المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

وعليكم..السلام 98




"ولهذه الأسباب حكمت المحكمة حضورياً: برفض الدفع بعدم اختصاصها إقليمياً ونوعياً بنظر القضية، وبراءة ممدوح إسماعيل محمد علي وعمرو ممدوح إسماعيل محمد ومحمد عماد الدين أحمد أبوطالب وممدوح محمد عبدالقادر عرابي، ونبيل السيد إبراهيم شلبي
"وبراءة صلاح الدين السيد جمعة من التهمتين الأولى والثانية، وبمعاقبته عن التهمة الثالثة بالحبس لمدة ستة أشهر وكفالة عشرة آلاف جنيه لإيقاف التنفيذ، وألزمته بالمصروفات الجنائية وإحالة الدعوى المدنية إلى الدائرة المختصة بمحكمة قنا الابتدائية بلا مصروفات"


ماتوا مرتين.. في الأولى ابتلعهم البحر، وفي الثانية ابتلعهم الظلم
هكذا سيكتبُ التاريخ عن ضحايا العبَارة الغارقة "السلام 98" - أو "تايتانيك الفقراء" - التى كانت متوجهة فى الثالث من فبراير شباط 2006 من ميناء ضبا السعودي إلى ميناء سفاجا المصري، قبل أن تستقر في قاع البحر الأحمر
مسافة طويلة بين تاريخين، في وطنٍ ضَيِّقٍ كخَصْرِ الرَّاقِصَة..يُغْريكَ ولا يَتَّسِعُ لأحْلامِك

الأول هو 3 فبراير شباط 2006، اليوم الذي غرقت فيه العبَارة "السلام 98" في البحر الأحمر الذي ابتلعت مياهه 1034 إنساناً، معظمهم من المصريين العاملين في السعودية وباقي دول الخليج، ممن كانوا عائدين إلى عائلاتهم بعد أشهر أو سنوات من الغربة

والثاني هو 27 يوليو تموز 2008، حين أصدرت محكمة جنح سفاجا، بعد 22 جلسة، حكماً بتبرئة ممدوح إسماعيل رئيس شركة السلام للنقل البحري، ونجله عمرو


وما بين التاريخين جرت مياهٌ كثيرة: ممدوح وولده عمرو وآخرون تقاعسوا وتهاونوا وصمتوا فور علمهم بالغرق. هكذا قالت تحقيقات النيابة ولجنة تقصي الحقائق البرلمانية واللجنة الدولية، التي شكلها وزير النقل المصري محمد منصور. وفي التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق البرلمانية والذي صدر في إبريل نيسان 2006، أدانت اللجنة "عدم مبالاة الشركة بغرق السفينة بمن عليها من ركاب؛ إذ طلب رئيس الشركة ونائبه البحث عن السفينة الغارقة رغم علمهما بغرقها وهو تصرفٌ يكشف عن عدم المبالاة وعدم الاكتراث الذي تشوبه رائحة العمد". كما تحدثت عن "تسيير العبَارة رغم العيوب الثمانية التي شابت صلاحيتها للإبحار على النحو الذي بيَناه فيما تقدم بشأن مسؤولية الهيئة المصرية للسلامة البحرية، وتشير الدلائل إلى أن ثمة تواطؤاً خبيثاً تنبعثُ منه رائحة الفساد الذي يزكمُ الأنوف قد جرى بين المسؤولين عن الشركة وبعض المسؤولين عن الهيئة المصرية للسلامة البحرية في هذا الشأن"

لكن المحكمة برَأت المتهمين في حكم روَع مصر كلها، فيما تساءل كثيرون عن كيفية صدور حكم البراءة لمالك عبَارة الموت ونجله، في الوقت الذي أدانت فيه الحكم قبطان سفينةٍ أخرى بارتكاب جريمة التقاعس والإهمال

"وأن المحكمة في تقدير وقوع أركان جريمتي القتل والإصابة الخطأ ترى أن الخطأ المسبب للحادث منتفياً في حق المتهمين، وأن أي أخطاء قد تنسب إليهم في ذك الصدد لا تعدو أن تكون أخطاء عارضة لا تؤدي وحدها لحدوث النتيجة الإجرامية"
"وبذلك تكون علاقة السببية منتفية بين الأفعال المسندة إلى المتهمين المذكورين وبين النتيجة ولم يثبت للمحكمة أن تلك الأفعال - على فرض حدوثها - نتجت عنها وفيات أو إصابات بالمجني عليهم"


وللمفارقة، فإن محكمة جنح سفاجا برَّأت ممدوح إسماعيل، مالك العبَارة الغارقة "السلام ٩٨"، وجميع المتهمين معه في القضية، فيما أدانت قبطان العبَارة "سانت كاترين" صلاح الدين السيد جمعة بالحبس ٦ أشهر وغرامة ١٠ آلاف جنيه لإيقاف التنفيذ، وحمَلت المسؤولية الكاملة على عاتق قبطان العبارة الغارقة المفقود

"إلا أن المتهم قد نُزِعَت من قلبه الرحمة والرأفة وأتى بعمل لا يأتي به إنسان، وجُرم لا يصدر إلا عن شيطان، فأهمل في أداء واجبه، ولم يكترث بصيحات الاستغاثة، متعللاً بحجج واهية وغير حقيقية، وتركهم يصارعون الأمواج ويواجهون الموت"
وفي الوقت الذي وصفت فيه هيئة المحكمة، برئاسة المستشار أحمد رفعت النجار، قبطان "سانت كاترين" صلاح الدين السيد جمعة بأنه ارتكب جُرماً لا يأتي من بشر، عندما سمع استغاثات الضحايا، ورفض مد يد العون لهم، قالت إن ممدوح إسماعيل وابنه عمرو وباقي المتهمين الثلاثة لم يثبت في حقهم أي إدانة

"وإذا كان الاتهام بشأن القتل والإصابة الخطأ أحاط به الشك من كل جانب وخلت الأوراق من دليل على توافر أركان هاتين الجريمتين يمكن مؤاخذة المتهمين استناداً إليه، الأمر الذي يتعين معه براءة المتهمين مما أسند إليهم بالمادة ٣٠٤/١ من قانون الإجراءات الجنائية"


ذوو الضحايا أثار الحكم القضائي في نفوسهم مشاعر تماثلُ قسوةَ مشهدِ غرقِ العبَارة، وموت ذويهم ممن صار قبرهم الماء أو مقبرة جماعية في الغردقة


وليمة للسمك، أو غريباً في بطن أرضٍ تتجاور فيها الجثث..هكذا انتهى الأمر بضحايا عبارةَ ممدوح إسماعيل، الذي برَأه القضاء

والمصري الذي يعتبر قبر العائلة واحتَه الأخيرة، أهدرت عبَارة الموت أمنيتَه في أن ينام إلى جوار من يحب


ليس من قبيل المبالغة إذاً القول إن الحكم القضائي الذي أصدرته محكمة جنح سفاجا أجهز على الأمل الذي تبقى لأهالي الضحايا في القصاص من القتلة المتسببين في هذه الكارثة، مثلما أصاب هذا الحكم جموع المصريين بالإحباط والصدمة، حتى إنه لم يعد أحد يثق في مؤسسات الحكم التي جعلت حياتهم غير آمنة


ها هم المصريون يُدفَنون مرة في قاع القناةِ على أيدي الإنجليز وهم يحفرونها سُخرةً، والآن يغرقون في قاع البحر مرة أخرى بأيدي زبانية الفساد، وهم الذين خرج معظمهم بحثاً عن الرزق في بلاد الله الواسعة


والشيء الأكيد أن أجهزة الدولة في مصر تقاعست عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحفظ حقوق الأبرياء وصرف التعويضات المناسبة لهم وتنازلت عن دورها لبعض المتاجرين بحقوق أبنائها من الضحايا، فتركت أهالي هؤلاء فريسة لعددٍ من الشركات الأجنبية وبعض تجار المصائب ليتقاسموا فيما بينهم غنيمة التعويضات وأدخلوها في مزاد علني


وبينما صُدِمَ الحكم أهالي الضحايا الذين احتشدوا في قاعة المحكمة، واعتمل الغضب في نفوس كثيرين في الشارع المصري، سارع النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، وأصدر قراره بالطعن على حكم البراءة بعد أربع ساعات فقط من صدوره. وقال بيان للنائب العام إن حكم البراءة خالف الثابت في الأوراق، واحتوى فساداً في الاستدلال، وقصوراً في التسبيب وتعسفاً في الاستنتاج

وإذا كان النائب العام قد طعن على الحكم الصادر بتبرئة ممدوح إسماعيل ونجله، فإن العدل لن يكتمل إلا بإجراء تحقيق عادل ومنصف في ملف الفساد الذي لازم كارثة العبَارة "السلام 98" منذ بدايتها بما فيها من مسلك النيابة العامة فى قيدها جنحة بالأصل بدلاً من جناية، وذلك الوصف والقيد المقدم به المتهمون حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من تبرئة مالك العبَارة ومن معه
والسؤال هو: إذا كانت محكمة جنح الجيزة قضت بالسجن المشدد لمدة عشر سنوات على سائق أتوبيس تسبب بالخطأ في مقتل 15 تلميذة، فكيف إذاً تنتهي القضية التي قتل فيها أكثر من ألف شخص بتبرئة الجميع؟

لم يُحبس أحد

لعل الضحايا وحدهم المذنبون في تلك الكارثةّ

هل كانت مصادفة أن يصدر الحكم القضائي في يوم بطولة السوبر بين ناديي الأهلي والزمالك؟ وهل كانت مصادفة أن يتعاظم الاهتمام والاحتفاء ببطولة إفريقيا لكرة القدم التي استضافتها مصر وفازت بها بعد أيامٍ من الكارثة؟

إنها كرةُ القدم.. غسيل أموال وأرواحٍ من طرازٍ جديد


غير بعيدٍ عن هذا السياق، نشير إلى الهجوم الحاد الذي شنه نوابٌ في البرلمان المصري على الحكومة نتيجة غياب جميع أعضائها، باستثناء وزير النقل محمد منصور، عن الجلسة التي عقدت في 12 فبراير شباط 2006 لمناقشة كارثة غرق العبَارة "السلام "98، خصوصاً أن الحكومة كانت موجودة بالكامل في استاد القاهرة لحضور نهائي بطولة إفريقيا لكرة القدم في 10 فبراير 2006

وحين وقعت الكارثة، تساءل المصريون في فضول: من هو ممدوح إسماعيل؟ ومن الذي يحميه من المساءلة؟


إن ممدوح إسماعيل واحد من أثرى أثرياء مصر، وهو يعد نموذجاً للاشتباك بين نفوذ السلطة والبيزنس، إذ إنه عضو معينٌ في مجلس الشورى وأمين للحزب الوطني في حي مصر الجديدة، مكتسباً بذلك حصانة لم يفقدها على الرغم من غرق أكثر من عبَارةٍ له


أنشأ إسماعيل شركته المتخصصة في صناعة السياحة وخدمات السفن، وهي تعتبر من كبرى شركات السفن في مصر والشرق الأوسط ومراكبه تقل نحو مليون مسافر في العام الواحد. وهو يمتلك أسطولاً كبيراً من المراكب والعبَارات يصل إلى 21 عبَارة، منها 13 عبَارة ترفع علم بنما، وعدد 2 ترفع العلم المصري، وعدد 3 ترفع علم السعودية، وعدد 2 ترفع علم الأردن، وعبَارة واحدة ترفع علم البهاما، بالإضافة إلى العبَارتين الغارقتين "السلام 95"، و"السلام 98" اللتين كانتا ترفعان علم بنما



اللافت للانتباه هو أن سجل ممدوح إسماعيل يشير إلى أن لشركته أكثر من سابقةٍ في غرقِ عبَاراتها، وبالرغم من ذلك فإن تلك الحوادث كانت تُحمَلُ للقضاء والقدر. ومن ذلك غرق عبَارته "السلام 95" في البحر الأحمر في 17 أكتوبر تشرين أول 2005 بعد اصطدامها بسفينة تجارية قبرصية، عندما كانت تُقِل معتمرين عائدين من جدة وعلى متنها 1446 راكباً

في تلك الحادثة، تم إجلاء جميع الركاب بواسطة قوارب صغيرة ومات من جراء ذلك رجل وامرأة وأصيب 38 آخرون. ومن الواضح أن تهالك السفن التي يملكها إسماعيل كان يستدعي إنهاء خدمتها منذ وقت طويل، إلا أن الرجل - الذي تحكم بفضل نفوذه في خط سفاجا ضبا الملاحي- كان يتهرب من ذلك عبر رفع علم بنما بديلاً عن العلم المصري حتى لا يتعرض للإجراءات القانونية


وفي أعقاب كارثة عبَارة الموت "السلام 98"، توقف البعض عند مسألة صمت مجلس الشورى على عضوها المعين، إلى أن كتب إسماعيل رسالة إلى رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف يطلب فيها الإذن له بالإدلاء بأقواله أمام المحققين، فأُجيبَ إلى طلبه، ونشرت ذلك بعض الصحف الحكومية مع صورته في الصفحة الأولى
وانسجم ذلك مع استضافته أكثر من مرة في برنامجٍ شهير بالتليفزيون المصري، مشيراً إلى أن رفع العبَارة علم بنما لا علاقة له بإجراءات السلامة، وعارضاً كفالة الطفل الصغير الذي فقد أبويه وأشقاءه في العبَارة، وهو الأمر الذي رفضته عائلة الطفلة بعبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل"
وأثار إصرار التليفزيون الحكومي على استضافته مع ابنه عمرو اسماعيل لتبرئة نفسه وشركته من غرق العبَارة، غضب الصحفيين المصريين، حتى أولئك المحسوبين على الحكومة مثل رئيس تحرير جريدة "الأخبار" السابق جلال دويدار في عموده اليومي بالصحيفة. وتساءل دويدار: "لا أعلم من وراء هذه المبادرة التي ما كان يجب أن يقدم عليها التليفزيون باعتبار أن المكان الطبيعي لأقوال هذين الشخصين هي تحقيقات واستجوابات النيابة العامة ولجنة التحقيق الفني، إلا إذا كان هناك هدف آخر لا نعرفه وراء ذلك"


وكأنه شبحٌ أو طيف غير مرئي، غادر مالك العبَارة الغارقة القاهرة من مطارها الرئيسي مروراً بصالة كبار الزوار، متجهاً إلى فرنسا، وسط صمتٍ مريب، فيما انزوى أو اختفى قرار المنع من السفر أو الإدراج على قوائم الممنوعين من السفر
سافر إسماعيل دون إذن من مجلس الشورى وفقاً للائحة الخاصة. وفي "أربعين" غرق العبَارة، وبعد هروب مالكها، قرر مجلس الشورى برئاسة الشريف، رفع الحصانة عن إسماعيل.. وقال المجلس وقتها إن قراره جاء: "حتى يتسنى للنيابة العامة سؤاله والتحقيق معه في مسؤوليته عن الحادث"
بعدها بخمسة أيام كاملة، تقرر أخيراً منع ممدوح إسماعيل من السفر وإدراج اسمه على قوائم ترقب الوصول.. صدر القرار، بعد أن طار العصفور!
ومن فرنسا، انتقل مالك العبَارة الغارقة إلى بريطانيا، حيث لا اتفاقيات مع لندن على إعادة وتسليم الهاربين
كان في لندن يتمتع بحصانة عدم سماع صراخ ضحايا العبَارة، وأنات أهاليهم، وبكاء وعويل أحبتهم وذويهم. في عاصمة الضباب، لم تكن تصل إلى ممدوح إسماعيل رائحة الجثث في مشرحة زينهم، ولم يكن يطل على المقبرة المجهولة في قلب مدينة الغردقة التي أصبحت مقبرة جماعية لعدد كبير من الضحايا
وأصدرت النيابة العامة المصرية فى 24 مايو أيار 2006 مذكرة جلب فى حق المتهمين الفارين عبر الإنتربول. كما تم الحجز لفترةٍ على أموال إسماعيل، قبل أن يتقرر لاحقاً رفع الحراسة عن أموال وممتلكات الرجل

لقد أثيرت تساؤلاتٌ عمن يحمي ممدوح إسماعيل، وعلاقات السلطة بالبيزنس، وطالت الاتهامات أبرز رجال السلطة في مصر: الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية


والبداية كانت خبراً صغيراً نشرت جريدة "الأهرام" في قلب صفحتها الأولى. خبرٌ قصير يشنه طعنة الخنجر، يقول إن زكريا عزمي استقبل عضو مجلس الشورى ممدوح إسماعيل. يومها، لم يكن عامة المصريين على علمٍ بالصلة بين الذي عزمي وإسماعيل، قبل أن تتردد معلومات تفيد بأن الأول شريك للثاني في أعماله ونشاطه التجاري، وهو الاتهام الذي نفاه عزمي بحزم وبحسم وبأكثر من وسيلةٍ، قائلاً "إنه صديقي وليس شريكي"

عزمي لم ينكر أنه يعرف ممدوح إسماعيل، لكنه قال إنه تربطه به علاقة إنسانية عادية بحكم الجيرة في مصر الجديدة، وأضاف في اتصال هاتفي مع الكاتب الصحفي مجدي مهنا تعقيباً على عموده "في الممنوع" في جريدة "المصري اليوم" (عدد 7 فبراير شباط 2006) : "لقد اتصل بي ممدوح وأخبرني بغرق العبَارة، وقمت بمقابلته في إطار علاقة الصداقة ليس أكثر، لكن أي خطأ أو أخطاء ستكشف عنها التحقيقات التي تجريها السلطات حاليا سيتحمل هو مسؤوليتها، وأتحدى من يقول أو يدعي أنني شريك معه في مشروعاته، ومستعد للتحقيق معي إذا ما استدعى الأمر"
ورداً على تساؤلات لمصطفى بكري عضو مجلس الشعب ورئيس تحرير جريدة "الأسبوع"، نفى عزمي وجود بيزنس بينه وبين مالك العبَارة الغارقة، متحدثاً عن أنها مجرد صداقة. وعندما قال له بكري إنه يستغل اسمه، رد بأنه يريد أن يعرف قضية محددة حتى يبلغ عنه النيابة العامة. زكريا عزمي عاد وكرر ذلك النفي مؤكداً مرة أخرى أنه صديقه فقط وليس شريكه عندما أثير ذلك مجدداً في جلسة مجلس الشعب الأحد الموافق 12 فبراير شباط 2006
زكريا عزمي قال بالحرف الواحد "أنه ليس من الشهامة عندما يكون لي زميل في أزمة أن أتخلى عنه وأقول إنني لا أعرفه وأنا فلاح وهذه هي الأصول"


بل إن 22 نائباً تقدموا في 2 مايو أيار 2006 بطلب بإحالة د. زكريا عزمي إلى المدعي الاشتراكي، مشيرين إلى أنه أكد صداقته لممدوح إسماعيل ولجوء الأخير إليه عقب حادث غرق العبَارة لطلب مشورته لتجاوز هذه الأزمة. وجاء في طلب النواب أن زكريا عزمي ارتكب أفعالاً تتعلق بمخالفات جسيمة للقوانين وتتضمن مساساً خطيراً بحقوق المواطنين وساهمت بقدر كبير في إحداث خلل في سير وانتظام المرافق والخدمات العامة، ما يستوجب إحالته إلى المدعي الاشتراكي لفحص ودراسة ما نسب إليه من أفعال وتصرفات وتقديم تقرير بها إلى المجلس
وأضاف طلب النواب أن المخالفات التي ارتكبها عزمي تتركز فيما نسب إليه من أفعال وأقوال تسببت في استعمال واستشراء الفساد داخل قطاع النقل البحري واستئثار ممدوح إسماعيل صاحب شركة "السلام" بمزايا وصلاحيات جعلته يشكل مركز قوى وتأثير داخل قطاع النقل البحري بل على المستوى القومي، ما دفعه إلى الإهمال الجسيم وعدم الحرص على أرواح وممتلكات المواطنين، وضرب عرض الحائط بالقوانين والنظام والآداب العامة، ما ترتب عليه غرق أكثر من ألف مواطن مصري
وطرق أصحابُ الطلبِ الحديدَ وهو ساخنٌ، بالقول إن الرأي العام وجموع المواطنين أجمعوا على أن مساندة زكريا عزمي لصاحب العبَارة المنكوبة بما يملكه من سلطات وصلاحيات ساهمت في تقلده الكثير من المناصب، على رأسها عضوية مجلس الشورى وعضو مجلس إدارة هيئة موانئ البحر الأحمر وهيئة السكك الحديدية
غير أن مجلس الشعب وهيئة مكتبه رفضوا هذا الطلب بدعوى مخالفته لائحة المجلس ومخاصمته للأعراف والسوابق البرلمانية
رئيس مجلس الشعب المصري الدكتور فتحي سرور استعرض يومها أمام النواب رأي مكتب المجلس حول الطلب والذي انتهى إلى خلو الموضوع من أي مبرراتٍ جدية‏، وأنه لا ينطبق في شأنه الشروط التي حددتها لائحة مجلس الشعب لإحالة أي شخص إلى المدعي العام الاشتراكي. وأكد مكتب المجلس أن ما جاء بعريضة النواب من اتهاماتٍ للدكتور زكريا عزمي هي أقوالٌ مرسلة ليس لها دليل أو قرينة‏، وأن إحالة المجلس لأي شكوى للمدعي العام الاشتراكي تكون في المسائل التي تتعلق بالمخالفات الجسيمة للقانون أو المساس بحقوق المواطنين
وكأن موتَ أكثر من ألفِ شخص في عبَارةٍ افتقدت معايير ومواصفات الأمن والسلامة البحرية وضربت عرض الحائط بالاتفاقيات الدولية بشأن عدد الركاب المقرر للسفن، أقل من أن نعتبره مخالفة جسيمة للقانون، وأدنى من أن تمس حقوق المواطنين!
ثم كان الرأي الفصل للدكتور سرور الذي قال‏:‏ إن ما أعلنه الدكتور زكريا عن صداقته بممدوح إسماعيل لا يحمل دليلاً بمخالفة القانون، وهو ليس مسؤولاً عن أعمال غيره
وفي رده على ما أثير، تحدى زكريا عزمي أن يثبت في حقه شيء مما وصفه بالوساوس والظنون، وهدد خصومه قائلاً: "سوف أطارد بالحق والقانون هذا التجني والتشهير حتى آخر العمر". وأضاف أمام المجلس قائلاً: "لو كان المرء يؤخذ بصديقه أو أصدقائه‏، لما نجا أحدٌ من أهل الأرض من مغبة خطأ وقع فيه هذا الصديق أو ذاك"


زكريا، أيها الصديق وقت الضيق.. ما عساك تقول الآن؟


مبارك، أيها الرئيس، تذكر ما قلته في اجتماع للحكومة لتدارس تداعيات غرق العبَارة المنكوبة: "إن أرواح الضحايا لن تضيع هدراً، وإن التحقيق الذي أمرت بإجرائه منذ اللحظة الأولى لابد أن يصل إلى أوجه الخلل والتقصير، وإن المتسببين في الحادث لن يفلتوا دون عقاب". يومها قلت أيضاً: " لا أحد في مصر فوق القانون أو المساءلة"



ممدوح إسماعيل.. عُدّ إلى مصر، فهناك فرعٌ لمطعمك اللبناني المفضل في لندن "مروش"، وهناك أيضاً مزيدٌ من الغارقين بانتظار عبَاراتِكَ التي تحتكرُ البحر..والنفوذ

شعب مصر من الإسكندرية إلى أسوان: "وعليكم السلام 98"
تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة (15): خارج القبيلة





في يومياتِ المرأة عن الجسدِ و الرجال الشقر ذوي القامات الطويلة الذين لا ينتمون إلى منطق القبيلة، يبدو كل بابٍ ذاكرة، وكل هديرٍ اجتياحاً، وكل غيمةٍ بكاء
وما أصعب أن تُضِيعَ سمكةٌ سِربَ الزُرقةِ

نحن نتحدث هنا عن "رجالي" للكاتبة الجزائرية الأصل مليكة مقدّم (ترجمة: حسين عمر- المركز الثقافي العربي، المغرب- 2006) والذي صدرت له ترجمة ثانية في بيروت عن "دار الفارابي" ضمن سلسلة "فسيفساء"، ترجمة: نهلة بيضون

الكتابُ عبارة عن سيرةٍ روائية للكاتبة، وسرد على امتداد 221 صفحة لحكاياتها مع أولئك الرجال الذين تركوا في حياتها شيئاً من الألم أو السعادة.. بدءاً برجال عائلتها، وانتهاءً بمن قابلها في مطارٍ أو قطار


"رجالي" ببساطة هو كتابٌ عن جرح دفين اسمه الحرية.. عن امرأةٍ أرادت أن تختفي في أعماقِ الجبالِ القصية؛ لكن هناك سمعت بكاءَ الأيائل


إنه موجزُ دال على امرأةٍ تتمتع بشخصية قوية صلبة، لكنها تهتز في الوقت نفسه أمام مارد الرغبة. كانت ابنة القنادسة - من دوائر ولاية بشار بالجنوب الغربي الجزائري- ثائرة في حياتها ومنذ طفولتها من أجل الحرية، أحبت الدراسة والتحصيل، أحبت القراءة والمطالعة بشغف، أحبت الكتابة وكتبت الكثير، ولكنها لم تأخذ الحرية فحسب وإنما زارت دروب المغامرة. جسدها أصبح مساراً أو جسراً لرجال عبروا مدينتها. ربما أصبحت مختبراً لفحولة أولئك الرجال، ولكن باختيارها
قُسِّم الكتاب إلى ستة عشر فصلاً أو جزءاً، كل فصل أو جزء فيه سيرة لرجل كان له تأثير في حياتها، فتبدأ بأبيها، وقسوته، وتمييزه العنصري للذكور، ككل الرجال في وقتها
رجالها الذين مروا في حياتها كُثُر، من جنسياتٍ مختلفة، وألوان عدة.. تزوجت مرة واحدة زواجاً دام فترة طويلة، قبل أن تعود إلى قوقعة العزلة
الفصل الأول حمل عنوان "الغياب الأول"، وفيه تأسيسٌ لكل ما سيأتي، إذ تضعنا الكاتبة في أجواء تقتربُ من "عقدة إلكترا" وذلك فقط من حيث أهمية أثر الأب في الابنة وصورته في حياتها


"أبي، يا أول الرجال في حياتي! منكَ تعلمت أن أقيس الحب بمقياس الجراح والخيبة. في أي سن فسدت الكلمات وفقدت معانيها؟ أطارد صور طفولتي الأولى. كلمات تنبثق وترسم ماضياً أبيض وأسود. كان ذلك في وقت مبكر جداً وقبل الأوان. منذ ذلك الإحساس الغامض الذي يسبق التفكير. حتى قبل أن أجيد التعبير عن ذاتي. عندما تشرع اللغة باستنزاف البراءة، وترصع بحد الكلمات، دوماً، ميولها الصوفية، ثم لنكون، في الحياة، إما مع أو ضد
"كنتَ تقول، مخاطباً أمي: "أبنائي" حينما كنت تقصد إخوتي، وتقول: "بناتكِ" حين كان الحديث يخصنا، أنا وأخواتي. وكنت تفخر دوماً وأنت تنطق بـ"أبنائي" بينما تعتريك لذعة من الضيق والسخرية بل والغيظ، وأنت تخاطبها "بناتكِ". وكان الغضب يمتلكك عندما أعصي الأوامر، وهو ما كان يحدث في الغالب، فالعصيان كان دأبي، وتلك كانت طريقتي الوحيدة في التأثير عليك
"كنتُ أسعى لأجد تبريراً لموقفك، فأجده في الأحاديث المملة للنساء، حينما كانت إحداهن تطرح على الأخرى السؤال التالي بإلحاح: "كم طفلاً لديك؟" كنت أسمع، غالباً، هذا الجواب، مثلاً: "ثلاثة!" ثم أسمعُ من طرحَ عليها السؤال بعد برهةٍ من الحيرة والتردد: "ثلاثة أطفال فقط، وست بنات، أبعد الله عنك كل مصيبة!" وفي الرابعة أو الخامسة، كنت أشعر بأن أحاديث المحيطين بي تنال مني وتجرحني. آنذاك، كنت أفسرُ أن البنات ما كن قط أطفالاً، وهن عرضةٌ للإهمال منذ الولادة ويجسدن عاهة جماعية لا يتخلصن منها سوى بإنجاب الأبناء. كنت أشاهد الأمهات وهن يمارسن هذا التمييز بين الأبناء والبنات. ولفرط ما لاحظت وحشيتهن، وحاولت فهم دوافعهن، كنت قد توهمت اقتناعاً مفاده أن مكرَ الأمهات وبغضهن ومازوشيتهن، هو ما يهيئ الرجال لدور الأبناء الغاشمين هذا، حينما تعدم الفتيات الأب فذلك يعني أن ليس للأمهات سوى الأبناء. وأنهن بأنفسهن لم يكن قط طفلات. ماذا فعلن بالعصيان؟" (ص 11-12)
ويمكن القول إن الكاتبة تنطلق من رواية تفاصيل حياتها مع والدها، لتقول إن المرأة مسؤولة عن جزءٍ كبير من التهميش الذي يلحق بها
"الرجال يشنون الحروب، والنساء يدرن أسلحتهن على أنفسهن، وكأنهن لم يبرأن قط من سطوة الوضع، لقد جعلنني أعزف أبداً عن الرغبة في أن أكون أماً. وقد بذلت وقتاً كثيراً لإدراك ذلك" (ص 12)
تبدو حياة الكاتبة امتداداً لحلم متصل، ورغبة في التمرد والحرية، بحثاً عن حياة جديدةٍ خارج صحراء الجزائر، ورمل البدايات والطفولة، وجور الأب وهامشية الأم وارتباك الأخوة
"لم أبحث عنك في رجالٍ آخرين وإنما أحببتهم على اختلافهم لأبقيكَ غائباً! لقد خُلِقتُ، يا أبي للحب مع أولئك الرجال، أما أنت فتجهلُ حتى أسماءهم، ولذا أريدُ أن أضمك إليهم في كتابي. ولن تعني شيئاً ما دمت لا تجيد القراءة يا أبي. لا يهم، فأنا سأفعل ذلك" (ص 19)

في سيرتها الروائية، تترك الكاتبة موطنها حيث سيادة الرجل بالغة وقاسية وتستتبعها الأحكام والممنوعات، الأصوليات ونقص الأكسجين في عيش المرأة بشكل عام
منذ طفولتها سارت مليكة مقدم على حافة الهاوية، ورصدت في كتبٍ عدة حالات تمردها وشغفها بحريتها التي انتزعتها انتزاعاً
وهي، في هذا الكتاب، تتقدم خطوة نحو إعلان حريتها، فتكتب عن "رجالها" الذين تركوا بصمات عميقة في حياتها، عن الرجال الذين عبروا حياتها أو عبروا سريرها، عن الرجال الذين أحبتهم أو أحبوها، عن هذا الحب الخالص، الحر، الذي يكره المساومات والتملك: "لا أرى الحب على أنه علاقة قسرية". ولا بد أن نشير إلى أن مليكة مقدم باختيارها لصيغة المضاف والمضاف إليه في عنوان الكتاب، تبدو وكأنها تنسب الرجال إلى نفسها أو تجعلهم يدورون في فلكها بالذات، ربما رداً على المجتمع الذكوري وقيوده ونظرته الدونية للمرأة

وهي تستعيد التحديات التي واجهتها والأزمات التي مرت بها، بأسلوبٍ تقليدي، لا يخلو من ومضاتٍ شعرية هنا وهناك
"لم تكف الحُفر عن التكاثر في حياتي. وذلك لا شك، يعود لفرط ما كنت أسير دائماً على حافة الهاويات" (ص 80)
وفي "رجالي" إعلانٌ ومكاشفة، واستحضار للذكريات
"لم يبارح الصِبْيةُ أنظاري منذ نعومة أظفاري، منذ ولادة أولأخوتي، ترددت أصداء صيحات الفرح في أرجاء دارنا: "أخيراً جاء ولدٌ!" وكأننا، فجأة، نجونا من البؤس والشقاء. "لقد جاء ولدٌ. الولد". كانت تلك الجملة تتناهى إلى مسامع أمي، وقد باتت، الآن، والآن فقط، تحظى بشيءٍ من التقدير والاحترام" (ص21)
كان طبيعياً أن تتساءل الفتاة: من أين ينال الولدُ كل هذه السلطة؟
"أعرف أين يكمن الفرق الوحيد بين ذلك الأخ وبيني. فقد رأيتُ النسوة، يكاد يُغشى عليهن أمام الزائدة اللحمية المجعَدة، المتدلية من أسفل بطنه، كبلحةٍ تيبست. حينما انصرف الاهتمام عنه، فيما بعد، سأنبش في حفاضاته: "لا فرق بين هذا وذاك؟" لماذا هو أفضل مني" (ص 21-22)
وهي تتذكر القبلة الأولى التي تبادلتها وهي في سن الثانية عشرة مع فتى يكبرها بعامين أو ثلاثة. كان الفتى جميل رفيق رحلتها بالحافلة المدرسية، في حين لعب السائق بشير دوراً بالتواطؤ مع المتحابين
"ذات يومٍ، حين قادتنا رحلاته عبر بشار إلى محيط كسار، تسلقنا جميل وأنا الكثيب الشاسع على حافة الوادي. حينما بلغنا القمة لاهثين أمسك جميل بيدي وشدَني إليه بلطفٍ وقبَلني. رأيتُ الكثيبَ والسماء في حلكة عينيه، وشعرتُ بجسدي يذوب على شفتيه. فجأةً، ذهلنا لجرأتنا بقدر ما انتابنا القلقُ وغريزة الخوف من أن يرانا أحدٌ ما، فنزلنا مسرعين إلى الحافلة. من أسفل الكثيب رنوتُ نحو القمة المرة الأولى تلك، فألفيتُ كثيب بشار شاهقاً مقبباً أصهب اللون، كأن الأرض تلثم، به، القبة الزرقاء" (ص 30)
مذاق القبلة ظل على شفتي المراهقة التي عاشت في مجتمعٍ تتهامس فيه النساء قبل أن يقلن لبعضهن البعض: "لقد تبادلنا القبل وكلٌ احتفظ بشفتيه"! (ص 32)
تجربة لم تكتمل بسبب طموح الفتاة إلى الخروج من الصحراء بحثاً عن التعليم الجامعي والحرية

ثمة علاقات الكاتبة مع الرجال، العلاقات الجيدة أيضاً خصوصاً التي جمعتها بطبيب القرية وتسميه "رجل قَدَري"، وهو د. شال الذي وفر لها في عيادته فرصة معاينة آلام الآخرين، ما ساعدها على الترفع عن آلامها الشخصية، والسعي إلى تحقيق حلم دراسة وممارسة مهنة الطب. وشخصية الدكتور شال توحي بنوع آخر من الأبوة هو أقرب إلى الاحتضان والرعاية والحدب منه إلى الهيمنة والزجر والغضب
"سأصبح ذات يومٍ طبيبة. نعم، طبيبة من طينته" (ص 52)
أما على صعيد الرجال الذي ارتبطت معهم بعلاقة عاطفية فهم يتوزعون بدورهم بين الوطن والمنفى، وإن كان هذا الأخير هو الذي حاز على النصيب الأوفر من حياة الكاتبة، خصوصاً بعد فشل علاقتها بمواطنها وزميل دراستها الجامعية سعيد أو "الرجل الأشقر" كما تسميه، والذي لم يستطع رغم حبه لها أن يخرج من ربقة التقاليد التي أعادته في النهاية إلى أصله وروح القبيلة، ما شكل حال افتراق نهائية بين المحبين
كان سعيد سليل عائلة برجوازية، جذبها إليه بنظراته، التي رهنت البشرة لشهوة العاطفة، لتبدأ حكاية مليكة الأولى مع الحب . "كانت يداه تبوحان لجلدي بأسرار لا ينتظرها" (ص 54). أحبت مليكة الشاب واللون الأخضر لعينيه، مثلما أحبت جزائرياً آخر يدعى مصطفى سيصبح بدوره صديقها المفضل، خارج إخفاقات الحب وحدوده. هذان العاشقان صالحا مليكة مع الجزائر. "تعلمت من جديد أن أكون جزائرية، وأن أشعر بذلك الانتماء، مع إدراكٍ أكبر للتعقيدات الاجتماعية، ولعدم نضج هذه الأمة" (ص 55)
وحين تطرق الرغبة أبوابها تتساءل قائلةً: "كم من النزهات بالسيارة في الربوات المطلة على البحر تكفي لتطويع الشهوة والرغبة؟" (ص 55)
كان طبيعياً أن يحدث ما تريده مليكة
"كنا في غرفتي في المدينة الجامعية، وكان سعيد منقبض النفس يلهث مبهوراً، قال: "أنا أحبكِ وأحترمك، ولكنني لا أستطيع أن أمارس معكِ ذلك!". "ذلك" هو ممارسة الجنس معي. بعد ذلك بقليل، حينما طغت علينا العاطفة، همس مهتاجاً: "سنتزوج" وبذلك سنستطيع إلى ذلك سبيلاً. أريد أن أمارسَ معك ذلك حسب الأصول" (ص 57)
إلا أن مليكة لم تكن راغبة في الزواج.. كانت تسعى فقط إلى الحب. وسينتهي عناقُ الرغبة بالتغلب على المكابدة البطولية لهذا الشاب القادم من منطقة القبائل

وحين يلتقي عاشقان تسيل فضة الماء من الينابيع
والماءُ يُهلِكُ، يصعقُ.. يشحذُ أشدَ الحواسِ تأجيلاً
"ذلك الألم الخفيف وذلك الابتهاج. نعم إنه ابتهاجٌ أكثر منه متعة
الابتهاج بتحرري من ذلك المحظور الجسيم رغم أنف القراراتِ العائلية والاجتماعية. لن يرى أحدٌ بقعةً من دمي على غطاء السرير أو على قميصٍ. لن يعرضها أحدُ كوصمة شرفٍ لقبيلة بأكملها. لوحدي، سأغسلُ دمي. أريدُ أن أغسلَ دمي من كل ما يدنسُ حياة امراةٍ ويدنسها" (ص 589)
لمست مليكة اضطرابَ سعيد حتى اغرورقت عيناه بالدموع، ليس نتيجة تلك المشاعر الحسية فحسب، وإنما بسببِ شعوره بجزءٍ من الإثم لما جرى بينهما، فأخذت تهدىء من روعه. عن تلك اللحظات تقول: "لم أستطع الإحجام عن التفكير بانذهال ووجوم: حينما ندع الفتيات يُغتَصبن برضى أسرهم فهن من يَبكين، وحينما يقررن بمفردهن ما يخصُ علاقاتِهن الجنسية، فيمكنهن حينها أن يُبكين" (ص58)
وفي المرةِ الأولى يحضرُ الجسدُ كله دفعة واحدة، ليخرجَ هادراً من بحر الغياب
كانت المرةُ الأولى تلك، وإن افتقرت للمهارة والخبرة، حدثاً عظيماً في حياة مليكة، التي تستفيض في الحديث عن العلاقات الجنسية بين طالباتِ الجامعة وأصدقائهن، ودور طالبات كلية الطب في تمويل الفتيات بأقراص منع الحمل، مثلما تحكي عن فشل منهج أوجينو في منع حمل بعض زميلاتها، ما أجبرهن على الإجهاض. هنا تتساءل قائلةً: " كم من الفتيات حبلن وهن لا يزلن عذارى؟ أغلبهن! ورغم الحدود المفروضة على لهوهن، فإن حيواناً منوياً عنيداً يتغلب على العقبات ويبلغ مبيضته. ولا يتبقى لحالات الحَبَل بلا دنس تلك، سوى الاستسلام، في النهاية، لفضِ البكارة قبل الإجهاض" ( ص 59)
وللمفارقة، فإن طالبة الطب التي اعتادت أن تزود زميلاتها بأقراص منع الحمل اكتشفت ذات يومٍ أنها حبلى. وسط هذه المفاجأة، كانت في زيارةٍ إلى منزل صديقين لها هما عالمة الاجتماع التونسية أمينة وأستاذ الأدب الفرنسي جاك، حين التقت عاشق البحر الفرنسي آلان، فخاضت معه مغامرة عابرة. "احتج البعض ممن حولي على الخيانة. "خيانةٌ" لا مفر منها" (ص 63)
وبعد أن أجهضت الجنين الذي في أحشائها، افترقت عن سعيد الذي عاد إلى حظيرة تقاليده وتزوج لاحقاً وأنجب أطفالاً قبائليين، تماماً مثلما أرادت له العائلة
بعده هجرت مليكة حباً آخر باغتها، وهو قبائلي آخر، أشقر آخر، ابن ثري آخر. بدأ الأمر بلقاءٍ وصداقةٍ في يونيو حزيران 1976، ثم مارسا الحب بهدوءٍ وشبق، عشية استئناف الدراسة الجامعية وسفر نورين إلى غرونوبل حيث كان يدرس الاقتصاد. وفي إبريل نيسان 1977 تركت نورين العاشق من دون وداع، وسافرت إلى فرنسا. وهناك، أصبح لها عشاقٌ لمساءٍ واحد. "فقط الشهوة والمتعة ما أريد، وحدها بدايات العلاقة ما أريد، وكل ما عدا ذلك يرهقني ويثبط همتي ويضجرني. لدي سلوك ماشوي (مازوشي)، أعرف ذلك" (ص 67)
في تلك الفترة فتحت مليكة أبواب الجسد على مصاريعها. "بلغت الرغبة عندي في استكشاف العملية الجنسية وتفجرها ذروتها. هجومٌ معاكس لجسدٍ يرفض حرمانه، ويواجه دناءات العواطف باندفاع الشبقية وتكرار عملية الانتعاظ استنكاراً للكآبة، وجسد رجلٍ من أجل الرحيل، من أجل البقاء حية" (ص 68)
"واقتنعتُ بأن وحدَهم رجال الأمكنةِ البعيدة، رجال أرضٍ أخرى، سيقدرون على مساعدتي في الخلاص تماماً من الفوضى الجزائرية" (ص 64)
هذا ما يرد على لسان الكاتبة البطلة بعد فشل حبها الجزائري. وهي إذ تلتقي بجان ـ لوي، الفرنسي الذي درَّس لسنتين في جامعة وهران والذي يملك مركباً شراعياً، تشعر بأنها تحقق متعتين متعلقتين بالحرية أو بحاجتها إلى الرحيل. المتعة الأولى ناجمةٌ عن كونه أجنبياً وينتمي إلى بلدٍ ينعم بقدر وافر من الحرية، والمتعة الثانية مرتبطةٌ بحاجتها إلى الرحيل عبر البحر حيث يمكِّنها المركب الشراعي من تجاوزِ قيودِ اليابسة وقوانينها والوصول إلى ذُرى المتعة الجسدية والتألق الروحي
وتحت عنوان "الفرنسي الذي طبخ لي" تحكي مليكة عن موعدهما الغرامي الأول في شوارع باريس. "حينما أصبحت بلاغةُ النظرة أقوى، بدأنا بتبادلِ القبلاتِ على سلالم مونمارتر. إنها باريس في شهر آب! إنها المرة الأولى التي أرضى فيها بالذهاب إلى بيتِ رجل" (ص 69)
وفي نورماندي وبريتاني ركضت مليكة وسط الحقول وتدحرجت مع جان لوي على المروج، ومارسا الحب عليها، لتمتزج روائح جسديهما بشذى العشب الذي ناما فوقه
أصبحت ثملة بالحب والخضرة


"في حي موفتار، افتتنتُ برؤيته يعدُ لي الطعام، في المساءات النادرة التي لم نكن نتعشى فيها خارج المنزل. إنها المرة الأولى التي يعدُ رجلٌ الطعام لي، إنه لأمرٌ مدهشٌ وشهواني. كنتٌ أتأمله وأنا أطقطق. مارسنا الحب واقفين وسط الروائح المنبعثة من توابل الطعام" (ص 71)
أصبح جسده قارتها
"اكتشفنا في باريس، تلك البوهيمية الشهوانية لحالة العشق. لم ننته، جان لوي وأنا، من الاستمتاع سويةً باللذة، ومن اختبار بعضنا (البعض) والتدله ببعضنا (البعض)، بطرف اللسان وأطراف الشفاه والأنامل وأطراف الحُلم، وفي كل الأوقات. وحينما تنذر أشد نوبات الجوع الأحشاء، كنا نعضُ بعضنا (البعض) في نوباتٍ من الحمى. كنا نلتهم بعضنا (البعض)، ثم ننام متعانقين نفترش الأرض شبعى في لحظةٍ واحدة. في لحظةٍ واحدة. الحب لذةٌ متوحشة. دهشتُ وأنا أراقبُ العشاق الآخرين في باريس، فهم ليسوا فاسقين. إنهم منفردون في التهور، وأفذاذ. أفذاذٌ وبأعدادٍ كبيرة لدرجة أنهم أناروا عليَ المدينة" (ص 71-72)
وفي العام 1978 قرر العاشقان الزواج، الأمر الذي حل مشكلات الأوراق الثبوتية لهذه الطبيبة الجزائرية التي كانت تقوم بمناوباتٍ غير نظامية في إحدى العيادات
عاشا معاً سبعة عشر عاماً، روَضها فيها جان - لوي بصبرٍ مشفوعٍ بخبرة العشاق، وانتشلها من اليأس والقنوط. "ولفرط عنايته بي ومساعدته لي، هداني إلى فكرة أن بلده قد أصبح بلداً لي" (ص 83)
مع جان - لوي ذهبت ابنة الصحراء في نزهاتٍ ورحلات أوديسية للون الأزرق الممتد أمامهما، لينقشا معاً على صفحة المياه نشوتين: الرحلة البحرية والحب
"لقد خطفني، أحبُ أن يخطفني الرجال" (ص120)
غير أن ظهور شقيقتها نعيمة يحدث الزلزال، فقد استنجدت بها شقيقتها نعيمة في العام 1985، بعد أن اكتشف إخوتها مغامرةً عاطفية كانت تخوضها مع رجل بعيداً عن أنظار زوجها. بعدها هربت نعيمة من الجزائر إلى باريس وتزوجت في الحال رجلاً فرنسياً. التقت الشقيقتان بعد طول غياب، ثم أقامت نعيمة وزوجها لفترةٍ في منزل مليكة وجان - لوي ريثما يعثران على عمل ويستأجران منزلاً، وهو ما حدث بالفعل. وفي نهاية أحد الأسابيع، كان زوج نعيمة على سفرٍ، فأتت إلى منزل شقيقتها كي لا تبقى وحيدة. كانت مليكة مناوبةً في المشفى في يوم السبت ذلك، وكان من المفروض ألا نعود إلى منزلها إلا بعد أربعٍ وعشرين ساعة، لكن أحد زملائها عرض عليها أن يحل محلها لتنصرف من العمل باكراً. وعندما وصلت إلى منزلها وجدت الباب مُغلَقاً من الداخل، والمفاتيح في القفل. لم يكن ذلك من عاداتِ جان - لوي


"استغرق بعض الوقت حتى أتى. كان في مئزر الحمام، وكان شعره مبللاً وأشعث، ونظرته مرتبكة. شاهدتُ نعيمة تسرعُ إلى غرفتها ملفوفة بمنشفة. اعترف جان – لوي: كنتُ أستحمُ، تعرَت وأتت تقفُ معي تحت رشاش الحمام. أقسمُ لكِ بأنني حتى لم أبلغ النشوة"
"يا مسكين! أتريدُ أن تقول بأنني وصلتُ باكراً" ضغطَ على أنفه مثلما يفعلُ كل مرةٍ يشعرُ فيها بأنه مذنب. انفجرتُ فيَ ضحكةٌ عصبية. صرخ جان - لوي: يا نعيمة! قولي لها إن هذه هي الحقيقة. قولي لها بأنكِ أنتِ التي...".. صرخت من الطرف الآخر من المنزل: "هذا صحيحٌ. أنا المذنبة" (ص 127)

على أن البطلة إذ تكتشف خيانة جان ـ لوي لها، ومع أختها بالذات، ما تلبث أن تبادله الخيانة بخيانةٍ مماثلة، مع صديقٍ مقرب لهما
الانكسار الذي تعرضت له والهوة التي أصبحت بينها وبين زوجها، دفعاها إلى الاستقالة من عملها في المشفى وخوض تجربة الكتابة، التي استولت على كيانها. وفي خطوة للمصالحة، عرض عليها الزوج الإبحار بمركب شراعي في العام 1986 لتتمكن من الكتابة والاستمتاع بالرحلة البحرية
"كنت أكتب بينما جان - لوي يقرأ. كان يقرأ كثيراً، يقرأ روايات. وكان ذلك رابطاً قوياً بيننا، ضفتي الكتاب تلك: القراءة في تواقتٍ مع الكتابة. كل الكتب التي تركتها في الجزائر، وجدتها ثانية عنده، اشتريناها سوية. حتى مركبنا الشراعي، ريح الرمل، كان يتباهى برفوفٍ تعج بالكتب. كتبٌ في "ريح الرمل" ريحي الرملية في عرض الأبيض المتوسط. من يبحرُ بالآخر؟ لا يهم، لقد تركت الأشباح المزعجة على البر. رفعت عيني عن دفتري، وطرح جان - لوي كتابه على ركبته. نظرنا إلى بعضنا البعض مدركين بأننا نعيش لحظاتٍ استثنائية رائعة. كنّا كمشاغبين ماكرين يلتذان بخدع تفرضها الأيام الرديئة. واحد من النصوص التي كتبتها أثناء الإبحار: "البحر، الصحراء الأخرى" ينتهي بالكلمات التالية: أذيب البحر والصحراء، وأمزجهما في صورة واحدة: "جرح حريتي المضيء" (ص 132-133)
وتقول الكاتبة إن شهرتها كانت سبباً في الانفصال، إذ بدأ الزوج يشعر بالغيرة من النجاح الذي تحققه ككاتبة. "أيُ انحرافٍ يجعل النجاح الأدبي لامرأةٍ يتحولُ إلى خطرٍ قاتلٍ لرجُلِها؟" (ص 134)
وفي الأعوام الأحد عشر التالية، عاشت مليكة سلسلة من الاستيهامات وتجاربِ الحبِ الناقصة، لعل أبرزها مع الرسام الكندي جان كلود، لتستغني بعد ذلك عن حب الرجال. "رغبةٌ متواترةٌ في إزاحة جسم الجريمة بالزهد وحرمان الذات" (ص 214)
وهي تكتبُ بحزنٍ وترقب وشاعريةٍ حزينة وإيحاء، كيف أنها تنتظر الذي لا يأتي أبداً، وكيف أنها تتركُ العشاق وتتجاهل المحبين والمتوددين، محاولة أن تثبت لنفسها في كل مرةٍ أنّها حرة، وقادرة على مراقبة الآخرين وهم يندفعون نحوها.. فيما تتمتع هي بنوعٍ نادر من الخلاص العاطفي والقدرة على البتر والمضي قدماً

تستفيضُ متاهةٌ في نجمةٍ مسكونةٍ بالنار والماءِ المُراقِ


ها هي تعود إلى عزلة الطفولة، بلا عائلة على الرغم من أن والديها حتى ساعة إصدار هذا الكتاب كانا على قيد الحياة، وعلى الرغم من وجود العديد من الأشقاء والشقيقات. وحيدة بلا حب ولا طفل..وحيدة بين بلدين وثقافتين، حتى وإن انتحلت كل ضياء القمر

عاشقةٌ تتمنى فقط أن تغرقَ في دموعها، ربما لأنها لم تتعلم يوماً كيف تتذوق صدى ضحكتها

والحياة تجري كحصانٍ جامح، فإن عجز البعض عن الإمساك بها فإنه يحاول أن ينسى اللجام، ويركز على متعة التجربة


مثلما الذكريات، كذلك المُتع: أحلاها دوماً الناقصة أبداً

تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة (14): العجز



هذه رحلةٌ إلى أعماق الأرواح المطلية بالذل

كابوسٌ موغلٌ في المنافي، حيث تنمو إحباطاتٌ مثل الطحالب فوق سطح حياة بطل رواية "التشهي"، لتطغى على تجاربه وذكرياته مع أسرته وإخوته وبلده ويساره ونسائه وشبقه وترجماته

وحين يفتح البطلُ صندوقَ التذكر، يلتهمه الأسى الدائم الذي لا شفاء له منه

تبدأ رواية العراقية عالية ممدوح حين يفقد بطلها قدرته الجنسية. يذهب العراقي سرمد برهان الدين إلى طبيبه الباكستاني حكيم الصديقي، فيؤكد له، ساخراً، أنّ "صاحبه" (كناية عن العضو الذكري) أصيب بنوع من السكتة، مثل السكتة القلبية والدماغية. أما يوسف، صديق سرمد، وهو طبيب نفسي عراقي يعيش في باريس، فيصف الأمر بطريقةٍ أخرى، قائلاً له إن "صاحبه" اعتزل
"أخيراً هزمه جسده بعد تأريخ حافل بالهزائم"

إنه تهشيمٌ كاريكاتيري للصورة الذكورية، يتكشف لاحقاً عن أبعادٍ تراجيدية ذات إحالاتٍ سياسية وأيديولوجية واجتماعية أكثر تعقيداً. وبعد هذا الاستهلال، المثير والمشوّق، يجد القارئ نفسه أمام مجموعة من الخيوط المتشابكة


إذ يحاول بطل الرواية أن يدفن خيباته المتتالية والخيانات المتكررة للذات والحب واللغة والمدن والأوطان، ويتشبّث بجسده كبوصلةٍ أخيرة إلى ذاته وكينونته، قبل أن يخونه الجسد بدوره فيكون الانهيار التام والغياب الأكيد


زمن الرواية - التي تقع في 271 صفحة من القطع المتوسط - يبدأ أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكن الأحداث التي تتناولها تعود إلى فتراتٍ أقدم، وتدور في بغداد. وما يبدو أنه بدايةُ الرواية، هو، في الحقيقة، نهايتها. فحادثة فقدان سرمد ذكورته، أشبه بمقتل شخصيةٍ ما في رواية بوليسية، يليه سرد القصة بتقنية الـ"فلاش باك"


سرعان ما سيجد القارىء أنّ سرمد ليس بطل الرواية الأوحد، وأن مسألة توقف "صاحبه" عن أداء مهامه المعتادة، ما هي إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، إذ تخفي تحتها قصصاً وشخصيات عدة. كما أنّ الإثارة والتشويق اللذين يعدُ القارئ بهما نفسه، سرعان ما يتكّشفان عن خطة روائية مختلفة

ففي رواية "التشهي" يختلط الجنس بالسياسة والأحزاب والمنفى والذاكرة، لتعكس من خلال القصور الجنسي لدى بطل الرواية العجز العراقي اليوم أمام المحتل تماماً كما كان بالأمس أمام الطاغية


على الغلاف الخلفي لرواية "التشهي"، يشير الناشر (دار الآداب) باقتضابٍ دقيق إلى أننا في صدد روايةٍ تسعى إلى "تعميق معنى الجنس من حيث علاقته الأساسية بالسياسة، والذكورة من حيث علاقتها بالسلطة وأزلامها. وتحكي عن الفقدان الأليم للذات وللحبيبة وللوطن"


وهذا صحيحٌ إلى حدٍ بعيد. ففي أعقاب أزمة "تقاعد" عضوه الذكري نتيجة السمنة الزائدة التي أصابته ومنعته من الحراك، يحاول سرمد برهان الدين استيعاب ما حدث له، ليجد نفسه غارقاً في استعادة حياته الجنسية الماضية، بدءاً من تجربته الأولى. الأستاذة الاسكتلندية في المعهد البريطاني في بغداد، فيونا لنتون الأربعينية الشبقة التي فقد معها عذريته. لقد التقطَته وهو في بداية الشباب، وعلّمته معنى المضاجعة، وكيف يستنبت الشهوة من مسافةٍ بين الصُّلب والترائب


يصف برهان لحظات مضاجعته فيونا البريطانية وهو في بغداد قائلاً: "تحيا فيونا التي كانت تموت وتعود ما بين ساقي ومائي فتبتكر صرخات لم أسمع بها من قبل ... إنها تعيش في بقعتي العزيزة وينبغي أن لا نترجم ذلك حتي لا نفسده. ترقص وتلتهمني وأنا مغطى بالمني واللعاب.."، أو "ها أنا أبجل المهبل والبظر واستحضر اسم الفرج باللهجات المحلية والعربية ... فاللغة أخطر وسيط في المضاجعة"، أو "كانت تجبرني على النظرِ كأحدِ القواعدِ لخديعة البصر ذاته فأصرخ بصوتٍ كالإعصار ادخليه سالمة ادخليه بأمان باللسان والشفتين والأنفاس والتقبيل والتقتيل بالأصابع والشموع والرطوبة والسعال والأنين والندى بالطي والمباشرة والعذاب والجماع الناقص ..."


ثم تأتي كيتا الألمانية التي عانتْ من نزوات المناضلين الشيوعيين في المنفى، لكنها توسّمتْ في سرمد موهبةً في الجماع فلم يخبْ ظنها. وأخيراً المغربية أمينة الملقبة بـ"البيضاوية" التي تعلّقت بسرمد من دون تحفُّظ ولا انتقاد، إضافة إلى نساءٍ عابرات ومجهولات


إلى جانب هؤلاء، تطل المرأة الأكثر حضوراً في القلب والذاكرة: "ألف" التي بدأ عشقه لها وهما طالبان في الجامعة وظل حبها مُتغلغلاً في نفسه على رغم أن أخاه مهند "غزاها" ثم تزوجها، وظلت هي الأخرى متعلقة به، تبعث إليه رسائل مسجلة بصوتها: "آه يا سرمد، الجنسُ معك يشبه التحريض ضد كل شيء؛ كلا، ليس هو الثورة أو التمرد كما تقولون في السياسة. الجنسُ معك يتبدل وينقلب من حالٍ إلى حال فيجعل أشيائي الصغيرة في داخلي تنتقلُ من مكانها (...) لا أعرف إذا كان دقيقاً القول، ربما كان الشغف هو الذي يسمح لنا دوْماً برؤية شيء جديد في داخلنا" (ص 220)


وفي حياته السابقة كان سرمد يبدو في علاقته بالجنس وطريقة ممارسته له كمن يقوم بفعلٍ انتقامي أو تعويضي يغرق فيه ويظهر عبره مهارةً فشل عن ابتكارها في العمل السياسي. ذات مرّةٍ يقول يوسف لسرمد: "ولا مرة سألتكَ عن مرجعيّتك"، فيمدّ سرمد يده إلى ذَكَره، ويجيب: "هذا"!


وبالرغم من طوفان الجنس الذي يعوم فوقه سرمد، فإنه شخصٌ مهزوم من الداخل، يتوقَ إلى البكاء: "لكي أشعر بشيء من اللذة والتلذذ. أشتهي إيجاز نفسي وسط الدموع الخفيّة وفوق ذلك ألاّ أقول لأحد؛ صرتُ كريهاً" (ص 167). لذةُ الجنس إذَاً لا تكفي وحدها لأن يكون الواحد كائناً يكتمل، فيتطلع إلى البكاء بدموع حقيقيّة عَلّها توصله إلى حقيقةٍ ما أُخرى. وتلخص له إحدى نسائه، كيتا، ملامح أزمته حين تقول له: "وأظنُ أنَّ ما نقومُ به وطوال وجودنا هو كيف نحاول الاقتراب من بعضنا بعضاً (ص 168)، غير أنَّ الاقترابَ من الآخر يستلزمُ رغبةً تتعدى مشاركته الجسدَ والسرير؛ إذ: "الجنسُ لا يُنقِذُ وهو مجرد فراغ، يدع اليد فارغة والجسد خاوياً" (ص 171)


وربما يفسر هذا معاناة سرمد الذي يقول في واحدةٍ من موجات استطراداته الداخليّة: "هل يعقل أن أقيسَ نفسي وذاتي وجوهري بمقدار وزني ولحومي، هل هذا عدل؟ لماذا لا يتم قياسي بوزن آلامي؟" (ص 176)


غير أننا نتأرجح بين التعاطف مع سرمد وبغض هذا اليساري السابق الذي لم يكمل الخمسين، وغادر مدينة الوزيرية في العراق متجهاً إلى المنفى. إننا نجده شخصاً مرصوداً للغياب، وكل ما فيه ليس إلا إثباتاً لـ"عاديته"، بدءاً من شكله "العدواني": سمنته الفائضة التي تنعكس ثقلاً في حركاته وكلامه ومشيته، جلده الذي يتقشّر، شاربه الذي توقفت شعيراته عن النمو و"الذي يقع ما بين اللونين الرصاصي والبني من كثرة الصبغات التي لا (يجيد) وضع نِسَبِها كما يجب". مروراً بموقف الآخرين منه، فكما تقول كيتا عشيقته الألمانية: لا أحد يطيقه، لا الشيوعيون ولا البعثيون ولا الأصوليون ولا المستقلون. وصولاً إلى نظرته إلى الحياة التي لا مكان فيها لأي مرجعياتٍ إيمانية، اجتماعية أكانت أم عاطفية أم فكرية: "إيماني شحيح وكلما أنتقل من رتبة يبدأ الخواء يتضاعف من حولي. أما النساء فكنّ على الضد مني، كان لديهن إيمان بشيء غير مرئي لا أعرف ما هو"


الجغرافيا القلقة التي تحركت فيها الرواية، تقودك من الحاضر في باريس إلى الذكريات في العراق ولندن وأماكن التشتت العراقي؛ لترسم لوحة لما أحاط بسيرة هذا الرجل ويمثل العراق في الرواية مكاناً للحدث الأصلي الذي تتوالد منه بقية الأحداث وتتعاقب وتقوم الرواية في كل فصولها على زمن استعادي للعراق وأمكنته وأوقاته وخباياه وحياته وعلاقاته. وتلملم الكاتبة صورة هذا الوطن المستحضر، تماماً كما سعى سرمد المريض العراقي إلى استعادة عضوه، الذي بدا أن الأمل في استعادته ضئيلٌ للغاية


الجنس، الجنس، الجنس، هو البطل في هذه الرواية، وعالية هي من أولى الروائيات العربيات اللاتي كتبن في هذا المنحى، إذ نشرت الطبعة الأولى من روايتها "حبّات النفتالين" في ستينيات القرن الماضي. إذاً الجنس هو البطل، أي الشخصية الرئيسية في القصة، وهو وبامتياز، البطل المهزوم، الضعيف، العاجز سياسياً واجتماعياً

وفي ظل التحولاتِ الجسدية والسياسية، يغيب الفخر، وتتقلص عزّة النفس، بعد أن أصبح الجلاد السابق هو اليوم الضحية، ضحية من كان يُعتبر ضعيفاً في الماضي، أي المرأة: "اللعنة على البرودة الجنسية والصعوبة الجنسية والمبادرة الجنسية. آه، كم استخدمتني كيتا والبيضاوية، كم تعرّيتُ أمامهنّ وأمام شاندي، هي الأخرى تستخدمني من أجل أبحاثها وتعاليمها فلم أعد قادراً على لعب دوري ولا العودة من حيث بدأت"


أما عن محركها الأساسي لهذا العمل فتقول عالية ممدوح لوكالة الأنباء الفرنسية إن "موضوع الجنس كجبروت سلطوي قد يؤسس للقتل بمعانيه المجازية والإجرائية والفعلية أثارني وما زال". وتضيف عالية قائلة: "حاولت الاشتغال على شخصيات خربها الفساد والتدليس ما بين قوتين مهلكتين الجنس والسياسة من خلال رجل شيوعي ورجل مخابرات عراقي"


بدأ سرمد رجلاً ذكراً بكل معنى الكلمة، وبدأ مناضلاً يسارياً شيوعياً، لكنه يصطدم بتحولاتٍ مفادها أن تلك النضالات السياسية انهارت وأن تلك البطولات الجنسية أخفقت مع الوقت


والروائية تتحدث بسخريةٍ لاذعة عن الشيوعيين العراقيين وعدائهم للآخرين، كما تتناول فشلهم الجنسي: "عشيقاتهم يقصصن عليَ تفاصيل مضحكة منذ لحظةِ الاهتياج التي تطول أحياناً إلى نهاية الليل بدون فائدةٍ تذكر"


ولعل أحد الموضوعات المهمة التي اهتمت بها أيضاً الكاتبة، هو الترجمة. فهذا البطل المنهزم، كان إضافةً إلى انتمائه اليساري سياسياً، مترجماً وباحثاً. ويأتي عمله في الترجمة ليشكلَ ذروةَ الغياب، فالمترجم "هو بقايا من ثمار الآخرين وخوفهم". ومع ذلك فهو يصرُ على أن الخطأ الذي شهده هو وعالمه لم يكن سببه سوى سوء الترجمة: "هيه، اسمع يوسف، لو تُرجم البيان الشيوعي ترجمة سليمة وأمينة وجميلة لتحوّلت شعوب هذه المنطقة إلى الشيوعية"!


والذكورة بالنسبة لسرمد تعني المغامرة والاكتشاف، وفي غيابها غاب الإنسان السابق الذي كان يناضل من أجل التغيير أو التجديد: "ربما كان الشغف بالجنس هو الذي يسمح لنا دوماً برؤية شيء جديد في داخلنا". و"اختفاء" عضوه لم يكن سوى جزءٍ من سلسلة "الأشياء والموجودات والمدن والأماكن" التي تختفي على التوالي من حياته. ولذا يتحول سرمد إلى رجلٍ مُدَمر: "يوسف نحن أنقاضٌ يا عزيزي"


تربط عالية ممدوح على مدى صفحات الرواية بين الضعف الجنسي والوهن السياسي، وتضع على لسان شخوصها مرارةً ما، حنيناً ما لِما ضاع وفات وتوارى من الشغف في المغامرة السياسية، مثلما توارى فجأة ذكَر سرمد الذي أخذ القلق يتآكله، ويراجع الأطباء ويتساءل أمام المرآة ولا يجد حلاً. بل إنه لا يجد أمامه سوى الإحباط بسبب هذا كله، بسبب الهزائم المتراكمة وخصوصاً بسبب الضياع الذي وجد نفسه فيه بعد تركه وطنه الأم، العراق، وتشرذمه في مدن العالم، وكأن في هذا السياق تساوت المدن والنساء في التسلّط على الرجل المستضعف: "آه منهن، كنّ يتناوبن عليّ ما بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأقصى، يشبهن الأمواج المتلاطمة يصعدن فوقي وأزيحهن من تحتي فلا أشاهد إلا عزلتي (...)"


هذه العزلة تناولتها الروائية عالية ممدوح عميقاً وبشكلٍ واسع لتخبرنا أيضاً أنها تطال ليس فقط العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة، وليس فقط العيش اليائس وغير المستقر في شتى مدن العالم، إنما تطال أيضاً الهوية والاسم وما شابه: "(...) وأنا أستعمل أحد أسماء أخي الحركية ـ هلال العراقي ـ وهذه هي المرّة الأولى التي أفصح فيها عن اسمي الذي اختبأتُ وراءه كل تلك السنين. (...) سرمد أنت دائماً تعيش في مكانٍ آخر وهو الهناك. أنت يا سرمد لا هذا ولا ذاك. أنت هش ومكسور ومجروح"


إلا أن الجرح الذي تناولته الكاتبة بحنكة وبعمقٍ كبيرين، أوصل سرمد إلى أماكن أبعد وأكثر تعقيداً، أوصله إلى التساؤل حول معنى عجز اللغة أو خيانة اللغة أو اغتصاب اللغة، ولكل هذه المعاني علاقة وثيقة بالحياة الجنسية، خصوصاً الذكرية منها: "إن ما يعوزني حقاً، هو العثور على سرّ العجز الحاصل في اللغة، اللغات، في إيراد النعوت والصفات مما لا نقدر على التعبير عنه (...) كلّما أخرج من المركز في طريقي إلى الفندق، أشعر أنني أنشطر إلى أجزاء وشظايا فأبحث عن كلمات، عن نوع كلمات لا أتخذ معها أية حيطة (...) كيف تهجر مدينتك طوال كل تلك السنين ولا تعود تبالي في أي مدينةٍ مررت أو سكنت أو ستموت"


تتشرذم الروح من خلال الإقامة المشرذمة، وكأن هذا التفتت وهذه الخسارة الجنسية والنفسية جعلا سرمد ينتبه إلى عنصر اللغة، هذا الكائن الحي ولكن الخفي، أو الخفي ومع ذلك الموجود في الذهن وفي الأذن وفي الأمكنة بقوّة. فمن جهة تكون اللغة أقوى من أن يعثر سرمد على أسرارها، ومن جهةٍ أخرى تصبح في رأس سرمد أو في قلبه وأذنه ولسانه بقايا لغة وشظايا لتكون شبيهة بحاله هو


ثمة أيضاً لغة أخرى غير هذه التي تكمن فيها قوة الأسرار أو ضعف الانشطار، وهي الإنجليزية. تلك اللغة التي رافقت سرمد منذ طفولته في العراق وظلت هاجساً في حياته لأنها ربما لعبت دوراً مزدوجاً في تكوينه الجنسي - النفسي- الثقافي. فقد تكون أرادت الكاتبة من خلال مطاردتها هذه اللغة على مدى صفحات الكتاب، الإشارة إلى المنحى السياسي لها (أي للغة الإنكليزية)، وإلى المنحى الثقافي إذ كان العراقيون يرتادون المركز الثقافي البريطاني لتعلّم الإنجليزية، وإلى المنحى الجنسي إذا تذكّرنا علاقة سرمد الجنسية الأولى في مراهقته مع فيونا البريطانية التي كانت في عمر والدته. هنا أيضاً تعيدنا الكاتبة إلى موضوع اللا بطل، إلى الذكر الفاشل أو الذي تسيطر عليه لغة المحتل وامرأة الاحتلال


وفي سياق الرواية نكتشف أن ثمة أخاً أكبر لسرمد هو مهند الذي كان - ولا يزال- عضواً في جهاز المخابرات العراقي. إنها وظيفة كفيلة - سردياً على الأقل- بكشف واقع عراقي محكوم بممارسات مروعة ومفرطة في وحشيتها. مهند الذي نكّل بالشيوعيين العراقيين، ونال ترقيات وجاب العالم بوظيفته، يصل به الأمر إلى حد مراقبة شقيقه سرمد حتى وهو في الخارج. وسنعرف أنه تزوج ألف عنوة، بعد اعتقال والدها وموته تحت التعذيب، ثم اختفاء شقيقها الذي لم يُعثر على جثته، وإصابة والدتها بالشلل. بل إنه يحتفظ بتسجيلاتٍ مصورة لسرمد وهو يمارس الجنس مع كيتا ومع البيضاوية، وحتى مع ألف حين زارته ذات يوم في لندن. وعلى الهاتف يقول له بفظاظته الاستخبارية: "خراء عليك وعلى ألف التي كانت تضاجعني، وهي تحلم بك فوقها وأنا أعرف ذلك..أبول عليك وعلى رائحتك الخاصة التي كنت أشمها في عرق وإبط ألف"

ستواظب ألف على البقاء في ذاكرة سرمد، وسترافقه حتى وهو يضاجع كيتا والبيضاوية. إنها حبّه الأول. أما دائرة ضحايا مهند، فتتجاوز سرمد وألف. سنعرف أن مهند اغتصب يوسف في الماضي. يوسف الذي ينصح صديقه سرمد بالقدوم إلى باريس للعلاج، سيتولى، بنفسه، سرد حكايته: "لستُ وحدي الذي كان يفعل به كذا وكذا. كان يتركني أنزف كما المرة الأولى، حتى يمتلئ لباسي الخام بالدم الذي ظلت صورته تطاردني حتى هذه اللحظة". ثم يضيف بهذيان كابوسي: "أول ما قرأت "المركب النشوان" أصابتني قشعريرة، فتصورت رامبو تحت مهند، وهو يعتصره فيكتب مقطعاً بعد آخر والدم ينزف مني ومنه"


وفي موضعٍ ما من الرواية نجد تبريراً للمثلية، حين يقول أحد أبطال "التشهي" إن في كل إنسانٍ شيئاً من الشذوذ الجنسي


تفسح عالية ممدوح لأبطالها - وربما ضحاياها- بأن يلعب كل واحد منهم دور راوٍ صغير داخل نبرتها الشاملة هي كمؤلفة. كيتا، خريجة الأدب في جامعة كارل ماركس في لايبزغ، وعاشقة بوريس باسترناك في الخفاء، ستروي قصتها. وكذلك البيضاوية، ويوسف وأبو العز وأبو مكسيم


أما ألف فقصتها حاضرة في حكايات الآخرين، قبل أن تتولى مهمة اختتام الرواية على مشهد بغداد سنة 2003، وهي تسقط تحت الاحتلال الأميركي: "سرمد، تُرى أيهما صحيح، روتين الحرب أم الحرب الروتينية؟... لا شيء يحدث أكثر من الحرب، هي التي تحصل دائماً... كل يوم... وسوف تدوم طويلاً كجميع الحروب"


الحكاية إذاً تتخطى معضلة سرمد الجنسية لتُعانق مأساة الوطن المصادر الذي احتله "الشُّقـْر" بعدما عانى من استبداد الحاكمين: "الشّقر دخلوا مدينتنا. أضافت: حتى السود والصّفر والسّمر شُقر أيضاً..." (ص 218)


وفي حين تناجي ألف حبيبها الغائب سرمد، وتشُكُّ جِلْده بوخزات الرغبة في استئناف الحياة والمقاومة والحب، فإنه يعاني مأساته الشخصية المتمثلة في عجزه الجنسي، حتى تصرخ به البيضاوية:"مدينتكَ تُدكّ دكاً وأنت غير قادر أن تدكّني بوردة"


تختم عالية ممدوح الرواية بنوستالجيا عراقية على لسان ألف: "...لا أحد يعود إلى المنازل . لا أطباق تنتظر من يلتهمها . لا عيون تنظر للبعيد بانتظار أحدهم يبتسم يعود أو يمر حتى ... ولا قبلات نسمعها قادمة باتجاهنا. تعلّمنا كيف نبتلع الدموع فنرقبهم وهم يضخّون ثلاثة أنواع من السموم القاتلة في عروقنا، ومع هذا لا يُقضى علينا.." (ص 270)
"التشهي" في حقيقتها روايةٌ عن العراقي الذي انتهى وحيداً، وهو يردد مع بطل الرواية جملةً تشبه الفاجعة: "فقدتُ بلدي إلى الأبد دون أن أكسب بلداً آخر" (ص 144)

على صفحات هذه الرواية ينفتح أمامنا جرحٌ عميق الغور، يفضح حال البطل ومسرح العبث، الذي هو للأسف عالمنا أيضاً
وفي دروبِ الحياة يتعلم كثيرون حقيقة مزعجة: فقط الكوابيس تبقى
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator