المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

اغتيال الباشا.. بأثر رجعي



لم يكن إبراهيم الهلباوي الجلاد المصري الوحيد في حادثة دنشواي
فقد كان هناك اثنان آخران، أولهما بطرس باشا غالي (12 مايو 1846- 21 فبراير 1910) وزير الحقانية بالنيابة آنذاك ورئيس المحكمة
وبطرس باشا غالي هو أحد رجلين من الأقباط توليا رئاسة الوزارة، هو ويوسف وهبة باشا، كما أنه أحد رجلين من الأقباط نالا شهرة سياسية واسعة هو ومكرم عبيد باشا. تولى ابنان له الوزارة هما نجيب غالي وواصف غالي كما تولى ثلاثة من أحفاده الوزارة أيضا وهم مريت غالي وبطرس بطرس غالي ويوسف بطرس غالي، وكان أحد أبنائه من أقطاب الوفد وهو واصف غالي.عمل بوظيفة مترجم في مجلس تجار الإسكندرية في أوائل عام ١٨٦٧ ثم باشكاتب المجلس انتقل بعدها في ١٨٧٣ لنظارة الحقانية التي ترقى في سلكها سريعا حتى أصبح سكرتيرا لها في ١٨٧٩ ثم وكيلاً في ١٠ أكتوبر ١٨٨١ وأنعم عليه برتبه الباشوية في العام التالي وكان أول قبطي يحصل على هذا اللقب الرفيع
ويمكن القول إن القدر وضع بطرس باشا غالي - المولود في بلدة الميمون بمحافظة بني سويف سنة 1846- في رئاسة محكمة دنشواي نتيجة لظروف إدارية بحتة وهي غياب ناظر الحقانية آنذاك إبراهيم فؤاد باشا الموكل إليه أساساً رئاسة المحاكمة بحكم قانون عام 1895
ويقول مستر بوند- وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والعضو بالمحكمة المذكورة- إن هيئة المحكمة كانت مصممة على إعدام خمسة لولا إصرار بطرس غالي الذي لم يوافق على إعدام أحدهم، وقال إن ضميري غير مرتاح لإعدامه، ولذلك فقد سعى عقب الحادثة في مفاوضة الحكومة الإنجليزية، التي وافقت على العفو الذي أصدره الجناب العالي الخديو رسمياً يوم عيد جلوسه عام 1907. ظن الوطنيون أن هياجهم وحده هو الذي أرجف الإنجليز فأصدروا أمرهم بالعفو عن المسجونين مع أن الفضل الأكبر في العفو عنهم يرجع إلى تدخل الخديو عباس حلمي الثاني ووزيره بطرس باشا غالي كما يُستدل على ذلك من الوثائق البريطانية والمصرية التي لم يُنشر منها سوى القليل إلى اليوم
[1]
الكاتب والسياسي د. محمد حسين هيكل يتحدث عن بطرس باشا غالي ودوره في حادثة دنشواي قائلاً: "ويقول المدافعون عن بطرس باشا في هذه المسألة: إن حكم دنشواي كان حكماً سياسياً أملته السلطة الإنجليزية التي أمرت بإرسال المشانق قبل أن يصدر، إذ أرادت أن تضرب بكل صرامة وحزم – وأنه كان صادراً من أغلبية انجليزية لأعضاء المحكمة، فلم يكن للأقلية الموجودة فيها، بحكم القانون، بدٌ من إقراره وتوقيعه. وبطرس باشا كان رئيساً للمحكمة المخصوصة بحكم القانون الذي ألقى بهذه الرئاسة إلى ناظر الحقانية، فكان لا مفر له من الخضوع لرأي أغلبية الهيئة التي يرأسها والتي أصدرت ذلك الحكم الجائر"
[2]
لكن د. محمد حسين هيكل يمضي قائلاً: "وهذا الدفاع على ظاهره من الوجاهة لتبرير عمل بطرس باشا إلا إذا كان معتقداً عدالة الحكم الذي أصدره وإنسانية تنفيذه مما لا يصدق على رجل كان له من عواطف الخير والإنسانية ما كان لبطرس. ذلك بأن الرجل الذي يجلس رئيساً لهيئة قضائية يعهد إليها بتطبيق العدل يجب ألا يخضع لصوت غير صوت الضمير ولاعتبار غير اعتبار العدل المجرد من كل هوى. فأما أن كانت المحكمة المخصوصة ليست هيئة قضائية وكانت صورة هزلية لعدلٍ لا وجود له وإنما تملي السياسة أحكامه، فكان حرياً برجل له ما كان لبطرس من دهاء ومقدرة أن يصل من تخفيف الجور إلى أقل حدوده وألا يرضى هذا التنفيذ الذي بعث إلى قلب الإنسانية رعشة اشمئزاز وتقزز واستفز في نفسها أشد المقت لعملٍ لا يمكن أن يكون من الإنسانية المهذبة ولا من الإنسانية المتوحشة في شيء"
[3]
وقد عهد الخديو عباس حلمي الثاني إلى بطرس باشا غالي برئاسة النظارة في 12 نوفمبر 1908، ولكن شابت علاقته بالحركة الوطنية خاصة الحزب الوطني شوائب أثرت بالسلب على صورته منها اضطراره لتوقيع اتفاقية السودان 19 يناير 1899، وترؤسه لمحكمة دنشواي الخاصة، بعث قانون المطبوعات 25 مارس 1909، دوره في مشروع مد امتياز قناة السويس
أما نهاية هذا الرجل فكانت على يد شاب صيدلاني يُدعى إبراهيم الورداني
ففي الساعة الواحدة بعد الظهر يوم (11 من صفر 1328 هـ=20 فبراير 1910)، خرج بطرس غالي من غرفته في ديوان الخارجية بصحبة حسين باشا رشدي ناظر الحقانية، وفتحي باشا زغلول (وكيل الحقانية)، وعبد الخالق ثروت (النائب العمومي)، وأرمولي بك التشريفاتي بالخارجية، ثم فارق من كانوا معه عند السلم الخارجي، وبينما هو يهم بركوب عربته اقترب منه الورداني متظاهراً بأنه يريد أن يرفع له عريضة وأطلق عليه رصاصتين أصابته إحداهما في صدره، وما كاد يلتفت خلفه ليرى صاحب هذه الفعلة حتى أطلق عليه الفتى ثلاث رصاصات أخرى أصابت عنقه من الخلف واثنتين في كتفه، وأطلق رصاصة سادسة أصابت ثيابه[4]
واستدعي الدكتور سعد بك الخادم فأخذ يسعف الجريح ويخرج الرصاصات من العنق والكتف، وأفاق الجريح قليلاً وكان في النزع الأخير، فحُمِل إلى مستشفى الدكتور ملتون بباب اللوق، وفور وصول بطرس باشا غالي إلى المستشفى اجتمع حوله 15 طبيباً من كبار الأطباء في مصر، وقد رأوا في بادئ الأمر عدم إجراء عملية له لكن في النهاية تم إجراؤها لإخراج الرصاصات الباقية
ولما وقف الخديو عباس حلمي الثاني على هذا النبأ بلغ منه التأثر ومن رجال الحاشية مبلغه نظراً لما كان يتمتع به بطرس باشا من ثقة الجناب العالي ومحبته له، وأصدر أوامره في الحال تليفونياً إلى فتحي باشا زغلول باتخاذ جميع الوسائل الممكنة بكل سرعة للعناية بالجريح
وقد زار الخديو بطرس غالي، ودخل عليه في غرفته وقبَّله في وجهه والدموع تملأ عينيه، وكان بطرس باشا قد تنبه قليلاً، فجعل يقول: "العفو يا أفندينا.. متشكر.. العفو يا أفندينا.. متشكر". وأمر الخديو أن تبلغ له الأخبار لحظة بلحظة[5]
وبعد انتهاء العملية لإخراج الرصاص ارتاح الجريح نوعاً ما، ولكن الألم ازداد بعد قليل وارتفعت حرارته، وأصبح في خطر قريب، ولم تأتِ الساعة الثامنة والربع من صباح يوم الاثنين 21 فبراير عام 1910 حتى أسلم الروح وسط بكاء الحاضرين
كانت آخر كلماته قبل رحيله: "يعلم الله أني ما أتيت أمراً يضر ببلادي.. لقد رضيت باتفاقية السودان رغم أنفي وما كان يمكن أن أعترض".. ثم قال: "ويسندون إليّ حادث دنشواي ولم أكن منها ولا هي مني ولكنها أقوال سادت فأساءت.. إن هي إلا غباوة ضعيف صارت وقوة قدير بطشت فتوسطت بينهما كما توسط المصلح بين المتخاصمين فنالنا من شرها ما نال"
[6]
ثم عقد مجلس النظار برئاسة الجناب العالي في سراى عابدين وقرر تعطيل نظارات الحكومة وجميع مصالحها والمدارس الأميرية إلى أجل غير مسمى. وكذلك تنكيس الأعلام على الثكنات العسكرية ودور الحكومة حداداً على الفقيد
في اليوم التالي للحادث، روت جريدة "الجريدة" تفاصيل ما جرى، فقالت: "بقي – الباشا- كذلك حتى كان يوم أمس نزل كعادته في جماعة من الموظفين، وعند باب نظارة الحقانية صافحهم وانصرف ومعه النائب العمومي، فما كاد يضع رجله على سلم عربته حتى أصابه الرصاص المتعاقب من غدارة شابٍ لعب الشباب برأسه وتصور ما تصور وتجسمت في نفسه الخيالات فلم ترعه هيبة الوزير ولا وقار الشيخ ولا خوف العقاب.. أصابه الرصاص في العنق والكتف والبطن فخر صريعاً فحمل إلى أودة ناظر الحقانية ثم إلى مستشفى الدكتور ملتون. وهناك زاره سمو الخديو وجميع الوزراء والسير غورست والأمراء وأعيان الأمة وكلهم يرجون له الشفاء العاجل. فلما كانت الساعة السادسة عملت له عملية جراحية لإخراج الرصاصة الباقية، ولكن كانت، مع الأسف، قد نسفت الأمعاء ونفذت في صدر المعدة"
[7]
وربما كان اغتيال بطرس غالي هو أول جريمة اغتيال سياسي في مصر الحديثة، إذ جاء بعد أكثر من قرن من اغتيال سليمان الحلبي للقائد الفرنسي كليبر
أما الجاني إبراهيم ناصف الورداني، فقد كان شاباً في الرابعة والعشرين من عمره، تلقى علومه الأولى في المدارس المصرية حتى نال البكالوريا، وتوفي والده فقام بتربيته الدكتور ظيفل باشا حسن وأرسله إلى سويسرا لتلقي علوم الصيدلة ثم ذهب إلى إنجلترا، فقضى بها سنة وعاد إلى مصر فافتتح بها صيدلية في شارع عابدين، وكان من المتحمسين لمبادئ الحزب الوطني المناوئ للخديو عباس وقتذاك

اعترف إبراهيم الورداني بجرمه، وبرر إقدامه على قتل بطرس باشا غالي بأنه وقع اتفاقية السودان في 19 يناير عام 1899، بالنيابة عن الحكومة المصرية باعتباره وزير خارجيتها، وكان ضمن تشكيل محكمة دنشواي، وإعادته العمل بقانون المطبوعات القديم في 25 مارس عام 1909، وقانون النفي الإداري في 4 يوليو من العام نفسه، وكان له دور في محاولة مد مشروع امتياز قناة السويس. كما اعترف أنه قصد قتل بطرس باشا غالي منذ زمن[8]
فقد وَّقع بطرس باشا غالي اتفاقيتي الحكم الثنائي للسودان في عام 1899 بالنيابة عن الحكومة المصرية باعتباره وزير خارجيتها، واللورد كرومر بالنيابة عن الحكومة الإنجليزية، وبموجب تلك الاتفاقية أصبح لإنجلترا رسمياً حق الاشتراك في إدارة شؤون الحكم بالسودان، ورفع العلم الإنجليزي إلى جانب العلم المصري في أرجائه كافة، وتعيين حاكم عام للسودان بناء على طلب الحكومة البريطانية، وأصبح المصريون غرباء عنه أو خداماً للإنجليز فيه
ولم يذع أمر الاتفاقية إلا عقب إمضائها، وكانت الصحف تجهل أمرها، ولم تنشر شيئاً عن مقدماتها، ولم تحصل مفاوضات ما بصددها، وإنما هي إرادة اللورد كرومر أملاها على وزارة مصطفى فهمي، فقبلتها بلا مناقشة، كل ما حصل من المفاوضة بشأنها أن اللورد كرومر سلم بطرس باشا غالي مشروع الاتفاقية كما وضعته وزارة خارجية انجلترا، فأخبر بطرس باشا غالي الوزراء بالأمر، فقبلوا المشروع دون أن يطلع أكثرهم عليه
يذكر أن هذه الاتفاقية جعلت لبريطانيا حقاً مشروعاً وأعطتها نفوذاً لم تكن تحلم به، فمن الناحية الفعلية فصل هذا الاتفاق السودان عن مصر، وأصبحت جميع السلطات في يد حاكم عموم السودان وهو بريطاني، كما أن موافقة الحكومة المصرية عليه تتم في صورة شكلية، وتشريعات القطر المصري لا تسري على السودان
[9]
غير أن الواقع بالنسبة للاتفاق الثنائي يخالف الجانب الرسمي له كل المخالفة، فقد انفردت بريطانيا وحدها بمهمة وضع الاتفاق، وكان دور مصر شكلياً بحتاً، لم يزد على توقيع الاتفاق حين قدم لها
قرر الجناب العالي تشييع جنازة بطرس باشا غالي، في اليوم التالي للحادث، في احتفال رسمي مهيب على نفقة الحكومة، وأن يسير المشهد يوم الثلاثاء في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً من مستشفى ملتون بباب اللوق إلى الكنيسة المرقسية ومنها إلى دير أنبا رويس، وقد بدأت مراسم الجنازة بحمل النعش من الكنيسة إلى المدفن بعربة يجرها ثمانية من الجياد و12 عربة مملوءة بأكاليل الزهور

وبكّر الناس في صباح يوم الثلاثاء إلى الأحياء التي تسير منها جنازة فقيد مصر حتى خلت المنازل والقصور من سكانها وتعطلت كل الأعمال والسيارات وعربات الترام وأغلقت المصارف المالية ونكست الأعلام على جميع المباني الأميرية والقنصليات وفي كل مكان، وأخذت الأجراس تدق. وفي منتصف الساعة الحادية عشرة شيعت الجنازة في موكب لم تر له مصر مثيلاً حتى في وفيات ملوكها وأمرائها[10]
الصحف القبطية والأجنبية اعتبرت أن تحريض صحف الحزب الوطني قد ساهم على الأقل في تهيئة أسباب اغتيال بطرس باشا غالي
ولذلك زادت مطاردة الحكومة لنشاط الحزب ومبادئه. وقال صحيفة "الإيجيبسيان" إن "الورداني وهو يقتل بطرس غالي كان يجهز في الوقت نفسه على الوطنية المصرية في مصر"
[11]. كما اندفعت الحكومة المصرية تقبض على الناس وتفتش البيوت للكشف عن أي جمعيات أو مؤامرات سرية، لذلك لم تبدأ محاكمة الورداني إلا بعد شهرين من وقوع الحادث، أي في 21 إبريل
وعندما ألقي القبض على إبراهيم الورداني، وقد قيدوه بحبل من ذراعيه ويديه وأدخلوه في إحدى غرف النظارة ووجدوا في جيوبه 24 رصاصة، و75 قرشاً وساعة فضية، وقبل أن يفتح معه محضر التحقيق الرسمي، سأله وكيل الحقانية: لماذا فعلت فعلتك بالباشا، فأجاب غاضباً: "لأنه خائن للوطن، وأنا غير نادم على فعلتي". وذكر في التحقيق الابتدائي أنه لم يؤلمه شيء إلا ضرب حسين رشدي باشا له إذ لم يكن يظنه يقبح (عملاً وطنياً (مثل عمله
اعترف الورداني في بداية التحقيق بأنه قتل المجني عليه لأنه خان وطنه وكان مصمماً على قتله من أشهر بعيدة، ولكنه لم يتعمد تنفيذ فكرته إلا عقب إعلان الاتفاق الجديد مع شركة قنال السويس، وعدَّد من خيانته أن الأسباب التي دفعته إلى التفكير في قتله، منها قبوله رئاسة محكمة دنشواي، وتوقيعه اتفاقية السودان، وإخراجه قانون المطبوعات، وإهانته مجلس الشورى والجمعية العمومية، وذكر في أقواله أنه ليس متصلاً بإحدى الجمعيات الفوضوية لأن مبدأ الفوضوية هو التخريب وهو ضد مبدئه فهو دستوري محب للنظام. وقال إن هذا المبدأ هو الذي جعله يرتكب هذه الجريمة؛ لأنه في البلاد الدستورية يجب سقوط الوزارة وتخليها عن الأعمال متى فقدت ثقة مجلس النواب لها، أي أن الأمة لا تريدها
وفي يوم 3 مارس في التحقيق كتب الورداني إقراراً بخط يده: "أنا الذي قتلت بطرس باشا كبير الوزراء المصريين في يوم الأحد الساعة واحدة إفرنجي مساء لاعتقادي أن الرجل خائن لوطنه وأن سياسته ضارة لبلاده، ولست أسفاً على ما ارتكبته لأني أرى ذلك خدمة في بلادي"
فرد عليه فتحي زغلول باشا قائلاً: "يا مسكين لو عرفت أنه أكبر وأصدق وطني في خدمة البلاد ما فعلت فعلتك"، ثم تولى النائب العام تحقيقه مع إبراهيم الورداني، وكان النائب العام آنذاك هو عبد الخالق ثروت باشا
[12]
ذكر الورداني أنه القاتل الوحيد دون أن يشترك معه أحد وأنه يوم السبت قبل الحادث كان مع كل من شفيق منصور وصادق سعد، وكانت وجهته النادي لمقابلة الدكتور حافظ عفيفي
وحينما ووجه بسؤال عن طبيعة الحديث الذي دار بينه وبين شفيق منصور وصادق سعد أجاب بأنه كلام عادي وأقسم بالله العظيم وبأغلظ الأيمان أنه لم يتكلم مع أحد بما كان مصمماً عليه. وقال إنه توجه ليلة السبت 19 فبراير أيضاً إلى النادي لتجهيز بعض الأوراق الخاصة بلجنة الإرساليات العلمية
وقد تولى النائب العمومي ثروت باشا التحقيق، وسئل عدة أشخاص ممن كانت لهم علاقة بالورداني، ممن وجدت صورهم وأسماؤهم معه أثناء القبض عليه، فضلاً عما كان معه من أوراق تخص الحزب الوطني أو أشخاصاً فيه، وكان في مقدمة هؤلاء محمد فريد والذي قرر أنه عرف الجاني منذ سنة 1906 في جنيف حيث كان أميناً عاماً لصندوق جمعية الطلبة المصريين بها، وأن هذه الجمعية أسست لمساعدة الطلبة المصريين الذين يفدون إلى جنيف
وقد خلت مذكرات محمد فريد، رئيس الحزب الوطني، من هذا الحادث وقت وقوعه، وهذا إن دل يدل على الصدمة التي لحقت بالحزب من جراء وقوع هذا الحادث الضخم وبعيد الأثر في حياة البلاد والذي كاد يفرق وحدتها إلى دهر من الزمان لولا أن كانت ثورة 1919 فجمعت شمل المسلمين والأقباط كأوثق ما يكون"
وإذا كان القاتل من شباب الحزب الوطني فقد تشعب التحقيق، واتجهت تهمة الاشتراك في الجناية إلى لفيف من شباب الحزب، وقبض على كثيرين منهم ثم أفرج عن بعضهم
في 13 مارس 1910، أذاع عبد الخالق ثروت النائب العمومي قرار الاتهام في قضية الورداني التي حملت قضية الجناية رقم 14 عابدين 1910 وأقامت النيابة الدعوى العمومية على إبراهيم ناصف الورداني، وعلى ثمانية بتهمة المشاركة في الجريمة، باعتبارهم جميعاً أعضاء في جمعية من مبادئها استعمال القوة في الوصول لأغراضها، وأن جريمة القتل كانت نتيجة محتملة لهذا الاتفاق، وهم
1- إبراهيم ناصف الورداني- 25 سنة – كيماوي ومقيم في مصر
2- علي أفندي مراد – 24 سنة – مهندس ري بالفيوم
3- محمود أفندي أنيس – 28 سنة – مهندس ري بالمنيا
4- شفيق أفندي منصور -22 سنة - طالب بمدرسة الحقوق
5- عبده أفندي البرقوقي – 24 سنة - طالب بمدرسة الحقوق بمصر
6- عبد العزيز أفندي رفعت - 23 سنة - مهندس تنظيم
7- عبد الخالق أفندي عطية – 24 سنة - محام
8- محمد أفندي كمال – 22 سنة - طالب بالمهندسخانة
9- حبيب حسن أفندي – 25 سنة – مدرس بمدرسة خليل أغا
واعتبرتهم النيابة شركاء في الجريمة المذكورة آنفاً طبقاً لنص المواد 194، 40، 43 من قانون العقوبات – وأكدت أنهم أعضاء مع المتهم الأول في جمعية من مبادئها استعمال القوة في الوصول إلى أغراضها ، وبذلك يكونون قد اتفقوا على استعمال القوة في تنفيذ تلك الأغراض وأن جريمة القتل التي ارتكبها المتهم الأول هي نتيجة محتملة لهذا الاتفاق، "لذلك تطلب النيابة من حضرة قاضي الإحالة أن يحيل المتهمين المذكورين إلى محكمة الجنايات لمحاكمتهم طبقاً للمواد الآنف ذكرها"
[13]
وفي 21 مارس 1910 أحيل المتهمون جميعاً إلى قاضي الإحالة بمحكمة مصر الأهلية متولي بك غنيم، وقد نظرت القضية أمامه، وصدر القرار ببراءة الأشخاص الثمانية من تهمة الاشتراك في قتل بطرس غالي وقصر التهمة على الورداني
وقال القاضي إن الأوجه التي حددها القانون للاشتراك في الجريمة لم تتوافر في هؤلاء الثمانية. فضلاً عن ذلك، فإنه ثابتٌ أن أعمال الجمعية وقفت منذ شهر يونيو 1909، أي قبل وقوع الجريمة بسبعة أشهر تقريباً، ولم يثبت حصول مراسلة بين أعضائها أو اجتماع منهم بخصوص العمل باتفاقهم في غضون تلك المدة بل ثبت العكس اشتغال المتهمين بأعمالهم الشخصية دون غيرها، فإنه ثابتٌ من اعتراف المتهم الأول الاعتراف الصريح الذي ثبت عليه من أول التحقيق إلى منتهاه أنه ارتكب جريمته وحده دون علم رفقائه وبأسباب معينة وهي إمضاء المجنى عليه على اتفاقية السودان وإعادة قانون المطبوعات وسعيه في تجديد امتياز قناة السويس
وقرر القاضي ثانياً: إحالة إبراهيم أفندي ناصف الورداني إلى محكمة جنايات مصر المحدد لانعقاد دورها يوم السبت الثاني من أبريل 1910 لمحاكمته بمقتضى المادة (194) عقوبات. وجاء في قرار القاضي استمرار حبس المتهم على ذمة هذه القضية وقد أفرج عن المتهمين الآخرين بعد دخولهم السجن بنصف ساعة. وقد تولى الدفاع عن المتهمين أحمد بك لطفي، وإسماعيل شيمي بك، ومحمود بك فهمي حسين، محمد علي علوبة بك، ومحمود بسيوني، أحمد عبد اللطيف بك، ومصطفى عزت
أما الورداني فقد وجهت إليه تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، وهي جريمة عقوبتها الإعدام، وحوكم أمام محكمة جنايات، وكانت برئاسة المستر دلبروغلو وعضوية أمين بك علي، وعبد الحميد بك رضا المستشارين، وجلس في كرسى النيابة عبد الخالق ثروت باشا، النائب العام، وتولى الدفاع عن المتهم كل من أحمد بك لطفي، ومحمود بك أبوالنصر، وإبراهيم بك الهلباوي. وقد اشترط الورداني في قبول تعيين هذا الأخير أن يتكلم في مسألة دنشواي بالانتقاد، فقبل هذا الشرط؛ لأنه كان يريد أمن يغسل بمرافعته أحزان ما اقترفه في محاكمة دنشواي
بدأت المحاكمة التي انعقدت بمحكمة الاستئناف وسط إجراءات أمنية مشددة. ولم تكتف السلطات المعنية بحصر حضورها في مَنْ بيدهم تذاكر، بل قفلوا جميع الأبواب إلا باباً واحداً، ووضعوا الأرصاد على كل باب، ولم يؤذن لحامل التذكرة بالدخول إلا بعد التحقق منه
تركز دفاع المحامين في البحث عن السبب الذي أدى إلى وفاة بطرس غالي أنه بعد موت بطرس لم تجر عملية تشريح له لمعرفة سبب الوفاة، فدفع المحامون بأن وفاة بطرس غالي لم تنشأ مباشرة عن رصاص مسدس الورداني، ولكن عن العملية الجراحية التي أجريت له بالمستشفى على إثر الحادثة والتي لم تكن ضرورية وأنها هي التي أدت إلى وفاته
وقد كثر القول في تأييد هذا الرأي حتى إن المحكمة نفسها رأت أنه من الضروري أن تطلب النظر في الأمر من قبل لجنة طبية خاصة ومؤلفة من طبيبين إنجليزيين (مادن وهاملتون) وطبيب مصري (علي لبيب.. وحل محله لاحقاً بهجت وهبي). وقد انقسمت آراء هذه اللجنة فكان من رأي الطبيبين الإنجليزيين أن الجراح التي نشأت عن عمل الورداني جراح قاتلة، في حين أن الطبيب المصري قرر أنه لولا العملية التي لم تكن هناك حاجة لها لظل بطرس باشا على قيد الحياة. وتأجلت القضية لجلسة 12 مايو لتقدم اللجنة تقريرها. وجاء في تقرير اللجنة: "وفي النهاية نقول بأنه نظراً لعدم عمل الصفة التشريحية، فقد قدنا الوسائط التي بها يمكننا أن نحكم على نتائج العملية. ونظراً لقلة البيانات التي جاءت بأقوال الشهود، فلا نستطيع كلية أن نعطي جوابا مُرضياً على السؤال الموجه إلينا، وهو: هل العملية أجريت مع الاحتياطات الطبية المقررة فنياً؟"
[14]
ولم يكن أمام المحامين نقطة أخرى يبنون عليها دفاعهم، فالمتهم كتب إقراراً بارتكابه الجريمة بخط يده
وقد قام عبد الخالق باشا ثروت الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب النائب العام بالتحقيق في القضية، وقد ذكر في مرافعته أن: "الجريمة المنظورة أمام المحكمة هي جريمة سياسية وليست من الجنايات العادية، وأنها بدعة ابتدعها الورداني بعد أن كان القطر المصري طاهراً منها ثم طالب بالإعدام للورداني"
وأصدرت المحكمة حكمها بتاريخ 18 مايو 1910 برفض ما طلبه الدفاع من إحالة المتهم إلى لجنة طبية لمراقبته حيث ثبت في يقين المحكمة سلامة قواه العقلية، وثانياً إرسال القضية لفضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ بكري الصدفي، ورفع محامو الورداني طعناً على هذا الحكم أمام محكمة النقض التي رفضت نقضه
وفي المحاكمة المذكورة، رفض المفتي الأكبر، لأسباب شرعية، أن يصدر فتوى بالمصادقة على الحكم بالإعدام، وأخذ بوجهة نظر الدفاع القائلة باختلال قوى المتهم العقلية وضرورة إحالته إلى لجنة طبية لمراقبته، ولكن تم تجاهل تلك الفتوى وأُعدم الورداني سراً
[15]
ففي الساعة الخامسة والدقيقة 45 من يوم 28 يونيو سنة 1910، دخل وكيل المحافظة والحكمدار وطبيب السجن ومأموره إلى سجن الاستئناف وذهبوا إلى غرفة الإعدام ثم جيء بإبراهيم ناصف الورداني ووضع الحبل في عنقه الساعة الخامسة والدقيقة 50، وتلا عليه مأمور السجن حكم الإعدام فقال الورداني: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الحرية والاستقلال من آيات الله"، ثم قابل الموت بجأش ثابت ثم فتحت الهوة فهوى، وبعد قليل حُمِل إلى غرفة التشريح وشرحت جثته حسب العادة وغسل وكفن وسارت عربة السجن تواً إلى مقابر الإمام الشافعي يحرسها بعض رجال البوليس السري من راكبي الدراجات، ودفنت في مقابر عائلته
[16]
ويقول الزعيم الوطني سعد زغلول إن محاكمة إبراهيم الورداني فتحت باباً للخلاف بين عنصري الأمة. "وقد اتخذ الأقباط هذه المسألة لتحريك البغضاء بينهم وبين المسلمين، وقامت جرائدهم تنسب القتل للتعصب الديني، وتجسم أمر الحادثة، وتبالغ في الحوادث التي ترتبط بها ولا يخلو من وقوعها بلد من البلدان. وتختلق الحوادث الأخرى للدلالة على وجود ذلك التعصب
"فلما أحس المسلمون بذلك، نقموا وعطفوا على الورداني وتمنوا لو خلص من العقاب. وانبث هذا الميل خصوصاً في العامة والنساء والأطفال، وتمكن من أفراد الحزب الوطني. بل عمل الكثير منهم على تمكينه في النفوس، وسعوا جهدهم في تلطيف العقاب، واستعملوا لذلك كثيراً من الوسائل"
[17]
وهكذا تحول إبراهيم الورداني إلى بطل وطني في الحس الشعبي، وكان كثيرون يغنون "يا ميت صباح الفل على الورداني"، ورددوا "قولوا لعين الشمس ما تحماشي، أحسن غزال البر صابح ماشي"
[18]
من جهتها، رأت الصحف القبطية، ومعها كثير من القبط، أن هذه الجريمة لم تُرتكب إلا بدافع من التعصب الديني، وأن بطرس غالي لم يُقتل إلا لأنه قبطي. واتهموا الحزب الوطني بأنه هو الذي هيَّج الرأي العام عليه بكتاباته واحتجاجاته على معاهدة 1899 ودنشواي وقانون المطبوعات وقانون النفي الإداري، واعتبروا أن تحريض صحف الحزب المستمر قد ساهم على الأقل في تهيئة أسباب الاغتيال
وعند ذاك انحرف بعض أفراد حركة القبط انحرافاً خطيراً، فزادوا على الكتابة في الصحف القبطية الشكوى إلى الصحافة الإنجليزية، والنقل عنها في صحفهم، وسافر بعض رجالهم إلى إنجلترا، شاكين مستنجدين. ودعوا إلى إيجاد فرق من الاحتلال تجوب المدن لحماية الأقباط، وإغلاق الصحف التي تحرض على كراهية الأقباط
[19]
واستغلت الصحافة القبطية الحوادث البسيطة التي كانت تحدث من الجماهير المتعاطفة مع الورداني، وسيلة لإثارة جماهير الأقباط، وأخذت جريدة "المقطم" الموالية للإنجليز تنشر الروايات المختلفة والمهيجة لمشاعر المسيحيين المصريين. وعندما قدم المفتي فتواه في قضية الورداني، استخدمتها الصحافة الاستعمارية وسيلة للطعن في الإسلام وإثارة الأقباط. وقالت "الجازيت" تعليقاً على الفتوى
"إن الشريعة الإسلامية لا تحسب حياة الوزير المسيحي الأول شيئاً مذكوراً في جنب أحقر المسلمين"
[20]
ونهجت الصحافة الاستعمارية الأخرى على غرار "الجازيت"، فقد مسخت المستند الأصلي الذي ساق فيه المفتي أسباب الرفض، لتوهم الناس أنه بمقتضى الشريعة الإسلامية لا يمكن الحكم على مسلم قتل مسيحياً بالموت. وبعد أن شاعت في أوروبا تلك الصورة الممسوخة وعملت عملها في إثارة الحفيظة الدينية في إنجلترا أرغم وزير الخارجية البريطاني السير إدوارد جراي على إظهار المستند الأصلي، فظهر أنه مستند عادي اتبعت فيه أوضاع اصطلاحية
وانتقد الأقباط موقف أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي لم ينظم قصيدة رثاء في بطرس باشا غالي، وكان من أصدقائه المقربين، وهو القائل
"في منازل غالي فزنا بصفو الليالي"
وكتب أحد الأقباط يقول "لعمرك لقد خان شوقي نفسه وهو يقول إنني رجل أخدم الوطن كلما عرضت حال، في خطابه إلى روزفلت. يكذبك الحال يا شوقي. وقد مر عليك موت عظيم مصر بطرس باشا غالي، وقد جمد إحساسك وجف شعورك في مقام العزاء لمصر. أو لم تذكر صفو لياليك حيث قلت

- في منازل غالي فزنا بصفو الليالي
"عجباً لك يا شوقي! تذكر صفو الليالي، ولا تذكر كدر الأيام!"
[21]

وقال كامل منصور مُعرضاً بالشعراء المسلمين

"إن يحجم القوم عن نظم الرثاء له فقد رثـاه النهـي والعلـم والأدب
وإن تجف دموع عيونهــــم فدمع المجـد مُنهـل ومنسكــب
وإن دعاه الألى طالت عقولهـم بظالم فأيـادي عدلـه قشـــب
هل حافظ قد عصته فيه قافيــة أم ابن هاني عراه الخوف والرهب
ابن القصائد يا شوقي مدبجــة من كل ضافية ما إن لها سبــب؟
هل القريض عزيز أن تدبجــه في فقد من الملا آراؤه شهــب؟
أم الدماء التي سالت تروق لنـا دم البرئ قلوب حوله تجـــب؟
دم البرئ ينادينا ألا اجتهــدوا لا تغمضوا الطرف حتي ترفع الحجب"

وقد اضطر أحمد شوقي إلى نظم قصيدة قصيرة جاء فيها

"بني القبط، إخوان الدهور رويدكم هبوه "يسوعاً" في البرية ثانيـــا
حملتم لحكم الله صلب ابن مريـم وهذا قضاء الله قد غال غاليـــا
ووالله لو لم يطلق النار مطلــق عليه لأودى فجأة أو تداويــــا
تعالوا عسى نطوي الجفاء وعهده وننبذ أسباب الشقاق نواحيــــا
فلا يئنكم عن ذمة قتل بطــرس فقد ما عرفنا القتل في الناس فاشيـا"

وشوقي هنا يخاطب العقل، فيدعو إلى ترك العواطف الهوجاء. ويقول إن لكل مخلوق أجلاً معلوماً. وبطرس لم يمت قبل انقضاء أجله. ولو لم يقتله الورداني لقضى نحبه فجأة أو بعد فترة من المرض والعلاج

وقد نظم شوقي قصيدة رائعة في الاحتفال بالذكرى السنوية لبطرس غالي، جاء فيها

"قبر الوزير تحية وسلامـــا الحلم والمعروف فيك أقامـــا
ومحاسن الأخلاق فيك تغيبـت عاماً، وسوف تُغَيَّب الأعوامــا
قد كنت صومعة فصرت كنيسة في ظلها صلى المطيف وصامـا"
[22]

على أنه ينبغي القول إن أصواتاً قبطية حكيمة لم تنجرف وراء أجواء الاحتقان، واتسمت رؤيتها بالوطنية والبعد عن التعصب الطائفي، ونفي فكرة وجود خلفية دينية أو طائفية وراء عملية الاغتيال، ومن هؤلاء نصيف المنقبادي، ومرقس حنا، ومرقس فهمي
كتب مرقس فهمي المحامي يقول


"إذا قتل الورداني تعصباً وحده أو شركاؤه، فليس ذلك دليلاً على أن كل المسلمين أرادوا هذا القتل بسببه.. التضامن هو روح الوطنية وروح كل اجتماع، فلا وطن بدونه، ولا مسلم بدونه، ولا أقباط بدونه"
كما ألقى خطبة في اجتماع عقده القبط بحديقة الأزبكية، ينفي فيها عن المسلمين تهمة التعصب، مسفهاً أقوال الذين يتهمون طائفة من الأمة بالاشتراك في اغتيال بطرس غالي جملة، ويحصر عمل الورداني في شخصه، مؤكداً أن الجريمة التي راح ضحيتها رئيس الحكومة عملٌ يأسف له كل مصري مسلماً كان أو قبطياً
وقال في إحدى خطبه
".. تنازعنا في نسبة بطرس باشا: من منا خسره؟ أو من الذي كان يملكه؟ هذا يقول: بطرس للأقباط. وذلك يقول: إنه مسلم، لأنه بصفته ناظراً في الحكومة المصرية مدة خمسة عشر عاماً؛ كان شيخاً للأزهر في كل هذه المدة. ولم يكن له أي وظيفة شرعية عند الأقباط، فهو مسلم حكماً وعملاً، بل هو شيخ المسلمين"
"قسمت هذه المناقشة البلد إلي شطرين: أقلية تدعي أنها هي وحدها التي أصيبت في شخص الفقيد، فهي التي عز عليها المصاب، وهي التي يجوز لها أن تطالب بالعقاب. وهي التي يحق لها أن تراقب أعمال التحقيق، وتلاحظ عليه وهي التي تتألم لكل حركة تعتقد أن فيها إهمالاً لتقدير ذلك المصاب الجلل، أو جموداً في شعور الأكثرية، أو سكوتاً لا يتفق مع أهمية الحادث. أما الأكثرية - يعني المسلمين - فماذا كان موقفها؟"
"أخبرني صديق منها أنه صمم علي تأبين الفقيد يوم الأربعين، معتقداً أن هذا أقل واجب يؤديه. فلما رأي هذه المناقشة خشي أن يحسب الناس منه ذلك نفاقاً ورياء؛ فعدل عن قصده نهائياً"
[23]

وقال مرقس حنا: "إن التعصب إذا كان موجوداً فلا قضاء عليه إلا بالدستور، ودعا الأقباط إلى كتابة العرائض من أجل الدستور"
وكتب نصيف جندي المنقبادي المحامي إلى جريدة "الإكلير" في باريس خطاباً يقول فيه
"اسمح لي بصفتى مصرياً أن أقرر بعض نقط تتعلق بمقتل بطرس غالي باشا رئيس الوزارة المصرية، ليس من اختصاصي تقدير عمل إبراهيم الورداني، ولكني أريد من صميم فؤادي أن أبعد التهم التي أشاعها الإنجليز في العالم ضد هذا الشاب، ليقللوا من النتيجة السياسية لعمله، فقد اتهموه بأنه فتى مختل الشعور، قليل الذكاء وأنه أطاع داعي التعصب بقتله بطرس باشا غالي المسيحي، الذي يقولون إنه كان حراً ووطنياً"
"أنا أعرف الورداني شخصياً فهو فتى شديد الذكاء كثير المعارف، ملأت صدره الوطنية الحرة وليس شخصاً متعصباً.. وأنا بصفتي قبطياً - أعني مصرياً مسيحياً– أصرح بأن حركتنا هي حركة وطنية مجردة ترمي إلى الترقي والحرية.. وما تهمة التعصب الإسلامي إلا من إشاعات الإنجليز التي يشيعونها ليبرروا المظالم التي يرتكبونها في مصر"
[24]

وفي مذكراته، يؤكد سعد زغلول أن أدلة المحكمة قاصرة في حكمها بالإعدام على الورداني، وإن كان يقول: "ولا أنتقد هذا الحكم في ذاته ولكن الطريقة التي انتهت به. ولقد كان السير جورست متخوفاً من المسألة ويخشى ألا يحكم بالإعدام فيها، وأظهر لي هذه الخشية خصوصاً بعد الحكم التمهيدي"
[25]
وبذل الحزب الوطني وغيره محاولات كثيرة للعفو عن الورداني، واهتم الأوروبيون خاصة بالإسكندرية للعفو عن الورداني، وكتبوا عريضة وقع عليها 1500 شخص، ولكن المعتمد السامي البريطاني السير إلدون جورست سعى لدى القناصل لوقف هذه الحركة، وأوعز بسرقة العريضة التي بلغ الموقعون عليها ثلاثة آلاف من محل استين بالإسكندرية
[26]

أما الشخصية الثالثة في محاكمة دنشواي، فهو أحمد فتحي زغلول (فبراير 1863- 27 مارس 1914) عضو المحكمة ورئيس محكمة مصر الابتدائية الذي كتب حيثيات الحكم بخط يده وطالب بتوقيع أقصى العقوبة. ولم يغفر له أحدٌ ما فعله في دنشواي.. لم يغفر له أنه الشقيق الأصغر لزعيم الأمة سعد زغلول، حتى إن ذكراه كانت تمر بعد ذلك وسعد زعيم الأمة المحبوب، فلا يجسر أحدٌ على الإشارة إليها
بل إن خصوم سعد زغلول كانوا يشيرون إلى شقيقه أحمد فتحي كدليلٍ على عدم وطنية الأول
مع أنه في الكراستين السادسة والسابعة من مذكراته، تحدث سعد زغلول عن علاقته بشقيقه أحمد فتحي زغلول بأنه كانت لديه غيرة شديدة منه، إذ كان يرى أن وجود سعد يمنع عنه الترقي إلى الوزارة ويمنعه من الاسترسال في شهواته وكان يرى أنه دائماً أحق من سعد بمنصب الوزارة، وأنه أكفأ منه
ويسجل سعد في مذكراته أيضاً أنه قال لشقيقه فتحي "إن كثيراً من الناس يقولون عليك، إنك دساس تسيء إلى إخواتك إذا تمكنت ولا تبالي إلا بفائدتك فإن كنت تعمل من ذلك شيئاً فأقلع عنه"
[27]
وعلى رغم أن الزعيم الوطني محمد فريد كان يكره سعد زغلول ويكره سيرته فإنه - أي محمد فريد- لم ينكر زعامة سعد. ويذكر محمد فريد ما لا يعرفه كثيرون عن حياة فتحي زغلول فاسمه الأصلي فتح الله صبرى وكان تلميذاً بالمدارس التجهيزية وإبان الثورة العرابية كان خطيباً من الخطباء الذين يحضون على الثورة مع النديم. ولما جاء أحمد خيري باشا ناظراً للمعارف رفض فتح الله صبري بسبب اشتراكه في الثورة، لكن خيري كان يحبه لنباهته وفصاحته وأراد مساعدته فنصحه بتغيير اسمه لإعادة قيده كطالب جديد فسمي باسم أحمد فتحي ودخل الألسن
وفي عام 1883 سافر إلى أوروبا وعُيِّنَ في قلم القضايا ثم المحاكم الأهلية عام 1889 وظل يترقى حتى أصبح رئيساً لمحكمة مصر وتوثقت علاقته باللورد حتى وقعت حادثة دنشواي التي كان أحد أعضاء محكمتها
ألقت مشاركة فتحي زغلول في المحاكمة بظلال قاتمة على سيرته، فقد كان اسمه يذكر مقروناً بالمذبحة وقليلون عرضوا على جانب مضيء ومشرق للرجل وهو الجانب المتعلق بمشاركته في تأسيس "الجريدة" لسان حزب الأمة، كما أنه قدم للمكتبة العربية عدداً من الكتب المهمة التي نقلها عن الفرنسية والإنجليزية ومنها "سر تطور الأمم" و"أصول الشرائع"، وفوق هذا فقد كان يملك ناصية اللغة العربية ويشدد على الاهتمام بها ويحذر من إفسادها
حدث في العام التالي مباشرةً لمأساة دنشواي، أي في عام 1907، أن تمت ترقية أحمد فتحي زغلول إلى منصب وكيل وزارة الحقانية، ولذلك قصة نرى أنها تستحق أن نسردها. إذ يروي المستشار أحمد عرفان باشا أن الشيخ محمد عبده هو الذي قدم له أحمد فتحي زغلول ووصفه بأنه ذا علم غزير، فضلاً عن إجادته للغة الفرنسية وإتقانه لقواعد اللغة العربية. وبعد وفاة الشيخ محمد عبده بعشرين يوماً، أرد شقيقه أن يزور اللورد كرومر ليشكره على حسن مواساته لأسرة الفقيد في مصابها. ولما كان يجهل التخاطب بإحدى اللغات الأجنبية فقد أراد أن يرافقه في الزيارة الزعيم الوطني سعد زغلول، لكن الأخير أشار عليه بأن يصطحب معه شقيقه أحمد فتحي بدلاً منه، فذهب إليه وكاشفه بالغاية من زيارته فرضي أن يرافقه في اليوم الذي ستحدد له فيه ساعة المقابلة
وفي الموعد المضروب توجه شقيق الشيخ محمد عبده ومعه أحمد فتحي إلى دار المندوب السامي البريطاني، فاستقبلهما السكرتير الشرقي وقادهما إلى القاعة التي كان اللورد كرومر ينتظرهما فيها. كرر المضيف عزاءه لشقيق الإمام، وتولي أحمد فتحي مهمة الترجمة بين الاثنين. ويبدو أن اللورد كرومر أعجب بفصاحته ولباقته فأخذ يحادثه في موضوعاتٍ شتى. سأله المندوب السامي البريطاني عن منصبه الذي كان يتقلده آنذاك، فأجاب أحمد فتحي زغلول بأنه رئيس محكمة
وفي اليوم التالي، أرسل اللورد كرومر يدعو المستشار القضائي إلى مقابلته فخف إلى داره، ولما دخل عليه في مكتبه ابتدره بالقول: "هل تعرف أحمد فتحي زغلول بك؟" فأجاب: "أعرفه"، فقال اللورد كرومر: "إني أريد أن يُعين في الحال وكيلاً لنظارة الحقانية"، فقال المستشار بعد ترددٍ قصير: "ولكن للحقانية وكيلاً في الوقت الحاضر".. فقال له كرومر: "تستغنون عن الوكيل الحالي ويُعين أحمد فتحي زغلول بك محله"
[28]
وهكذا كان
وحين أقام بعض الموظفين حفل تكريمٍ لأحمد فتحي زغلول في فندق "شبرد" بمناسبة توليه منصب وكيل وزارة الحقانية، طلبوا من أحمد شوقي الاشتراك في الحفل بقصيدة، فأرسل إليهم ما أرادوا في مظروفٍ.. وفتحته لجنة الاحتفال في الموعد المحدد، فوجدت به أبياتاً تقول

إذا ما جمعتم أمركم وهممتموا .. بتقديم شيءٍ للوكيل ثمين
خذوا حبال مشنوقٍ بغير جريرةٍ .. وسروال مجلودٍ، وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه، فحسبُه .. من الشعر حكمٌ خطه بيمين
ولا تقرأوه في "شبرد" بل اقرأوا .. على ملأٍ في دنشواي حزين
[29]

وكانت لطمةً قويةً.. وأنقذ أحمد فتحي زغلول نفسه، فغادر الدنيا بعدها بسنواتٍ قلائل، إذ مات في عام 1914 وهو وكيلٌ لوزارة العدل

الهوامش


[1] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (1)، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 22 فبراير 2010
[2] د. محمد حسين هيكل، تراجم مصرية وغربية، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص 116- 117
[3] المرجع السابق
[4] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (1)، مرجع سابق
[5] جريدة "المؤيد" – الملحق الثاني، القاهرة، 20 فبراير 1910
[6] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (2)، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 24 فبراير 2010
[7] جريدة "الجريدة"، القاهرة، 21 فبراير 1910
[8] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (2)، مرجع سابق
[9] د. طلعت إسماعيل رمضان، الإدارة المصرية في فترة السيطرة البريطانية 1882- 1922، دار المعارف، القاهرة، 1983
[10] المرجع السابق
[11] جريدة "الإيجيبسيان"، القاهرة، 8 يناير 1911
[12] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (2)، مرجع سابق
[13] المرجع السابق
[14] د. محمد عبد الرحمن برج، دراسة في الحركة الوطنية المصرية.. وزارة بطرس غالي (1908- 1910)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1980
[15] عبد الحميد يونس، حكايات قضائية، سلسلة "كتاب اليوم"، عدد يوليو 1994، دار "أخبار اليوم"، القاهرة، 1994، ص 37- 39
[16] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (2)، مرجع سابق
[17] سعد زغلول، مذكرات سعد زغلول (تحقيق د. عبد العظيم رمضان) ج 3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990، ص 354[18] عبد الحميد يونس، تاريخنا الجنائي في الشارع السياسي، مرجع سابق، 57
[19] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (3)، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 7 أبريل 2010
[20] المرجع السابق
[21] محمد سيد كيلاني، الأدب القبطي قديماً وحديثاً، دار الفرجاني، القاهرة، 1962
[22] يوسف القعيد، لماذا امتنع شوقي عن رثاء بطرس غالي؟، جريدة "الدستور"، 13 أبريل 2010
[23] محمد سيد كيلاني، مرجع سابق
[24] المرجع السابق
[25] سعد زغلول، مرجع سابق، ص 357
[26] المرجع السابق، ص 361
[27] إبراهيم الخضري، جلادون مصريون في المذبحة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 19 يونيو 2009
[28] ­­­­­­­­­­­كيف عُين أحمد فتحي زغلول باشا وكيلاً للحقانية؟، مجلة "كل شيء والعالم"، القاهرة، 31 ديسمبر 1928، ص 4
[29] أحمد شوقي، مرجع سابق
تابع القراءة

gravatar

دنشواي.. ضحايا وجلادون



في مطلع القرن العشرين، وفي إحدى قرى المنوفية، أعيد كتابة التاريخ
أما القرية فهي دنشواي، التي تقع في مركز الشهداء، شبين الكوم بمحافظة المنوفية، ويُعتقد أن الاسم مشتقٌ قديماً من دير جواي ثم تحول إلى دنجواي. ينطقها أهلها "دنشية"، وهي تستقبلك بأبراج الحمام.. رمز السلام الذي تحول إلى رمز للظلم والاحتلال
تعود بدايات الحكاية إلى عام 1906، حين صدرت أوامر الحكومة في مصر إلى عُمد بعض البلاد بمساعدة كتيبة تابعةٍ للاحتلال البريطاني آنذاك مكونة من خمسة ضباط ممن كانوا يرغبون في صيد الحمام ببلدة دنشواي كما اعتادوا
وفي نهارٍ صيفي عادي هو يوم الأربعاء الموافق 13 يونيو عام 1906، كان الضباط الإنجليز في رحلة صيد حمام بجوار قرية دنشواي بالمنوفية المشهورة بكثرة حمامها بدعوة من عبد المجيد بك سلطان أحد أعيان القرية
تجول هؤلاء الضباط الإنجليز بقيادة الميجور بين كوفين بالقرب من القرية المنكوبة ومعهم الأومباشي "العريف" أحمد حسين زقزوق والترجمان عبد العال صقر. وكان الميجور مغرماً بصيد الحمام فأقنع رجاله - وهم: الكابتن بول، الملازمان بورثر وسميث، الطبيب البيطري الملازم بوستك - بأن يتراهنوا لاصطياد الحمام من على أشجار دنشواي
وكان كوفين وبول وبوستك يطلقون الرصاص لاصطياد الحمام بجوار الأشجار على جانبي الطريق الزراعي، ولكن تشاء الأقدار أن يتوغل بورثر وسميث داخل القرية حيث كان الحمام عند أجران الغلال يلتقط الحَب. ويصوب بورثر بندقيته إلى جُرن الحمام الخاص بالشيخ محمد عبد النبي مؤذن البلدة، فتفقد زوجة الشيخ وعيها بعد أن أصابتها خرطوشة
وتفيد روايات أخرى بأن مؤذن البلدة جاء يصيح بهم كي لا يحترق التبن في جُرنه، لكن أحد الضباط لم يفهم منه ما يقول وأطلق عياره فأخطأ الهدف وأصاب المرأة، وتدعى أم محمد. واندلعت النار في التبن بفعل البارود المشتعل، فهجم الرجل على الضابط وأخذ يجذب البندقية وهو يستغيث بأهل البلد صارخاً "الخواجة قتل المرأة وحرق الجُرن، الخواجة قتل المرأة وحرق الجُرن"، فأقبل الأطفال والنسوة والرجال صائحين "قتلت المرأة وحرقت الجُرن"، وهرع بقية الضباط الإنجليز لإنقاذ صاحبهم
وفي هذا الوقت وصل الخفراء للنجدة كما قضت أوامرهم، فتوهم الضباط على النقيض بأنهم سيفتكون بهم فأطلقوا عليهم الرصاص وأصابوا بعضهم فصاح الجمع "قتل شيخ الخفر" وحملوا على الضباط بالطوب والعصي، فألقى الخفراء القبض عليهم وأخذوا منهم الأسلحة إلا اثنين منهم وهما "كابتن" الفرقة وطبيبها اللذين أخذا يعدوان تاركين ميدان الواقعة وقطعا نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد حتى وصلا إلى بلدة سرسنا، فوقع "الكابتن" بول مطروحاً على الأرض ومات بعد ذلك متأثراً بضربة شمس إثر عدوه لمسافة طويلة تحت أشعة الشمس
[1]

عندها تركه زميله الطبيب وأخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر، وصاح بالعساكر فركضوا إلى حيث يوجد الكابتن، فوجدوه وحوله بعض الأهالي، فلما رآهم الأهالي لاذوا بالفرار، فاقتفى العساكر أثرهم وألقوا القبض عليهم إلا أحدهم - ويُدعى سيد أحمد سعيد - هرب قبل أن يشد وثاقه واختبأ في فجوة طاحونةٍ تحت الأرض فقتله الإنجليز شر قتلة، بعد أن انهالوا عليه ضرباً بالسونكي، حتى أصبحت أكبر قطعة في رسه – كما ذكرت "مجلة المجلات العربية" التي صدرت بعد الحادث مباشرة- في حجم عملة النقود الصغيرة التي تسمى بالقرش تعريفة[2]!

واصل الجنود الإنجليز سيرهم إلى دنشواي، ليتسلموا بقية الضباط، الذين كانوا قيد التحفظ في الجرن الذي أشعلوا فيه النار
وفي ظل الاحتلال، تختل الموازين وتأخذ العدالة إجازة. فقد تجاهل الإنجليز جريمة قتل سيد أحمد سعيد، والإصابة التي تعرض لها كل من أم محمد، وعامر عدس، وشحاتة داود وعلي الدبشة، وأخذوا يبحثون عن "عدالة" تقتص لمقتل الكابتن بول، الذي أكد زميله الطبيب بوستك إنه كشف عليه طبياً، وتبين له أن سبب الوفاة احتقان في المخ من أثر ضربة الشمس التي تعرض لها بسبب مسيرته الطويلة تحت الشمس الحارقة

وقد نظم حافظ إبراهيم إثر حادثة دنشواي قصيدة يقول فيها
أيها القائمون بالأمر فينا .. هل نسيتم ولاءنا والودادا؟
خفّضوا جيشكم وناموا هنيئاً .. وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذاتُ طوق .. بين تلك الربا فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء .. لم تغادر أطواقنا الأجيادا
[3]

جاء رد الفعل البريطاني قاسياً وسريعاً، فقد ألقي القبض على عشرات الفلاحين، وأحيل 60 منهم – بينهم 8 هاربين- إلى المحاكمة بتهمة القتل المتعمد
وطبقاً للقانون العرفي الصادر في 25 فبراير سنة 1895 لحماية أرواح قوات الاحتلال البريطاني، وبناء على قرار الاتهام المقدم من محمد شكري باشا مدير المنوفية، صدر في يوم 20 يونيو عام 1906 قرار بتشكيل محاكمة خاصة وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو. كانت المحكمة برئاسة بطرس باشا غالي نيروز ناظر الحقانية بالنيابة، وعضوية كلٍ من أحمد فتحي بك زغلول (حمل لاحقاً لقب: باشا) رئيس المحاكم الأهلية، و"مستر" وليام جودنفا هيتر المستشار القضائي بالنيابة، و"مستر" بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية، وكان القاضي العسكري الكولونيل لادلو يمثل جيش الاحتلال، أما سكرتير المحكمة فكان عثمان بك مرتضى. وقام بالدفاع عن المتهمين كلٌ من أحمد لطفي السيد وإسماعيل عاصم ومحمد بك يوسف وعثمان بك يوسف. وتولى إبراهيم بك الهلباوي الادعاء في المحاكمة التي استمرت من 24 إلى 27 يونيو
[4]
وهنا جاء دور الهلباوي في تلك المسرحية الهزلية
على رغم من أن الناس إبراهيم الهلباوي عرفوا كأحد أعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر، فإن حياته تعد نموذجاً تقليدياً لقصة حياة البطل الذي يخطىء مرةً واحدةً فيهيل على تاريخه التراب، ويظل مثل سيزيف يكافح طوال ما تبقى من عمره – دون جدوى- للصعود بالصخرة إلى قمة الجبل، دون أن يغفر له أحدٌ خطيئته في حق الشعب
أحب شعب مصر آنذاك إبراهيم الهلباوي (30 إبريل 1858- 20 ديسمبر 1940) الذي وصفه عباس محمود العقاد ذات مرةٍ بأنه "كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها"
[5]. وكان الهلباوي – وهو من قرية العطف في محافظة البحيرة- خطيباً مفوهاً وممثلاً رائعاً يمزج بين العربية الفصحى والعامية البسيطة ويتحرك بخفةٍ ورشاقة، يجبر المحكمة على سماعه ويجعل من يسمعه ويراه مشدوهاً بعبقرية هذا الرجل. قال عنه عبد العزيز البشري إنه "شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلاً، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض.. إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعاً إلا التسليم بأنه رجل عبقري"[6]

كان الهلباوي يقف في المحكمة فيهز مصر كلها بفضل حججه القانونية البارعة التي جعلته يُدعى أعظم طلاب المرحمة، على حد وصف معاصريه.. لكنه فشل في طلب الرحمة لنفسه من الشعب في حادثة دنشواي. وعلى امتداد 30 عاماً طويلة حاول أن يُكفِرَ عن ذنب ارتكبه، لكن الشعب أصم أذنيه لأن الذنب كان من النوع الذي يصعب نسيانه وغفرانه
كان الهلباوي في عزبته في البحيرة إذ وقعت حادثة دنشواي، فلما سمع به اعتزم حضور التحقيق مع المتهمين الأبرياء يوم السبت الموافق 16 يونيو عام 1906، لكنه لما وصل إلى طنطا وهو في طريق العودة من البحيرة إلى القاهرة، تبين له أن التحقيق كان يجري في البتانون، فعدل عن رأيه لبُعد المسافة وارتفاع درجة الحرارة في ذلك اليوم
وعلى رصيف القطار في القاهرة، وجد الياور الخاص برئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا يخبره بأن "الباشا" ينتظره في مكتبه لأمرٍ مهم. ثم التقى الهلباوي محمد محمود بك رئيس حزب الأحرار الدستوريين فيما بعد، وكان يعمل آنذاك سكرتيراً خاصاً لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي "مستر" ميتشل، الذي سأله عما إذا كان أحد من المتهمين في حادثة دنشواي قد وكله للدفاع عنه.. فلما نفى ذلك أخطره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في إثبات التهمة ضد المتهمين أمام المحكمة المخصوصة، باعتباره من أكبر المحامين سناً وأقدمية
المفاجأة كانت في حسم الهلباوي تردده وقبوله المهمة، بل وتواضعه في تحديد أتعابه، فمع أنه – كما قال فيما بعد- "كان يتقاضى 500 جنيه في القضايا الكبرى، فإنه خفض أتعابه في هذه القضية، فقبِلَ أن يترافع فيها ب 300 جنيه فقط"
وبدا لكثيرين أن الهلباوي لا فرق لديه بين أن يدافع عن المتهم البرىء، أو أن يكون المدعي العام الذي يثبت عليه الاتهام ليطالب بإعدامه
وهكذا استقبل الهلباوي في مكتبه "مستر" موبيرلي المفتش الإنجليزي لوزارة الداخلية لوزارة الداخلية و"مستر" مانسفيلد الحكمدار الإنجليزي لبوليس القاهرة اللذين أبلغاه أنهما مكلفان بأن يكونا في خدمته في كل ما يتعلق بقضية دنشواي، واقترحا عليه أن يحضر التحقيق وأن يشارك في استجواب المتهمين، لكنه اعتذر عن ذلك وفضلَ أن يزور مسرح الأحداث ليعاينه
وفي تلك القضية، ترافع الهلباوي ثلاث ساعات في ليلة 26 يونيو وفي صباح اليوم التالي. استخدم الهلباوي دهاءه لتكييف واقعة اعتداء الفلاحين بالضرب على الضباط الإنجليز بحيث يثبت أن الحريق الذي وقع في الجُرن نتيجة رصاص الضباط الإنجليز أثناء رحلة الصيد في دنشواي، هو حادثٌ تالٍ للاشتباك بين الفلاحين والضباط، وهو ما لم يكن صحيحاً. بل إن الهلباوي زعم أن الضباط الإنجليز لم يكونوا أصلاً السبب في حدوث حريق الجُرن، وأشار إلى أنه حريقٌ متعمد اصطنعه الفلاحون ليخفوا أدلة سبق إصرارهم وتعمدهم التحرش بالضباط الإنجليز والاعتداء عليهم بالضرب
وفي ظل تراخي فريق الدفاع عن المتهمين واكتفائه بطلب الرأفة، تمكن الهلباوي من تبرئة الضباط الإنجليز من الأخطاء والجرائم التي ارتكبوها، في حين زاد من مسؤولية الفلاحين عن الحادثة. واتخذ الهلباوي من نجاح الفلاحين في إخماد النيران في الجُرن في غضون ربع ساعةٍ فقط دليلاً على أن الفلاحين هم الذين أطفأوا النيران بعد أن أشعلوها
ولم يبق في إثبات ركن سبق الإصرار على القتل والشروع فيه سوى إثبات أن فكرة القتل لم تكن عرضيةً وإنما كانت نيةً مبيتة
وصوَّر الهلباوي الأمر أمام المحكمة وكأن الفلاحين رتبوا الأحداث بحيث صمموا على قتل الإنجليز إذا جاءوا للصيد في قريتهم. وكان الملازم بورثر قد ذكر أثناء إدلائه بأقواله أمام المحكمة أن المتهم التاسع عبد المطلب محفوظ قد حماه هو وزملاءه من العدوان عليهم، وقدم إليهم المياه ليشربوا، وهي شهادةٌ كانت كافية لتبرئته
وعندما جاء الدور على الشاهد فتح الله الشاذلي نجل عمدة دنشواي، ورد في أقواله هو الآخر أنه قد قدم الماء للضباط.. فتنبه الهلباوي إلى نقطةٍ جزم بأنها فاتت على الملازم بورثر، ووقف ليقول إنه يلاحظ شبهاً كبيراً في الملامح بين المتهم عبد المطلب والشاهد فتح الله، وإنه يعتقد أن الأمر قد اختلط على الملازم بورثر.. فاستدعت المحكمة الضابط الإنجليزي الذي حسم الأمر، وقال إن الذي سقاه هو ابن العمدة وليس المتهم. وبذلك حرم الهلباوي المتهم التاسع من فرصته للنجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة
[7]

وعلى هذا النهج يروي لنا صلاح عيسى كيف بذل إبراهيم الهلباوي جهداً ضخماً في تفنيد كل ما جاء في أقوال المتهمين والشهود ليهدم كل واقعةٍ يمكن أن تتخذ ذريعةً للتخفيف عن المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي، وليثبت للمحكمة أن الحادثة ارتكبت عمداً ومع سبق الإصرار، حتى يفوز بما كان قد اتفق عليه مع سلطات الاحتلال ويعطي المحكمة مبرراً للحكم بالإعدام على المتهمين[8]

بل إنه فند التقارير الطبية التي قالت إن الضحية الوحيدة في الحادثة وهو الكابتن البريطاني بول، قد مات متأثراً بضربة شمس، وأكد أن موت بول بضربة شمس لا ينفي أن المتهمين هم الذين قتلوه لأنهم هم الذين ضربوه، وألجأوه إلى الجري تحت أشعة الشمس اللاهبة. أضف إلى ذلك أن الهلباوي اتهم المتهم البريء حسن محفوظ بأنه "لم يكدر قريةً بل كدَّر أمةً بأسرها بعد أن مضى علينا 25 عاماً ونحن مع المحتلين في إخلاصٍ واستقامة وأمانة.. أساء إلينا وإلى كل مصري.. فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيمٍ عاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده"

وبذلك قتل الهلباوي شعبه كله بعد أن صدرت أحكام غير قابلة للطعن بإعدام أربعة متهمين، هم: حسن علي محفوظ، يوسف حسني سليم‏،‏ السيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران.‏ كما قضت المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين - هما محمد عبد النبي وأحمد عبد العال محفوظ- والسجن 15 سنة على أحمد السيسي، والأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات على 6 آخرين، غير أحكام أخرى بالجلد 50 جلدة على 8 من أهل القرية
رفع اللورد كرومر راية الدم فور صدور الحكم، وفي الثانية من ظهر يوم ‏28‏ يونيو جرى تنفيذ تلك الأحكام الجائرة، بعد محاكمةٍ استمرت بضعة أيام فقط وأمام أعين الأهالي
قامت الصحافة المصرية في ذلك الحين بتغطية الحادث وأفردت له الصفحات الطوال واختلفت المعالجة وفقاً لسياسة كل صحيفة، فبينما نددت به صحيفة "اللواء" وقامت "الأهرام" بوصف الحدث المحزن، ظهر جلياً موالاة صحيفة "المقطم" للاحتلال الإنجليزي
[9]
وكتبت صحيفة "الأهرام" تحت عنوان "إنفاذ الحكم في دنشواي" تصف وقائع تنفيذ أحكام الإعدام والجلد على المتهمين فقالت
"في الساعة الرابعة من صباح هذا اليوم ازدحمت شوارع شبين الكوم بالجماهير لرؤية المتهمين الذين يرسلون إلى دنشواي لإنفاذ حكم المحكمة المخصوصة عليهم. وكان رجال البوليس المصري ورجال جيش الاحتلال يحافظون على النظام وهم على صفين شاهرين السلاح
"وفي الساعة 6 صباحاً وصلت إلى محطة البتانون فوجدت المحطة مزدحمة بالأهالي وبينهم الوصفاء ووكلاء الجرائد ومكاتبوها وكلهم يبحث عن ركوبة توصلهم إلى دنشواي ولم يتوصلوا إلى بغيتهم إلا بكل صعوبة وبلغت أجرة الحمار عشرين قرشاً صاغاً في الذهاب والإياب وهي أجرة لم أسمع بها في مدة إقامتي بالمنوفية لأن يومية الحمار لا تزيد على خمسة قروش صاغ
"فتركت نقطة الشهداء والنفس حزينة لمنظر أولئك الذين يبكون ذويهم وهم صابغون وجوههم ورابطون رقابهم ودموعهم تتناثر وأصواتهم ترتفع، ولما وصلت دنشواي نظرت إلى تلك الأبراج العديدة فلم أر ذلك الحمام الذي كان يحوم كعادته حينما كنت أمر على تلك الناحية لقضاء أعمالي كأنه حزن على ما كان فأقسم أن ينوح في أبراجه فلا يخرج في ذلك اليوم العصيب.. وفيها ثلاث خيام خيمة منها بالجهة الغربية وقد أعدت لوضع جثث الذين يعدمون وخيمة بالجهة الشرقية لوضع جميع المتهمين فيها قبل تنفيذ الأحكام والثالثة إلى جانبها أيضاً وهي لوضع المتهمين المراد جلدهم بعد إنفاذ الجلد
"وفي ساعة وصولي كانوا يشتغلون بنصب المشنقة التي يطلب نصبها زمناً طويلاً وكان عشماوي الجلاد يلاحظ إقامتها ويساعد النجار المخصص لها وكثير من الخفراء يخدمونه في عمله المشؤوم وقد علقت في أطراف المشنقة آلات الجلد ورأيت الأهالي في حزن لا أستطيع وصفه وحسب القارئ أن يتصور أناساً يتوقعون مقتل ذويهم أمام عيونهم
"وصل المتهمون للساحة التي أعدت لتنفيذ الأحكام عليهم فيها فلا تسل عن الصراخ والبكاء"
[10]
أما صحيفة "المقطم" فقد كتبت مقالا تعليقاً على الحادث تحت عنوان "الحادثة المشؤومة في دنشواي" تقول: "فأول تلك الحقائق ابتعاد الضباط الإنكليز عن الشر وحبهم العجيب للمسالمة وخلوص طويتهم وصفاء نيتهم إلى حد لا يكاد يصدق فقد ذهبوا لصيد الحمام.. وهم يحسبون أنهم معدودون ضيوفاً كراماً وأنهم ينزلون على الرحب والسعة في كل مكان وأنه لا يضن أحد عليهم بحمامات لو طلب ثمنها منهم لدفعوا قدر عددها جنيهات..
وجعلوا يصيدون الحمام بعيداً عن البلدة والأجران فلم يمس أحد بسوء من جراء ذلك ولكن قوماً من الأهالي أنكروا أمر هذا الصيد فجعل بعضهم ينازع أحد الضباط بالكلام..
والحقيقة الثانية أن أهل دنشواي فعلوا حينئذ فعلاً يحل عنه أهل الشرق ولا يليق بأبناء مصر الكرام فقد كان الواجب عليهم إكرام الضيف على كل حال ولا سيما بعد ما رأوهم لابسين الحلة العسكرية فعلموا أنهم ضباط في جيش الاحتلال
ولجيش الاحتلال الفضل الأعظم على كل فلاح في بر مصر بلا جدال"
[11]

وفي عدد آخر كتبت تقول "ساءت حادثة دنشواي هذه العالم المتمدن عموماً وعقلاء مصر خصوصاً لما ارتكبه أهل دنشواي فيها من الجرائم الفظيعة والعيوب الفاضحة حتى بات كل مصري عاقل يغار على بلاده يتبرأ منهم"[12]
جريدة "اللواء" لصاحبها مصطفى كامل باشا قالت"لا حديث لأهل الأرض في هذه الأثناء سوى حادثة دنشواي الفظيعة التي مثلت أدوارها إلى آخر فصل مريع وهو تنفيذ ذلك الحكم القاسي بما جعل الناس يذكرون أحكام المماليك الاستبدادية بنوع من الرأفة أمام ما رأوه في هذه الأيام"[13]
وتكتب الجريدة في صفحتها الأولى مقال "يا دافع البلاء – الإعدام والتعذيب في دنشواي" لكاتبها أحمد حلمي وقال فيه "وحينئذ كان دمي قد كاد يجمد في عروقي من تلك المناظر الفظيعة فلم أستطع الوقوف بعد الذي شاهدته...
كنت أسمع صياح ذلك الرجل يلهب الجلاد جسمه بسوطه. هذا ورجائي من القراء أن يقبلوا معذرتي في عدم وصف ما في البلدة من مآتم عامة وكآبة على كل بيت وحزن باسط ذراعيه حول الأهالي حتى إن أجران غلالهم كان يدوسها الذين حضروا لمشاهدة هذه المجزرة البشرية وتأكل منها الأنعام والدواب كأن لا أصحاب لها.. لأني لم أتمالك نفسي وشعوري أمام البلاء الواقع الذي ليس له من دافع"
[14]




ويقول د. محمد حسين هيكل: "ونفذ هذا الحكم بطريقةٍ همجية لا عهد للإنسانية بها منذ عصورها المظلمة. فقد نصبت المشانق التي أُرسلَت إلى قرية دنشواي قبل صدور حكم المحكمة أمام منازل الأهالي مباشرة ونصبت إلى جانبها آلات الجلد. وغداة صدور الحكم نفذ على صورةٍ يقشعر من هولها البدن. فكان كل محكومٍ عليه بالإعدام يعلق في المشنقة ويبقى معلقاً أمام أنظار أهله وأبنائه إلى أن يجلدوا اثنين من المحكوم عليهم بالجلد. وكان هؤلاء يجلدون بكرابيج ذات ثمانية ألسن معقود طرف كل لسان منها بقطعةٍ من الرصاصز ومن حول المشانق والمجالد وفوق أسطح المنازل وقف الناس من أهل هؤلاء التعساء وذويهم يشهدون جلودهم تُشوى بالكرابيج وجثثهم فارقتها أرواحها معلقة في المشانق، ومستشار الداخلية الإنجليزي واقف يحافظ على النظام لهذا المشهد الذي أبدعته انجلترا في مطلع القرن العشرين. ما أشدها وحشية وما أتعسها حضارة!"[15]
الكاتب الأيرلندي الشهير جورج برنارد شو لم يجد في مقدمة إحدى مسرحياته سوى السخرية من عدل سلطات الاحتلال، التي أجهدت نفسها بحثًا عن "بروجرام" تشغل به المتفرجين على حفل الإعدام وتحول بينهم وبين الملل خلال نصف الساعة الذي كان مفروضاً أن يظل فيه جسد المشنوق معلقاً للتأكد من وفاته، ولإتاحة وقت كاف لأسرته كي تشاهده وهو يدور حول نفسه. وقد حلَّت المحكمة هذه المشكلة فقضت على ثمانية من المتهمين بالجلد؛ لتتيح لفرقة التنفيذ ملء فراغ "البروجرام" بجلد اثنين بين كل مشنوقين، حتى يكتمل الطابع الاحتفالي والاستعراضي لعدل المحتلين
وعلق جورج برنارد شو قائلاً: "إذا كانت إمبراطوريتها [انجلترا] تعني حكم العالم كما جرى حكم دنشواي في عام 1906 -- وأخشى أن هذا هو ما تعنيه "الإمبراطورية" بالنسبة إلى الجزء الرئيسي من الطبقات الأرستقراطية العسكرية والطبقة الثرية المتنفذة ذات العصبية القومية لدينا – فإنه لن يكون هناك أي واجب سياسي مقدس، وأكثر إلحاحاً على وجه الأرض من تقويض هذه الإمبراطورية، وإلحاق الهزيمة بها، وقمعها، علاوة على إضفاء الطابع الإنساني على أنصارها"
[16]
في قصيدة "شنق زهران" للشاعر صلاح عبد الصبور نقرأ عن كفاح فلاح بسيط من أبناء الشعب في وجه احتلالٍ غاشم. يقول الشاعر:
مر بظهر السوق يوماً
ورأى النار التي تحرق حقلاً
ورأى النار التي تصرع طفلاً
كان زهران صديقاً للحياة
مدّ زهران إلى الأنجم كفاً
ودعا يسأل لطفاً
ربما سورة حقد في الدماء
ربما استعدى على النار السماء
...........
وضع النطع السكة والغيلان جاؤوا
وأتى السياف (مسرور) وأعداء الحياة
صنعوا الموت لأحباب الحياة
وتدلى رأس زهران الوديعْ
قريتي من يومها لم تأتدم إلا الدموعْ
قريتي من يومها تأوي إلى الركن الصديعْ
قريتي من يومها تخشى الحياة
كان زهران صديقاً للحياة
مات زهران وعيناه حياة
فلماذا قريتي تخشى الحياة؟
[17]

وحينما وقعت حادثة دنشواي، كان الزعيم الوطني مصطفى كامل يعالج من المرض في باريس، فقطع رحلة علاجه وسافر إلى لندن وكتب مجموعة من المقالات العنيفة ضد الاحتلال والتقى هناك السير كامبل باترمان رئيس الوزراء البريطاني الذي عرض عليه تشكيل الوزارة في مصر، لكنه رفض ونشر مقاله الشهير "إلى الأمة الإنجليزية والعالم المتمدن" في صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية دفاعاً عن القضية المصرية والتنديد بوحشية الإنجليز في دنشواي
[18]
يقول مصطفى كامل في مقاله الذي حمل فيه على اللورد كرومر في مصر وأوروبا: ".. نصبت المشانق ووضعت آلات الجلد والتعذيب في وسط دائرةٍ مساحتها 2000 متر مربع وأحاطت "عساكر الدراجون" الإنجليزية بالمحكوم عليهم. والتفت الخيالة المصرية حول الإنجليز وتولى "المستر" ميتشل "مستشار الداخلية" ومعه مدير المنوفية أمر التنفيذ! وقد تقدم إليهم ابن أول المحكوم عليهم بالشنق، سائلاً مقابلة والده لأخذ وصاياه الأخيرة فرفضوا قبول الرجاء الذي هو أعز ما يرجوه الإنسان ويحتمه الشرع والعدل... فشنق رجل، ولبث أعضاء عائلته وأقاربه وهم على بُعدٍ يملأون الفضاء بصراخهم الممزق للقلوب.. وجلد اثنان أمام الجثة وتكرر هذا المنظر ثلاث مرات! واستمر ساعة من الزمن!... منظر وحشي مهيج"[19]

ويتابع مصطفى كامل في تقريره قائلاً: "جئت أسأل الذين يجاهرون في كل آن، ذاكرين الإنسانية، مالئين الدنيا بعبارات الانفعال والسخط، إذا حدثت فظائع في بلاد أخرى دون فظيعة "دنشواي" ألف مرة أن يثبتوا صدقهم وإخلاصهم بالاحتجاج بكل قوة وشدة على عمل فظيع مثل حادثة "دنشواي" يكفي وحده أن يسقط إلى الأبد المدنية الأوروبية في أعين العالم كافة... جئت أسأل الأمة الإنجليزية إذا كان يليق بها أن تترك الممثلين لها في مصر يلجأون بعد احتلال دام أربعة وعشرين عاماً، إلى قوانين استثنائية ووسائل همجية، بل وأكثر من همجية..."[20]

وانتقل الأمر إلى مجلس العموم في انجلترا وتداولته الصحافة في فرنسا، حتى أطيح اللورد كرومر الذي استقال في 4 مارس 1907. واضطرت انجلترا إلى العفو عن المحكوم عليهم في دنشواي – أو من بقي منهم حياً!- في 8 يناير 1908 بفضل مصطفى كامل وجهوده الكبيرة
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي بعد مرور عام على حادثة دنشواي
يا دنشواي على رباك سلام .. ذهبت بأنس ربوعك الأيام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها .. وبأي حال أصبح الأيتام
عشرون بيتاً أقفرت وانتابها .. بعد البشاشة وحشةٌ وظلام
نوحي حمائم دنشواي وروّعي .. شعباً بوادي النيل ليس ينام
السوط يعمل والمشانق أربع .. متوحدات والجنود قيام
والمستشار إلى الفظائع ناظر .. تدمى جلود حوله وعظام
وعلى وجوه الثاكلين كآبة .. وعلى وجوه الثاكلات رغام
[21]

أما وصف "جلاد دنشواي" فقد كان صاحبه الشيخ عبد العزيز جاويش، الذي زعم الهلباوي أن هجومه عليه ليس سوى لخصومة بينهما وقضية تعود إلى مارس 1906 تسبب فيها الهلباوي في إدانة أخوة الشيخ جاويش لمصلحة الكونت زيزينيا، وسط سجال على صفحات "المؤيد" و"اللواء"، علماً بأن الشيخ عبد العزيز جاويش لم يهاجمه وحده وإنما قال في حق الثلاثة – الهلباوي وبطرس غالي وأحمد فتحي زغلول- إنه "أصبح يشق علينا وجودهم على سطح الأرض ورؤيتهم على الأبصار وصوتهم على المسامع وذكرهم على الألسن وذكراهم في الصدور"[22]. وفي هذا المقال الذي جاء بعد ثلاث سنوات على أحداث دنشواي، كتب عبد العزيز جاويش تحت عنوان "في ذكرى دنشواي" متهماً الهلباوي علناً بالعمالة للاحتلال وتقديم أهالي دنشواي "قرابين إلى هيكل الاحتلال، الذي هو معبد الخائنين، وقرة أعين المارقين". ومضى يقول إن الهلباوي قدم الضحايا إلى الهيكل ببراهين "يعلم أن حظها من الصحة كحظه من الوطنية، وقربها من الحق كقرب موقفه من العواطف البشرية" لكنها "أموال استهوته، ومناصب استغوته، وعظمة للاحتلال استرغبته"[23]

وهناك من يؤكد أن صاحب براءة هذا الوصف هو الشاعر حافظ إبراهيم حينما هجا إبراهيم الهلباوي لموقفه في دنشواي في قصيدة قال فيها

أيها المدعي العمومي مهلا .. بعض هذا فقد بلغت المرادا
قد ضمنا لك القضاء بمصر .. وضمنا لنجلك الإسعادا
فإذا ما جلست للحكم فاذكر .. عهد مصر فقد شفيت الفؤادا
لا جرى النيلُ في نواحيكِ يا مصرُ .. ولا جادكِ الحيا حيث جادا
أنتِ أَنْبَتِّ ذلك النَّبتَ يا مصرُ .. فأضحى عليكِ شوكاً قتادا
أنتِ أَنْبَتِّ ناعقاً قام بالأمس .. فأدمى القلوب والأكبادا
أيا مدرة القضاء ويا من .. ساد في غفلة الزمان وشادا
أنت جلادنا فلا تنس أنا .. لبسنا على يديك الحدادا
[24]

عاش الهلباوي 34 عاماً بعد تلك المأساة، ذاق أثناءها الذل والهوان من المصريين الذين لم ينسوا له دوره في تلك المحاكمة، بالرغم من محاولته التكفير عن ذلك، وحورب حرباً شديدة من الناس وخصومه وأصدقائه، وطارده لقب "جلاد دنشواي" في كل مكان
يقول الأديب يحيى حقي: "حضرتُه- أي الهلباوي- يخطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق، وامتلأ الرجل ثقة وزهواً وظن أن الدنيا قد صالحته، ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف "يسقط جلاد دنشواي"
[25]

ومن الطريف أن الهلباوي انتدب نفسه فيما بعد عن إبراهيم الورداني، الذي اغتال بطرس باشا غالي، رئيس محكمة دنشواي، ربما كمحاولة يائسة للتكفير عما جنى سلفاً. وفي أثناء محاكمة الورداني، قدم الهلباوي مذكرات تستحق التوقف عندها. فهو يقول في إحدى مذكراته أمام المحكمة: "لقد كانت دنشواي إحدى الفواجع التي رزئت بها مصر من عهد الاحتلال البريطاني. كانت محكمة بلا قانون، بلا نصوص، تصدر ما تراه مناسباً من العقوبات، ولها أن تحكم أقسى الأحكام - حتى الإعدام – على من يرتكب أهون اعتداء على جندي بريطاني"[26]

بل إنه يذهب إلى ما هو أبعد ذلك، إذ يقول: "لقد كان الحكم في قضية دنشواي بإجماع المصريين حكماً قاسياً لا يستحقه المتهمون، وكان تنفيذه فوق ذلك أكثر استحقاقاً للسخط. لا فائدة في القول بأن جميع المصريين الذين شاركوا في هذه المحكمة قد كرههم مواطنوهم واحتقروهم – ولربما استطاع أحد المدافعين في القضية الحالية أن يؤكد ذلك أكثر من غيره، لكنا لسنا هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن أنفسنا.. لقد جئنا إلى هذه القاعة للدفاع عن الورداني.."
[27]

والأكيد أن الهلباوي قدم نفسه في السنوات التي أعقبت محكمة دنشواي كمحامٍ بارع في عدد من القضايا الوطنية، وهو ما جعل الوطنيين المصريين يطلبون منه الدفاع عنهم في قضية التظاهر ضد قانون المطبوعات، وفي قضايا أخرى عدة لبراعته المهنية في المحاماة، ولكن حكم الشعوب يصعب أن يتغير
ويذكر لنا التاريخ أن واحداً من أهم أحداث عام 1913 هو ما حدث في 9 ديسمبر من ذلك العام، حيث استكملت نقابة المحامين وجودها القانوني هذه السنة، وكان اتجاه المحامين هو اختيار عبد العزيز فهمي لمنصب رئيس النقابة "النقيب"، ولم يكد الدكتور هيكل يفاتح عبد العزيز فهمي في أحقية إبراهيم الهلباوي بهذا المنصب حتى بادر على الفور بالموافقة قائلاً: "أستاذنا وشيخنا"، وتحول فهمي من المرشح المختار إلى داعية لانتخاب الهلباوي الذي صار أول نقيب للمحامين في مصر
[28]

وكان إبراهيم الهلباوي بك قد كتب مذكراته، التي قدمها د. عبد العظيم رمضان الذي يقول في تقديمه لها: "إنه من المحقق أن الهلباوي وطني مصري كفَّر عن سيئة دنشواي بمئات من الحسنات، وقد تعامل معه الوطنيون المصريون على هذا الأساس، فلم يستبعدوه من الصف الوطني وطلبوا منه مثلاً الدفاع عنهم في قضية التظاهر ضد قانون المطبوعات المقيد لحرية الصحافة كما حرص إبراهيم الورداني، قاتل بطرس غالي، على أن يطلب من الهلباوي الدفاع عنه رغم معرفة دوره في محكمة دنشواي
[29]

كما كان للهلباوي - تلميذ جمال الدين الأفغاني- دور بارز في شن حملات صحفية في "المؤيد" على الحكومة والاحتلال البريطاني في مواقف عدة، ومنها تفنيد تبريرات الاحتلال. ومما ينساه البعض أن الهلباوي كان من مؤسسي الجمعية الخيرية الإسلامية
وينطلق الهلباوي في سرد مطول لسيرة حياته وصولاً للمحطة التي نترقبها وهي دوره في دنشواي. يقول الهلباوي في مذكراته: "يُخيل إليَ أن الذين سيقع بين أيديهم هذا الكتاب سيقلّبون صفحاته سراعاً باحثين عن تلك القضية التي شاء القدر أن يقترن اسمي بها، فها أنا ذا أرى في نفوسهم غريزة حب الاستطلاع، ويعلم الله أنني ما كنت وحدي لأستحق هذه الشهرة السيئة فيما هناك كثيرون أحق وأولى بهذا الصيت المشين"
[30]
ثم حكى الهلباوي ملابسات الحادث وصولاً لترشيحه للقيام بدور الادعاء، حيث جرى العرف أن يمثل الادعاء واحد من شيوخ المحاماة وفق قانون المحكمة المخصوصة وقدرت أتعابى بثلاثمئة جنيه، ولم أتدخل في التحقيق، ولأن قانون المحكمة المخصوصة يقضي بطلب أقصى العقوبة للمتهمين فقد فعلت، وكان الإنجليز يطالبون بالإعدام للمتهمين الواحد والخمسين، وقد ترافعت بما أملاه عليَّ الواجب، حتى إن شعوري بوطنيتي وصل بي إلى حد لا يتفق مع واجبي"[31]
ويسوق المستشار عبد الحليم الجندي وجهة نظره في مجال الدفاع عن أستاذه الهلباوي، إذ يقول إن الأخير عندما سمع بالموضوع سارع واتجه قاصداً المحكمة ليدافع عن المتهمين، ولكن حدث حادث منعه، إذ إن ناظر النظار مصطفى باشا فهمي استدعاه إلى مكتبه وطلب منه أن يكون مدعياً ضد المتهمين، فوافق. ويحلل المستشار عبد الحليم الجندي ذلك بأنه كان لمصلحة المتهمين، ولو ترك الأمر لغيره لكانت العقوبات أشد وما برأت المحكمة أحداً على الإطلاق، كما أن أتعابه من الدولة كانت دراهم معدودات بالقياس لما كان يتقاضاه عادةً من أتعاب. ويمضي في التدليل على سلامة موقف الهلباوي أنه بعد ذلك بسنوات قليلة، أي في عام 1910، ترافع الهلباوي عن إبراهيم الورداني الذي قتل بطرس باشا غالي رئيس الوزراء آنذاك[32]

كسب الهلباوي كثيراً وأنفق أكثر مما كسب، واشترى عدداً من العزب ثم باعها، ومات عن أملٍ لم يتحقق، هو أن يحصل على لقب باشا، على رغم أنه فعل في سبيل ذلك الكثير، ومن ذلك زواجه من عدد من الجواري الشركسيات ووصيفات الأسرة المالكة[33]

وكانت للهلباوي مقولة شهيرة مفادها: "ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه.. يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدواً لخصمه دون أن ينال صداقة موكله"
غير أنه هو أيضاً القائل: "ليعلم المترافعون.. أن أسمى مراتب المحاماة وأعلى معانيها، هو أن يقفوا في جانب مظلوم تحالفت عليه القوى وأن يتحملوا معه شطراً مما يقاسيه، فهذه هي حقيقة المحاماة"
توفي الهلباوي في عام 1940 وهو في الثالثة والثمانين
والذكرى الوحيدة الباقية للهلباوي- كما يرصد الأديب يحيي حقي- تسمعها من كمساري الأتوبيس في خط المنيل بالقاهرة وهو يعدد المحطات فيقول "محطة الجراج.. محطة الهلباوي"!


الهوامش
[1] محمد جمال الدين المسدي، "دنشواي"، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، القاهرة، 1974
[2] صلاح عيسى، حكايات من دفتر الوطن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 315
[3] حافظ إبراهيم، ديوان حافظ إبراهيم، دار العودة، بيروت، 2004
[4] د. خالد عزب وصفاء خليفة، "المصري اليوم" تفتح ملف اغتيال بطرس باشا غالي في الذكرى المئوية الأولى (1)، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 22 فبراير 2010
[5] صلاح عيسى، مرجع سابق، ص 292
[6] عبد العزيز البشري، في المرآة، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1948
[7] صلاح عيسى، مرجع سابق، ص 338
[8] المرجع السابق، ص 331- 332
[9] كريمة حسن، الجريمة في مانشيتات الصحف، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 10 يوليو 2009
[10] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 29 يونيو 1906
[11] جريدة "المقطم"، القاهرة، 18 يونيو 1906
[12] جريدة "المقطم"، القاهرة، 27 يونيو 1906
[13] جريدة "اللواء"، القاهرة 30 يونيو 1906
[14] جريدة "اللواء، القاهرة، 29 يونيو 1906
[15] د. محمد حسين هيكل، تراجم مصرية وغربية، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص 139- 140
[16] George Bernard Shaw, John Bull's Other Island, London, Constable, 1927
[17] صلاح عبد الصبور، الناس في بلادي (الطبعة الثانية)، دار المعرفة، بيروت، 1962
[18] خالد حجاج، مصطفى كامل.. باعث الحركة الوطنية وفاضح فظائع الاحتلال البريطاني، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 10 يوليو 2009
[19] عبد الحليم الجندي، نجوم المحاماة في مصر وأوروبا، دار المعارف، القاهرة، 1991، ص 32
[20] المرجع السابق، ص 32- 33
[21] أحمد شوقي، مرجع سابق
[22] جريدة "اللواء"، القاهرة، 28 يونيو 1909
[23] المرجع السابق
[24] حافظ إبراهيم، مرجع سابق
[25] ماهر حسن، جلادون مصريون في المذبحة.. إبراهيم الهلباوي.. جلَّاد دنشواي وابن المحمودية بحيرة.. وأول نقيب للمحامين، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 10 يوليو 2009
[26] عبد الحليم الجندي، مرجع سابق، ص 43
[27] المرجع السابق، ص 43
[28] ماهر حسن، مرجع سابق
[29] مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته، إبراهيم الهلباوي بك (1858- 1940)، تحقيق عصام ضياء الدين؛ تقديم د. عبد العظيم رمضان
[30] المرجع السابق
[31] المرجع السابق
[32] عبد الحليم الجندي، مرجع سابق، ص 33- 34
[33] عبد الحميد يونس، نجوم في حياتنا، مرجع سابق، ص 105
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator