسمية بكلمات أغنية سعاد حسني "الدنيا ربيع والجود بديع.. قفلي على كل المواضيع.. قفل.. قفل"

الوقاية خير من العلاج

مقولة قرأناها وتعلمناها كثيراً، فلماذا لا نعمل بها في مجال حماية أكبادنا من الأمراض التي قد تفتك بها.. وأيضاً في مجال مواجهة فساد سلطةٍ أصبحت تفتك بالجميع من دون تفرقة وتوزع الظلم والقهر علينا كأنها حصتنا التموينية؟

أكباد المصريين في خطر.. والفاعل معلوم للجميع

فلنبدأ بمحاسبة المخطئين والمقصرين

ولنبدأ ب"التوربيني" الكبير
تابع القراءة

gravatar

(2) حكايات المصريين المغتربين مع أهل الزُنبة والإسفين


"والحقيقة أن صنعة الخازوق تعتبر جزءاً من تكويننا الخاص..فكلنا خوازيق على درجات متفاوتة..وندر أن عرفت مصرياً نجا من عيب الخوزقة"

هذه الفقرة التي أوردها الدكتور حسين مؤنس (28 أغسطس آب عام ألف وتسعمئة وأحد عشر- 17 مارس آذار عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين) في كتاب "المصريون والحضارة" تبدو صحيحة من منظور كثيرين ممن يرون أن المصريين يعشقون تدبير المقالب والمكائد لبعضهم البعض..حتى أصبح الإقدام على مثل تلك الأفعال الشائنة مقبولاً ومألوفاً لدى هؤلاء الدساسين
ويستفيض د. مؤنس في سرد نماذج من أصل الخوازيق الذين تعامل معهم على مدار حياته من ألاعيب وحيل المدرسين والفراشين في مدرسة دكرنس الابتدائية التي كان ناظراً لها يوماًَ ما..والخادم رجب الذي أراد أن يتزوج للمرة الثانية من فتاة صغيرة يسكن معها في غرفته في شقة د.مؤنس..إلى رجل الأعمال الناجح في النمسا فوزي متولي صاحب فكرة تمثيل أوبرا عايدة في معبد الأقصر..الذي استدعته سلطات محافظة الأقصر عقب هذه الاحتفالية لتطالبه بإزالة المباني والإنشاءات التي أقيمت لعمل المسرح وقاعة العرض وترتيب المناظر..بدعوى أنه صاحب المشروع..وهذه هي طريقة شكرنا للمواطن الذي قدم هذا المشروع العظيم: أعطيناه خازوقاً محترماً حتى لا يعود مرةً أخرى إلى خدمة بلاده

وينبه د.حسين مؤنس إلى أن العمل الجماعي في مصر مستحيل في ظل الخوازيق التي ندبرها لبعضنا البعض.. "وسواء أكنا في مجلس المدرسة أم مجلس الكلية أم مجلس الأمة فإن النكد والصراخ والسباب هو أسلوبنا في التفاهم أو عدم التفاهم بتعبيرٍ أصح..وكل شركاتنا التي ينشئها أكثر من مواطن لابد أن تتحطم على خوازيق الخلاف وسوء الظن والاتهام"

ويضيف الكاتب قائلاً:" ونحن في العادة نستقل كل شيء على أنفسنا ونستكثر كل شيء على الآخرين.وهذا هو بيت الداء. فإذا كنت تشعر أن غيرك أخذ ما لا يستحقه..وأنك أنت الذي تستحق هذا الشيء..فإنك قد تفكر في التنكيل بالشخص الآخر والنيل منه..ولو كان ذلك بطريق الحيلة والخداع والمكر"

ويذهب د.مؤنس إلى ما هو أبعد من ذلك فيقرر أن معظم هؤلاء الموظفين الذين تراهم متربعين على المكاتب في الإدارات خوازيق..ومن المستحيل أن ينجز الواحد منهم عملاً من تلقاء نفسه ولابد من أن تسعى إليه وتجري بين يديه لتسلك أمورك لأن شعورهم بك منعدم. ومعظم الخدم الذين يعملون في بيوتنا خوازيق. إنهم يعيشون على مالك ويتقاضونك برواتب باهظة ولايكفون عن عمل الخوازيق.. وهم في أيامنا هذه لا يحسنون التنظيف ويأخذون سمسرة على كل ما يشترون لك من الخارج..ويلهفون كل ما غاب عن بصرك من أشياء بيتك..ولايكاد الواحد يحمل لك في قلبه أي تقدير أو محبة..وجيرانك خوازيق..فهم لا يتعاونون معك في شيء يهم البيت في مجموعه..والسُلم –وسُلم الخدم خاصةً- مزبلة ولكنهم لا يتعاونون قط في التنظيف أو نفقاته..والدنيا عندهم تنتهي عند أبواب شققهم"

ويواصل الكاتب والمؤرخ المعروف وصف حالتنا فيقول: "أما العمال في أيامنا فخوازيق أصلية..فهم لا يتقنون العمل قط ويتقاضون الأجر الذي يقررونه.ولا يصدقون في موعد قط..وبكره عندهم معناها الأسبوع القادم..ويوم العمل عندهم يبدأ مع الظهر وينتهي في الثالثة بعد الظهر..ويقولون: أصل الدنيا صيام بقى وكل سنة وأنت طيب". ويتابع قائلاً:"وأسوأ العمال هم عمال الحكومة الذين يأتونك عشرة ليضعوا سلكاً..وكل واحد من العشرة يطلب بقشيشاً والبركة فيك بقى يا سعادة البيه..وكل سنة وأنت طيب..وتدفع البقشيش فيقولون لك وهناك اثنان من زملائنا تحت في السيارة..وكل سنة وأنت طيب! ولا تتعجب من ذلك فنحن في أيامنا تلك خوازيق..ولو كانت الخوازيق تصدر لكنا أغنى بلد في العالم"

ربما يرى البعض أن د.حسين مؤنس متحامل على المصريين أو يشوه صورتهم ويسيء إليهم..لكن الحقيقة غير ذلك, فهذا المؤلف الكبير الذي تقلب في وظائف مختلفة وشد رحاله إلى بلاد متعددة ووضع مؤلفات متنوعة في الحضارة الإسلامية وفلسفة التاريخ.. مثل: "التاريخ والمؤرخون" و"الحضارة" و"أطلس تاريخ الإسلام" و"فجر الأندلس"..كان ينكأ بإصبعه هذا الجرح النازف..محاولاً أن يشير إلى خطورة هذه الخوازيق على حياة وطبائع ومستقبل أبناء مصر. إنه النقد الذي يبني ولا يهدم..والألم الذي يصرخ من أجل وطن تنهش في جسده رابطة الخوازيق المحلية

وإذا لم نحاول أن نكشف أعراض هذا المرض الاجتماعي فلن نفلح أبداً في القضاء عليه والتخلص منه..لأننا نرى في عشق المصريين للخوازيق أمراً غريباً ينبغي التصدي له بحسمٍ وحزم..بدلاً من أن تبقى صورة مصر هي تلك التي رسمها التاريخ
لسليمان الحلبي حين جرى قتله عام ألف وثمانمئة في حفلةٍ على الخازوق بعد أن حكم عليه الفرنسيون "بحرق يده اليمنى وبعده يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور" كما ورد في "المختار من تاريخ الجبرتي"

ولو نظرنا في تاريخ مصر سنجد أن المصري قد ابتدع ما يُعرف ب"ثقافة التحايل" كنتيجة للقهر الاجتماعي الذي تعرض له في عصور مختلفة. بل إن المصريين تفوقوا في هذا الفن وأضافوا فكرة مجاملة من يكرهون. إلى حين سقوطه وتراجع سطوته

وهكذا نجد البعض يلجأ إلى جملة من أساليب المكر والخداع السلوكي واللفظي واستنباط أصول "الحداقة" و"المفهومية"و"الاستعباط"..لتكثر عمليات النصب والاحتيال والمحسوبية والرشوة..ولينتشر النفاق ومجاملة أصحاب السلطة والنفوذ. ومن رحم هذه الظواهر الاجتماعية التي تنضوي تحت لواء"ازدواجية التنظيم الاجتماعي"..برزت مجموعة من السمات لدى قطاع من المصريين..مثل الانتهازية والرهبة والسخرية والاستهزاء والتحايل..واستخدام سلاح تأليف النكات وإطلاق الشائعات

ويعزو البعض المقالب التي يدبرها المصريون ضد بعضهم البعض –خاصةً في بلاد الغربة- إلى عوامل أخرى.. مثل شيوع ثقافة الاستبداد وتوارثها بين الأجيال المختلفة من خلال محتوى وأساليب التنشئة الاجتماعية التي تسود كل مؤسسات التنشئة في المجتمع المصري.. من الأسرة والمدرسة إلى مؤسسات الإعلام ودور العبادة حتى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني. فثقافة الاستبداد تصنع أيضاً صوراً مختلفة من التحايل والالتفاف على القانون بدلاً من احترامه..والأنانية وحب الذات بدلاً من الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية.. والرغبة في الصعود والترقي بأي وسيلة كانت –بغض النظر عن مدى مشروعيتها- ولو كان ذلك على حساب الآخرين وحقوقهم

وفي كتابه "سيرة حياتي" المكون من جزءين نجد الكاتب الموسوعي وأستاذ الفلسفة الدكتور عبد الرحمن بدوي (4 فبراير شباط عام ألف وتسعمئة وسبعة عشر- 25 يوليو تموز عام ألفين واثنين) يطلق النار على كل من ساعدوه وزاملوه بل وعاصروه
وهكذا يقول الكاتب والمحقق والمترجم د. عبد الرحمن بدوي إن تاريخ سعد زغلول مؤسس حزب "الوفد" تاريخ شائن ينضح بالخيانة والوصولية (ص48).. وإن الشيخ محمد عبده مصلح مزعوم (ص51).. وإن عباس محمود العقاد كاتب مأجور ولا يتورع عن القول إنه أوصى باستخدام العنف معه (ص133). وعدا إعجابه بأستاذه مصطفى عبد الرازق (الذي ساعده مساعدة خاصة) وأستاذه الآخر أندره لالاند.. فإنه يقلل من شأن كل أساتذته الآخرين بمن فيهم الدكتور طه حسين وإيفانز برتشارد الذي يتهمه بأنه ذو نزعة استعمارية (ص114)

ويقول د. بدوي - الذي وضع أكثر من مئة وخمسين كتاباً يعد بعضها من المراجع الرئيسية في مجالها- إنه عندما بدأ في تحضير رسالة الماجستير: "مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة" بدأت معها متاعبه الجامعية التي لا تنتهي مع الكبار والصغار. فأحمد أمين رجل حقوق.. ضيّق الأفق.. تأكل قلبه الغيرة من كل متفوق ومن كل متقن للغات الأجنبية (ص153)..فيعرقل لأسباب شكلية تافهة قبول الرسالة فتتأخر مناقشتها سنة. وحين بدأ التدريس في الجامعة نشبت مشكلات مع زملائه.. العائدين حديثاً من البعثات التي أوفدوا إليها في أوروبا "من دون أن يحصل أي واحد منهم على الدكتوراه رغم تمضيتهم في بعثتهم عشر أو تسع سنوات". والسبب في ذلك - حسب رأيه- قلة الذكاء المقرونة بالكسل وعدم الرغبة في العمل والتحصيل (ص 156).. ولم يكن سلاحهم في التنافس.. العلم والإنتاج العلمي.. بل الدس والوقيعة والوشاية والتزلف إلى ذوي النفوذ داخل الجامعة وخارجها (ص 157)

وليس د. مؤنس ود. بدوي سوى مثالين من أمثلة يصعب حصرها لعلماء ومفكرين مصريين تحدثوا عن ظاهرة المكائد والعداوة والحقد بين أبناء الوطن الواحد.. وكتبوا عن معاناتهم من تلك الدسائس والمقالب التي لا تنسى

غير أن المكائد لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ

فالأساطير المصرية القديمة على العديد من القصص عن الدسائس والمؤامرات




وربما كانت من أشهر هذه القصص قصة أوزوريس.. حيث قام أخوه ست بتدبير مؤامرة ضده. وبالفعل قتل أوزوريس وقطع جسده إلى قطع وأُلقي به فى النيل. وعندئذٍ بحثت إيزيس.. زوجة أوزوريس عن زوجها وجمعت أجزاء جسمه مرة أخرى وبعثته في العالم الآخر كملك حي ورب في مملكة الموتى
وعن طريق السحر.. أنجبت إيزيس ابناً هو حورس الذي هزم ست



هناك أسطورة أخرى تحكي عن الزمن الذى دبر فيه البشر مؤامرة ضد رب الشمس رع. فقام رع بإرسال سخمت.. الصورة المنتقمة لحتحور.. لكي تقتل هؤلاء البشر. إلا أن سخمت استمتعت بهذه المهمة جداًً لدرجة أنها قضت على كل البشر تقريباً. وهنا خدع رع سخمت بأن سقاها كميات كبيرة من الجعة الملونة والتي تشبه لون الدم حتى توقفت عن القتل. كما اعتقد المصريون أن شو.. رب الهواء الجاف والرياح والجو كان ثاني ملك حكم بعد رع
وقام الجان الثعابين أتباع أبيبي بالمكيدة له واعتدوا عليه. واستطاع شو أن يهزمهم.. ولكنه مات نتيجة لمؤامرتهم.. وما لبث أن ثار عليه أتباعه.. فعاد شو إلى السماوات وترك عرشه لابنه جب رب الأرض

وعبر التاريخ المصري القديم.. كان الحكام عرضة للعنف وللمؤامرات السرية من أقرب الناس إليهم ففى عصر الأسرة الثانية.. عزل الملك حتب سخم وي من السلطة نتيجة انقلاب عسكري نظمه أخوه رنب. وملك آخر من الأسرة الثانية أيضاً.. هو الملك بر ايب سن.. ربما وصل إلى السلطة عن طريق التدبير لانقلاب ضد الملك ني نتر

وفي الأسرة الرابعة.. نجح رع دجدف.. وهو ابن للملك خوفو من زوجة ثانوية.. في الوصول للعرش بعد أن قتل أخاه الأمير كا وعب.. الوريث الشرعي للعرش. كما أنه تزوج من حتب حرس.. أرملة أخيه المقتول
وكذلك الملك تتي.. مؤسس الأسرة السادسة قُتِل أيضاً على يد حراسه. ويعتقد المؤرخون أن زوجته الملكة ايبوت -ابنة الملك ونيس من الأسرة السادسة- هي التي أعطته القوة الملكية. وهذه الملكة هي أم الملك ببي الأول.. الذي اختفت زوجته بعد أن تم كشفها في مؤامرة دبرها الحريم ضد العرش

كما يبدو أن الملك أمنمحات الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة.. قتل في العام الثلاثين من حكمه نتيجة لمؤامرة من الحريم. كذلك الحال بالنسبة للملك رمسيس الثالث الذى قُتِلَ إثر مؤامرة من الحريم

منطق التآمر وأسلوب المكائد بسبب الحقد والغيرة تكرر كثيراً في تاريخ حكم مصر..مثل واقعة قتل قطز
في عام 1260 بعد عودته منتصراً على المغول في معركة "عين جالوت" الشهيرة.. حيث يقول ابن تغرى بردي في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة": "إن بيبرس حقد على قطز لأنه لم يمنحه نيابة حلب..فاتفق على قتله مع جماعة. وفي لحظة ما كان بيبرس ينحني فيها ويقبل يد قطز..وإذا به يقبض على يد سيده ويضربه بالسيف. بعدها تقدم بيبرس إلى أتابك قطز (مدير مكتبه أو رئيس حرسه أو رئيس ديوانه بلغة العصر) فقال الأتابك: "من قتله منكم؟" فقال بيبرس: أنا.. فقال له الأتابك ببساطة: يا خوند..اجلس في مرتبة السلطنة.. فجلس"!

ولم يكن قطز أول أو آخر من جرى قتله في يوم انتصاره..فقد قُتِل الأشرف خليل أيضاً يوم انتصاره على الصليبيين..واغتيل الرئيس المصري أنور السادات في السادس من أكتوبر تشرين أول عام ألف وتسعمئة وواحد وثمانين خلال عرض عسكري إحياءً لذكرى حرب أكتوبر
وهكذا تجد دائماً هناك من يتربص بك هنا أو هناك.. مع أنه يفترض به أنه مثلك ابن هذه الأرض الطيبة
لكنه المرض الذي يستوطن القلوب والعقول كالداء ويستشري مثل ورم خطير.. فيدفع المصريين إلى استخدام سلاح الزُنبة والإسفين
وبدلاً من أن تتحقق مقولة الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف (عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثلاثين- 24 يناير كانون ثانٍ عام ألفين وأربعة) من أنه "في الغربة تتقارب المناكب".. نجد المصريين في الغربة يتشرذمون من دون مبرر ويقتتلون على كل شيء وأي شيء


عافانا الله ووقاكم شرور تلك الحرب الأهلية الدنيئة
تابع القراءة

gravatar

(1) حكايات المصريين المغتربين مع أهل الزُنبة والإسفين


















كأنها "نيران صديقة".. تصيب المصري أينما حل في بلاد الله: المكائد والدسائس

ولأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهند" فإن أشد الأمور إيلاماً أن يكون الذي أطلق تلك النيران مصري أيضاً.. وهكذا تسمع من يحدثك بمرارةٍ عن تلك الظاهرة المرضية: الخوازيق

الكل يشكو من الخوازيق..فمن إذن يصنعها؟

إنها حكاية كل يوم في المنزل والمكتب والشارع: شخص يدبر خازوقاً لآخر..ثم يتباهى في آخر النهار وسط رجاله أو شلته أو حتى زوجته بأنه أوقع فلاناً "في شر أعماله"..ولكن ما هي حكاية المصريين مع الخوازيق؟ ولماذا انتشرت المكائد والدسائس والحيل بين المصريين حتى أصبحت أمراً مألوفاً وحقيقة واقعة؟ وما هو التفسير التاريخي والتأصيل الاجتماعي لمصطلحات شعبية من عينة "الزُنبة" و"المهموز" و"الفخ" و"الإسفين" و"الصاروخ" في واقع المصريين داخل حدود وطنهم وفي بلاد الغربة؟

إنه شيء مذهل حقاً أن نجد المصريين يستمتعون بهذه الفكرة ويطلقون عليها أسماء عدة متنوعة وكأنها باقة من الزهور لتختار منها ما تشاء وتطلقه على ما تفعله بغيرك..ثم تحكيه في فخرٍ لتأكيد دهائك وتعزيز مكانتك والتشفي في الطرف الآخر الذي أوقعه حظه العاثر في طريقك

دعونا نبدأ من هذه الحكاية: المصري الذي يعمل في بلاد الغربة لزيادة دخله وموارده وتحسين ظروفه الاجتماعية..يحدثك أول ما يحدثك عن أسافين وخوازيق تعرض لها ومقالب أصابته من مصريين مثله..دمهم من دمه..لكنهم وقفوا في طريقه وحاولوا التخلص منه والتقليل من شأنه..بل وحتى دفعه إلى النفاد بجلده حتى يخلو لهم الجو
وكأننا في حرب أهلية.. تدور رحاها على أرض الغير


والذي عمل في الخارج – من دول الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة- يستطيع أن يقص على أسماعك حكايات وقصصاً لا يصدقها عقل عن عشق المصريين لتدبير المقالب و"إهداء" الخوازيق لبعضهم البعض..وكأنها هوايةٌ لا فكاك منها..أو رغبة في إزاحة هذا وذاك عن طريقه..أو محاولة للتقرب إلى صاحب العمل (غير المصري) وتأكيد الولاء له ولو كان ذلك فوق جثة مواطن مصري يدفع ثمن هذا الخازوق


في دولةٍ خليجيةٍ ما..كان هناك ساعٍ مصري في إحدى المؤسسات الصحفية يدعى "سعيد"..لا ترتسم على وجهه علامات السعادة إلا إذا صنع خازوقاً من العيار الثقيل لزميل مصري..إما عن طريق الدسيسة أو نقل كلامه محرَفاً إلى رؤسائه في الصحيفة..أو الإيحاء بأنه يفعل كذا وكذا..وكانت رغبته هذه في النيل من أهل بلده غير خافيةٍ على أحد. وكان يتبجح بالقول" أصل أنا بحب أقول كل حاجة ل"عمي"..وعمه هذا ليس سوى صاحب العمل أو رئيس التحرير الخليجي

وفي بلدٍ عربي آخر..ارتدت الوافدة المصرية الجديدة "إيناس" قناع الضحية لتدبر مكيدةً مع آخرين أزاحت بها أحد أبناء بلدها عن المؤسسة التجارية التي يعملان بها.. بعد أن شعرت إثر مواجهة بينهما بأنه عقبة في طريق صعودها إلى مواقع وظيفية أعلى

ترى..كم "سعيد" يملك المصريون في الداخل والخارج؟ ولماذا تخصصت النسخ البشرية من "إيناس" في النيل من المصريين دون غيرهم؟ وما هو شعور وتبرير هذا الطابور الطويل من صانعي الخوازيق و"الزُنب" و"المهاميز" لأنفسهم الذي يجعل ضميرهم في مناعةٍ تامة من أي تأنيب ضمير على ما يرتكبونه في حق غيرهم وفي حق أنفسهم؟

إن الإجابة على هذه التساؤلات تدفعنا تدفعنا إلى الحديث عن صناعةٍ خطيرة هي صناعة الخازوق في مصر

في سياق تفسيره وتأصيله لظاهرة الخوازيق في مصر.. يقول "ع. ع" مؤلف كتاب "تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة" إن الخوازيق ظهرت نتيجة حكم الرقيق الذي تبلورت فيه نظمهم السلوكية الحاكمة بشكل نهائي في دولة المماليك في ظل الدولة العثمانية. نحن إذن في مصر وبعض بقاع العالم العربي والإسلامي متفردون في هذا النظام الغريب (الرقيق حاكم الأحرار) أو (الرقيق مسترق الأحرار)..وهل يقبل رقيق أن يكون محكومه حراً؟

في هذه الحالة كان من الطبيعي أن يتفنن العبد عندما يصبح حاكماً في الإيقاع بين مجموعات العبيد (المماليك) التابعين له..خاصةً إذا كانوا من المجلوبين أو المجاليب (أي العبيد الكبار الذين يتم شراؤهم)..ولم يكونوا من الترابيين (أي العبيد الذين تم شراؤهم صغاراً وتربوا على يدي أستاذهم). ونتج عن ذلك تبلور مفاهيم "المهموز" و"الدبوس" و"الزُنب" (جمع زُنبة) وهي مفاهيم مملوكية أصيلة مازالت مستخدمةً بألفاظها غالباً وإن كان المصريون قد عبروا –بعد ذلك- عن المعنى نفسه بألفاظ أخرى مثل"التدبيس" بمعنى تلفيق التهمة..أي إسناد تهمةٍ لشخصٍ بريء. والكلمة تستخدم غالباً في مجال إظهار البراعة.. براعة الكاذب في إسناد التهمة لبريء

و هناك أيضاً "التلبيس" ومعناها لا يختلف كثيراً عن "التدبيس"..وهما إضافة إلى "الدبوس" و"المهموز" نماذج للتراث المملوكي الأصل. وربما يمكن القول إن مثل هذه الأمور هي النسق العام والمسلك الطبيعي بحيث لا تؤدي إلى أي إحساس بالندم بمعنى فصل الأخلاق عن السياسة الداخلية وتحت ستار "الشغل شغل"..إلخ..فإن هذا يؤدي إلى عواقب وخيمة لا تصلح معها قوانين إصلاحية أو تشريعات..فيصبح الحاصلون على المكافآت ليسوا بالضرورة من يستحقونها..ومن يحصلون على علاوت تشجيعية ليسوا بالفعل من يستحقون التشجيع..وقد رصد الفكر الشعبي كثيراً من هذه الأمور في حكمه وأمثاله

وتكون المصيبة أكبر والخوازيق أكثر صراحةً والزُنب على المكشوف حين يكون المصريون في بلاد الغربة. بعبارةٍ أخرى.. فإن المصريين بأسهم بينهم شديد..فتكاد لا تجد بينهم روح الجماعة أو القبيلة أو العشيرة..وتختفي حالة التكاتف والتضامن إلا فيما ندر في حين أن التحالف أمر شائع ومألوف بين الآخرين مثل السودانيين والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والتوانسة والجزائريين والموريتانيين الذين يحولون في بعض الحالات تجمعاتهم إلى "لوبي" في مكان العمل أو حتى البلد الذي يقطنونه. أما المصريون فقد يبلغ بعضهم عن الآخر كذباً وباطلاً أو بأسلوب "حق يُراد به باطل"..يتحالفون تحالفات مؤقتة لإسقاط الناجح منهم..يكونون تجمعات صغيرة ضد تجمعات صغيرة أخرى.. ويتناحرون على أي شيء

وليس بمستغرب والحال كما نقول أن تعجز –إلا فيما ندر- عن رصد جالية مصرية في الخارج تحافظ على مصالحها وتحمي أفرادها وتتدخل بقوة لرعايتهم من مختلف الأوجه. وتظهر التشرذمات (المملوكية) بين المصريين في الخارج (بلاد الغربة) بشكل أوضح بكثير مما تظهر داخل مصر نفسها

دعونا نتصور موظفاً أو مدرساً قابل رئيسه أو ناظر مدرسته في بلاد الغربة وجمع بينهما العمل في مكان واحد..كيف ستكون العلاقة بينهما؟

إن الوقائع والشواهد ترجح أن يحاول المرؤوس النيل من رئيسه السابق والإيقاع به والتحريض عليه وتعريضه لشتى أنواع الإهانات وما يسميه المصريون "قلة القيمة". إن المرؤوس في هذه الحالة يتصرف تصرف المملوك الذي أفلت من قبضة (أستاذه) أو المملوك الذي يسعى بدوره لتكوين (مجموعة) خاصة به ضد مجموعة رئيسه السابق (المملوك الآخر) ليبدأ المملوكان في الصراع للوصول إلى السلطة...وهي قد تكون هنا الوصول إلى قلب صاحب العمل (وهو في الغالب الأعم غير مصري)

وعادةً ما ينجح المرءوس أو الموظف الأقل درجةً في مصر في تحطيم رئيسه السابق أو الشخص الأعلى درجةً في مصر لأنه قد يلجأ إلى أكثر الأساليب وضاعةً وخسةً كي يحقق مأربه..إلا إذا كان المسؤول الأعلى درجةً ماهراً في إعطاء "زُنبة" مملوكية أصيلة للموظف الأقل درجةً مما يجعل صاحب العمل العربي أو الأجنبي يسخط عليه

الطريف أن نظرية "الأعداء غير الكاملين" قد تظهر بين هذين الخصمين...إذ يصبحان –الكبير والصغير- صديقين في الظاهر ويمارسان لعبة النفاق بمهارة، في حين أن الألاعيب والدسائس مستمرةُ في الخفاء..وكلٌ منهما يعلم تمام العلم أن المصائب أو المشكلات التي يقع فيها مصدرها الطرف الآخر

وليس الفقر الذي يعانيه قطاع واسع من المصريين في بلادهم هو السبب –كما يروج البعض- في انتشار ظاهرة الخوازيق فيما بينهم..لأن هناك جاليات وتجمعات عربية أخرى وفدت من دول تمر بأزمات اقتصادية طاحنة لكنها تبقى عادةً أقوى بكثير وتبدو أحسن تنظيماً وأفضل تعاوناً من الجاليات والتجمعات المصرية –إن وجدت- التي تتعرض باستمرار لقضايا الصراع والتنافس والمكائد من كل صنفٍ ولون
إن فريقاً من المصريين في الخارج لا يقف مع أبناء وطنه بالدعم والمؤازرة..وإنما يقف في طريق أيٍ منهم محاولاً إبعاده وربما طرده من هذا البلد إن أمكن.. صحيح أنه توجد نماذج مشرفة وأصيلة تصون الود وتحفظ العهد وتبادر إلى مد يد العون وقت الحاجة.. لكننا نتحدث في هذا المقام عن صنف من الناس لا يعرف سوى مصلحته الخاصة والسعي إلى تحقيقها حتى إذا كان ذلك يعني تصفية الآخرين معنوياً وإبعادهم عن طريقه.. وإذا كان هناك نموذج أحمد السقا في فيلم "همام في أمستردام" (إخراج: سعيد حامد، عام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين) فإن هناك أيضاً نموذج ذلك الشاب المصري "سيد الإسكندراني" الذي كان يطعم رفاقه في الشقة طعام الكلاب والقطط..ويدبر مكيدةً لمصري آخر حتى يحل محله في المطعم


لا يمكن أيضاً تفسير صراع المصريين في بلاد الغربة بما يسمى "غيرة المهنة" أو المثل الشعبي "عدوك ابن كارك" (أي مهنتك)..وصياغة المثل فيها كثير من المبالغة.. فالعلاقات بين أبناء المهنة الواحدة قد تحكمها المنافسة أكثر مما تحكمها العداوة. غير أن الفاصل بين الغيرة والحسد والحقد يختفي تماماً عند مجتمع اهتزت قيمه الأخلاقية وشوهتها متغيرات عدة لتصبح الغلبة لمن يجيد صنع الدسائس وتدبير المكائد

ولا أحد يدري كيف يستسهل كثيرون ممن نتعامل معهم أو ممن نقرأ عنهم في تراثنا الشعبي وإبداعنا القصصي والروائي ونشاهدهم في تاريخنا السينمائي.. أن يحرق حقل جاره الأجود زرعاً إن استطاع وأمن العاقبة..بدلاً من أن يجوِّد كفلاحٍ زراعته.. وكيف يختار موظف سرقة ملفٍ أو أموال من عهدة زميله المتفوق..وكيف يتحالف موظفون ضعفاء ضد زميلهم الناجح لإلغاء عقده أو طرده من بلاد الغربة. وهكذا يمضي أهل الخوازيق في هدم كل نجاح حقيقي لأحد زملائهم..فهذا أيسر لهم من تحقيق نجاحات خاصة بهم

إن هذا المنطق المغلوط – الكيد والدسيسة والإيقاع بالآخرين- هو الذي يحكم عشاق الخوازيق..لأنه موروث في أعماق عدد لا يستهان به من المصريين مثل غيره من المعتقدات الشعبية ذات الطابع السلبي..التي تحتاج لتغيير جذري لن يكون سهلاً بأي حال. إن الفردية في تراثنا الشعبي تعني أن كل فرد هو محور الكون.. وأن تحالفاته مؤقتة لأنه لا شيء مضموناً.. وأنه "لا أحد أفضل مني" حتى وإن كان أكثر كفاءة.. ليولد في وسط هذه الغابة من الأفكار المغلوطة مفهوم "اشمعنى أنا"

وفي ظل غياب نظام اجتماعي وأخلاقي يحمي أهل الكفاءة ويطبق معيار المهارة والتفوق لتحديد مستوى ومكانة كل فرد.. فإن اختلاط الأمور وضبابية الموقف يجعل الكثيرين يطمعون في كل ما هو ليس من حقهم..ويرى الفرد من هؤلاء أنه لا بأس من إسقاط "فلان" كي يحل محله وينال ما ناله من مالٍ وجاه وحظوة

الخطير أن من يدبر المكائد لأبناء وطنه في بلاد الغربة ويخطط لتنفيذها قد لا يرى في ذلك سلوكاً معيباً وإنما يعتبر نفسه من الفهلوة والشطارة بمكان لحد أنه نجح في تنفيذ "مهموزه" بدهاء حتى اكتملت الدائرة وحقق مراده ضد الطرف الآخر: ابن بلده

ولأن المجتمع يتساهل مع هذه الخوازيق فإنه يبدي إعجابه بتراث من عينة "ملاعيب علي الزيبق" ..وكان رئيس عصابة في بغداد, في القرن الخامس الهجري. والحكاية الشعبية جعلت القاهرة مولده وبغداد مكان نشاطه. وهو نموذج المحتال الذي يمارس "ملاعيبه" ليس من باب إشباع الهواية فحسب، بل أصبحت بالنسبة له أسلوب حياة، ومنطقاً يدير به شؤون الحياة، وهو دائماً قادر على إبهار الجميع بمن فيهم ضحاياه أنفسهم، الذين غالباً ما يغفرون له احتياله عليهم إعجاباً بقدراته في ابتكار الجديد والمثير من الحيل و"الملاعيب". كما تجد المجتمع في حالة إعجاب بدهاء وخدع "علي جناح التبريزي" ويعلي من شأن هؤلاء المخادعين والماكرين الذين وظفوا دهاءهم وخبثهم للإيقاع بالآخرين ببراعة..ولا عزاء للضحايا والمتضررين منها

ويتناسى الضالعون في هذه المكائد والمستمتعون بصناعة تلك الدسائس أنها جريمة متكاملة الأركان: بحق أبناء وطنهم في الغربة – أو الداخل-.. وبحق أنفسهم التي هانت عليهم وقادتهم عبر طريق الخبث والنفس الأمارة بالسوء إلى قاع الحقد والحسد والغيرة.. وإلى وطنهم الذي يدفع في النهاية ثمن كل ما نفعله.. هنا وهناك
تابع القراءة

gravatar

قرب القاع: الدولة الغائبة



















إذا أردت أن تكون كذوباً..فكن ذكوراً

نصيحة لم تعمل بها الصحف ووسائل الإعلام المصرية، حين نشرت معلومات ناقصة ومبتسرة عن استطلاع دولي يقول إن لإسرائيل أسوأ سمعة في العالم

الاستطلاع الذي نشرت صحيفة مثل "الأهرام" جانباً منه على صفحتها الأولى..استفاض في الإشارة إلى المثالب التي أوردها الاستطلاع عن إسرائيل

وجاء أن الاستطلاع - وهو في حقيقته مؤشر- الذي فحص تصنيف الدول قد أجري من قبل سيمون أنهولت-مستشار الحكومة البريطانية- والذي يعتبر مصدراً ذا مصداقية هي الأعلى في العالم من جهة تصنيف الدول والمناطق والمدن، وبالتعاون مع غلوبال ماركت إنسايت










ويتناول الاستطلاع بشكل تقليدي 35 دولة، يضاف إليها دولة "مضيفة" بإمكان سكانها إبداء آرائهم بشأنها أيضاً. وكانت الدولة المضيفة في هذه المرة هي إسرائيل

وكان تصنيف إسرائيل هو الأسوأ الذي تم قياسه في أي استطلاع، حيث تم تصنيفها في المرتبة الأخيرة في الإجابة على كل سؤال تقريباً. وعن ذلك يقول أنهولت إنه يتوجب على إسرائيل أن تغير من "سلوكها" من أجل تغيير صورتها، حيث لا يمكن بناء سمعة حسنة وإنما يمكن الفوز بها، وأمامها تحديات كبيرة لتصبح مكاناً يجدر العيش والاستثمار فيه، على حد قوله

وبحسب الاستطلاع فقد صنف الأمريكيون إسرائيل في مرتبة قبل الصين في مجال "السلام الدولي والأمن". كما تم اختيار إسرائيل في المكان الأخير الذي يود المستطلعون زيارتها، وتم تعريف الإسرائيليين بأنهم أقل البشر انشراحاً

وفي تكرار لسيناريو كأس العالم لكرة القدم عام 1966، جاءت بريطانيا في المركز الأول وتلتها ألمانيا في حين حلت إيطاليا ثالثة. وربما ساهم في تعزيز مكانة بريطانيا في هذا التصنيف الدولي تقدم نتائجها في مجالات مختلفة وفي مقدمتها الثقافة والصادرات والسياحة

وفي باقي المراتب العشرة الأولى جاءت النتائج كالتالي: كندا، سويسرا، فرنسا، السويد، اليابان، الولايات المتحدة، أستراليا.. واحتلت الصين المرتبة 19، وجنوب أفريقيا 32، وأستونيا 33، وإندونيسيا 34، وتركيا 35، وإسرائيل بالطبع في المرتبة الأخيرة 36

شارك في الاستطلاع 25 ألفاً و903 أشخاص يمثلون الدول التي ضمها الاستطلاع. وقد طلب من المشاركين في الاستطلاع وضع تقديراتهم بناءً على ستة معايير هي: الاستثمار والهجرة، والتصدير، والثقافة والتراث، والناس، والحكم، والسياحة

إلى هنا والأمور صحيحة.. غير أن الخطأ الذي يصل إلى حد الخطيئة هو أن تخفي وسائل الإعلام المصرية عن جمهورها حقيقة بالغة الأهمية، وهي أنه إذا كانت إسرائيل قد احتلت المرتبة الأخيرة (36) في الاستطلاع الدولي فإن مصر جاءت في مرتبة قريبة:29

نعم.. مصر جاءت في المركز التاسع والعشرين في هذا التصنيف الدولي.. أي أنها قبل القاع بسبع درجات كصاحبة أسوأ دولة سمعة في العالم

الإسرائيليون عبروا عن استيائهم من تصنيف دولتهم كأسوأ دولة في العالم في الاستطلاع ..وزاد من حدة الاستياء هو أن الإسرائيليين أنفسهم سمح لهم في الاستطلاع بإبداء رأيهم كونهم البلد المضيف

لكننا لم نسمع مسؤولاً واحداً في مصر يتحدث عن سمعة مصر التي تقترب من إسرائيل بكل المجازر التي ترتكبها ضد الفلسطينيين والاعتداءات التي شنتها على لبنان وأهله والمؤامرات والدسائس التي تدبرها ضد العرب هنا وهناك
لم ينطق أحد حرفاً كأن المسألة تتعلق بسمعة جزر الواق واق أو أرض خرافيةٍ ليست موجودة على خريطة العالم
تصنيف يحتاج إلى قراءة وتأمل لفهم أسبابه وأبعاده

بداية لا بد من الإشارة إلى أن الدول المشاركة في الاستطلاع هي تشكيلة متنوعة من الشرق والغرب لا يجمع بينها خيط واحد: الأرجنتين، النمسا، بلجيكا، البرازيل، كندا، الصين، جمهورية التشيك، الدنمارك، مصر، أستونيا، فرنسا، ألمانيا، المجر، الهند، إندونيسيا، أيرلندا، إيطاليا، اليابان، ماليزيا، المكسيك، هولندا، نيوزيلندا، النرويج، بولندا، البرتغال، روسيا، سنغافورة، جنوب إفريقيا، كوريا الجنوبية، إسبانيا، السويد، سويسرا، تركيا، بريطانيا، الولايات المتحدة

لكن.. لماذا ترى مثل هذه الدول وغيرها أن مصر تستحق هذا الترتيب المتدني لتصبح قريبة من لقب سيء السمعة هو أسوأ دولة في العالم؟.. دعونا من نظرية المؤامرة على مصر فهي لن تجدي نفعاً هذه المرة ولن تنجح في غسيل اسم مصر ليصبح أكثر بياضاً كما قد يتوهم البعض

الحل إذن قد يكمن في المعايير التي استند إليها القائمون على هذا الاستطلاع الدولي. أول هذه المعايير هو الحكم، إذ يقول التقرير في مقدمته: "هنا نطلب من المشاركين في الاستطلاع ترتيب الدول بناء على مدى النزاهة في الحكم الذي تخضع له وإلى أي مدى يمكن الوثوق في أن حكومات هذه الدول تتخذ قرارات مسؤولة تدعم الأمن والاستقرار الدوليين. كما نستكشف نظرة الشعوب إلى مدى وجود حس المسؤولية لدى الحكومات تجاه خفض معدلات الفقر وحماية البيئة العالمية. كما نطلب منهم توصيفاً يرون أنه الأنسب لوصف كل دولة"

كلام واضح لا لبس فيه، يمكن أن ننطلق منه فنقول إن نظرة المصريين قبل غيرهم إلى أسلوب الحكم الذي "يخضعون" له تبدو سلبية.. فلا هم يحترمون حكومتهم ولا هم يثقون في حكامهم.. والنتيجة عزوف عن الانتخابات والإدلاء بأصواتهم في عملية انتخابية يرون أنها مزورة سلفاً وأن البلطجة والعنف هما أداتا أصحاب السلطة في الحفاظ على مواقعهم إن كانت هناك ضرورة لرسم شكل ديمقراطي اسمه الانتخابات



إن المصريين قبل غيرهم يضعون علامات استفهام على الحكم الذي يقودهم، بعد أن شهدنا انتخابات عامة مزورة يحكم القضاء يوماً بعد آخر ببطلان النتائج في دوائرها، وانتخابات عمالية استبعد منها الآلاف، وانتخابات طلابية في الجامعات كانت مهزلة المهازل ووصلت المواجهات بشأنها إلى منحنى دموي في جامعة عين شمس الأسبوع الماضي والتي سالت فيها الدماء إثر اقتحام البلطجية لأسوار الجامعة واشتباكهم مع أنصار "الاتحاد الحر" الموازي


وإذا سألت في أي بلد من البلدان التي شملها الاستطلاع الدولي المذكور عن مستقبل الحكم وتسلسل القيادة فستجد إجابة واضحة وواقعية.. إلا في مصر

مصر التي يخشى كثير من أهلها سيناريو التوريث الذي يأتي بالابن بعد الأب في ظل تصعيد لا تخطئه العين وخلط للأوراق وغياب للإرادة السياسية..مصر التي يقول فيها الرئيس إنه باقٍ مادام القلب ينبض مع أنه يقترب حثيثاً من سن الثمانين، في بلدٍ يدور فيه متوسط عمر المواطن حول السبعين..مصر التي لا تعرف بوصلتها ومستقبلها وتنام على تراجع في المكانة والدور الإقليميين وتستيقظ على تهديدات وإملاءات أمريكية بقطع المعونات إن هي لم تنفذ المطلوب
وماذا عن معيار الناس؟

الناس الذين تدهسهم قطارات الحكومة ويحرقهم جحيم الغلاء ويهينهم رجال الأمن في أقسام الشرطة والشوارع وتحكمهم الواسطة والمحسوبية ويطاردهم الفساد وتقتل أحلامهم البطالة وتقضي عليهم مستشفيات التأمين الصحي

بل إن وضع المصري نفسه أصبح محل تساؤل حتى أنه أصبح مألوفاً أن نطالع كل يوم في صفحات الحوادث أخبار انتحار الناس في مصر تخلصاً من العوز وضيق الحال وأمراض الكبد.. فلا ضمانات في مواجهة البطالة والعجز والشيخوخة..ولا أمان في شارع تحكمه الفوضى ويسوده العنف وتنتشر فيه اللافتات الدعائية التي يدحضها واقع الحال



الناس الذين غيبهم الإعلام الحكومي واكتفى بمنحهم جرعات من الغناء والرقص على حساب الوعي بقضايا مجتمعهم والتوعية بحقوقهم وواجباتهم، حتى لا يكون هناك حديث جاد عن الإصلاح والنهوض من عثرات ضاق بها المصريون
ما الذي يمكن أن نتوقعه من المصريين والحال كما نرى؟


لا شيء سوى ما نشاهده الآن في شوارع مصر، من فوضى ناجمة عن تفكك الدولة واكتفائها بالدور الأمني حفاظاً على سلامة موكب الرئيس وباقي أعضاء الحكومة ومن والاهم


الناس في مصر وجدوا أن الدولة غائبة فما كان من بعضهم إلا الانزواء وتجرع الآلام والأحزان، في حين قرر آخرون أن يأخذوا حقوقهم بذراعهم، ورأى فريق ثالث أن الفرصة مواتية للنهب والسرقة والاحتيال والاستيلاء على الأموال العامة وأراضي الغير
الناس في مصر وجدوا أنفسهم بلا ثمن في حوادث عبارة الموت التي راح ضحيتها أكثر من ألف شخص في فبراير شباط عام ألفين وستة، في حين ينعم مالكها ممدوح إسماعيل بالحرية في بريطانيا، مثلما يستمتع لصوص المال العام وتجار الأغذية الفاسدة - من رامي لكح إلى توفيق عبد الحي – بالحرية هنا وهناك من دون أن تطالهم يد الدولة. أما المصريون البسطاء فهم يكتوون بالمآسي في كل شيء من لقمة العيش إلى حوادث القطارات، في بلدٍ تقول فيه دراسة ألمانية حديثة أعدها معهد السكة الحديد الألماني إن معدل حوادث المزلقانات وضحاياها في السكة الحديد المصرية مرتفع جداً مقارنة بنظيراتها الأوروبية والآسيوية بسبب غياب عوامل الأمان والمرور الخاطئ للمواطنين

وحتى الذين يحلمون بالتعليم كطوق نجاة وسبيل إلى الخلاص وجدوا أنفسهم في العراء..إذ يكشف التقرير الصادر عن المجلس القومي للتعليم عن تردي أوضاع التعليم الجامعي في مصر، مؤكداً أن هناك تدهوراً كبيراً في العملية التعليمية نتج عنه تدنٍ في مستوى الخريجين، سواء من الناحية العلمية العامة أو التخصصية، إلى جانب تسببه في ضعف بناء شخصية الخريجين

التقرير المذكور يؤكد أن الجامعات المصرية - حكومية وغير الحكومية - تعاني اكتظاظاً ليس له نظير في الدول الأخرى، وأن نصيب الطالب الجامعي في ميزانية التعليم يبلغ نحو ٧٤٣ دولاراً سنوياً، مشيراً إلى أن هذا المبلغ يعادل أقل من ١/١٠ من نظيره في الدول النامية، و١/٥٠ في الدول المتقدمة
بل إن التقرير يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول إن الوضع التعليمي الذي تعيشه مصر يمثل شأن الدول المتخلفة علمياً..وبالرغم من أن مجانية التعليم حق يكفله الدستور.. فإنها أصبحت شعاراً بلا مضمون بعد أن أُفرغت من مضمونها.. موضحاً أن تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية في الجامعات تسبب في إرهاق الأسر مادياً.. وأصاب الطلاب بـ"هزال تعليمي"..كما أضاع هيبة الأستاذ الجامعي

دعونا نشير إلى أنه في آخر الإحصائيات الدولية لاختيار أفضل ٥٠٠ جامعة على مستوى العالم، لم تبرز جامعة مصرية واحدة، كما أنه على مستوى الأبحاث يأتي ترتيب مصر في المركز الـ٦٠.. وهو ترتيب مشكوك فيه.. وقد يكون مجاملاً لمصر لأن الحقيقة في جوهرها أسوأ من ذلك

والحاصل أنه لا توجد أسرة مصرية لا تعاني من عبء تكلفة التعليم في جميع مراحله فأصبح السائد هو المدارس الخاصة عالية التكاليف وامتد ذلك ليشمل الجامعات التي تسللت إليها الدروس الخصوصية حتى أصبحت أمراً مألوفاً

ونعود إلى الاستطلاع الدولي الذي أجري خلال الفترة بين 27 يوليو و18 أغسطس من عام 2006 ونصل إلى معيار آخر

وعن الاستثمار والهجرة فحدث ولا حرج

فالمصريون لا يعرفون من الاستثمار سوى الخصخصة وبيع شركات القطاع العام والبنوك ..خذ عندك مثلاً بنك الإسكندرية الذي اشترته مؤسسة اقتصادية إيطالية ولا عزاء لطلعت حرب وأحلامه باستقلال القطاع المصرفي المصري..ولا أحد يعلم ما الذي كان يعنيه الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار حين أعلن في شرم الشيخ أن كل القطاعات في مصر مطروحة للاستثمار والخصخصة.. عدا القطاعات الاستراتيجية وذات الأمن القومي. فالتعليم والبنوك والصحة دخلت لعبة الخصخصة وهي من أساسيات القطاعات الاستراتيجية. والنية تتجه إلى طرح ٣٠% من أسهم شركات الأدوية للبيع..كما تتضمن طرح ٤٩% من المطارات، وفي مقدمتها مطار الوادي الجديد الذي سيتم بيعه بالكامل، وكذلك مطار بورسعيد.. إضافة إلى طرح أسهم عدة شركات في مجالات الغاز الطبيعي والبترول للاكتتاب، وكذلك بعض شركات توزيع الكهرباء، والحقول الإرشادية داخل الكتل السكنية، وبعض خدمات السكك الحديدية


ما الذي تبقى إذن؟

أما الاستثمارات الحقيقية فهي غائبة أو هاربة بسبب ارتباك المشهد السياسي وتضارب القوانين وعراقيل الفساد وتعقيدات البيروقراطية.. وأصبح الاستثمار في السيراميك و السلع الخاضعة للاحتكار مثل حديد التسليح هو السبيل الأفضل للإثراء السريع

والهجرة في مصر عكسية.. فالوضع خانق وطارد لكل موهبة طالعة ومهارة ظاهرة.. لتستقبل دول العالم أجمع – من الولايات المتحدة مروراً بأوروبا وانتهاء بدول الخليج- صفوة المصريين الذين يقدمون لهذه الدول عصارة جهودهم وإنتاجهم وإبداعاتهم.. وفي قلوب كثير منهم غصة لأنهم لم يتمكنوا – لأسبالب يطول شرحها- من منح وطنهم ثمار تلك الجهود والقدرات

وفي معيار التصدير تبرز ثغرات يصعب حصرها بعد أن اختفى القطن المصري وصعد مكانه تصدير الغاز الطبيعي.. إلى إسرائيل. أما حركة التصدير بشكل عام فهي محدودة حتى أن الميزان التجاري لمصر مع معظم دول العالم بما في ذلك الإفريقية منها يعاني من اختلال واضح لمصلحة تلك الدول..وهذا أمر طبيعي في ظل غياب الخطط الاستراتيجية وعدم الاهتمام بإجراء دراسات الأسواق باعتبارها عاملاً متغيراً وديناميكياً..وعدم التركيز على الأسواق الواعدة والجديدة وأدواتها والكميات والمواصفات التي تحتاج إليها والدول المنافسة وفرص الصادرات المصرية وغيرها من البيانات التي يحتاجها المصدرون

وإذا كانت السياحة تعطي مؤشراً متواضعاً في بلدٍ يضم كنوز وثروات حضارة قدماء المصريين وبعضاً من تراث الإغريق وغيرهم، فإن أرقام ومعدلات السياحة إلى مصر تظل أدنى من المستوى المطلوب.. خاصة أن دولاً لا تملك تلك الآثار التاريخية – مثل إسبانيا- تتقدم على مصر بفارق كبير في أعداد السائحين والليالي السياحية

وفي معيار الثقافة والتراث، يمكننا الحديث مطولاً عن مظاهر التراجع المذهل في الدور الثقافي لمصر..التي يقودها وزير الثقافة فاروق حسني منذ نحو عقدين (أقدم وزراء الحكومة المصرية على الإطلاق) من أزمة ملف السينما المصرية، التي تمر بحالة ركُـود نوعي وتدنٍ فني، وملف الآثار وما يحتويه من تهريب وسرقات وإهمال، فضلاً عن مشكلات بيوت الثقافة، ووصولاً إلى كارثة محرقة مسرح بني سويف

إن القراءة الواعية للاستطلاع المذكور تكشف عن جوهر الأزمة في مصر اليوم: نحن نقرأ ما نريد ونفهم ما نرغب فيه..ولا يهمنا حقيقة أننا نحرف الوقائع ونلوي عنق الحقائق وننظر إلى نصف الكوب..ما دام ذلك يصب في مصلحة العيش في وهم الريادة والنهضة والصحوة الكبرى

ولا نعرف من نصدق.. الاستطلاع الذي بين أيدينا –وسيمون أنهولت المشرف على التقرير من الضيوف الدائمين على مصر- أم مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء
إذ يؤكد استطلاع رأي أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء أن 92% من المصريين يعتبرون إسرائيل دولة معادية جداً لمصر، تليها الدنمارك ثم بريطانيا والولايات المتحدة


وقال مركز المعلومات في بيان إن الاستطلاع أظهر أن 60 في المئة من عينة عشوائية مكونة من ألف مصري اعتبروا الدنمارك دولة عدوة وأن 37 في المئة من بين هؤلاء قالوا إنها عدوة جداً. وأضاف المركز أن الاستطلاع أجري عن طريق الهاتف واستهدف أشخاصاً أعمارهم 18 عاما أو أكثر. وتبلغ نسبة الخطأ في الاستطلاع ثلاثة في المئة. وكانت الدنمارك تعرف في مصر ودول الشرق الأوسط إلى حد كبير بمنتجاتها من مشتقات الألبان حتى نشرت صحيفة "يولاندس بوستن" الدنماركية الرسوم المسيئة للرسول الكريم التي أثير بشأنها جدل واسع

صحيح أن الاستطلاع الذي فحص تصنيف الدول أوضح أن مصر كانت الدولة التي منحت إسرائيل العلامات الأسوأ، حيث منحت أسوأ المستويات في كافة المجالات من قبل المصريين، ما عدا في سؤال يتعلق بمدى المساهمة في مجال العلوم والتكنولوجيا، حيث أعطاها المصريون الترتيب رقم 29. وفي المقابل فقد منح الروس إسرائيل أعلى العلامات في كافة المستويات، ما عدا في جمال المناظر الطبيعية

لكن اللافت أن المصريين المشاركين في الاستطلاع قدموا انطباعات وتعليقات عن الدنمارك أفضل مما كانت عليه قبل أزمة الرسوم المسيئة. فقد أبدت نسبة كبيرة من هؤلاء رغبتهم في العيش والعمل في الدنمارك، تفوق النسبة السابقة قبل وقوع تلك الأزمة



وفي هذا المقام يقول واضع الاستطلاع سيمون أنهولت إنه "وبالتأكيد فإنه سيكون من المثير للاهتمام استكشاف هذه النتيجة بشكل أكبر، وتحليل الدوافع التي أدت إلى التحول الإيجابي في المواقف" تجاه الدنمارك

ومع أن المصريين الذين شاركوا في الاستطلاع وضعوا تقديرات متدنية بالنسبة للاستعداد لشراء منتجات دنماركية، ومدى مشاركة هذه الدولة في السلم والاستقرار الدوليين، ومدى قدرة الدنمارك على المساهمة في التراث..فإن إجابات المصريين عن الأسئلة التي توصف بأنها "أكثر حميمية" مثل إمكانية الترحيب الدافيء لدى زيارة البلد، والاستعداد للعيش والعمل في الدنمارك، جاءت إيجابية

ويقول التقرير "إن الصورة العامة تقترح أنه في حين لم يعد الشعب الدنماركي محل غضب من جانب المصريين، فإن الدنمارك كدولة ليست موضع تسامح بالكامل على أزمة الرسوم المسيئة. ويبدو المصريون الآن كأنهم لم يحسموا أمرهم بعد بشأن الأمر الذي لا يحبونه في الدنماركيين: بلدهم أم حكومتهم. ونتائج الأسئلة في هذا الشأن تظهر تفاوتاً إلى حد كبير"

وشأن كل شيء في هذا الوطن.. الأمور غائمة وعائمة.. حتى إشعار آخر
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator