المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة



مثل قطارٍ أفعواني في حديقة ملاهٍ، يشقُ الحب طريقه صعوداً وهبوطاً، وسط صيحات ابتهاج وأحياناً فزع الجمهور
وقصصُ الحب عجيبة وغريبة، لكن الأغربَ دائماً هو نهاياتها

تبدأ رحلة الحب بالعواطف الرقيقة أو الساخنة -لا فرق- حيث تتأججُ المشاعر وتتقارب النفوس، ويتناثرُ من أيدي العشاق ضوء يعبر منه العالم إلى الجنة، إلى أن تهبَ العواصفُ فجأة ليظهر الوجه الآخر لأحد الطرفين أو كليهما، لتنهار الأحلام الوردية وتظهر الحقيقة بكامل صورتها وتفاصيلها

وفي تلك اللحظة قد يقع خلافٌ وشجار وصراع، ينتهي بالدماء التي تسيل أو الأرواح التي تزهق، مصحوبةً بهمهماتٍ وتساؤلاتٍ وفضول لا ينتهي في أوساط الرأي العام أو وسائل الإعلام. وربما تتحولُ الجريمة العاطفية إلى قضيةٍ ذات أبعاد سياسية تشغل اهتمام الحكام والسفراء، ويلعب فيها الدبلوماسيون أدواراً مؤثرة

وجرائم العاطفة في تاريخ مصر لها أكثر من شكلٍ وصورة، فهي قد تكون ناجمةً عن علاقةٍ سرية تنتهي بفضيحة وأحياناً الموت على مرأى ومسمع من الناس، أو تبدأ بشجارٍ بين زوجين تتكثف فيه مختلف العوامل، وتطفو على السطح مشاعر الغضب المتراكمة، لتنتهي بمأساةٍ أو رصاصة أو دس السم في الطعام والشراب

وفي كلِ الأحوال، فإن الجريمة العاطفية في مصر وقعت في القصور مثلما حدثت في المنازل المتواضعة..وشهدتها عصور الفراعنة والمماليك والعثمانيين وما بعد ذلك طبعاً، وصولاً إلى اليوم. قد تكون وقائعها جرت في القاهرة أو الإسكندرية، أو حتى خارج الحدود..في مدينةٍ تسابق الوقت مثل دبي أو في ربوع أوروبا أو إحدى الولايات الأميركية، ولكنها تظل جرائم عاطفية يجلسُ فيها أحد الطرفين على الأقل متكئاً على عذابه وينامُ في سرير يأسه، بعد أن كان يظن أن العاشق يهرمُ..ولا تذبل أشواقه

وحين تقعُ مثل تلك الجرائم التي ترتدي ثوب العاطفة، تولَدُ مآسٍ تثير في النفس أكثر من تساؤل حول أسرارها وتفاصيلها ودوافعها

وفي الحب كما في الجريمة، تتداخلُ حدودُ الأشياء والمفاهيم وتضطرب الرؤية

والعاشقُ ينقشُ كلماته أفلاكاً على فضاء الذاكرة بأحاسيس أقرب من الدمعة وأبعد من المجرة
يصبحُ العاشق ظلاً لظل من يحب، يحلمُ بتفاح الفتنة وغواية العطر، ويصنعُ مع من يحب إرثاً مشتركاً من الأحلام، وحين يدخل محراب اللمس تضيع منه اللغة ويهرب الحرف

وفي أحوال العاشقين، تكونُ خارجاً للتو من النهر، فتشعرُ على استحياءٍ بالظمأ من جديد

وإذا كانت العاطفة تهزنا هزاً وتعبئنا بالغمام، فإن البعض لا يقرأ في قاموس المشاعر سوى كلمة انتقام.. هنا تنزف الوردة دماً، ويسير العشق عكس الاتجاه، وتقيم الحكاية مأتماً بين أصابعنا وفي قلوبنا

وفي تاريخ مصر حكاياتٌ لا تنتهي عن المحبة التي انتهت بحريق هائل يلتهم سوسنة الفؤاد، وقصصٌ عن الوجد الذي أتى حاملاً نعشَ أبطاله، والشوق الذي دفنته الغيرة في قبر الهواجس

وبدلاً من الألق، ينبت الأرق

والحكاياتُ التي اخترناها من عصور مختلفة وأزمنة متباعدة ترسمُ خرائطَ الروح، وتحولات النفوس، وتبحثُ عن أسباب هذه الانقلابات العاطفية التي تنتقل من صيدِ لؤلؤ الرغبة إلى عداءٍ مستحكم، يمنح فيه أحد أطراف العلاقة نفسه تصريحاً بالقتل

زيارةٌ جديدة لتلك الجرائم العاطفية تبينُ أن الموتَ الذي كنا قد واريناه الأيام لم يمتْ بعد بجدية

لم يكن الأمر سهلاً، فقد تطلبت الكتابة عن تلك الحكايات وشخصياتها المحورية قراءة مئات الكتب والمراجع والدوريات والصحف باللغتين العربية والإنجليزية. ولعله من الضروري أن نشير إلى أن جانباً لا يُستهان به من المواد والتفاصيل المنشورة في هذا الكتاب يُنشر لأول مرة باللغة العربية، وخصوصاً حكاية الأمير سيف الدين مع الأمير فؤاد الذي أصبح فيما بعد ملكاً على مصر، وقصة محاكمة مارغريت فهمي في لندن بعد أن قتلت زوجها الوجيه المصري في أحد فنادق العاصمة البريطانية

التوثيقُ هو أحد مفاتيح الكتابة في هذا المشروع المتواضع

غير أن هناك حرصاً على سهولة اللغة وسلاسة السرد واهتماماً بنقل الحوارات والأحاديث كما دارت أو وردت في المصادر المختلفة

إنها حكاياتٌ هدهدتها الأحلام، قبل أن تتحول إلى كوابيس، ولوحةٌ من ألوان البهجة وحب الحياة قبل أن تصبح ملطخة بالدم. والأبطالُ في هذه الحكايات من كل صنفٍ ولون: رجال أعمال وفنانات، ملوك وأميرات، قضاة وربات بيوت، نصابون ومطلقات. أما الذي جمع بين هؤلاء فكان الحب وقصص تغسلها فضة الأساطير..حتى فرَق بينهم الموت
اللافتُ للانتباه أن القتلَ كان يقعُ عادة تحت جنح الليل.. ربما لأن الظلام سترٌ لأصحاب الخيباتِ كما هو مطلبٌ للصوص
هؤلاء العشاق ماتوا بكل الطرق الممكنة، بدءاً من الرصاص وانتهاءً بالقباقيب. يا لها من نهاياتٍ مأساوية سببها من كانوا يحبوننا

لكنها كانت نهاياتٍ تستحق أن تُروى..وبداياتٍ جديرة بأن تُستعاد

لنبدأ معاً القراءة


من مقدمة كتاب "جرائم العاطفة في مصر النازفة" ، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009
تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة (19): لعنة الأصابع






إلى آخر يد لمست هذه النسخة من الرواية



تفتحُ هذه الرواية عوالمَ مغلقة وممنوعة الإشهار
إنها رواية "رائحة القرفة" للكاتبة السورية سمر يزبك، التي تمثل واحدة من أهم الروايات باللغة العربية التي تناولت موضوع العلاقات المثلية بين النساء
رواية تتسلَّل إلى دم القارئ بقوَّة، وتقودك لتدخل معها أبواب الشفقة مرة ومرات باب الغواية، وتكتشف طقوس المتعة وأسرار الرغبة في الأحياء الشامية
رواية تتحدى بالحماقة والجنون قواعد المعادلات الرياضية، مؤكدة أن حاصل جمع اثنين واثنين قد يساوي ثلاثة
روايةٌ تسبح بثقة إلى القلب وهي تقيم مواجهةً بين شخصيتين متناحرتين؛ حنان الهاشمي التي فرَّت إلى غرائزها بغرائزها من جحيم الذكورة، إلى لعبة الأصابع ولعنتها، وكأنَّها تفتح نافذةً من جسدها إلى جسد عليا، فتنال لذائذ الشهوة في "ليل التواطؤ القادر على ملامسة شغاف قلبها" (ص 15)
وفي فيلا تقع في حي المهاجرين الراقي الذي تطل من نوافذ بيوته دمشق على قاطنيه بكل فضاءاتها، تصبح الخادمة هي السيدة وتصبح السيدة هي المتطلبة لتنفيس فوران الجسد الذي لم يستطع الرجل أن يحرك فيه ذلك التوق الشديد الذي يضطرم تحت جلد امرأة
"تمسك صولجانها في النصف الأول من الليل. تتحسس تاج سيادتها اللامرئي، تغفو قليلاً، وعندما تصحو تتناوم في سريرها، مرة أخرى، جاهزة لاستدعاء السيدة
"في النصف الثاني، تتسلل إلى غرفة سيدها. تنام قربه عارية، تعبث بلحمه المترهل، ثم تغادره إلى غرفتها" (ص 15)
إن الفتاة التي كبرت يوماً بعد يوم في الفيلا أتقنت اللعبة سريعاً "وعرفت أنها تخبىء في جسدها، كنزاً تمنحه لسيدتها ساعة تشاء، وتمنعه عنها عندما تكون في مزاج سيىء، فقط أثناء الليل، بينما كانت تتجنبها في النهار، وكأنها نجس، وتحاول إبعادها
الليل هو الليل، والنهار هو النهار" (ص 84)

وفي كل الأحوال، يظهر جميع شخوص الرواية ضحايا لفاعل ما، هو الفقر والغنى

في روايتها التي صدرت عن "دار الآداب" في بيروت (2008) وجاءت في 167 صفحة من القطع المتوسط، تبرز قدرة سمر يزبك على الغور في أعماق النفس والجسد على حد سواء. وهي تستعين بالمونولوج الداخلي الذي يتكرر غير مرة لإبراز صورة الصراع داخل النفس الإنسانية، كما تعمد إلى تنويع مستويات السرد، لتتناسب مع شخصية عليا التي كانت تنتشل لقمتها من الحاويات قبل أن تعمل خادمةً لدى سيدة ثرية، ورغبات حنان التي تطلق الطيور الحبيسة من صدرها وتريد أن تستأثر بخادمتها في فراش القابضين على الثروة والجاه



جاء في كلمة دار النشر عن عمل سمر يزبك: "تحكي رواية "رائحة القرفة" عن علاقة سيدة دمشقية بخادمتها الصغيرة، وتغوص في عالميهما، العالم السفلي المدقع الفقر، وعالم الطبقة المترفة. وتحول هذه العلاقة إلى لعبة قوية في يد الخادمة وتجعل منها المبرر الوحيد لشعورها بإنسانية مفقودة"
غير أنه يمكن القول إن الرواية تحكي عن الحب الذي هو زَخمٌ: إذا رَاحَ؛ راحْ
ويمكن للبعض أن يتأمل في صمت الإهداء الذي تقول فيه الكاتبة: "إلى نوّار.. حين غبْنا وحيدتين في هذا العالم المجنون"
لا تحصر يزبك وصفها لما يدفع بالمرأة، إلى عالم العلاقات المثلية في أسباب نفسية وجسدية، بل تضيف إلى ذلك عوامل مختلفة، منها عاداتٌ اجتماعية تتسم بتخلف وظلم واستبداد عند الرجل، ومنها الفقر الذي قد يكون أحياناً أبا الجهل

الرواية ليست من شبق، أو هي تصوير لدقائق الشهوة المتمرغة بين سهول العشق وجبال الفىء؛ هي رسائل المسافات التي تفجِّر في جانبٍ منها مأساةَ الإنسان حين لا يعيش حياةً تليق بكرامته
تبدأ القصة بما يشكل "بداية النهاية"، عبر حادثة مفصلية وحاسمة في حياة أبطالها، هي حادثة اكتشاف السيدة الدمشقية الثرية حنان، وعلى حين غرة، بأن خادمتها الفتية عليا تقيم علاقة جنسية مع زوجها الكهل أنور بعد أن ضبطتهما معاً مضطجعين في سرير واحد
ها هي بطلة الرواية تنهض من نومها وكوابيسها
"إنه خط الضوء المائل!
الباب كان موارباً. ولولا الضوء المنبعث كخط مائل نحو مرآة الممر، لما انتبهت حنان الهاشمي إلى الهسيس، وهي تمشي حافية القدمين. بعد أن قفزت من فراشها كملسوعة، تحلم أنها تحولت إلى امرأة بخمس أذرع وثلاثة أثداء" (ص 7)
تتابع حنان البحث عن مصدر خط الضوء المائل، في حين يحبس القارىء أنفاسه، مراقباً ومترقباً للحظة الكشف. إلا أن هذه اللحظة المرتقبة تتحول إلى أبعاد وحالات. فالمرأة المسرعة لتعرف ما الذي يجري في غرفة زوجها سرعان ما تستغرق في تأمل نفسها في المرآة وتأخذ أصابعها بتمسيد وجهها وتشعر بغبطة في تأمل تفاصيل جسدها
كل ذلك والقارئ ينتظر بعد أن تركته الكاتبة متشوقاً لمعرفة ما يجري. وبعد نحو صفحتين من الوصف والتصوير الدقيقين الموحيين، وإن كان ذلك في شيء من "الحشو" من الناحية السردية، نقرأ : "هسهسات ناعمة. ضحكات خافتة وأنين ملتاع. مشت ببطء وتثاقل، محاولة التكهن بمصدر الصوت. جسدها يرتجف بشدة. وقفت أمام مقبض الباب. التصقت به. فتحته بحركة عنيفة. صارت وجهاً لوجه أمام ما يحدث في الغرفة" (ص 9)
"كان زوجها العاري ممدداً على السرير، وتغضنات ألم واضحة على وجهه. ليس الألم تماماً. هذه التعابير لم تعرفها من قبل. تعيد تشكيل ملامحه. لم يكن هو نفسه، لكنه زوجها‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍، وهناك مثل نفق عميق وسط الضوء الباهر، كانت… عليا" (ص 10)
وعليا هي الخادمة التي أتى بها أبوها طفلة لتعمل عند حنان. كان قاسياً ينفق كل ما تصل إليه يده ويسلب امرأته وابنته جنى تعبهما في العمل في البيوت. حنان التي صارت تعتبر عليا "ملكاً" خاصاً لها بعد علاقةٍ مستمرة بينهما، صرخت في الفتاة وطردتها من المنزل، في حين تبكي السيدة على فقدها وتتمنى عودتها
إلا أن الفتاة تقرر عدم العودة
كانت لحظة الصدام المباغتة تلك هي الفرصة المؤاتية أمام كل من السيدة وخادمتها للعودة إلى لحظة الحقيقة التي لا بد من انكشافها، كما كانت ذريعة الكاتبة لتمكين بطلتيها من استعادة حياتيهما المتباينتين والمتقاطعتين في الوقت ذاته
تتوزع فصول الرواية بين حنان وعليا عبر نوع من الرؤى والذكريات التي تعيد بذرة المأساة إلى تربتها الأولى
والذاكرة المصعوقة تفلت في براريها لتستعيد وتستدعي
وعبر سطور الرواية نكتشف أن غضب حنان الجم لم ينصب على عليا بسبب علاقتها غير المشروعة بالزوج أو أنها "خانتني مع تمساح متفسخ" (ص123)، بل بسبب رغبة حنان في امتلاك عليا بالكامل، بعد أن ارتبطت بها بعلاقة جنسية مثلية لسنوات عدة. ويدور داخل حنان صراع بين امرأتين، تقول لها إحداهما: "أريد أن أضمها إلى صدري" وتصرخ فيها الأخرى قائلة: "هي مجرد أصابع، استبدليها بغيرها" (ص 22)
وكما تهرب عليا من واقعها المزري، تهرب سيدتها حنان من واقعها البورجوازي الخالي بدوره من العاطفة والدفء الإنسانيين. فهي تنفر من أبيها لضعفه وتنازله عن دوره الأبوي، وتنفر من أمها لفظاظتها وتسلطها المهين على الأب
الوحدة إلى حد العزلة، صنعت جزءاً مهماً من تكوين حنان التي عاشت بعد موت أمها، بلا عائلة. فقد انتشر أعمامها في أنحاء العالم. في أميركا اللاتينية والشمالية، هاجروا من سوريا وأخذوا كل ما تملكه العائلة من ثروات، تبعثروا في جهات الأرض، وبقي من العائلة أخوان يمتلكان بضعة محال في البزورية، ومحلاً لبيع الملابس القطنية في سوق الحميدية.. وبسبب تشتت العائلة لم تنل حنان من أمها أي عطف. فقد بالغت أمها في تجاهل مشاعر أمومتها، قاصدة أن تجعل من ابنتها الأنثى ما يشبه الصبي لأنها لم تنجب صبياً
وفي شبابها، يفرض على الصبية حنان الهاشمي أن تتزوج ابن عمها أنور. كان أنور وهو ابن عمها نسباً، كأنه "أخوها" الأكبر فهما يعيشان مع أهليهما في مكان واحد. عرفها طفلة واعتنى بها وبقي على هذه المعاملة هو وزوجته التي فرض عليه أن يطلقها كي يرزق بأطفال فلا ينقطع نسل بيت أبيه. ولم ينفع قوله إنها ليست هي السبب
تكتشفُ حنان أنَّ زوجها في الفراش مثل "تمساحٍ رخو"، وأنَّ لا ذريَّةَ في صلبه. وبعد زمن، صار الزوجان غريبين في بيت واحد، وتحولت العلاقة بينهما إلى ما يشبه الرماد. ولا يمكن أن يقع اللوم على الزوج وحده، إذ إن حنان لم تكن تشعر بعاطفةٍ نحوه، ولم تتقن معه فنون السرير. "كانت تخبر الأم بأدق التفاصيل حميميةً، في فراش زوجها، وإن لم تفعل، فستجد الأم طريقها إليها، نادمة على أنها لم تعلِّم ابنتها فنون الفراش، كما تفعل نساء الشام مع بناتهن عادة، للحفاظ على أزواجهن، وجرّهم إلى متعة الليل. وحين بدأت تعلمها تلك الفنون، كان الأوان قد فات" (ص 48)



وأمام إلحاح الجسد المنهك، تقيم علاقات مثلية مع صديقاتها، وبشكل خاص مع نازك الثرية التي كانت تجتمع باستمرار مع صديقات لها يعشن في عالمهن، كأن تلك الممارسات تقليدٌ يلتزمنه هن وكثيرات غيرهن من النساء. تتعلم حنان الهاشمي من نازك وهي بين أحضانها أن "مع النساء للحب شكل آخر مختلف، فعندما يتملكك الشغف والانجراف الحارق، وتغرقين في قبلة مع حبيبتك، تحصلين على كل هؤلاء الرجال، دفعة واحدة، تحصلين على عاشقة وصديقة وشبق لا ينتهي. النساء أكثر إحساساً بالحياة، صدقيني. الرجال أجلاف حتى لا تظاهروا بالعكس. النساء يَنسَبن كالحرير في أحضانك، ويعطين قلوبهن قبل أجسادهن. الرجل لا يفعل ذلك" (ص 95-96)
ثمَّ ما تلبث حنان أن تساحقَ مخدومتها عليا، بعد أن وجدت في جسدها ما يتيح لها فرصة إصلاح الخلل الذي أصابها بثلم عميق في الروح
بعد أن يفترسها الشوق، تستذكر حنان لحظاتها الحميمة مع خادمتها عليا
"كانت تلعب معها هنا على هذه الأرض الباردة. تستطيع سماع صوتها، يتهادى فوق رغوة الاستحمام، بينما عيناها تتابعان بفضول، ما تقوله:
تعرفين؟ ما من متعةٍ ألذ من التي تمنحها أصابعك
"ما من احتراق يشبه رغبتك.. رغبتك من يقود أصابعها الى مكامن وجعك، الوجع الذي يجري في الدم تحت جلدك
عندما تعتلين قمة تشعرك بالاختناق، فجأة يبعث الله لك من ذاتك فَرجاً. الفرج لا يأتي هكذا!؟ أبداً.. يجب أن تخلفيه من عجينتك، أنت فقط" (ص72)
الأصابع التي تعزف على الخصر لحناً من أمد، تصنع لحن الشوق، إسكافي الجوهر وعنوان المسرة
وفي طقوس المثلية النسائية: "لا يوجد رجل قادر على إمتاعك، كما تفعل أصابع لينة خارجة من قلبك. وليست خارجة من جسد رجل.. استطالات دافئة تتفتح فيك. وتكبر، تمنحك ما خرج منك، وما لديك، وبذلك تكونين سيدة نفسك، تعيد إليك أنوثتك في ارتعاشة، وتظلين منتصبة، الأصابع مثل حروف واقفة، لا تنتهي، حروف تخرج من القاع، تطير في الهواء، تلامس بارتعاشها الفراغ، فتولِّد لذة أبدية" (ص 72-73)

أما عالم عليا فهو عالم الفقر
فهي قادمة من أحد أكثر ضواحي العاصمة السورية فقراً، وتنتمي لأسرة بائسة يتسلط عليها أب فظ وجاهل وشهواني، فيما الأم وبناتها يعملن خادمات في بيوت الأثرياء ويرزحن تحت وطأة الجوع والشظف والمهانة. الأب العاطل عن العمل "رجل أسمر ذو جاذبية غريبة. لونه مثل قهوة شقراء وصوته أجش. كل نساء الحي يحسدن الزوجة عليه، خاصة بعدما خرج في الليلة المشؤومة ودفع بشيئه أمام أعينهن
- كبير ويحتاج لأربع نساء!
كن يمازحن الأم منذ رأين عضوه، يحسدنها وهو يرينها تعرج في الصباح، عندما يتحلقن حول الحافلة، لينتشرن في جهات دمشق يخدمن في البيوت" (ص 52)
غير أن حياة الزوجين كانت أكثر تعقيداً مما تبدو
"..كانت تقول لجاراتها: إنه لا يشبع، في نوع ممن الشكوى الحقيقية الممزوجة بالتباهي
كان يوقظها في منتصف الليل، وهي خائرة القوى من عمل النهار، يجرّها من يدها، خائفاً من استيقاظ الأولاد. كان يفعلها قبلاً قرب فراشهم، حتى صارت بناته يروين للجارات ما يفعل أبوهنّ ليلاً، وعليا أكثرهن ثرثرة، فأصبح أكثر حذراً وصار يجرّها من يدها، وهي نصف نائمة، ويدخلها إلى الحمام الصغير، الحمام الذي هو مطبخ أيضاً، والذي بالكاد يتسع لوقوف شخصين، يجعلها تقعي على ركبتيها، ويمتطيها لدقائق، ثم يخرج مسرعاً. كانت تبكي في أغلب الأحيان، ومع الوقت اعتادت ما يفعله، فصارت تتحرك دون أن يطلب منها أي شيء. تخلع في ثيابها، تسكن تحته. وعندما ينزل عنها تغتسل سريعاً، ولا تنظر في وجهه، وتعود بسرعة إلى فرشتها، وتغط في نوم عميق" (ص 53)
كان رجال الحي "يحسدونه على زوجته الغورانية الجميلة؛ بقامتها الطويلة، وامتلائها الشهي، وعينيها السوداوين، وشفتيها المكتنزتين، وشعرها المتوهج بالأحمر. كانوا يرونه غير جدير بها، وهم يسمعون صراخها النهاري عندما يضربها لأيّ سبب كان، وصراخها الليلي عندما يأخذها عنوة" (ص 61)

في الحي البائس الذي عاشت فيه عليا مع عائلتها "حي الرمل الذي يشكل جزءاً من سوار يلتف حول دمشق، كأفعى تطوق المدينة. وداخل هذا السور كانت المدينة تضيق" (ص 56)، يسكن سائقون منحلون وجنود فقراء ولاجئون مدقعون وبشر في أسفل السلم الاجتماعي. وفي ذلك الحي تعشش الجريمة مع الفقر والانحراف مع الجهل والتخلف. وفي ذلك الحي تضطر عليا الكبرى إلى مسايرة رغبات رب عملها من أجل الحصول على القليل من المال. "سمحت لصاحب المصنع مداعبة جسدها، من دون أن تجعله يتمادى، خاصة عندما يمد يده إلى فخذيها، كانت تتركه ينزع سرواله، ويقبّل نهديها، لكنها لم تسمح له بالاقتراب من منطقة الخطر، المنطقة العميقة فيها، حيث تصبح عاراً على أهلها. هي تعرف بحس مطاردة الخطر، أن هناك خيطاً فاصلاً بين ممانعتها، والحفاظ على عملها
كانت تفكر بترتيبات الشهر المقبل، عندما غسلت وجهها من آثار لعابه على خديها، وأخفت نقودها في جيبها متحفزة لادخار القليل منها (ص 62-63)
غير أن عليا الكبيرة تتعرض لاعتداء وحشي بالضرب على يد أبيها الطامع في نقود قليلة حصلت عليها. الابنة الكبرى "ستقضي بقية عمرها القصير، طريحة الفراش، تنظِّفها الأم وتلفُّها بمناشف حول حوضها، كما فعلت وهي صغيرة" (ص 65). وكأن هذا لا يكفي، إذ تتعرض الفتاة لاحقاً لاغتصاب متكرر على يد الفتى عبود قادها في نهاية الأمر إلى الانتحار بسم الفئران، لتحل محلها عليا أخرى هي بطلة الرواية التي ولدت بعد حادث عليا الكبيرة بعام، وعاشت مع صبيان الأحياء الشرسين وتخلقت بأخلاقهم وطباعهم الذكورية تصف الكاتبة بعض وجوه الفقر وصفاً مؤثراً، فتقول عن حي الرمل: "اللافت في حي الرمل، عيون الرجال الغارقة في السأم، برغم وجوه النساء الجميلات اللواتي يتبرجن بأحمر شفاه فاقع، ويتهادين بغنج قلق. لكن حي الغبار والملل والغرابة، كفيل بتحويل تلك الألوان، المتفاوتة الحمرة على شفاه النساء، إلى لون معتم ورمادي، عندما يعرف الرجال في قرارة أنفسهم، أن ذلك الغنج سينعم به أول زبون متعة تصادفه إحداهن" (ص 59)
وهي تتحدث عن أحياء الفقر قائلة: "إلا أنها تتشابه وتتشابك، وامتدت عشوائياً إلى قلب المدينة ... لكن حي الرمل الذي تعيش العائلة فيه كان خليطاً غريباً من الفقراء الذين هبوا بفقرهم المدقع إلى جنوب دمشق وصنعوا غرفاً صغيرة من صفائح التنك والحجر الإسمنتي الرديء الصنع ...." (ص 57)
شكلت تلك المناطق الفقيرة مجالات نفوذ لبعض المتنفذين "وغيتوات في تشكيل موزاييكي لونه الموحد الفاقة والبؤس. ومن أتوا من الأرياف البعيدة والقريبة حالمين بحياة كريمة تحولوا إلى مرتزقة وأزلام ورجال مخابرات ومهربين. والآخرون حولوا بناتهم إلى خادمات، كما فعلوا قبل أكثر من مئة سنة مضت، عندما رهنوا بناتهم لتجار حلب، كخادمات، فيما تحول الآباء بدورهم بعد ذلك الزمن إلى عمال مياومة يفترشون ساحات دمشق العامة ويقومون بأي عمل يطلب منهم" (ص 57)

أما مشاعر عليا تجاه أبيها فيمكن التقاطها عبر سطور الرواية
"نزّ عرق الخوف البارد، تحت ملابس عليا، ليزيد من إحساسها بالبرودة في هذا الصباح البارد، عندما لفحها هواء شاحنة. أي شبه بين أبيها والشاحنة؟! لعلها عاصفة الغبار التي كادت تقتلعها وتطوحها بعيداً، مثل عواصف أبيها التي لم يكن هناك من يتصدى لها" (ص 61)

عنف الأب ليس الوحيد في الرواية. هنا لابد أن نشير إلى أن في الرواية فقرات طويلة عن العنف الجسدي، مثل حادثة اغتصاب الفتاة العاجزة عليا الكبيرة، وعليا نفسها على يد الفتى "ساسوكي" وهي في سن العاشرة، إلى جانب وصف حسي لعلاقات جنسية نسوية جماعية، وأخرى فردية كما هي الحال بين حنان الصغيرة وعروس في حمام النساء، واسترجاع لمشاهد عشق وعربدة في الدماء
مشاهد نجحت سمر يزبك في رسم تفاصيلها، وساعدها في ذلك امتلاكها أدواتها ككاتبة وصحافية سورية. كما أن سمر المولودة في مدينة جبلة 1970، كتبت العديد من سيناريوهات لأفلام وثائقية ودرامية. وقد أصدرت مجموعتها القصصية الأولى "باقة خريف" عن دار الجندي بدمشق عام 1999، ثم أعقبتها بمجموعة أخرى "مفردات امرأة" عام 2000 عن دار الكنوز الأدبية ببيروت، وعن الدار نفسها أصدرت روايتها الأولى عام 2002 "طفلة السماء"، ثم "الصلصال"

بعد التحاقها بالعمل خادمة في الفيلا "قلبت حنان الهاشمي حياتها، نظفتها من نفسها، وهواجسها، أزالت عنها كل طبقات الغضب، ومسحت بأصابعها صور حي الرمل" (ص 90). وسرعان ما نمت علاقة أساسها اللذة بين الخادمة وسيدتها
"في إحدى الليالي، طلبت السيدة من عليا كأس شاي بالقرفة. عندما دخلت به كانت السيدة في حوض الاستحمام بالغرفة. أمرتها بخلع ملابسها والاقتراب لمساعدتها. شدتها إلى الماء، وعضَّتها من رقبتها حتى شعرت بطعم ملوحة. كانت عليا مذهولة بينما تواصل السيدة تقبيلها، وهي مثل فأر فاجأته نظرة القط، متسمرة لا تفعل شيئاً. بدأت السيدة تقبِّل أصابعها، ثم قادتها بتخبُّط، إلى أماكنها السرية، حتى هدأت تماماً، وهمست لها بأمر قاطع:
- اذهبي
عند هذه اللحظة فقط استيقظ حس التوحش بداخلها، فهاجمتها بقسوة. ونجحت في جذب سيِّدتها إلى الفراش، وهي تكمم فمها بيدها، تجنُباً للصراخ" (ص 128)
على هذه الوتيرة، تستمر العلاقة التي يتفتح معها جسدا امرأتين باستطالات غريبة ومبهمة، تبث الدفء واللظى في عروق الليالي الباردة والموحشة
"قلبت سيِّدتها بعنف، وبطحتها تحتها، كما كان يفعل أبوها بأمها، وهي تسترق النظر تحت الغطاء، وشعرت بقوة. صرخت حنان وهي تحدق بخادمتها التي لم تمهلها. غضب حنان الوشيك تحول إلى تأوهات بين قبلات عليا وعضاتها. لم تعرف عليا ما الذي كانت تفعله مدفوعة بشبق وألم. كانت تنتظر أن تنتهي سيدتها من ارتعاشاتها وصرخاتها لتبدأ ثانية" (ص 151)
هكذا باحت يدٌ واستباحت يدٌ، فيما الشبق الوحشي الوديع يتسلل كلماتٍ وأحرفاً. لمسة رهيفة هنا ولمسة رخية هناك، وعطف ينثني، وأنامل تستريح على أنامل
المداعبات الناعمة بين السيدة وخادمتها تتحول إلى لحظات لها بريقها المستعاد، إذ إن عليا وجدت أن "سعادتها باللعب داخل حوض الاستحمام، لم يكن يعادلها إحساس آخر" (ص 143)، في حين عثرت حنان الهاشمي على موجة زرقاء من اللذة "بينما تقود كفها أصابع عليا يميناً ويساراً، على حلمتيها، ثم تهبط بها إلى تحت بطنها" (ص 123)
والأزرق يبتلعك بلونه العميق، كأنه نزوة ماجنة لكنها كامنة




تتحول رائحة القرفة إلى مصدر دائم لشحذ الشهوات، والذكريات أيضاً، بما يلزمها من عناصر الاستثارة
والقرفة، مذاق ولون ورائحة
هي هنا شاهدٌ على لحظات الشوق بين جسدين، حتى يسقطا ساجدين لجيش نمل الأصابع أمام كومتين من القمح الطري
العلاقة التي نشأت بينهما، جعلت عليا لا تصدق أن سيدتها طردتها، علماً أن الفتاة أرادت بإغواء الزوج المُسن الانتقام لنفسها من السيدة التي صرخت فيها ذات يومٍ قائلة: "كيف تسمحين لنفسك بالبقاء في فراشي حتى الصباح؟" (ص 147)
كان طعم الخيانة مراً بالنسبة للسيدة الثرية، ومذاق الطرد من المنزل أشد مرارة بالنسبة للخادمة الفقيرة
"من الصعب عليها تصديق أن الليالي التي كانت تخرج فيها من غرفة سيِّدتها عرجاء من ألم حوضها، وجهها متورِّم من العض، قد انتهت. كانت سعيدة بما تفعله بها. وكلما شعرت برغبة السيدة فيها تباغتها السعادة، وتتخيل أن الهناء لن يفارقها" (ص 126)
كم اعتاد الناس أن ينتظروا الخيبة: هم يعرفون أنه لا داعي للقلق، وأنها آتية لا محالة، عاجلاً أو آجلاً
إن عليا "لم تدرك أن خط الضوء المائل الذي نسيته في غفلة، سيحوِّل مملكتها إلى خراب، رغم أن عرشها ذاك، لم يكن يحتاج إلى الكثير من المهارة، بعد أن تعلمت فنون الحياة وكيف تكون الأقوى في السرير. وغاب عن خيالها، التفكيرُ بمرور سيدتها الخاطف آخر الليل، إلى غرفة الطابق السفلي، بعد أن تركتها تعوم في نومها" (ص 15)
بدورها، تنخرط حنان في البكاء وسط جدران بيتٍ تسح كوابيسه بالمرارة، وتحاول استرداد عليا بأي ثمن
وعندما يدرك الإنسان بداية النهاية، يسير بسرعةٍ تسبق الزمن

تركبُ حنان سيارتها وتجوب فيها طرقات دمشق بحثاً عن خادمتها، فلا تجد سوى شوارعَ خالية؛ إلا من أسراب الطيور البعيدة وقد طارت فزعةً، فتكشف مرَّةً ثانيةً عن توتُّرِ، وقلقِ، وعدميةِ حنان وعبوديتها لغرائزها. فيما تذهبُ، تهربُ عليا إلى الحرية

"كان المكان خالياً إلا من أسراب طيور بعيدة. تصرخ بصوت عال:
- عليا
كان الصوت قوياً. تشعر أنه ليس صوتها. تكرر النداء، دون أن تحصل على رد أو تتآلف مع الصوت
صعدت إلى سيارتها وانطلقت بسرعة أفزعت سرب حمام أخذ يدوِّم عالياً، وواصلت الاندفاع، مخلفة وراءها سحابة من الغبار الكثيف" (ص 167)
غير أن الفرق بين الضوء والعتمة شارع ضيق، استطاعت عليا أن تقيس مسافته، وهي في طريق العودة إلى حي الرمل
العواصف قوية بين عاشقتين تنتميان إلى عالمين مختلفين. وفي الرياح تسافر الأوراق اليابسة مثل رمادٍ هش لتستقر على نتوءات مدببة وشقوق عميقة
وفي الإعصار البطىء، نولد ونموت مرة بعد أخرى، إلى أن نُدفع خارج المجرة، فنكتشف بعداً آخر للوجع!

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator