المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (14): يا ساتر..يا رب





كان مصرع أحمد حسنين باشا حادثا غامضاً إن لم يكن مريباً

وأثيرت شكوكٌ حول ما إذا كان حادث التصادم بين سيارته وشاحنة تابعة للقوات البريطانية مدبراً
لنعد إلى تلك الأيام لنستقريء أحداثها المثيرة
في مطلع فبراير شباط عام 1946 كانت الوزارة البريطانية يومئٍذ من حزب العمال بزعامة كليمنت أتلي، وكان وزير الخارجية إرنست بيفن

وعرف حسنين كيف يوجه صديقه عبد الفتاح عمرو سفير مصر في لندن إلى استغلال صداقته مع بيفن. وكان أن استدعت وزارة الخارجية البريطانية مايلز لامبسون من مصر، وهو ما أسعد الملك فاروق الذي كان يضمر عداء شديداً لهذا الرجل الذي أهانه بشدة وانتقص من سلطاته كملك في أزمة فبراير شباط 1942
وهكذا برَّ حسنين بوعده أو بقسمه وثأر لنفسه وللملك من مايلز لامبسون
غير أن حسنين لقي مصرعه بعذ ذلك بأسبوعين اثنين. وبدا موته مفاجأة مثيرة كما كانت حياته سلسلة من المفاجآت التي تحبس الأنفاس
وكان أمضى سهرة يوم الأحد 17 فبراير 1946 في مسكن مع بعض الأصدقاء ومنهم أم كلثوم، التي غنت لهم "سلوا قلبي" كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وتلحين رياض السنباطي. وحمل حسنين مقعداً صغيراً جلس فيه بين يدي أم كلثوم، وكان ينصت بكل جوارحه إلى تلك الأغنية المكتوبة في مدح الرسول الكريم
وامتدت السهرة حتى مطلع فجر يوم الاثنين
وفي يوم الثلاثاء 19 فبراير شباط كان حسنين مدعواً لتناول طعام الغداء عند أسرة صديقه الظاهر حسن المحامي في المطرية.. ولكن تراكم الأعمال أبقاه في مكتبه بقصر عابدين إلى الساعة الثالثة بعد الظهر.. ورأى حسنين أنه تأخر كثيراً عن الموعد فاعتذر هاتفياً لصاحب الدعوة، وقيل إنه اقترح تأجيل الدعوة إلى المساء، لتكون عشاء بدلاً من الغداء، لأنه يشعر ببعض التعب ويريد أخذ قسطٍ من الراحة

وهكذا عدَّل حسنين خط سيره في اللحظة الأخيرة، كأنما كان على موعدٍ مع الموت في الطريق المؤدية إلى بيته
استقل حسنين سيارته عائداً إلى داره في الدقي، وكانت السماء تمطر. وبينما كانت سيارته تجتاز كوبري قصر النيل في طريقها إلى الدقي، أقبلت سيارة لوري بريطانية من الجهة المضادة.. وانزلقت عجلات السيارة البريطانية بفعل المطر ولفت اللوري نصف لفة على الكوبري -الذي وضع الملك أحمد فؤاد حجر أساسه في 4 فبراير شباط 1931- وصدمت سيارة حسنين من الخلف صدمة شديدة
وسمع سائق السيارة صوت حسنين باشا الجالس في المقعد الخلفي وهو يقول: "يا ساتر.. يا ساتر يارب"
وتقهقرت سيارة اللوري إلى الخلف بعد أن ارتبك سائقها، ودار نصف دورة حول سيارة أحمد حسنين، ففوجئ بسيارة قادمة من الاتجاه الآخر، فعاد إلى الخلف مرة أخرى ليصدم سيارة أحمد حسنين مرة ثانية والتفت السائق خلفه فرأى أحمد حسنين وقد انحنى قليلاً في مكانه بالسيارة وبدأ الدم ينزف من أنفه. أوقف السائق السيارة ونزل منها يصيح ويطلب المساعدة. ومرت مصادفة في اللحظة نفسها سيارة وزير الزراعة أحمد عبد الغفار باشا صديق حسنين وزميله أيام الدراسة في أكسفورد
وأسرع أحمد عبد الغفار وحمل صديقه إلى مستشفى الانجلو أمريكان بالجزيرة، قريباً من مكان الحادث
ولكن حسنين كان أسلم الروح، فنقلوه إلى داره في الدقي
وطار الخبر إلى القصر
وأسرع فاروق ­وكان يرتدي بيجامة وفوقها (روب دي شامبر) وفي قدميه شبشب­ أسرع بملابسه هذه واستقل إحدى سياراته إلى دار حسنين في الدقي
بعد نحو ساعة، كان فاروق واقفاً أمام الجسد المسجى أمامه لحسنين.. رائده وأستاذه ومربيه ثم رئيس ديوانه..ثم قال: "مسكين يا حسنين"، وسأل ذلك عن مفاتيح مكتب حسنين، وتناولها ودخل غرفة المكتب وأغلق وراءه الباب. وكان فاروق يبحث عن أية مذكرات يكون حسنين قد كتبها، وعن عقد زواجه بأمه الملكة نازلي، وأية أوراق مهمة أخرى قد يكون تركها وراءه
ويقول كريم ثابت في مذكراته إنه ذهب إلى منزل حسنين فور علمه بالحادث، وجلس مع بعض مساعدي الفقيد الذين هرعوا إلى المنزل أيضاً. ثم دخل عليهم فاروق وكان بادي الانزعاج،ـ فغادر المساعدون تاركين لهما في الغرفة "فعزيته، فقاطعني بقوله: لقد جمعت بنفسي كل أوراقه الخصوصية هنا وفي عابدين قبل أن تمتد إليها يد!" (نهاية الملكية..مذكرات كريم ثابت: عشر سنوات مع فاروق : 1942 -1952، كريم ثابت، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 82)
وخرجت صحف مصر والصحف العالمية في اليوم التالي تحمل أخبار الحادث الذي راح ضحية له أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي

وكان عنوان مانشيت جريدة "الأهرام" هو: "من فجعات القدر: وفاة أحمد حسنين باشا في حادث تصادم" مع عنوان أصغر هو: "مصاب فادح"

وأفردت الصحيفة صفحتها الأولى بالكامل لسرد تفاصيل وقوع الحادث، مع الإشارة إلى منح اسم الفقيد الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي
وقالت بعض الصحف إنها تشك في أن الحادث قضاء وقدر
قالوا إن أحمد حسنين قُتل، وإن نهايته لم تكن مجرد مصادفة.. واتهم بعضهم الإنجليز بتدبير الحادث، وذلك تصفية لمواقف سياسية قام بها أحمد حسنين، لم تعجب الإنجليز، خاصة أثناء فترة الحرب العالمية الثانية.. لكن البعض الآخر اتهم الملك فاروق بأنه هو الذي دبر حادث مصرع أحمد حسنين رئيس ديوانه. وقالوا إن الملك فاروق لم ينس أبداً حقده وغضبه علي أحمد حسنين، الذي جعل نازلي تجبر ابنها الملك فاروق على زواجها منه
ودلل هؤلاء على ذلك بأن الملك فاروق بمجرد أن سمع خبر وفاة أحمد حسنين حتي أسرع إلى فيلا أحمد حسنين في الدقي، وحصل على مفاتيح مكتبه، ثم عاد إلى القصر وفي جيبه هذه المفاتيح، واستولى على بعض الأوراق والمستندات. وقال محمد زكي حسين ـ وزير الأوقاف ـ لجريدة "الأخبار": بعد حادث وفاة أحمد حسنين بسنوات ست، أنه كان أحد الشهود الذين رأوا الملك فاروق في فيلا أحمد حسنين يوم وفاته، وقال إنه كان يشغل وقتها وظيفة رئيس مجلس إدارة المجالس الحسبية في مصر، وقد حضر بصحبة رئيس مجلس حسبي مصر إلى فيلا حسنين لحصر تركته بعد وفاته، وأنه فوجئ بوصول الملك فاروق إلى الفيلا ودهش حين رآه يصعد درجة المنزل بسرعةٍ جنونية وفي أقل من لمح البصر، ثم اتجه في الحال إلى مكتب أحمد حسنين وأخذ يجري تفتيش المكتب، ولم يمكث طويلاً وسرعان ما غادر المنزل دون أن يلاحظ أنه قدم العزاء إلى أهل الفقيد
وأضاف قائلاً: "بعد أن غادر الملك المنزل بدأت بمساعدة رئيس مجلس حسبي مصر حصر التركة، واتجهنا إلى مكتب حسنين باشا الذي اعتدى عليه الملك بتفتيشه وبعثرة ما به من أوراق، مما زاد مهمتنا صعوبة، وهنا حضرت شقيقة حسنين باشا، وذكرت لنا أن الملك فاروق تناول من هذه الأوراق وثيقة زواج شقيقها من الملكة نازلي.. لكن شقيقة أحمد حسنين أرسلت إلى الجريدة تكذّب هذا الكلام، ما جعل الجريدة تعرض التكذيب على محمد زكي حسين الذي عاد ليؤكد الواقعة.. وقال بالنص: "لقد توجهت إلى منزل الفقيد أحمد حسنين باشا، ومعي رئيس مجلس حسبي مصر وعددٌ من الخبراء، وذلك بعد أن أخطرنا بوفاته في حادث تصادم، وقابلتني السيدة شقيقته وبادرتني بالقول إن الملك حضر إلى المنزل، وصعد إلى الطابق الأعلى ودخل غرفة الفقيد ومكتبه، وقالت إنها تستنتج أنه أخذ بعض الأوراق من مكتب الفقيد

فصعدت معها إلى الطابق الأعلى، ورأيت جميع أدراج المكتب مفتوحة، والأوراق مبعثرة فيها، ما يدل على أن أحداً اعتدى على المكتب وعبث بمحتوياته، فلما سألتها عما تظنه قد أخذ من هذه الأوراق أجابت بقولها إنها تظن أنه أخذ عقد زواج المرحوم شقيقها من الملكة نازلي!"

وقد نشرت جريدة "الأخبار" في أول ديسمبر كانون أول ١٩٥٢ تصريحاً لكريم ثابت المستشار الصحفي للملك فاروق قال فيه: الذي حدث أنه لما توفي أحمد حسنين أسرعت إلى بيته، وذهب إلى هناك الملك فاروق فوراً عندما بلغه الخبر، ودخل فاروق حجرة المرحوم أحمد حسنين الخاصة وفتح جميع أدراجها، وأخذ الأوراق وانصرف، وقال لي فاروق في
نفس اليوم إنه عثر في أدراج أحمد حسنين على وثيقة عقد زواجه بالملكة نازلي


وفي العدد نفسه، قال أنطون بوللي أقرب أفراد حاشية الملك فاروق: "في يوم وفاة أحمد حسنين كان فاروق متأثراً جداً، وما كاد يسمع بوفاته حتى صحبني معه إلى فراش الموت الذي كان راقداً عليه أحمد حسنين، وراح يبحث وينقب حتى أخذ أوراقا، كان مهتماً بألا تقع في يد أي إنسان، ولم يخبرني الملك عن هذه الأوراق بشيء. وأضاف بوللي قائلاً: أظن أن الملك فاروق كره أحمد حسنين باشا، لأنه شعر بعد وفاته أنه كان محتاجاً إليه، وأنه "لاص" بعد وفاته، وكان فاروق يتضايق من الشائعات عن علاقة الملكة نازلي بأحمد حسنين، لكنه في قرارة نفسه كان يعلم أنها علاقة شرعية، لكنه لم يجد عنده الشجاعة ليقول حقيقتها للناس!
"وعموماً فقد أخبرني فاروق أنه عثر على وثيقة زواج الملكة نازلي من أحمد حسنين، وأنه أعدمها حتي لا تقع في يد أي إنسان"
يومها قال فاروق لصديقه ومستشاره الصحفي كريم ثابت إن رئيس الديوان "تركنا وإحنا في عز الشغل"!
وبعد قليل، أنعم فاروق على اسم أحمد حسنين بالوشاح الأكبر من نيشان محمد علي. وفسر فاروق هذه الخطوة بأنها لكي تقام جنازة عسكرية لرائده ورئيس ديوانه
وفي تلك الليلة، سهر فاروق في "أوبرج الأهرام" مع كريم ثابت، وقال له أثناء السهرة: "لا بد أن هناك مأتماً آخر الليلة في الدقي"
وكانت نازلي منذ خلافها معه تقيم في الدار التي كانت لوالدها في حي الدقي


ثم أردف فاروق قائلاً: "من حسن الحظ أن كل شيء قد انتهى الآن"

ثم حدَّث مستشاره الصحفي عن الليلة التي طلبت فيها أمه الملكة نازلي منه الموافقة على زواجها من أحمد حسنين، وغضبه الشديد من هذه الفكرة. وكلَّمه كيف أنه في مرةٍ أخرى لم يستطع تحمل "ما يجري تحت سقف القصر الذي مات فيه والدي، فأصدرت أمري إلى الخدم بأن يلقوا بفرش حجرة أحمد حسنين في حديقة القصر"

واسترسل فاروق في الحديث عن طلاق أحمد حسنين من لطفية هانم "زوجته الشرعية بعدما ذاقت المر من علاقته بأمي"، قبل أن يفسر ما قام به في ذلك اليوم العصيب قائلاً: "ولذلك كان أول ما عملته اليوم بعد وفاته أن جمعت أوراقه الخصوصية بنفسي خوفاً من أن يكون فيها شيء يتصل بهذه الفضيحة، فيقع في يدٍ غريبة"

وبرر الملك فاروق لجليسه سبب إبقائه على أحمد حسنين طوال تلك الفترة بالقول: "ولكني كنتُ مضطراً إلى الاحتفاظ بحسنين..كان يعرفُ طبيعتي وأخلاقي..وكان يعرفُ سياستي وأسراري..وكان يعرفُ دخائلي وشؤوني الخاصة..وكنتُ في البداية محتاجاً إليه في عملي، ثم لم أعد في حاجةٍ إليه، ولكني كنتُ قد اعتدتُ العمل معه، وكان يريحني فظل في خدمتي بقوة الاستمرار، سيما أنه كان في عمله مطيعاً ومؤدباً" (ص 84)

الغريب أن جثمان أحمد حسنين قد دفن مرتين!

المرة الأولى بعد وفاته ودفن في مقبرة الأسرة "بقرافة المجاورين".. والمرة الثانية بعد وفاته بأربع سنوات، حين بنت له الحكومة مقبرة خاصة في الجزء الشمالي من مقبرة مملوكية -بالقرب من طريق صلاح سالم الآن- تكلفت ٢٢ ألف جنيه، وتم نقل رفات أحمد حسنين إليها، وأشرف على عملية النقل حيدر باشا وأحمد عبد الغفار باشا وعثمان المهدي باشا وطارق وهاشم ولدا أحمد حسنين وابن اخته محمد علي رمضان، وتولى القيام بنقل الرفات ١٥ جندياً من رجال البحرية الملكية وثلاثة ضباط، وقد صمم المقبرة الجديدة حسن فتحي أستاذ "عمارة الفقراء" الشهير..والذي لا يعرفه كثيرون هو أن المهندس حسن فتحي - أشهر مهندس مصري عرفه العالم منذ إيمحوتب- كان صهر أحمد حسنين باشا، إذ تزوج الأول لفترةٍ من عزيزة حسنين، شقيقة أحمد حسنين

وكانت الحكومة المصرية قد طالبت الحكومة البريطانية بتعويضٍ عن حادث مصرع أحمد حسنين، فأرسلت القيادة البريطانية ـ بعد سنتين من الحادث ـ شيكاً بمبلغ 12500 جنيه إلى القصر الملكي تعويضاً لأسرة الراحل أحمد حسنين.. الغريب أن مصر كانت قد دفعت نصف مليون جنيه قبل ذلك تعويضاً عن مصرع السردار الإنجليزي سير لي ستاك، فور وقوع الحادث


وفي يوميات محمد التابعي كتب يقول يوم وفاة حسنين: "مات أحمد حسنين كما مات سنيكا!
كانت الشائعات قد تواترت بأن الملك فاروق هو الذي قتل حسنين، خطر على بالي ما حدث لسنيكا على يد نيرون
ووجه الشبه بين نيرون وفاروق واضح، فكلاهما طاغية، أحدهما حرق روما، والآخر حرق القاهرة، أحدهما قتل أمه وأخاه، والآخر قتل عرض أمه وأخوته!.. أما وجه الشبه بين حسنين وسنيكا، فهو أن حسنين كان رائد فاروق، وسنيكا كان رائد نيرون، وقد اختلف الناس في أمر سنيكا كما اختلفوا في أمر حسنين.. فحتى الآن لم يصدر التاريخ حكمه في أحمد حسنين، وهل أعان فاروق على البغي والعدوان، أم أنه كان يحاول أن يروضه على العدل والدعة؟
بل إن التاريخ لم يصدر حكمه على سنيكا، وقد مضى على وفاته ١٨٩٠ عاماً، لقد كان سنيكا فيلسوفاً، وكانت حياته مليئة بالمآزق والأهوال، وكان حسنين عالماً وأديباً ورحالة، كانت حياته كلها مآزق وأهوال، وكلاهما كان يرتفع وينخفض، يفشل وينجح، ويغوص في قاع البحر، ثم ما يلبث أن يطفو فوق سطح الماء.. وكما كان لحسنين صلة شرعية بأم فاروق، كان لسنيكا مثل هذه الصلة بأم نيرون، وقد ظل سنيكا يعلم نيرون ويشير عليه إلى عام ٦٣، وطلب سنيكا من نيرون أن يعتزل الحياة العامة فلَّبى طلبه في عام ٦٥، أصدر نيرون أمراً سياسيا لسنيكا بأن ينتحر!
وتلقى سنيكا أمر الانتحار، وكان بين أهله وأصدقائه، والتفت لهم وقال له: إنه لا يستطيع أن يجازيهم على حسن صنيعهم بأكثر من أن يعتبروا ما حدث له على يد نيرون. وفي نوفمبر ١٩٤٥ أرسل أحمد حسنين إلى الملك فاروق استقالته من منصب رئيس الديوان، وقال في هذه الاستقالة: "لقد ضحيت بحياتي من أجلك، وكان أملي أن أجعل من وجودي إلى جانبك قوة أسخرها في خدمة بلادي، وكم يؤسفني أن أملي قد خاب".. وكانت هذه الاستقالة قبل وفاته بأربعة أشهر. وكذلك فاروق أصدر أمراً سامياً لحسنين بالبقاء في وظيفته، أي بالانتحار!. وهكذا مات حسنين كما مات سنيكا"

نهاية درامية لرجلٍ عاش حياة حافلة بالدراما

ويذهب البعض إلى القول بأن رحيل أحمد حسنين أربك فاروق كثيراً وطويلاً، فقد كان حسنين بالرغم من كل شيء أباً ومرشداً، وهنا انكشف فاروق وأصبح يتصرف بتخبط؛ نظراً لتضارب آراء مستشاريه، وعدم قدرته على ضبط الإيقاع بين الوفد والإنجليز والقصر


وبعد مصرع حسنين كتبت عنه الصحف والمجلات الأجنبية باهتمام قائلة إنه كان المستشار الأول للملك فاروق وإنه كان المستشار الذي تتلمذ فاروق على يده، ما أغضب الأخير لدرجة أن كريم ثابت يقول: "وامتعض فاروق من تلك الكتابات امتعاضاً شديداً، ورسم خطاً أحمر تحت كل عبارةٍ وردت فيها لفظة مستشار استنكارا لها، وقال لي يوماً معقباً عليها: "إن هؤلاء المغفلين – إشارة إلى أصحاب تلك الكتابات- يظنون أن حسنين كان هو الذي يعمل ويتصرف، ولا يعلمون أن حسنين لم يكن سوى آلة منفذة!" (نهاية الملكية..مذكرات كريم ثابت: عشر سنوات مع فاروق : 1942 -1952، ص 15)

وبعد وفاة حسنين ظل منصب رئيس الديوان شاغراً سنة كاملة، لا لأن فاروق لم يجد الرجل الذي يُعيَّنه فيه، وإنما لأنه أحب أن يظهر للملأ أنه يستطيع أن يستغني عن حسنين، بل يستطيع أن يصرف شؤون الدولة بدون رئيس ديوان. بل إن كريم ثابت ينقل عن فاروق قوله: "لم الاستعجال في تعيين رئيس للديوان.. ألستُ أنا الرئيس الفعلي للديوان وإن لم يعرف الناس ذلك!" (ص 16)

وبعد وفاة حسنين بأسبوعين أو ثلاثة أسابيع ذهب فاروق يزور أمه نازلي في قصرها الذي ورثته عن أبيها في الدقي، ودخل عليها في قاعة القصر الكبرى.. وتسمرت قدماه عند الباب
فقد رأى أمامه في صدر القاعة صورة لأحمد محمد حسنين بالحجم الطبيعي وقد جللت بالسواد
وأمام الصورة­ على الأرض­ جلست أمه الملكة نازلي وحولها سيدات حاشيتها وخادمات القصر وجميعهن متشحات بالسواد


وعلى جانبي القاعة الكبيرة جلس نحو عشرين شيخاً يتلون الأوراد ويدعون بالرحمة للراحل
توقف فاروق لحظة عند باب القاعة، وقد عقدت الدهشة لسانه، ثم مشى إلى حيث كانت أمه وقال لها وهو يشير بيده إلى الصورة وإلى السيدات والمشايخ، قبل أن يقول: "إيه ده كله؟! وعلشان إيه ده كله! مات.. خلاص مات.. فلزوم ده إيه؟!"
انتفضت نازلي واقفة على قدميها وانفجرت في ابنها قائلةً: "ده؟ ده اللي عملك راجل.. ده اللي حافظ لك على عرشك.. بكرة راح تشوف يجرى لك إيه.. بعد موت حسنين"

هز فاروق كتفيه ساخراً، وانصرف
وإن هي إلا أسابيع معدودة حتى غادرت نازلي مصر إلى أوروبا للعلاج والراحة كما زعمت
ولكنها غادرت مصر وفي نيتها ألا تعود.. وكان منها ما كان.. وكان كذلك ما كان من فاروق.. وكيف استهتر إلى أبعد حدود الاستهتار، إلى أن وقعت ثورة 23 يوليو تموز 1952

ولعله تذكر يومئذ وهو يوقع وثيقة تنازله عن العرش قول أمه: "بكره تشوف راح يجري لك إيه بعد موت حسنين"

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (13): الباشا يقفز من فوق السور



حينما ينحسر المد نعرف من كان يسبح عارياً

ولقد نجح أحمد حسنين في السباحة في بحر السياسة وإدارة لعبة القصور، من دون أن يغرق أو يجرفه التيار الهادر بعيداً عن مركز الحكم

تمكن حسنين من أن يجعل من الملكة نازلي رهن إشارة من إصبعه، حتى إنه طلَّقَ زوجتَه وأم أولاده فور عودتِه من الرحلة الملكية في ربوع أوروبا، وتفرغ للسيطرة على الملك والقصر من خلال حب الملكة نازلي له
وحين سُئِلَ حسنين عن سبب الطلاق، رد بالقول إنه لم يكن هناك من مفر من ذلك إزاء ما واجهته به لطفية هانم من الطعن والتجريح، فضلاً عن أنها أطلقت لسانها في كل مكانٍ بالطعن في الملك والملكة نازلي، فكان الطلاق هو الرد الوحيد، لأنه إذا احتمل مطاعنها فيه شخصياً فإنه لا يستطيع السكوت على ما يمس شخص الملك وأسرته. وكان أحمد حسنين يعتقد أن ناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا هو المسؤول عن إبلاغ زوجته، ما أثارها عندما عاد من رحلته إلى فيشي، في حين أن مراد باشا حين حضر إلى فيشي، أخذ يسأل أفراد الحاشية عن حقيقة الشائعات التي ملأت القاهرة عن العلاقة بين حسنين باشا والملكة نازلي (د. حسين حسني، "سنوات مع الملك فاروق..شهادة للحقيقة والتاريخ"، ص111)


المفارقة هنا أن طلاق أحمد حسنين باشا بدا مبرراً له كي يعود إلى الإقامة مؤقتاً في القصر الملكي إلى أن يجدَ مسكناً ملائماً. وعلى ذلك فإنه عند انتقال البلاط الملكي إلى الإسكندرية بعد حفلات تولية فاروق ملكاً، عاد أحمد حسنين باشا إلى جناحه بقصر المنتزه حيث كان يقيم منذ عودة الملك من إنجلترا بوصفه الرائد المشرف على شؤون دراسة الملك الشاب. إلا أن الهمسَ تردد والتساؤلات أثيرت بين جنباتِ القصر، في ظل إقامة حسنين بالقصر الكبير في المنتزه، بالرغم من وجود جناحٍ في ناحيةٍ أخرى من الحديقة كان مخصصاً لنزول رجال الحاشية الذين تقضي الضرورة مبيتهم بالقصر، علماً بأن حسنين باشا كانت قد زالت عنه صفة الرائد ولم يعد له سوى مركز الأمين الأول للملك. وما زاد الأمر تعقيداً هو أن أحمد حسنين كان يستقبل أصدقاءه وبينهم عددٌ من رجال الأحزاب المعارضة، الأمر الذي أثار استياءَ وتساؤلَ الحكومة وأنصارها

ولم تكن الملكة نازلي غائبة عن الصورة المعقدة

فقد دأبت نازلي على الخروج مع أحمد حسنين وارتياد الأماكن العامة. بل إن الكاتب الصحفي محمد التابعي اتصل في إحدى المرات بالسكرتير الخاص للملك فاروق وطلب منه أن ينصح أحمد حسنين بمراعاة الابتعاد عن الظهور في صحبة الملكة نازلي في الأماكن العامة التي يراهما فيها كثيرون، إذ شاهدهما يجلسان في سيارة في الشارع الصغير الواقع خلف مقهى "التريانون" يراقبان خلال النافذة المطلة على ذلك الشارع ما يُعرَضُ في ذلك المقهى من فقرات الترفيه من رقصٍ وغناء. وقال التابعي إن ذلك من شأنه أن يثير من اللغط ما يسييء إلى سمعة وكرامة الأسرة المالكة وهو ما يجب تفاديه على أية صورة. وأضاف التابعي أن ما دعاه إلى التنبيه إلى ذلك هو إخلاصه للملك، مشيراً إلى أنه
لم ير أن في استطاعته الاتصال بحسنين مباشرة في ذلك الشأن نظراً إلى ما فيه من إحراجٍ وحساسية. وطلب التابعي عدم ذكر اسمه نهائياً خوفاً من أن يكون سواه قد رآهما وأن يذيع الخبر فيتجه الظنُ إلى أنه هو مصدرُ إشاعته

وبطريقةٍ غير مباشرة، أثار السكرتير الخاص للملك فاروق الموضوع مع أحمد حسنين، فقال له إنه يبدو أن تردد بعض أصدقائه عليه في القصر من رجال المعارضة السياسيين قد أصبح يثيرُ التساؤلَ حول مدى مشاركة الملك في تلك اللقاءات، ونَصحَه بأن يجعل مثل تلك المقابلات في مكتبه الرسمي بالقصر تجنباً لإثارةِ قلق الحكومة. وأشار إلى أنه من الأفضل أن يسرع حسنين باشا باختيار مسكن له حتى يقطع أسباب القيل والقال. فما كان من أحمد حسنين إلا أن قال وابتسامةٌ ساخرة على وجهه إنه يعلم أن إقامته في القصر تسوء كثيرين ولكنه لن يشفي غليلهم وسيظل مقيماً بالقصر ليموتوا بغيظهم، فأدركَ محدثه من لهجته وابتسامته أنه يعنيه شخصياً بكلامه

إلا أن الأحداثَ أخذت منحىً آخر، بعد أن بدأ فاروق ينتبه إلى ما يدور حوله


وبعد أيام قلائل من المصارحة السابق ذكرها، فوجيء د. حسين حسني بالملك يقول له في نهاية مقابلته له: "صاحبك مستني إيه هنا، قل له يعزل بقى، وأنا عاوزك تبلغه أنه يخرج حالاً وتعرفني النتيجة في أقرب فرصة". وحينما ذكر له سكرتيره الخاص أنه ربما كانت ظروف حسنين الخاصة هي التي استوجبت عودته إلى الإقامة بالقصر، قال: إنه كان يقيم بصفته رائداً ولكن لا مبرر لذلك الآن، وعليه أن يدبر شؤونه ويترك القصر. وبدا أن فاروق يفضل أن يفعل حسنين ذلك - أي الخروج من القصر- من تلقاء نفسه، ولهذا كان يرى أن يتم نصحه بالخروج

وربما كانت العلاقة بين فاروق ورائده في وقت سابق هي السبب في حرص الملك الشاب على تجنب المواجهة مع حسنين وإثارة الموضوع بشكل مباشر


حاول د. حسين حسني إثارة الموضوع من جديد مع حسنين باشا، فرد عليه في غضبٍ قائلاً إنه يعلم أن هناك أشخاصاً يسوؤهم وجوده في القصر ولكنه لن يخضع لرغبتهم ولن يريح بالهم. وعندما سأله الملك عما جرى بينه وبين حسنين، اقترح د. حسني على فاروق إمهال أحمد حسنين تجنباً للإحراج، ولو اقتضى الأمر الانتظار إلى حين العودة إلى القاهرة في نهاية الصيف، لعله يرى في ذلك فرصةً للخروج محتفظاً بكرامته، فوافق الملك على هذا الاقتراح
لكن العاصفة كانت قد بدأت في التجمع منذرة بأزمة داخل القصر


ففي منزل عمر فتحي - الذي أصبح لاحقاً كبير ياوران الملك- أخذ فاروق يسير في إحدى الحجرات ذهاباً وإياباً بخطواتٍ عصبية وقد بدا على وجهه الغم والتجهم، ثم قال أمام عمر فتحي وحسين حسني: "لم أعد أستطيع الصبر، لقد أوشكت على الجنون وأطلب منكما مشاركتي في التفكير، ماذا أصنعُ مع الملكة نازلي وحسنين، هل أقتلهما؟..هل أرسلها إلى مستشفى المجانين؟.. أم هل أبعث به سفيراً إلى اليابان؟..لم أعد أطيق هذه الحالة". أخذ الاثنان يخففان عن فاروق وتهدئة خاطره، مبينين له ما في السلوك العنيف من مخاطر وإثارة للفضائح. وسعى الرجلان إلى نصح الملك الشاب بأن يحتفظ بالهدوء ويلجأ إلى الحكمة، لعله يمكن إيقاظ الملكة نازلي من غفوتها وإرشادها إلى ما تفرضه عليها واجباتها كأرملة لملك وأم لملك وأميرات، أو لعل حسنين من جانبه يصحو ضميره


بدا فاروق في تلك الليلة كأنه وحشٌ ثائر جريح وقد أُحكِمَت حوله أسوار القفص وهو لا يملك منها فكاكاً ولا حيلةً للهرب


كان الجرح غائراً في نفسه. لقد وجد نفسه شاهداً على علاقةٍ تجمع بين أمه التي كان يخصها بالحب والعطف بعد طول إبعاده عنها إلا لماماً، وأستاذه ومرشده الذي كان يوليه من الثقة والتقدير الكثير. وعلى الأرجح، فقد قوضت تلك العلاقة إيمانَه بالمُثل العليا ومبادىء الأخلاق، وأصيب بصدمةٍ خاب معها ظنه وضاع أمله



وفي صبيحة يوم تعيين الملك فاروق علي ماهر رئيساً للديوان الملكي، قال أحمد حسنين باشا لسكرتير الملك الخاص د. حسين حسني وقد بدت عليه أمارات المرارة الشديدة: "عملتها يا سي حسني..طيب ارتاح بقى خلاص؟!" وكان يقصد بذلك أن الأخير كان وراء تعيين علي ماهر في هذا المنصب الذي كان حسنين يتطلع إليه بكل قلبه

في غضون ذلك، كانت مسألة مكان إقامة أحمد حسنين تثير أزمة خطيرة

إذ لم يخرج أحمد حسنين باشا من القصر إلى مسكن خاص كما كان منتظراً قبل عودة الملك وعائلته من الإسكندرية، بل إنه طلب نقل أمتعته إلى قصر القبة ونزل هناك. وكانت الملكة نازلي من ناحيتها نزلت مع الأميرات في قصر أبيها في الدقي وأعلنت اعتزامها الإقامة الدائمة هناك. وعلى الرغم من أن الملك أمر بإجراء إصلاحات شاملة في القصر بمناسبة قرب زفافه، ما استدعى إخلاء الجناح الذي يقيم حسنين باشا، بل على الرغم من إبلاغه ذلك على لسان الملك فإن حسنين باشا لم يصدر منه ما يدل على قرب مغادرته القصر وظل يخرج ويدخل كما يشاء بل كان يحضر في وقتٍ متأخر من المساء. وسرعان ما أمر الملك بإغلاق أبواب القصر في الساعة العاشرة مساء وهو الموعد الذي قلما يعود فيه حسنين باشا. ودار همسٌ في القصر بعدها بأنه عندما فوجىء الملك بما علمه من أن الباشا حضر ليلاً، متأخراً، وتسوَّر أحد الأبواب ليستطيع الدخول، لم يطق صبراً وأمر بأن تجمع أمتعته في الحال وتنقل إلى جوار أحد أبواب الحرملك، بقصر عابدين، فوجد حسنين باشا في ذلك إهانةً بالغةً له على مرأى ومسمع من الخدم وصغار الحاشية، فاتخذ مسكناً له في مصر الجديدة واعتكف فيه زمناً بحجة المرض وامتنع خلال ذلك عن الذهاب إلى القصر


غير أن الملك رضخ للعبة لي الذراع التي مارسها مرشده في سن المراهقة

وبعد بضعة أسابيع من العزلة المعتمدة، زار الملك أحمد حسنين لترضيه وإقناعه بالعودة إلى عمله. وعلى الأرجح فإن الملكة نازلي لعبت دوراً في الضغط على ابنها فاروق، الذي بدا عاجزاً عن كبح جماح أمه أو إيجاد وسيلةٍ لاتقاء شر الفضيحة فيما لو اشتد الصراع بينهما
استأجر حسنين باشا بعد ذلك فيلا أنيقة في ميدان المساحة بالدقي، وهي التي ظل بها إلى حين وفاته. وبعد فترة من سكنى الفيلا، ذاع بين رجال القصر في حذرٍ شديد أن الملكة نازلي تزوجت من حسنين باشا بعقدٍ عرفي. ولعل ذلك كان الحل الوحيد الذي لم يرَ الملك بداً من التسليم به ليضع حداً للصراع النفسي الرهيب الذي كان يعانيه منذ أمدٍ طويل. وقيل إن فاروق نفسه هو الذي اقترح الزواج وأصر عليه بعد أن تعددت نزوات الملكة نازلي، ووجدت أخبار غرامياتها طريقها إلى الصحافة
ولاشك أن ما صنع هذه الصورة المهزوزة للملك هو خليطٌ من شخصية الملك فاروق التي لم تنضج على نارٍ هادئة، وانقياده ليصبح ألعوبةً في يد أحمد حسنين الذي نجح بدوره في السيطرة على الملكة نازلي عاطفياً، مستغلاً طيشها الذي دفعها إلى فعل ما يروق لها من دون رادع


ونقرأ الكثير عن هذا الأمر في كتاب "أحمد حسنين: أسرار السياسة والحب" للصحفي محمود صلاح (كتاب الهلال، عدد أغسطس 2005)، كما نطالع ما أورده محمد التابعي عن هذه العلاقة وتأثيرها علي الملك فاروق، إذ يقول:"تهدلت نازلي ملكة مصر وتهتكت في حب حسنين، ولم تخجل من أن تعلن حبها له أمام رجال القصر، ثم أمام ابنها الملك فاروق، ونسيت مقامها كملكةٍ وأرملة ملك وأم ملك ونسيت حرمة سنها وقد تجاوزت الأربعين
"وكانت الصدمة النفسية قاسية عنيفة على فاروق الذي كان يومئذٍ في الثامنة عشرة من عمره، وكان فاروق يحب أمه، ولم يكن يفوق حبه سوى احترامه لها كانت نازلي تناديه أمام الحاشية وأمامنا: فاروق!
"وكان هو يناديها دائماً: ماجستيه، أي صاحبة الجلالة
"وكان فاروق يخشاها ويتقي غضبها ويعمل لها حساباً"وكانت كلمتها عنده لا ترد

"وكثيراً ما سمعتها أثناء رحلتنا إلى سويسرا وفرنسا وانجلترا تنهاه أمامنا علناً عن قيادة سيارته بنفسه، أو تنهره وتطلب منه أن يترك سيارته ويركب معها في سيارتها، لأنها كانت تخاف عليه من تهوره في قيادة السيارات بسرعةٍ جنونية
"وكان فاروق دائماً يخضع ويطيعها ولا يرى غضاضة أو بأساً وهو الملك في أن ينزل على إرادتها مثل أي طفل صغير
"هكذا كان مقدار حب فاروق واحترامه لأمه نازلي
"ثم ها هي تتدلهُ وتنتهك في حب موظف من موظفي القصر ولا تخجل من أن تعلن أمام موظفي القصر أنها عاشقة ملهوفة على أحمد حسنين
"بل ولا تخجل من أن تصارحه هو ابنها الملك بأنها تحب هذا الموظف أحمد حسنين، وأنها قدمت نفسها له، لكنه يرفض، فتصرخ وتصيح أنها من لحم ودم، وتطلب من ابنها ان يزوجها من حسنين
"كانت صدمة قاسية لفاروق تهاوت المثل العليا التي كان يراها في أمه صاحبة الجلالة"


وربما يمكن القول إن هناك حدثين أثرا كثيراً في شخصية فاروق ونتج عنهما تحولات نوعية في سلوكه، وفي كلا الحدثين كان أحمد حسنين حاضراً بقوة. الحدث الأول سياسي، ونعني به أزمة 4 فبراير عام 1942 حين حاصرت الدبابات قصر عابدين وفرض الإنجليز عليه وزارة مصطفى النحاس بالقوة بعد تخييره بين التنازل عن العرش أو قبول الوزارة الوفدية. وهنا نصحه أحمد حسنين بالخضوع وقبول الأمر الواقع، ولكن فاروق شعر بانكسار شرعيته السياسية، إذ عامله المندوب السامي البريطاني السير مايلز لامبسون (اللورد كيلرن لاحقاً) معاملة طفلٍ شقي لا يستحق قطعة الحلوى بقدر ما يحتاج إلى علقةٍ ساخنة

وكان لامبسون يقول: "إن فاروق ولد جبان ويجب إخافته بين الحين والآخر"


والحدث الثاني الذي أدى إلى نقلة كبيرة في حياة الملك فاروق ذو طابع إنساني. فقد أحس فاروق بمهانة نتيجة طيش أمه الملكة نازلي، وإصرارها على إقامة علاقة مع رئيس ديوانه أحمد حسنين. علاقة غير شرعية هزت الملك، وإن كان قد جرى لاحقاً التغطية عليها بعقد زواجٍ عرفي

بعد هذين الحدثين أصيب فاروق بإحباطٍ ويأسٍ شديدين واستيقظ لديه حرمانه القديم، وراح يمارس تعويضاً في الانغماس في السهر والقمار والإسراف في الطعام حتى بدا بديناً مرهقاً في سنواته التالية، وقد أدى هذا السلوك إلى اضطراب علاقته بزوجته فريدة؛ فخانته مع ضابط إنجليزي، وكان هذا حدثاً ثالثاً يضاف إلى الحدثين السابقين اللذين أثرا في حياة فاروق وأدى إلى تحولات هائلة في سلوكه

وبعد أزمةٍ عنيفةٍ وضغوط سياسية من بريطانيا، تم تكليف حسن صبري باشا بتشكيل وزارةٍ ائتلافية في 28 يونيو حزيران 1940، فسعى إلى الحصول على موافقة فاروق على تعيين أحمد حسنين رئيساً للديوان الملكي، ليبعد بذلك شبح احتمال عودة علي ماهر إلى القصر

غير أن أهل القصر اكتشفوا متأخراً أنهم تخلصوا من ذئب، فجاء مكانه ثعلب

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (12): حكمة القرود






لفرط ما ادعّى أحمد حسنين التعقل، تعثّرت به نساءٌ من كل صنف ولون

كان أسلوبه بالغ التهذيب والأناقة، لكن له مفعول مدية تقطع جميع الأوردة وتستقر في قلوب الباحثات عن الحب
ولم تكن الملكة نازلي سوى أبرز قطعةٍ فنية في قائمة مقتنياته الثمينة

في كتابه "سنوات مع الملك فاروق..شهادة للحقيقة والتاريخ" يقول د. حسين حسني السكرتير الخاص للملك فاروق إنه في صباح اليوم التالي لوصول الملك الشاب إلى مصر وجد أحمد حسنين باشا مبتهجاً، وبادره بالقول "إنه حدثت في الليلة الماضية مفاجأة سارة لم يكن يتوقعها، فإن الملك دعاه في المساء إلى الطابق العلوي بقصر القبة وطلب منه أن ينتظر قليلاً في إحدى القاعات، ثم إذا به يعود ومعه والدته الملكة نازلي، فكانت مفاجأة اضطرب لها، ولكن الملكة قالت له إنها بعد كل الذي سمعته من ابنها من مبلغ عنايته به أثناء وجوده معه في إنجلترا حرصت على أن تلقاه لتعرب له شخصياً عن مدى تقديرها لكل ما بذله نحو فاروق ولتطلب منه أن يستمر في موالاته بالعناية والإرشاد، وأنها استبقته مدةً تبادله حديثاً كله عطفٌ ومودةٌ، وقد بات ليلته سعيداً متأثراً بما أبداه الملك الشاب من تقدير في الكلمات التي قدمه بها إلى والدته، حيث ذكر أنه رأى من أول واجباته أن يقدم لها الرجل الذي أحاطه بكل إخلاصٍ وعناية. كما أن الملكة أغدقت عليه كلمات الثناء والتقدير مما جعله يشعر ببالغ التأثر، فهنأته بما حدث ووجدت أن يكون ذلك باعثاً على اطمئنانه إزاء ما كان يخشاه من احتمالات تصرفات الأمير محمد علي رئيس مجلس الوصاية معه، فإنه سوف يجد من عطف الملكة الوالدة حليفاً ينصره عند اللزوم" (ص76)

ولما كان من شأن مهمة رائد الملك أن تظل قائمةً إلى حين تولي الملك سلطاته الدستورية –وقد نودي به ملكاً في 29 يوليو تموز 1937 بعد أن تم حساب عمره بالتقويم الهجري بناء على فتوى من الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر- فإن حسنين استمر في عمله في تلك الفترة، ولذلك كان يلازم القصر طوال النهار. وكان فاروق في هذه السن الصغيرة في حاجة إلى من يوجهه ويلهمه سداد الرأي وحُسن السياسة، وهذا ما انفرد به حسنين باشا

حرص أحمد حسنين على إضفاء طابع ديني على الملك الشاب، فقد أيد اقتراحاً بأن يتم الاحتفال بتولي فاروق سلطاته الدستورية في احتفال ديني‏،‏ الأمر الذي رفضته حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا ونظرت إليه على أنه محاولة لانتحال الملك صلاحيات دينية تزيد من سلطات القصر الأوتوقراطية. كما اقترح أحمد حسنين على فاروق أن يستهل عهده بأداء صلاة الجمعة في مساجد مختلفة، على أن يبدأ بأداء صلاة أول جمعة بعد وصوله في مسجد الرفاعي حيث دُفِنَ والده وجده لزيارة المقبرتين في أعقاب الصلاة. وقد تم ذلك في موكب حافلٍ على النسق التقليدي القديم، أي بمركبةٍ تجرها الخيل ويحفها فرسان الحرس الملكي. وكان لظهور موكب الملك على هذا النحو أثرٌ عميق في نفوس العامة، حتى أطلق الشعب على الملك الشاب لقب "الملك الصالح"
في المقابل، بدأ حسنين خطته وخطواته للوصول إلى قلب الملكة نازلي

وبعد انقضاء يوم الأربعين لوفاة الملك فؤاد، انتقلت الأسرة الملكية إلى الإسكندرية كعادتها سنوياً، إلا أنه طرأ في تلك السنة أمرٌ جديد لم يسبق حدوثه من قبل، وهو نزول حسنين في المبنى الرئيسي لقصر المنتزه، المعد لنزول أفراد الأسرة الملكية، على الرغم من وجود مبنى مستقل في احد أركان الحديقة لنزول من تُحتِمُ الظروف مبيته بالقصر من رجال الحاشية. وقيل في تعليل ذلك إن واجبات رائد الملك نحو القيام بمهمته على الوجه الأكمل لضمان انتظام الملك فاروق في دراسته وانتظام تنفيذ البرنامج الموضوع له، تقتضي وجود الرائد إلى جانبه في كل لحظة، ما يستدعي ملازمته له في الإقامة كما كانت الحال في إنجلترا

وبعد رحلةٍ إلى أقاليم الصعيد لمشاهدة آثار مصر الكبرى، رافقته فيها الملكة نازلي وشقيقاته الأميرات والحاشية التي تضم حسنين باشا، رُئي أن يقوم الملك الشاب برحلةٍ طويلةٍ إلى أوروبا لعل الرحلة تزيد في تجاربه ومعلوماته، خصوصاً أنه لم يكمل دراسته ولا يملك من خبرات الحياة الكثير


وتقرر مجدداً أن تصحبه أمه نازلي وشقيقاته فوزية وفايزة وفايقة وفتحية، وحاشية تضم الرائد حسنين باشا. وتحدد يوم 27 فبراير شباط 1937 للسفر من بورسعيد على ظهر الباخرة الإنجليزية "فايسروي أوف إنديا" RMS Viceroy of India باتجاه مرسيليا، ومنها إلى سويسرا لزيارة معالمها الكبرى في سان موريتز ثم جنيف وبرن وزيوريخ، على أن يكون السفر منها إلى إنجلترا رأساً ثم تكون العودة عن طريق فرنسا لزيارة باريس وفيشي، لملاءمة مياهها المعدنية لصحة الملكة نازلي

واندلعت الثورة في منزل أحمد محمد حسنين


فقد ترامت إلى سمع زوجته لطفية هانم إشاعات وأقاويل عما بين الملكة نازلي وأحمد حسنين. طلبت لطفية من حسنين أن تسافر معه في هذه الرحلة، فوعدها بعرض الأمر على فاروق. غير أنه عرض الأمر على نازلي التي رفضت طبعاً. وعاد حسنين وأبلغ زوجته أن الملك لا يوافق على سفرها؛ لأن الرحلة شبه رسمية ولا مكان فيها لزوجات الموظفين من رجال الحاشية.. لكن لطفية هانم ابنة الأميرة شويكار لم تقتنع بالأمر، وأخذت تسأل وتستقصي إلى أن علمت بأن زوجها لم يحدث فاروق في الموضوع، وإنما عرض الأمر على الملكة نازلي. زادت شكوك لطفية هانم، وعلا الصراخ والبكاء في منزل أحمد حسنين، وانفجر بركان غضب الزوجة


ويبدو أن حب أحمد حسنين للمجد تغلب على حبه لزوجته، ولذا فقد أراد لخطته النجاح حتى لو كان ثمن ذلك غضب الزوجة التي تعد حفيدة محمد علي. ولكي تنجح الخطة كان ضرورياً أن تبقى لطفية هانم خارج الصورة وبعيداً عن الرحلة، لضمان السيطرة على الملك فاروق عن طريق أمه الملكة نازلي


وبعد أيامٍ من انطلاق الرحلة، كان أحد رجال الحاشية يتنقل في سيره بين أركان السفينة على سبيل الرياضة، إلى أن ساقته قدماه إلى السطح الأعلى حيث توجد قوارب الإنقاذ، وإذا به يُفاجأ بحسنين باشا جالساً على إحدى الأرائك الخشبية وإلى جانبه الملكة نازلي في حالة استرخاء لا تكون إلا بين من رُفِعَت بينهم كل كلفة. انزعج رجل الحاشية لما رأى وعاد مسرعاً إلى غرفته. وفي صباح اليوم التالي دعاه حسنين باشا إلى غرفته ثم قال له: هل تعرف الحكمة التي يشير إليها تمثال القرود الثلاثة؟ تظاهر الرجل بعدم المعرفة، فقال له حسنين: إن التمثال يبدو فيه قردٌ وضع يديه على أذنيه أي أنه لا يسمع، والثاني وضع يديه على عينيه أي أنه لا يرى، والثالث وضع يده على فمه أي أنه لا يتكلم، والتمثال في جملته يتخذ رمزاً لما يجب أن يكون عليه رجل الحاشية من بطانة الملوك، فأرجو أن تعي ذلك. وانصرف الرجل وقد وعى تماماً ما سمعه وإن بقي يشعر بالدهشة لما سمع وأكثر دهشة لما رآه في الليلة السابقة! وذهب الرجل إلى د. حسين حسني ليستنجد برأيه ويشاركه ما يثقل كاهله من الفزع والصدمة


لقد كان أقرب شخصين إلى نفس فاروق، يتقاربان ويتآلفان عاطفياً من وراء ظهر الملك الشاب، ليصنعا جانباً من مأساته الشخصية

وفي سان موريتز، نزل أفراد الرحلة في فندق "سوفريتا" المطل على بحيرة. ولفت انتباه رجال الحاشية وقتذاك أنه في تخصيص الحجرات المحجوزة للأسرة المالكة والحاشية، كان جناح حسنين باشا يقع بين جناحي الملك فاروق والملكة نازلي بحيث إن حجرة نومه كانت ملاصقةً لحجرة الملك وحجرة الجلوس كانت ملاصقةً لجناح الملكة نازلي..ولكن يبدو أن حسنين أحس بما أثاره هذا الاختيار من تساؤلاتٍ، فلم يعد إلى اختيار مثل هذا الموقع في الفنادق الأخرى التي نزل بها المشاركون في الرحلة

على أن حسنين اضطر إلى التشدد مع نازلي حين سرت تعليقات بشأن إصرارها على ممارسة رياضة التزلج في سان موريتز بمساعدة رجال غرباء، وهي التي لم تمارس تلك الرياضة من قبل. كما أنها في المساء كانت حريصةً على الرقص، غالباً بمصاحبة حسنين وأحياناً برفقة سواه، وكان حسنين يبدي ضيقه بذلك ويحاول إقناعها بالاكتفاء بمراقبة الراقصين، لكنها كانت تنفذ إرادتها في أغلب الأحيان

وصلت أخبار نازلي إلى مصر، فاشتعل الموقف


ففي أعقاب وصول الرحلة الملكية إلى جنيف ونزول أفرادها في فندق يطل على بحيرة، ورد إلى حسنين باشا خطابٌ شديد اللهجة من الأمير محمد علي ينتقد فيه ما صدر من الملكة نازلي من تصرفاتٍ تُعَدُ خارجة عن التقاليد الشرقية، ونال حسنين باشا لومٌ قاسٍ بعد أن اتهمه الأمير محمد علي بالتهاون في الأمر. وعندما أطلع حسنين الملكة نازلي على فحوى الخطاب لم تعبأ بما جاء فيه، وصارحته بأنها لن تصنع سوى ما يروقها

وإزاء ذلك اعتكف أحمد حسنين في حجرته يومين، وأبلغ د. حسين حسني بأنه لا يرى أمامه سوى الاستقالة، ولكنه يخشى نتيجة ما قد يحدثه هذا القرار من ارتباك، خصوصاً أن الملك وأسرته موجودون بعيداً عن الوطن؛ ولذلك فهو في حيرةٍ من أمره وما زال يفكر فيما يحسن عمله. وانتهى إلى إرسال خطاب إلى الأمير محمد علي يعتذر فيه ويخفف من غضبه ومن شأن ما وصل إليه من أنباء، ويعد ببذل قصارى جهده في هذا الأمر


غير أن الملكة نازلي لم تقم وزناً لغضب الأمير، وظلت تخرج إلى الملاهي الليلية وفي صحبتها حسنين باشا، وواصلت عدم مبالاتها بالمواعيد المقررة للقيام بالرحلات التي جرى إعدادها لزيارة بعض المعالم هنا وهناك. وفي باريس، تكررت الحكاية نفسها، وغضب البعض من قرار نزول الملك فاروق وأمه الملكة نازلي وحاشيتهما الخاصة وحسنين باشا في فندق "ريتز" ونزول باقي الحاشية الرسمية في فندق آخر مجاور


والشاهد أن الملكة نازلي كانت أحد أسباب تصدع الملكية في مصر وسقوطها بعد ذلك، فهي لم تكن حريصة على عرش ابنها ومستقبله بقدر حرصها على الانطلاق، وتحقيق ما تصبو إليه، وأن تعيش حياتها بعيداً عن قيود القصور، وتعوض أيام القسوة والكبت والحرمان التي عاشتها في كنف زوجها الملك فؤاد


أما حسنين، فقد أشعل النار، وطحن البن، ثم وضعه على نار هادئة كأي بدوي يتقن لعبة الوقت


وها نحن نرى محمد التابعي - الذي كان الصحفي الوحيد الذي رافق تلك الرحلة الملكية في أوروبا- يصور حياتها عندما ذهبت إلى باريس في صحبة الملك الشاب، حيث بدأت تسير على هواها


يقول التابعي: "بدت على جلالتها أعراض التصابي، فقد انطلقت تزور صالونات التجميل وصبغ الشعر، وتجرب كل يومين تقريباً صبغة جديدة، ولوناً جديداً لشعرها: الذي بدأت تظهر فيه شعرات بيضاء!
ولاحظنا أن حسنين بدأ يقتصد إلى حد ما في (إخلاصه وتفانيه) في خدمة الملكة نازلي والسير في ركابها، وأصبحنا نراه بيننا أكثر من أي وقت مضى في الرحلة.. لماذا؟
هل كان يخشى افتضاح علاقته بالملكة الوالدة؟
وأن يسمع ابنها أو يلاحظ شيئاً مريباً على أمه ورائده الأمين؟
أم ترى حسنين قد رأى أن الوقت قد حان لكي ينتقل من الفصل الأول إلى الفصل الثاني، أي من إظهار الحب والتفاني إلى إظهار (التقل) والتحفظ والبرود؟
وهي السياسة التي كان حسنين يجيد تطبيقها كل الإجادة مع هذا الصنف من النساء؟
النساء اللاتي جاوزن مرحلة الشباب وأخذن في استقبال شمس المغيب؟
وفي الفصل الثاني فصل "التقل" التحفظ والبرود يزيد الوجد والشوق، ويشعل في صدر المرأة ناراً فوق نار!
نار تأكل ما بقي للمرأة من عزة وكبرياء
حتى إذا عاد إليها الرجل أسلمته قيادها في خضوع واستسلام
هذا هو الأرجح"


وبعد العودة إلى إنجلترا بمدة وجيزة، قالت الملكة نازلي إنها تجد مشقة في الذهاب إلى لندن والعودة منها وطلبت أن تقيم في لندن أثناء الرحلة؛ لأن المسافة كانت طويلة بين كنري هاوس ولندن وهي لا تكف عن السهر كل ليلة في أحد الفنادق الكبرى أو الملاهي الليلية وفي صحبتها حسنين باشا ووصيفة الشرف زينب هانم سعيد. اتجه الرأي إلى نزول نازلي في جناح بالمفوضية المصرية ورحب بذلك الوزير المفوض حافظ عفيفي باشا. وفي مساء يوم انتقالها إلى المفوضية فوجىء حسين حسني بطلبها أن يكون في صحبتها لدى الخروج مع وصيفة الشرف؛ بسبب غضبها على حسنين باشا الذي تباطأ في الاستعداد للخروج. وإذا كان حسنين باشا قد أقام في كنري هاوس، فإنه كان كثير الغياب ليكون في خدمة الملكة نازلي


وعندما وصل مراد محسن باشا ناظر الخاصة الملكية إلى فيشي على متن طائرة خاصة موفداً من الحكومة - بموافقة مجلس الوصاية- لمناقشة برنامج الاحتفال بتولي الملك سلطاته الدستورية، أخذ يستفسر من رجال الحاشية عن حقيقة ما تفيض به أركان مجتمع القاهرة من أحاديث عن ألسنة المصريين العائدين من أوروبا، عن علاقة غير عادية لاحظها كثيرون بين الملكة نازلي وحسنين، وأنهما يتلازمان في الملاهي الليلية وفي كل مكان. لم يستطع رجال الحاشية أن يكتموا عن مراد باشا ما يشعرون به من الضيق وخيبة الأمل إزاء ما جرى ويجري بين أم الملك ورائده، وطلبوا إليه أن يحاول - إن استطاع- أن يصلح الأمور ويوقف تيار الانهيار


غير أن هذا الرجاء أتى بعد فوات الأوان
وظل أحمد حسنين هو المستشار والأب البديل لفاروق، الذي عاش الكثير من التناقضات في حياته


ففي أثناء الرحلة الملكية، نمت مشاعر الحب بين فاروق وصافيناز - التي أصبحت فيما بعد الملكة فريدة- وووقعت بينهما الخلافات التي قد تقع عادةً بين متحابين في سن الشباب. وذات مرة نشب بينهما خلافٌ، وعندما دخل د. حسين حسني عليه وجد أحمد حسنين باشا يحاول تهدئة خاطره، فقال له: "لا تفكر ولا تشغل بالك، فالفتيات كثيرات، وعند عودتنا إلى مصر سوف نقدم لك بدلاً من فتاةٍ واحدةٍ عشر فتيات، بل عشرين فتاةٍ إن أردت..". هنا تدخل حسين حسني قائلاً: "ماذا تقول يا باشا..حرام عليك..لا تستمع يا مولانا إلى كلمة واحدة من هذا الكلام؛ فإن الفتاة التي تحبها تبادلك نفس الإخلاص وهي تتمتع بكل الصفات التي تستوجب الإعجاب والاحترام وتليق بملكة..". وعندما سمع الملك هذه الكلمات انفجر باكياً، فمال عليه حسنين يربت على كتفه ويرجوه أن يتمالك نفسه وقال لحسين حسني: يكفي ما قلته ويحسن الخروج الآن لتركه يستعيد هدوءه

وبعد قليل إذا بالملك يدعو حسين حسني للخروج معه قائلاً: "هيا لشراء هدية ل"فافيت": (وهو اسم التدليل لصافيناز)، وحرص على أن تكون الهدية غالية الثمن لا تقل عن قلادةٍ من الألماس


وفي الليلة التي سبقت عودة الملك من رحلته الطويلة إلى أوروبا عام 1937 تحدث فاروق مع كل د. حسين حسني وعلي رشيد بك بشأن مشكلة تعيين رئيس للديوان الملكي. ثم فاجأهما بالقول: "إن حسنين طبعاً يطمع في أن يقع عليه الاختيار ولكن ذلك لن يكون أبداً"


غير أن المنصب جاء إلى حسنين باشا بعد ذلك بسنواتٍ قلائل على طبقٍ من ذهب

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator