المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

كتاب الرغبة 4: المناضل عاشقاً






غسان كنفاني الذي رحل ككاتب، عاد كعاشق في ذكراه العشرين، ليثير سجالاً من نوع آخر حول صورته الرمزية ككاتب وناشط سياسي فلسطيني قال عنه محمود درويش يوماً إنه "نقل الحبر إلى مرتبة الشرف"

وبنصف اعتراف من الأديبة غادة السمان، أثير جدلٌ كبير حول صاحب "رجال في الشمس"، وتساءل البعض في غضبٍ: هل يصلح المناضل عاشقاً؟

بالنسبة إلى هؤلاء بدا أمراً ممجوجاً وغير أخلاقي أن يتزوج المناضل بغير القضية، فكيف إذا أحب على القضية وعلى زوجته الفعلية؟


لم يستطع هؤلاء استيعاب فكرة أن غسان- الذي صادف الثامن من يوليو تموز عام 2007 الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتياله- في النهاية بشر، من لحم ودم ومشاعر. ولم يتمكن هذا الفريق من تقبل فكرة الجانب الهش داخل كيان هذا الأديب والناشط السياسي الذي كان الحب الخاص والعام يملأ شرايين قلبه

تحت الضوء الخافت لعشقٍ أتلف صاحب "ما تبقى لكم"، يمكن أن نستعيد سطوراً فاتنة لم يكترث فيها غسان العاشق بما سيقوله الناس لو قرأوها. لم يهمه سوى أن يكون صادقاً حين كتب لغادة: "يقولون هذه الأيام في بيروت، وربما في أماكن أخرى، إن علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وإنني ساقط في الخيبة. قيل في الـ"هورس شو" إنني سأتعب ذات يوم من لعق حذائك البعيد. يُقال إنك لا تكترثين بي، وإنك حاولت أن تتخلصي مني..لكنني كنت ملحاحاً كالعَلَق. يشفقون عليّ أمامي ويسخرون مني ورائي..."

بالرغم من أعماله وكتاباته الكثيرة، فإن غسان كنفاني، الأديب وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجد وقتاً ليحب أيضاً.. تصوروا

غير أن هناك من رأى في هذا العشق فضيحة

والشاهد أنه ليس في حب امرأة ما يلغي صورة الأديب المناضل التي احتفظ بها غسان كنفاني في أذهان كثيرين. وربما أمكننا التساؤل: كيف يستطيع أحد النضال دون حب؟ يقول تشي غيفارا إن النضال هو أسلوب حب

غادة السمان نشرتْ رسائلَ حبٍ كتبها لها غسان في أجمل لحظات عمره تحت عنوان "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" صدر عن دار الطليعة في شهر يوليو تموز عام 1992. كان ذلك من حقه، وطبيعي أن يكون من حقها. الرسائل المنشورة كانت عاصفة ومفاجئة، خاصة أن بعض رسائل غسان كانت تستجديها كثيراً وتوحي بشعور الاضطهاد الذي كان يشده أكثر إليها

تبدأ غادة السمان كتاب الرسائل بمحاولة إهداء: "إلى الذين لم يُولدوا بعد"، وهي نفسها الكلمات التي أهداها إياها ذات يوم كاتب مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، "وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل. وهي تتحدث عن محاولة "الوفاء بعهد قطعناه"

وهنا تنطلق غادة كحصان يتحرك ببطء ولكن بخطوات واسعة، مظهرٌ منكسر وأعماق جامحة، مقاطع طويلة كلها تبدأ بـ "نعم كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني"..وجه طفولي وجسد عجوز، نحيل منخور لا تفارقه إبر الأنسولين. إنها لا تعرضه بصورة العاشق القوي البنية، فغسان لم يكتمل بالنسبة لها كعاشق ولذلك كان هناك آخرون..إذ تقول: "لا أستطيع الادعاء- دون أن أكذب- أن غسان كان أحب رجالي إلى قلبي كامرأة كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف بهم – بعد الموت – وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي ..لكنه بالتأكيد كان أحد الأنقياء القلائل بينهم"

وربما كانت غادة محقة بشأن شعورها النرجسي، الفخر بعلاقتها برجل استثنائي بإبداعه ودفاعه عن قضيته، إذ تقول: "ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدق وأضبطها وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به: الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد لي يوماً ما معناه: مولاي وروحي في يده ...إن ضيعها سلمت يده"

يقول غسان كنفاني، في إحدى رسائله لغادة السمان: "أعرفُ أن شيئاً واحداً أستطيع أن أقوله وأنا واثقٌ من صدقه وعمقه وكثافته، وربما ملاصقته التي يخيل إليّ الآن أنها كانت شيئاً محتوماً، وستظل كالأقدار التي صعقتنا: إنني أحبك"

دعونا لا ننسى أن أشهر العشاق قد قضوا دون أن ينالوا من الحب سوى حلم الحب ولذته المتوهمة. بالنسبة للعشاق، فعل الحب هو المهم، أما نحن الذين نطالع آثارهم ونقرأ أعمالهم فإننا ننظر إليهم كأننا في مختبر، ولا نحاول أن نضع أنفسنا مكان هؤلاء العاشقين

الصبي الذي غادر عكا نازحاً مع أسرته إلى الجنوب اللبناني ثم إلى دمشق أصبح شاباً يرتاد جامعتها، وهناك التقى غادة لأول مرة أمام باب قاعة الامتحانات الشفهية في جامعة دمشق، لكن علاقته بها لم تتوطد إلا في بيروت حين كانت مكسورة بموت والدها ومحكومة بالسجن، حينها بادر بمساعدتها بجواز سفر إلى لندن

بعدها كانت الحبيبة البعيدة عنده مفقودة إلا من الرسائل التي لم تكن تجود بها بسهولة

الرسالة التي كتبها غسان لأخته فائزة في نهاية عام 1966تعطينا فكرة عن علاقته بغادة، وتعد الرسالة الأطول بين الرسائل المنشورة.. إذ حكى فيها عن غادة التي لم يستطع أن يكف عن حبها، فيقول "أحياناً أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع". وبالرغم من أن الرسالة كُِتبَت لفائزة فإنها في الحقيقة تخاطب غادة بضمير الغائب.. كان مجروحاً منها، عاملته باستغباء وكانت أقوى منه، بل إنها كانت توحي له بضعفه: "تُراها سألت عني؟ ذلك لن يكون إلا إذا كانت تريد أن تراني معذباً، أو تريد أن تنصحني تلك النصيحة التافهة: اذهب إلى بيتك باكراً"

وعندما هاتفها ذلك اليوم طالباً رؤيتها ردت عليه بفظاظة وأخبرته أنها عائدة إلى البيت: "إنني أدفع معها ثمن تفاهة الآخرين..أمس صعقتني، مثلاً، حين قلت لها إنني أرغب في رؤيتها فصاحت: أتحسبني بنت شارع؟"، ثم فوجيء بأنها خرجت للسهر برفقة صديق، فيقول: "ثم هتفت لها فأبلغتني أنها كانت تشرب نبيذاً، وأنها كانت تسهر مع صديق..وسألتني: لماذا تأخرت؟"

كان ذلك جرحاً إضافياً جعله يحتسي كأس كحول لكل صفحة من صفحات الرسالة حتى تعطلت كتفه وراح يطل من على حاجز الروشة ناسياً لأول مرة إبرة الأنسولين، وبعد شروق يوم 28 ديسمبر كانون أول عام 1966 عرج على شقة غادة ليسلمها الرسالة بنفسه ويمضي غاضباً

وفي رسالة أخرى نجد غسان يسترسل في بث لواعج أشواقه المتدفقة، فيقول: "أيتها الشقية الحلوة الرائعة! ماذا تفعلين بعيداً عني؟ أقول لك همساً ما قلته اليوم لك على صفحات الجريدة: (سأترك شعري مبتلاً حتى أجففه على شفتيك!) إنني أذوب بالانتظار كقنديل الملح. تعالي!

"أحس نحوكِ هذه الأيام – أعترف – بشهوةٍ لا مثيل لها. إنني أتقدُ مثل كهفٍ مغلق من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بُتِرَت بحاجبيك. كأنكِ جعلتِ منهن رزمةً من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة..لا. ليس ثمة إلا أنت. (إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعاً)..وسأظلُ أضبط خطواتي وراءك حتى لو كنتِ هواءً.. أتسمعين أيتها الشقية الرائعة؟ حتى لو كنتِ هواءً! ولكنني أريدكِ أكثر من الهواء. أريدكِ أرضاً وعَلَماً وليلاً..أريدكِ أكثر من ذلك. وأنتِ؟"



وعقب نشر تلك الرسائل، تباينت ردود الفعل..من ترحيب البعض بهذا الكشف الأدبي المهم، حتى أن إلياس خوري اعتبر أن "غسان كنفاني اليوم يسطع كما لم يسطع من قبل".. إلى استنكار مزدوج لدى فريق آخر يصل إلى حد التشكيك في صحة أمر العلاقة والرسائل أصلاً، ثم استهجان نشرها. وذهب البعض إلى الاستعداء من أجل مقاضاة غادة السمان، والتلميح إلى مؤامرة تتصل بالنظام العالمي الجديد، حسب إلياس العطروني في مقاله المنشور في جريدة "السفير" بتاريخ الأول من أغسطس آب عام 1992 والذي رأى في نشر الرسائل أمراً "يمكن وصفه بالعورات"

في إحدى الرسائل يخاطب غسان غادة قائلاً: "لقد صرتِ عذابي، وكُتِبَ عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى، هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره: الوطن والحب

"وإذا كان عليّ أن أناضل من أجل أن أسترد الأرض فقولي لي: أنت ِأيتها الجنيةُ التي تحيك، كل ليلةٍ، كوابيسي التي لا تحتمل ..كيف أستردكِ؟

"أقول لكِ، دون أن أغمض عينيّ ودون أن أرتجف: إنني أنام إلى جواركِ كل ليلة، وأتحسس لحمكِ وأسمع لهاثكِ وأسبح في بحر العتمة مع جسدكِ وصوتكِ وروحكِ ورأسِك، وأقول وأنا على عتبة نشيج : يا غادة يا غادة يا غادة...

"وأغمض عينيّ

"وحين أكتب ليس ثمة قاريء غيركِ، وحين أقود سيارتي في تعب الليل وحيداً أتحدث إليكِ ساعات من الجنون، أتشاجر، أضحك، أشتم السائقين، أسرع، ثم أقف: أحتويكِ وأقبلكِ وأنتشي"

كان غسان كنفاني – الذي تحول جسده إلى شظايا وأشلاء متناثرة يوم السبت الموافق 8 يوليو تموز عام 1972- في مناطق ومساحات كاملة من الرسائل شخصاً في حالة انعدام الوزن. وربما جاز القول بأن الرجل الشرقي في حالات العشق والتضرع والتدله يبدو خفيفاً وطائشاً ومتهوراً ومراهقاً، ولا يحسب لرزانة العمر حساباً


وهو يتحدث في إحدى رسائله عن زوجته الدنماركية آني التي تعرف عليها عام 1961 وطلب الزواج منها بعد أقل من عشرة أيام من تعارفهما، فيقول: "لقد جاءت آني حين كنت قد شرعت، مختاراً ومرغماً، في الانزلاق على هضبة الوحل المغرية والجذابة ، وفي ذات الصباح الذي قررت في مسائه أن أتزوجها كنت على وشك الاتفاق مع امرأة نصف ثرية نصف جميلة ونصف تحبني ونصف شابة على أن نعيش معاً. كانت تلك المرأة نصف الطريق إلى السقوط وأردت أن أجعلها محطتي كي أقبل الرحلة كلها فيما بعد إلى قرار القاع السحيق والمنسيّ

"وجاءت آني ذلك اليوم مثلما تجيء رسالة البشرى من مكان قصيّ مجهول فجعلتها ملجأي للفرار في واحدة من ومضات النبوّة التي تبرق في ضمير كل إنسان على ظهر هذه الأرض. أقول لك الآن: كانت فراراً"

وهو يقول عن الزوجة إنها كانت "بعيدة عني في كل شيء. واحتجت إلى خمس سنوات كبيرة أظل مشغولاً خلالها في ردم الهوة المفتوحة بيننا، وارتكبت مرة أخرى خطأ الاحتيال: فحين عجزت عن ردمها كما ينبغي ردمتها بطفلين"


في حديث صحفي قالت غادة السمان إن "ملف غسان كنفاني مفتوح للحقيقة وللتاريخ ..فقد شكل كتاب "الرسائل" وما جاء بعده, أقوى ضوء ُسلِطَ على غسان كنفاني, وكانت له أصداء أكثر من مهرجانات التأبين التي أقيمت له على مدى عقدين من الزمن..لقد أعاده هذا الكتاب حياً بكامل بهائه الإنساني؛ لأنني وجدت حقيقته أجمل من تمثاله, ولم يسيء أحد إلى غسان كنفاني بقدر ما أساء إليه الذين اتهموني بتشويه صورته, فأنا لم أزور الرسائل ولم أستتر عليها لأنني لم أر فيها ما ينتقص من عظمة غسان, بل ما يضيف اليها"

يقول غسان لغادة في رسالة: "إنني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودكِ معي جنونٌ آخر له طعم اللذة، ولكنه- لأنك أنتِ، التي لا يمكن أن تُصلح في قالبٍ أريده أنا- جنون تنتهي حافته إلى الموت!

"أمس رن الهاتف في المنزل، ورفعت السماعة..لم يكن ثمة أحد يتكلم على الطرف الآخر وهمست، بعد لحظةٍ، بصوت جبان: غادة؟

"وهذا كله لا يهمك ..أنت صبيّة وفاتنة وموهوبة..وبسهولة تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين..ولكنني أقبل..إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة!

"ماذا أقول لكِ؟ إنني أنضح مرارة..يعصر لساني الغضب مثلما يعصرون البرتقال على الروشة، لا أستطيع أن أنسى، ولا أستطيع أن أبعد عن وريدي شفرة الخيبة التي بذلتِ جهداً، يشهد الله كم هو كبير، لتجعلينني أجترعها بلا هوادة!

"لا أعرف ماذا أريد. لا أعرف ماذا أكتب. لا أعرف إلى أين سأنتهي. والآن – خصوصاً – أنا مشوش إلى حد العمى : إن النقرس يفتك بي مثل ملايين الإبر الشيطانية. أشفقي عليّ أيتها الشقية ...فذلك، على الأقل، شيء يقال

"قلتِ: نتحادث في الهاتف..أما أنا فليس لدي قرشٌ أستطيع أن أصرفه، وأن أصرفه خصوصاً على عذاب لا أحتمله. لقد تقوّض هذا الشيء الذي كنته، وأنا حطام، وأعرف أن ذلك شيء لا يسرّك كثيراً، ولكنه حدث: عنوان القصة"حازم؟ أجل حازم، من نوع أكثر صميمية: إنني أكثر شجاعة منه في وجه العدو المعذ َِّب، ولكنني أقل منه شجاعة في وجه الحب"

"حازم :أحد أبطال قصص كتاب غادة السمان "ليل الغرباء

الطريف حقاً في الجدل الذي أثير حول كتاب الرسائل أنها المرة الأولى التي ينافح فيها العربُ عن سمعة رجل ارتكب "خطيئة" الحب، دون أن يبالوا بسمعة ومشاعر الأنثى التي أعلنتْ هذا الحب

في ليل الأول من فبراير شباط عام 1967 يكتب غسان لمحبوبته التي تتجاهله قائلاً


"عزيزتي غادة
يلعن***!

"ما الذي حدث؟ تكتبين لكل الناس إلا لي؟ اليوم في الطائرة قال لي سليم اللوزي أنك كتبت له أو لأمية لم أعد أذكر ، وأمس قال لي كمال إنه تلقى رسالة منك... وآخرين! فما الذي حدث؟ لا تريدين الكتابة لي؟ معلش! ولكن انتبهي جيداً لما تفعلين: ذلك سيزيدني تعلقاً بك!"

أمية : أمية اللوزي زوجة سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة "الحوادث"، وكانا صديقين حميمين لغادة وغسان

كمال : كمال طعمة، صديق مشترك كان يشاركهما السهر هو وعاطف السمرا وسواهما من الأصدقاء

وعندما نتأمل تلك الرسائل، سيلفت انتباهنا أن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان خطابات "إنسانية" تختلط فيها الصداقة العميقة بلغة العصر وأوجاع الزمن. تختلط فيها الصداقة بالقضايا. ولهذا جاءت رسائل غسان وثيقة "عشق عاقل" إن صحت العبارة

وقد يتساءل القاريء عن رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني..وهي ترد على ذلك بوضوح في كتاب الرسائل قائلة: "وريثما أحصل على رسائلي إليه فأنشرها ورسائله معاً، أكتفي مؤقتاً بنشر رسائله المتوافرة، بصفتها أعمالاً أدبية لا رسائل ذاتية أولاً ووفاء لوعد قطعناه على أنفسنا ذات يوم بنشر هذه الرسائل بعد موت أحدنا"

وهي بالمناسبة لم تنشر رسائله كلها، فقد ضاع بعضها – بحسب غادة- إثر احتراق منزلها ببيروت عام 1976، وما تبقى نشرته بعد حذف المقاطع السياسية التي لا بد أنها قد حملت جزءاً كبيراً مما لم يتضمنه أدب غسان كنفاني

وربما جاز لنا أن نشير إلى أن أرشيف غادة السمان غير المنشور والذي أودعته في أحد المصارف السويسرية، يضم مجموعات من الرسائل تعد غادة بنشرها "في الوقت المناسب". ولأن غادة كانت نجمة في سماء بيروت الثقافية في عقد الستينيات فإنه من المتوقع أن تؤرخ هذه الرسائل لتلك الحقبة

ومن المنتظر أيضاً أن تكشف عن علاقات عاطفية لم تكترث غادة لإخفائها آنذاك، خاصةً مع ناصر الدين النشاشيبي الصحفي الفلسطيني الذي كشف عن وجود رسائل عاطفية موجهة له من غادة في أواسط الستينيات. وقد تحدث النشاشيبي عن "علاقة حب عاصفة جمعتني بالأديبة غادة السمان، وجمعتني لقاءات بها قبل أن تتزوج، وشرفتني بالزيارة إلى منزلي بجنيف وأقامت معي. وما كتبته في كتابي "المرأة تحب الكلام" تحت عنوان "كاتبة الليل" كان عن غادة السمان". ومن الأسماء الأخرى المرشحة لنشر رسائلها مع غادة، الشاعر الفلسطيني كمال ناصر الذي اغتيل في أبريل نيسان عام 1973 في حي فردان في بيروت على يد فرقة كوماندوز إسرائيلية قادها إيهود باراك

استقبلت غادة – حسب تصريحها– أكثر من مئتي مقالة نقدية كانت قد كُتبت حول ذلك الكتاب، نصفها مؤيد للنشر ونصفها ضد خطوة النشر. وأصدرت غادة المحاورات التي دارت معها على هامش انفجار "رسائل غسان" في كتاب حمل عنوان "محاكمة حب" وصدر في نوفمبر تشرين الثاني عام 2004

تتعدد إهداءات هذا الكتاب كتعدد وجوه قطعة الألماس التي كان غسان تمثيلاً رائعاً لها، فهي تهدي كتاب المحاورات الساخنة: "إلى الذين دعموني في خطوتي البيوغرافية غير المسبوقة" رسائل غسان إلى غادة" والمليئة بالثقوب لأنها محاولة أولى، وشجعوني بلا تحفظ ، وإلى الذين وقفوا بتحفظ مع صرختي ضد همجيتنا الأبجدية المتمثلة في إحراق بعض أوراق راحلينا المبدعين في غياب مؤسسة عربية ترعى الميراث الثقافي للراحلين، وأهديه أيضا إلى الذين هاجموني، فقد تتبدل بعض قناعاتهم المتكلسة".. ثم تهديه أولاً إلى: "الذين حاوروني حوله، ومنحوني الفرصة للتعبير عن وجهة نظري التي لا تخلو من الهنات ككل ما هو بشري"

لقد أحب غسان كنفاني هذه المرأة حباً زلزل كيانه، إلى الحد الذي يقول لها فيه: " لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً. لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساكِ، لا...إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معكِ ويبدو لي أنني سأنتهي معكِ"

لكن غسان لم ينته.. فقد بقي، في حين زال واندثر آخرون

تابع القراءة

gravatar

خلافات أهل الثورة 2: الضرب قبل الحوار أحياناً



قطار الشقاق والإهانات والشتائم من جانب رجال ثورة يوليو، اجتاز كل المحطات

وفي أزمة مارس 1954 اتخذ مجلس قيادة الثورة قراراً بالتنحي وترك رئاسة الجمهورية لمحمد نجيب ورئاسة الوزراء لخالد محيي الدين، وذلك بعد توتر الموقف واعتصام ضباط الفرسان ..لكن صلاح نصر اتصل بالبكباشي محمد سيد عبد الرحمن قائد الكتيبة 13 مشاة، وقوات الأمن في بعض الأسلحة الأخرى لمحاصرة سلاح الفرسان بهذه القوات، لإبطال تأثير خروج المدرعات. كما اتصل صلاح نصر بعلي صبري وكان في منزله وطلب منه إخراج طلعة جوية فوق معسكر سلاح الفرسان لتخويفهم وتهديدهم

في لحظات الأزمة كان الجو مكهرباً بين أعضاء المجلس .. والبعض منهم تدمع عيونه. وما إن سمعوا أزيز الطائرات حتى فهم عبد الحكيم عامر أن صلاح نصر فعل شيئاً، فخلع علامات رتبه العسكرية وألقاها على الأرض وقال له: "تعال اشتغل أنت قائد بقى". وحدث بين عامر وصلاح نقاش حاد حول هذه التحركات بدون تعليمات منه بصفته قائد القوات المسلحة آنذاك

وكان لجمال سالم – الذي اشتهر بعصاه التي كان يحملها معه دائما- مواقف خاصة، منها رفضه خروج مظاهرات شعبية لاستقبال عبد الناصر عقب عودته من باندونغ، بالرغم من اتفاق زملائه أعضاء المجلس على ذلك ..واستدعى جمال سالم إلى مكتبه زكريا محيي الدين وأحمد طعيمة وإبراهيم الطحاوي لمناقشتهم فيما ورد إليه من أنباء حول هذا الموضوع، فأنكروا أمامه أنهم يدبرون استقبالاً شعبياً. وهنا قال لهم ساخراً: "يبقى لازم السفير البريطاني هو اللي بيرتب الاستقبال"

بل إن جمال سالم أجرى تحقيقاً مع خليل عبد الناصر عم جمال عبد الناصر أثناء وجود الأخير في باندونغ. وعندما طلب المجلس من علي الشمسي الاستقالة من عمله كمحافظ للبنك الأهلي ورفض الشمسي التنفيذ، استدعاه جمال سالم إلى مكتبه واعتدى عليه بالضرب والسباب بالرغم من قرابته لعلي صبري

وعصبية جمال سالم كانت سبباً أيضاً في استقالة كمال الدين حسين الأولى (فكلهم استقالوا أكثر من مرة)، لكن الأخير سحب استقالته بعد عودة عبد الناصر من باندونغ. وجاءت استقالة كمال الدين حسين النهائية بعد خطابه الشهير إلى عبد الناصر الذي بدأه بقوله: "اتق الله.." وبعد ذلك بثلاثة أيام، أي في 15 أكتوبر تشرين أول عام 1965، صدر الأمر باعتقال كمال الدين حسين وتحديد إقامته في فيللا بالهرم عليها حراسة مشددة ومدعمة بالمدافع.. ثم أرسل كمال الدين حسين رسالة أخرى مماثلة إلى عامر وصفها الأخير في رده على كمال بأنها تبدو وكأنها مرسلة من كمال رسول الله إلى عبد الحكيم كسرى أنو شروان"

وعندما نشب خلاف بين جمال سالم وصلاح نصر في يونيو حزيران عام 1953 بعد أن دار حديث جاف بينهما في مكتب عبد الحكيم عامر.. أبلغ عباس رضوان صلاح نصر بأن جمال غاضب بدرجةٍ كبيرةٍ منه وأنه يهدد بقتله لأنه يعتبره قد أهانه.. وعرض عليه التصالح مع جمال سالم في حضوره.. لكن صلاح نصر اضطر إلى حمل طبنجته معه أثناء جلسة الصلح بعد إحدى ثورات غضب جمال سالم، الذي كان معروفا عنه إفلات زمام أعصابه لأتفه الأسباب

وفي فبراير شباط عام 1954 حينما بدأت أزمة مارس تتبلور، وجه أحد الضباط الأحرار، وهو الصاغ ربيع عبد الغني من سلاح المدفعية في مكتب المشير عامر، عبارة إلى جمال سالم لم تعجبه، إذ قال له حينما سمعه يسب محمد نجيب: "اللي مش عاجبه يستقيل".. وإذا بجمال سالم يمسك بربيع عبد الغني ويلطمه على خده.. وصاح ربيع قائلاً: "أتضربني يا جمال؟!".. فتدخل الواقفون لمنع تدهور الموقف

وكان جمال سالم أكثر أعضاء مجلس الثورة تحمساً للتخلص من نجيب، لدرجة أنه صرح بأنه على استعداد لأن يطلق النار على محمد نجيب ويخلص البلاد من شروره ثم يسلم نفسه إلى المجلس لمحاكمته، ويكون بهذا قد أدى واجباً وطنياً لمصر!.. بل إن جمال سالم اعتدى بالفعل على الرئيس نجيب بالضرب أثناء توديع العاهل السعودي الملك سعود لمصر في نهاية مارس آذار عام 1954، فطلب نجيب من سعود حمايته

وجمال بعصبيته المفرطة كاد يفتك بسائقه الخاص عندما تأخر عليه بضع دقائق فأوسعه ضربا بالأيدي وركلاً بالأقدام .. ثم أعطى السائق خمسة جنيهات ليسترضيه عندما وجده يبكي ويبرر تأخره بتناول طعام الإفطار

وبعد الإنذار البريطاني الفرنسي وعمليات إنزال القوات المعتدية أثناء العدوان الثلاثي على مصر، كان رأي صلاح سالم أن الاستمرار في الحرب سيؤدي إلى تدمير مصر وإن على المجلس أن يسلم إنقاذا للبلد، فوصمه جمال عبد الناصر بالجبن .. وقد أثر هذا في صلاح سالم فشكا لعدد من زملائه في المجلس بمرارة وقال: "أنا لست جباناً وسأتحرك إلى السويس لأحارب كجندي تحت قيادة القائد العسكري هناك".. وبالفعل سافر جمال، وأصبح مسؤولاً عن الدفاع عن منطقة السويس

ومثلما هاجم صلاح سالم من قبل نجيب والبغدادي وغيرهما من أعضاء المجلس، فقد انبرى للهجوم عليه عقب استقالته كلٌ من إبراهيم الطحاوي وأحمد طعيمة

وكان عدد من رجال ثورة يوليو وراء واقعة الاعتداء على العلاَّمة الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة، في 29 مارس آذار عام 1954، كما أوردها من دبرها وشارك فيها أي اليوزباشي حسين عرفة رئيس إدارة المباحث الجنائية العسكرية في 1954، والتي تضمنها كتاب أحمد حمروش عن "شهود يوليو"

يعترف عرفة بأن ما يسميه حادث مجلس الدولة أبرز ما قامت به المباحث الجنائية، إذ استدعاه أحمد أنور قائد الشرطة العسكرية عندئذ وقال له: نريد منع اجتماع مجلس الدولة بالعنف أو بالحسنى، ولكنه حذره من وفاة أي شخص، وأعد عرفة خطة بالتعاون مع كل من إبراهيم الطحاوي وأحمد طعيمة المسؤولين في هيئة التحرير التنظيم الذي أنشأته الثورة وتوجه هو إلى مقر مجلس الدولة، وطلب مقابلة الدكتور السنهوري، بدعوى تحذيره من حدوث مظاهرات ضد المجلس، ولما رفض السنهوري المقابلة، أرسل عرفة شاويشا إلى طعيمة والطحاوي فتدفقت المظاهرات التي قاما بتدبيرها، ومعها بعض جنود المباحث الجنائية في ملابس مدنية نحو المجلس وهي تهتف الموت للخونة وتحاصر المجلس الذي كانت أبوابه مغلقة بسلاسل حديدية

ويضيف عرفة قائلاً: طلب رئيس المجلس أي السنهوري مندوبين عن المتظاهرين ففتحت الأبواب وتدفق المتظاهرون، وهجموا يعتدون على أعضاء الجمعية العمومية، وتظاهرت بأني أمنعهم من ذلك.. وعندما حاول السنهوري وأحد المستشارين الآخرين مخاطبتهم من بلكونة المجلس اعتدوا عليهما بالضرب أيضاً. توتر الموقف، فاقترحت أن يعد أعضاء المجلس بياناً تذيعه الإذاعة، وفعلا كتبوا بياناً لا يؤيد الثورة، قرأه مستشار اسمه عبد الخبير فضربوه أيضاً هاتفين تحيا الثورة، تسقط الرجعية وأعاد المستشارون صياغة بيان جديد، أخذته منهم، وافتعلت تمثيلية بأنه قد أغمي علي من الجهد وأنا في موقف المدافع عن أعضاء المجلس.. وهنا كان قد حضر صلاح سالم فأعطيته البيان الجديد وخرج به إلى مجلس الثورة

أما توفيق عبده إسماعيل فقد حدث أثناء أزمة سلاح الفرسان أن اصطحبه ذات ليلة أحمد أنور ومجدي حسنين وإبراهيم الطحاوي إلى المنزل ..حيث اقتادوه إلى القيادة بعد أن أخذوا معهم منشورات الضباط الأحرار .. وهناك قابل عبد الحكيم عامر الذي قال له هامسا ً: "الأولاد عايزين يدبحوك ..خليك جامد وأوعى تنخنخ"

وشكلت لجنة تحقيق معه مؤلفة من البغدادي وصلاح سالم وزكريا محيي الدين حول الأزمة التي أعقبت حركة اعتقالات ضباط المدفعية في 15 يناير كانون أول عام 1953 .. وفي 18 يناير كانون أول عام 1953 قال له عامر: "أنا نجحت في إخراجك من الموضوع. خذ عربتك وسافر إلى بلدكم لمدة أسبوعين ,وبعدين تعالى!"

خالد محيي الدين كاد أن ينال علقة على يد الضباط بعد الاقتراح بتعيينه رئيساً للوزراء، لكن جمال سالم ضربهم ركلاً بالأقدام، في حين سحبه عامر إلى خلف مكتبه.. ولكن جمال سالم نفسه أيد مع صلاح سالم وكمال الدين حسين وأنور السادات وحسن إبراهيم، اعتقال خالد محيي الدين بعد اتهامه بتشجيع ضباط السواري على التحرك ضد قيادته وإحداث شرخ في الجيش .. واقترح هذا الفريق تحديد إقامة خالد في مرسى مطروح.. في حين رأى عامر سفره إلى الخارج .. لكن ناصر حسم الموقف

كما اعتدى وحيد الدين جودة رمضان على خالد محيي الدين أثناء هذه الأزمة بالسباب، فآثر خالد العودة ثانية إلى غرفة مجلس قيادة الثورة بالطابق الثاني من المبنى. وكان ضباط الثورة يزورون زملاءهم في السجن.. بل إن عامر وهو قائد عام القوات المسلحة ذهب إلى السجن عدة مرات وقام بزيارات ودية لبعض الضباط الأحرار المسجونين

الطريف أنه لم تتعد مدة سجن الضباط المحكوم عليهم بالمؤبد مثلاً، أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات.. حتى انتشرت طرفة رددها الضباط قائلين: "لو عاوز تروح مدير شركة، اعمل انقلاب .. ولو صوري!"

هكذا كانت قيادات مجلس الثورة .. وهكذا كان يتعامل الضباط الأحرار مع بعضهم البعض بعد أن وصلوا إلى السلطة وتبوأوا المناصب وأصبحوا مستوزرين ومسؤولين رفيعي المستوى

وهكذا كانت الثورة تمحو آثار ملكية فاسدة لتبني فوقها جمهورية فاسدة أيضاً
تابع القراءة

gravatar

خلافات أهل الثورة 1: القطط..والرفاق

قالوا إنها ثورة، ورأى البعض أنها انقلاب، وتصور فريق ثالث أنها تمرد.

لكن ما يشغلنا بعد مرور خمسة وخمسين عاما على ثورة 23 يوليو - حسب التسمية الرسمية- هو أهلها، صناعها، ورجالاتها..فالذي يطالع صفحات التاريخ يصدمه هذا الكم المؤسف والمؤذي من المشاحنات والصدامات بين هؤلاء الضباط الذين عصفت بوحدتهم الخلافات ولعبة الصراع على السلطة.

لم يفلت "الضباط الأحرار" من الجملة المأثورة: الثورات تأكل أبناءها.
معمعة الخلاف والشقاق وألوان الشتائم وأصناف الإهانة، انفتحت ثغرةٌ معيبة ربما كانت من أهم الثغرات التي ولدت منها هزيمة يونيو حزيران 1967 التي بلغت سن النضج بعد تجاوزها عامها الأربعين.. وبالرغم من أننا نشعر بالأسى ونحن نتحدث عن هذه الخناقات - التي نرى الفرق بينها وبين الخلافات واضحاً جداً، فهى تلك التصرفات الهوجاء والألفاظ المهينة والسلوكيات الطائشة التي أقدم عليها بعض أهل الثورة ورجالاتها في مصر- فإننا مضطرون إلى فتح هذه الصفحة في رحلتنا للبحث عن الحقيقة.. حقيقة ثورة يوليو وجذور هزيمة يونيو.

فلنبدأ بالزعيم المصري جمال عبد الناصر نفسه .. ففي أثناء أزمة سلاح الفرسان يروي صلاح نصر رئيس المخابرات العامة آنذاك أن عبد الناصر اضطر إلى سحب طبنجته ووضعها على رأسه وهو واقف فوق مائدة الاجتماعات ..وهدد بقتل نفسه إذا ما حدث صدام بين وحدات الجيش وأسلحته المختلفة.


وأثناء أزمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 يروي صلاح نصر أيضاً أن عبد الناصر اقترح على أعضاء مجلس الثورة الانتحار كحل أخير في حالة الهزيمة بدلا من الإذعان لفكرة الاستسلام للإنذار الغربي التي روج لها عدد من أعضاء المجلس. وبالفعل كلف عبد الناصر زكريا محيي الدين كي يعد كمية من عبوات سيانيد البوتاسيوم تكفي أعضاء مجلس الثورة لاستخدامها لو لزم الأمر.

ولا يخفي على أحد أن عبد الحكيم عامر، قائد عام القوات المسلحة والصديق الحميم لعبد الناصر، اختلف معه أكثر من مرة .. وكانت خلافاتهما حادة ومباشرة لصداقتهما القوية ورفع التكليف بينهما. ويذكر الكثيرون كيف أن خلافاتهما تصاعدت في أعقاب هزيمة يونيو حتى وصلت إلى حد الخصام والقطيعة..وتبادل الاثنان الشكوى لزملائهما الضباط الأحرار من تعنت الطرف الآخر وتشدده دون أن يحسب حساباً لمصلحة مصر بعد الهزيمة المريرة ..وكم رفع خصوم عنوان حب مصر ومصلحة البلد لتبرير مواقفهم وقراراتهم الخاطئة.
عبد الحكيم عامر بدوره لجأ إلى بلده ومسقط رأسه "اسطال" - مركز سمالوط بمحافظة المنيا- بعد أن رفض عروضاً لتسوية الخلاف مع عبد الناصر، منها تنحيهما معا عن السلطة أو تعيين عامر نائباً للرئيس ..والأهم من ذلك كله عزل عامر من منصب قائد القوات المسلحة. وكلما اختلف عامر مع ناصر كان الحل المناسب الذي تكرر كثيراً هو الاختفاء عن الأنظار .. فتارةً يذهب إلى مرسى مطروح، وتارة أخرى يلجأ إلى بلدته اسطال.. إلى أن انتهت الصداقة بالقطيعة التامة..والوفاة الغامضة للمشير.

خلاف آخر نشب بين عبد الناصر وعامر حول مبدأ الانسحاب من سيناء أثناء فترة العدوان الثلاثي. وحين أصدر عامر قراراً بسحب القوات من سيناء اعترض عليه عبد الناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة مثل عبد اللطيف البغدادي وزكريا محيي الدين، إلى الحد الذي جعل عبد الحكيم عامر يثور ويطلب التنحي عن قيادة القوات لزكريا محيي الدين.. الأمر الذي دفع عبد الناصر إلى الاستجابة لرأيه.

وقد ترك هذا الأمر أثراً سيئاً في نفس كل من عبد الناصر وعامر، وربما تكون هذه الواقعة بداية الحساسية التي استمرت بين الصديقين عامر وعبد الناصر حتى عام 1967 رغم حدوث مصالحات بينهما على مدار تلك الأعوام.

وكان عبد الناصر على خلافٍ مع عامر بشأن مجموعة من القضايا والأحداث، إذ كان يعتبر الأخير سبباً رئيسياً من أسباب الانفصال وفشل تجربة الوحدة مع سوريا، فحاول الحد من اختصاصاته باتخاذ قرار من مجلس الرئاسة.. لكن عامر قدم مشروعاً يطلب فيه زيادة صلاحياته ومنحه سلطة رئيس الجمهورية، فغضب جمال من تفكير عامر وتقديمه لمشروعه وقال لعبد اللطيف بغدادي إنه لن يحضر جلسة مجلس الرئاسة ولن يقوم بعمله كرئيس للجمهورية إلى أن يبت في هذا الموضوع..غير أن عامر انسحب من جلسة مجلس الرئاسة التي نظرت في قرار يحد من سلطته وخرج ليقدم استقالته، بعد أن غادر القاهرة إلى مرسى مطروح دون أن يبلغ أحداً عن مكان إقامته. ولم تهدأ النفوس إلا بعد تراجع عبد الناصر عن قبول الاستقالة وتنفيذ القرار.

وفي الخامس والعشرين من أغسطس آب عام 1967، وفي حضور أعضاء مجلس قيادة الثورة، اتهم عبد الناصر صديق عمره المشير عامر بالتآمر، فلم يتمالك عامر أعصابه وبدأ ينفعل بشدة، فقال له عبد الناصر: "الأمور واضحة، أنت رجل متآمر، وعليك أن تقدر الموقف الصعب اللي بنمر فيه وعليك أن تلزم بيتك من الليلة"
.

وعندما رفض عبد الحكيم عامر هذا القرار، حاول بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة - وفي مقدمتهم أنور السادات- إقناع المشير بقبول هذا القرار، إلا أنه قال لهم في غضب: "أنتم بتحددوا إقامتي وبتحطوني تحت التحفظ.. قطع لسانك يا...".

في تلك الليلة نال السادات وابلاًَ من الشتائم التي يعف اللسان عن ذكرها.


ولأن اللواء محمد نجيب بعد اختياره أول رئيس لمصر بعد الثورة بدأ يتصرف على أساس أنه زعيم الثورة وليس مجرد واجهة، فإن زملاءه من أعضاء مجلس القيادة ثاروا عليه، فكان المجلس يتجاهله في كثير من المناسبات ولا يدعونه لحضور الاجتماعات في حين كان البعض يسبه بأقذع الشتائم جهاراً. وقد تزعم هذا الفريق الشقيقان جمال وصلاح سالم، والأخير استطاع أن يؤلب المجلس على نجيب، فبينَّ لهم خطورة نشاطه وخاصة عقب زيارته بلاد النوبة في الأسبوع الأخير من نوفمبر تشرين ثان عام 1953.

وبالطبع لم يكن عبد الناصر راضياً عن تصرفات نجيب الذي كان حريصاً على تأكيد زعامته للثورة إعلامياً.. ولما كان مقرراً أن يسافر عبد الناصر بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية بصحبة كل من عامر وصلاح سالم لحضور مؤتمر شعبي هناك، علم عبد الناصر أن نجيب قرر السفر معهم، فاستقر رأي عبد الناصر على السفر مع زملائه بالسيارات وترك نجيب وحده يسافر بالقطار. وأثناء المؤتمر ألمح عبد الناصر في الكلمة التي ألقاها بما أثار نجيب.. عندما ناشد الحاضرين ألا ينخذعوا وراء أي منافق أو مخادع، فبدت على نجيب علامات الغيظ والعنف بعد أن أدرك أن هناك محاولات للحط من هيبته وإظهاره بمظهر الواجهة السياسية فقط لا غير.

وازداد الخلاف بين محمد نجيب وأغلب أعضاء مجلس الثورة.. فكان المجلس في البداية يجتمع في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة مرةً كل أسبوع، وهو يوم الأحد، وكانت تظهر أثناء المناقشات خلافات في الرأي تزعج عبد الناصر الذي أراد تفويت فرصة استغلال نجيب لهذه المسألة، فأقنع باقي أعضاء المجلس بالاجتماع في منزله قبل اجتماع يوم الأحد لمناقشة الموضوعات والاتفاق عليها بعيداً عن نجيب حتى لا تظهر الخلافات بينهم.


وبالعودة إلى الشقيقين جمال وصلاح سالم، فإننا نلاحظ أن الكثير من المراجع والمصادر تؤكد أنهما تهجما على نجيب مراراً ..وكثيراً ما كان يسمع سبابهما له في كل مكان. وأثناء مناقشة الخلاف بين مجلس الثورة ونجيب وذلك في مكتب عامر، كان يضرب على منضدة بالمكتب تمثال نصفي متوسط الحجم لمحمد نجيب مصنوع من الجبس. وفجأة دفع جمال سالم في ثورة غضبٍ التمثال بقدمه، فسقط على الأرض وتهشم إلى قطع متناثرة.


أما جمال عبد الناصر فقد قال لمحمد نجيب في اجتماع مجلس قيادة الثورة في 20 ديسمبر كانون أول عام 1953: "أنت عارف إزاى جبناك" ووصفه بالانعزالي، فاشتكى نجيب لعامر بأن المجلس يريد أن يجعل منه "طرطوراً" .. بل إن عبد الناصر – كما يروي صلاح نصر في مذكراته – أخذ يسب نجيب، وأوصى إسماعيل فريد – ياور نجيب– بأن يبلغ الرئيس هذا السباب، وكانت المناسبة إصرار نجيب على حضور الذكرى السنوية لوفاة الشيخ حسن البنا المرشد السابق لجماعة "الإخوان المسلمين" في 12 فبراير شباط عام 1954.

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير لتفجر الموقف في 21 فبراير شباط عام 1954 عندما حضر محمد نجيب إلى مبنى مجلس قيادة الثورة لحضور اجتماع المجلس الأسبوعي.. وكان من المعتاد أن يصعد أعضاء المجلس إلى مكتب نجيب حيث كان يعقد الاجتماع ..لكن الرجل ظل ما يقارب الساعتين دون أن يصعد إليه أحد يخبره بالاجتماع، فأرسل سكرتيره الخاص إسماعيل فريد إلى أعضاء مجلس الثورة الذين كانوا مجتمعين في مكتب عبد الناصر ليستفسر منهم عن سبب تأخرهم في الصعود إلى نجيب لعقد الاجتماع ..فما كان من جمال سالم إلا أن ثار كعادته وأخذ يسب نجيب ويلعنه. وعلم نجيب بما حدث فآثر السلامة وغادر مبنى مجلس قيادة الثورة.


ووصلت الخلافات بين محمد نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة إلى ذروتها عندما اتخذ المجلس قراراً في غيبة نجيب بإعطاء صلاحياته في حالة عدم انعقاده إلى جمال عبد الناصر الذي تفرغ لمنصب رئيس الوزراء، ثم تعيين زكريا محيي الدين وزيراً للداخلية وجمال سالم وزيراً للمواصلات دون أن يحلفا اليمين أمامه.

وقبل أزمة مارس آذار عام 1954 أصدر مجلس قيادة الثورة بياناً اتهم فيه نجيب بأن لديه نزعة ديكتاتورية.. وبعد مظاهرات الجماهير في الشوارع مطالبة بعودة محمد نجيب رئيساً لمصر، قرر مجلس الثورة إعادته لرئاسة الجمهورية وتعيين خالد محيي الدين رئيساً للوزراء..لكن بعد ساعات من هذا القرار، فوجيء محمد نجيب باليوزباشي كمال رفعت واليوزباشي داود عويس يعتقلانه تحت تهديد السلاح ويصطحبانه عمداً إلى "ميس" سلاح المدفعية بألماظة، حيث بقي محتجزاً في غرفة مغلقة حتى الظهر عندما حضر حسن التهامي وأبلغه بأن خالد محيي الدين كان يدبر انقلاباً، واتهمه بالضلوع في الأمر.

وبعد إعفاء محمد نجيب من منصب رئيس الجمهورية، جرى تحديد إقامته لينتهي به الأمر حبيساً في قصر زينب الوكيل في ضاحية المرج أقصى شرق القاهرة حتى عام 1982، إلى أن نقلوه إلى شقة أكثر ضعة لحين وفاته عام 1984.

لم يجد نجيب طوال سنوات إقامته الجبرية من سلوى إلا تربية القطط والكلاب التي كان يردد أنها أكثر وفاءً من كثير من البشر.

تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة 3: غزو..بالتراضي








على سرير الكلمات تهتز شعوب.. وتغضب أمم


وحين نشرت الأديبة د. أهداف سويف روايتها "في عين الشمس" عام 1992 التي صدرت عن دار نشر بلومزبيري لندن ثم نيويورك..قامت الدنيا ولم تقعد في مصر


فقد اعتبر البعض أحداث الرواية نموذجا للسيرة الذاتية المغلفة بأسلوب أدبي وروائي، خاصة أنها تتقارب وتتقاطع في بعض تفاصيلها العامة مع حياة هذه الأديبة
ترصد الرواية الرحلة الطويلة التي قطعتها المراهقة "آسيا العُلما" بدءا من مايو أيار 1967، قبيل حرب يونيو حزيران بوقت قصير عندما كانت ما تزال تستعد لاختبارات الثانوية العامة، مرورا بتخرجها في كلية الآداب - قسم اللغة الإنجليزية، وزواجها الذي آل إلى فشل مؤلم رغم الحب الذي جمع بينها وبين "سيف ماضي" زوجها، ثم سفرها إلى بريطانيا لاستكمال دراساتها العليا وما عانته في سبيل ذلك، وانتهاء بأبريل نيسان 1980، إذ عادت إلى مصر بعد إنهاء دراستها امرأة ثلاثينية ناضجة تستسلم للحنين، بيد أنها تدرك في أعماقها أن الحنين لا يعيد ما مضى، ولا يصنع حياة أخرى.. إنه يعيننا على المضي فحسب، ويحفظ لنا أجزاء من أرواحنا وهي تنتقل من ألم إلى ألم

والرواية مشهد فسيفسائي عريض تتراص فيه الشخصيات، والحكايات الصغيرة، والأحداث، والأمكنة، والقصائد، والأغنيات، والمشاعر، والخيبات، والثقافات، لتفضي كلها إلى مشهد إنساني آسر محوره آسيا العُلما..المرأة التي عذبها الحب، وعذبها أكثر ألا يفهم الآخرون: أمها، زوجها سيف، صديقتها كريسي

غير أن الذين هاجموا الرواية وكاتبتها تركوا كل شيء وتعلقوا بأمر واحد: الرغبة وبوصلتها التي رأوا أنها تنحاز إلى الغرب
فقد صورت الكاتبة في رواية "في عين الشمس" بعض المشاهد الجنسية الصريحة من خلال علاقة شخصية "آسيا العُلما" وزوجها "سيف" وعشيقها الإنجليزي "جيرالد ستون".. وهو أمر، وإن كان مألوفا بالنسبة للقارئ الغربي لأنه درج على قراءته في كثير من الأعمال الروائية، إلا أنه بالنسبة للقاريء العربي فقد قوبل بتحفظ شديد
إذ نجد أن علاقة "آسيا" بزوجها "سيف" فاترة قبل أن تصل إلى طريق مسدود بسبب عدم قدرة سيف على القيام بواجباته الزوجية. وحين تذهب آسيا إلى انجلترا للالتحاق بالجامعة تنجرف إلى تعويض ما فاتها مع زوجها في الارتماء في أحضان عشيق انجليزي فظ يدعى "جيرالد"

وفي ندوة "الرواية والتاريخ" التي أقيمت ضمن فعاليات مهرجان الدوحة الثقافي عام 2005، قدمت أهداف سويف في ورقة عمل حملت عنوان "التاريخ في روايتين من أعمالي" نبذة عن ما دل عليه عنوان ورقة عملها، حيث قالت: "أتصور أن الهاجس الأساسي وراء كتابة روايتي الأولى "في عين الشمس" كان تسجيل العديد من الشخصيات التي أثرَت في حياتي.. وبالذات في مرحلة الطفولة، وتسجيل تأثير الأحداث العامة أو الأحداث التاريخية على هذه الشخصيات. كتبت الرواية بين عامي 1988 و1991، وهي مثل الروايات الأولى للكثير من الأدباء، تمثل الصنف الروائي الذي يطلق عليه الرواية التي تعنى في الدرجة الأولى برصد التطور الوجداني والعاطفي والذهني لشخصية رئيسية، يوجد حولها عدد من الشخصيات المساندة. والشخصية الرئيسية في هذه الرواية هي آسيا العُلما. والذي يحدث في "في عين الشمس" أن الأحداث والظروف العامة، أي التي تؤثر في البلاد هي وطن الشخصية الأساسية، مصر، بل وفي المنطقة كلها، تلعب دوراً كبيراً في تشكيل وحي ووجدان البطلة، كما تلعب دوراً أساسياً في قدر شخصيات أخرى"


وعنصر السيرة الذاتية لا تخطئه العين في الرواية..فالكاتبة هي ابنة الدكتور مصطفى سويف أستاذ علم النفس المعروف، ووالدتها الدكتورة فاطمة موسى الكاتبة والمترجمة الأدبية وأستاذة الأدب الإنجليزي. وتقتطع الكاتبة جزءا كبيرا من حياتها الخاصة وتستخدم خيوط سيرتها الذاتية لتوظفها في صلب إبداعها القصصي والروائي، كما أنها تستدعي شخصيات عايشتها على مستوى الواقع وجسدت ملامحها في صلب الأحداث التي تشكلت منها مواقفها القصصية..أهداف كانت متزوجة من الشاعر والناقد الإنجليزي إيان هاميلتون الذي توفي عام 2001 بعد معاناة مع مرض السرطان.. وقد أطلقت على ولديها اسمي عمر روبرت وإسماعيل ريتشارد.. وهي توقع على كتبها بكتابة اسم العائلة أولا بالعربية ثم اسمها بالإنجليزية

وآسيا بطلة الرواية ولدت وترعرعت في القاهرة، ودرست في جامعتها، وكونت وعيها على خلفية اجتماعية وثقافية عربية واضحة ولكنها ولدت في أسرة أكاديمية لأب شغل منصب وزير الثقافة، ولأم تدعى لطيفة مرسي درست الأدب الانجليزي في بريطانيا وحثت ابنتها على السفر لدراسته


صورة البطلة مراهقة، تكاد مدركاتها الجنسية تقتصر على أقاصيص من هنا أو هناك (مشهد صديقتها العروس الشابة وثورتها في وجه أمها التي تساءلت عن البقع الصفراء على الشراشف: "هذا مني زوجي.. مني! مني! مني زوجي")، ومشاهدة عن سابق قصد لأشرطة جنسية في مكتبة صدقي الطرابلسي والد صديقتها وقراءة كتاب الشيخ أبي عبدالله محمد النفراوي "الروض العاطر في نزهة الخاطر" فضلا عن كاماسوترا والرسوم اليابانية والإيطالية

تبرع الروائية في الإيحاء للقاريء بأن الأحاسيس الجنسية ماثلة على نحو طبيعي في هذا الطور، ولكنها دفينة في القشرة المباشرة التالية لمستوى الوعي بالمحيطين الأسري والخارجي. إنها - نتيجة هذا التراتب بالذات- لا تساهم في صناعة صورة بريئة أو محايدة لطور مراهقة هادئة، وتكاد تخلو من أية عناصر ومحرضات على إطلاقها في شكل سلوك جنسي مباشر

وفي مرحلة عمرية وفكرية تالية، نرصد مع الروائية اكتشاف الهوية الأنثوية، وهي هنا تمس تلك الحدود مسا رفيقا لأنها تتواصل في صيغة استيهامات غير معمقة وغير قاطعة، قبل تدشين العلاقة العاطفية الأولى (والأخيرة على نطاق مصر) مع سيف ماضي. هذه العلاقة هي الحقل الذي سيشهد توترات انتقال آسيا من طور مراهقة قصير وشبه رتيب إلى طور رشد تبدو فيه باحثة عنيدة عن هوية الذات المؤنثة وحق الجسد في التفتح على قدم المساواة مع تفتح العقل والمدركات. وهي حقل خيبات الأمل في سيف الرمز والجسد في آن معا، لأن الذكر الذي كان يبدي الكثير من التعالي الثقافي والعقلي والسلوكي ويوحي بامتلاك درجة متقدمة من التحرر يرفض ممارسة الجنس مع آسيا قبل الزواج رغم أنه يصطحبها في رحلة سرية إلى بيروت حيث يقيمان معا تحت سقف واحد في البنسيون ذاته

لقد مارس "سيف" على آسيا الكثير من الوصاية، وكان يختار لها الكتب والأغنيات، واختلى بها في الفنادق وعلمها شرب الكحول ولكنه في لحظة المواجهة الحاسمة مع جسدها أسفر عن مزيج من التفكير التقليدي، والعجز عن الاستجابة لمطلبها بأن يدخل بها عالم الرغبة. وأهداف سويف تقدمه في فقرة حوار داخلي مع نفسه إثر إعراب آسيا عن رغبتها في ممارسة الجنس معه، وتلتقطه متغطرسا ومذعورا ولائقا بالمعنى الرمزي لطرفي اسمه، السيف والماضي: "أفزعتني. أفزعتني بإقبالها الصريح، وتفاؤلها وإيمانها. هي أصلا، لا تعرف أنها تمتلك هذه الصفات. إنها تعتبرها تحصيل حاصل. وكانت بصدق تظن أن في وسع المرء أن يكيف الحياة كما يشاء، وأنه إذا أراد شيئا ناله. كانت منفتحة للغاية، ضعيفة مستهدفة للغاية. لم تكن تعرف أي شيء، لا شيء على الإطلاق " (ص 140)


ثم نصل إلى صورة الشخصية المحورية للرواية وهي تنتقل من طور الزوجة إلى طور العشيقة في بقعة جامعية قارسة من شمال انجلترا..إن نأيها عن سيف ماضي (الذي يعمل لصالح المخابرات العسكرية ويقيم بعيدا عنها بين دمشق وبيروت والقاهرة، ولا يزورها إلا على نحو سياحي) يفضي بها إلى متاهة زميل انجليزي جلف وبراغماتي وشهواني يدعى جيرالد ستون (أو جيرالد "الحجر" إذا شاء المرء متابعة الدلالة الرمزية للأسماء). ونحن هنا أمام عبء الجسد العربي المؤنث كما وصفت معضلاته آسيا جبار، وكما تحاول أهداف سويف رصد خضوعه لتقاطع الثقافات والعقائد والميول والتواريخ. لقد مثل سيف ماضي ذلك الماضي الذكوري التقليدي الذي اقترنت آسيا به ولم تتمكن من التصالح معه مرة واحدة. وما دام قد رفض ممارسة الجنس معها حين كانا خطيبين، أو انطلاقا من كونهما خطيبين على وجه الدقة، فإن جسد آسيا يستعصي وينكمش وتعجز عن ممارسة الجنس معه حين يتزوجان


وهكذا نجد أن آسيا تظل "زوجة عذراء" رغم أنها تحمل من سيف بطريقة غامضة وقبل سفرها إلى انجلترا، وتقرر الإجهاض لأن الجنين تخلق في سياق غير متكافيء، لا لشيء إلا لكي يثبت ما يشبه النتيجة القسرية الطبيعية لصيغة علاقة غير طبيعية. قرار آسيا هو ذهاب الى الحدود القصوى في تغريب الجسد في الصمت والفراغ، حتى حين ينتهي هذا الذهاب المأساوي الأقصى بالحزن على فقدان الطفل "طفلي، طفلي، إنها تشعر بوحشة بالغة، تشعر أنها فارغة، باردة في أغرار أحشائها (...) لكن قلبها يتألم أكثر. إنها تشعر بالأسى لأن الطفل المسكين يرقد الآن في كيس بلاستيكي، إنها تريده الآن" (ص 282)

ولا يفلح في تطويع جسد آسيا وإنهاء عذريتها سوى جيرالد ستون، ابن الغرب وسليل المستعمر الذي تصوره أهداف سويف على نحو بشع بالقياس إلى شخصية سيف ماضي، ولكنها لا تملك حجب حقه في امتلاك الجسد ما دام قد امتلك قسطا كافيا من التاريخ والثقافة. وبين أذكى أقسام الرواية ذلك المشهد الذي يسبق وقوع آسيا في إغواء جيرالد ستون، حين تهجس وهي تراقب رجلا انجليزيا نموذجيا: "بسبب إمبراطوريتك يا سيدي جاءت في الثلاثينيات عانس بريطانية في أواسط العمر، قادمة إلى القاهرة من مانشستر لتدرس الإنجليزية، ووقعت في غرامها طفلة فوضوية في الثانية عشرة من عمرها، وعاشت وتنفست الأدب الإنجليزي منذئذ، تلك الطفلة كانت أمي وهأنذا هنا. ليس في وسعك التنصل من مسؤولية وجودي هنا، قرب نهرك، اليوم" (ص 512)

تدرك آسيا أنها إنما ترتكب الزنا الصريح، وتقولها وهي تحول نفسها إلى استعارة وتتكيء على مرجعية التشخيص الروائي الأدبي ذاته أيام المراهقة: "لقد زنيت والتحقت بصف آنا وايما وانفصلت عن دوروثيا وماغي"، هي آسيا العُلما سليلة مصر والشرق الأوسط العاصف الموشك على حرب ثانية، والإسلام، والعائلة، التي تخاطب الامبراطورية وهي تذهب بنفسها إلى غزو جديد يطال جسدها هذه المرة وليس بلدها: "لم آت إليك لآخذ فقط، ولم آت فارغة اليدين، أنا أجلب معي شعرا عظيما مثل شعركم ولكن بلسان ثان، وأجلب العيون السوداء والبشرة الذهبية والشعر المجعد، وأجلب لكم الإسلام والأقصر والإسكندرية والعود والدف والبلح والأقمشة الحريرية وضياء الشمس والبخور والطرق الشهوانية..." (ص 512)

إنه صراع الهوية في أقسى صوره.. صراع حاد يصل إلى حد عجز آسيا وزوجها سيف ماضي عن ممارسة الجنس ونجاح الرجل الإنجليزي الجلف في اختراق الجانب الأكثر حميمية في حياة زوجين شرقيين عصريين ارستقراطيين، متورطين عميقا في معطيات الحضارة الغربية لأن الزوج مختص بعلوم الكمبيوتر والزوجة تعد أطروحة دكتوراة عن الاستعارة في الشعر الغربي
هزيمة آسيا الأنثى تمت على نحو سياسي وأيديولوجي، واستكملت دائرتها بهزيمة الجسد أمام المستعمر السابق، في أرضه وتحت سمائه
إخفاق الزوج الشرقي في فك رموز الجسد، ونجاح العشيق الغربي في اكتشاف أسرار الأنوثة الكامنة..كان سببا رئيسيا في الحملة العنيفة التي شنها البعض في العالم العربي على الروائية التي رشحت روايتها "خارطة الحب" ضمن قائمة التصفيات النهائية لجائزة "بوكر" الرفيعة المستوى في بريطانيا عام 1999..ربما يفسر هذا موقف أهداف سويف ـ الحاصلة علي الدكتوراه في لغويات الشعر من جامعة لانكستر ببريطانيا- من ترجمة "في عين الشمس" إلى اللغة العربية وقولها إن الترجمات التي عرضت عليها حتى الآن تفتقد "نكهة النص"

لقد ترنح كثيرون بسبب ضربة موجعة وجهتها لهم "آسيا العلما" حين وجدت في الرجل البريطاني عاشقا يعيد صياغة أنوثتها ويمنحها في لحظات الوصال الحميمة ما افتقدته من مشاعر وأحاسيس مع زوجها الشرقي..ورأى نقاد عرب أن نجاح الغربي في ترويض رغبات تلك المرأة الشرقية نوع من الاستلاب والاستسلام للغرب..حتى أن بعض الأقلام العربية رأت في خط سير الرواية وبطلتها انسحاقا أمام الغرب


مرة أخرى، يتحول الجسد إلى سيرة ذاتية، حتى دون تفكير أو استئذان..لأن الجنس هنا مصب، أما هاجس الرغبة فهو منبع تلك الأفكار اللاهثة فوق فراش اللذة
تابع القراءة

gravatar

هذيان المقهى

في الشارع الذي يمتدُ إلى آخر الكون، مثل بياض لوحة، يقفُ المقهى الذي أحسستُ أمامه بالظمأ إلى الحياة
والمرأةُ التي لا نهاية لساقيها تدعوني بابتسامةٍ براقةٍ إلى الدخول
في فمي وقتٌ ضائع..فأدخل
ألمحُ شاشة التليفزيون المضيئة التي لا يتابعها روادُ المقهى..لم يعد زجاجُ الشاشة جداراً يفصل بين الصورةِ والأجساد..خرجَ منه بشرٌ أعرفهم ويعرفونني..نظروا إلي كصورة في ألبوم قديم: حياة تشبه فيلماً تسجيلياً يمر كشريط، يهيمن على مشاهده لون الغبار..متآكلٌ مثل دُمى الطفولة
إنها الحياة..الزوجة الوحيدة التي نمنحها لقب العائلة
تجلبُ لي القهوة امرأةٌ يرتحل على وجهها قطيعٌ من الفراشاتِ الملونة باتجاه عين الشمس.. تنام على صدري كسرب سنونو أو قطرة ندى. لها نكهة فردوسِ جون ملتون المفقود. ترفع وجهها لتقول لي وهي تلومني في غضبٍ يشبه الرضى: "لو أنك كاذبٌ قليلاً، ومحتالٌ قليلاً..لو أنك..لو أنك"
لكن يا سيدتي لم يكن الشيطان زميلي على مقاعد الدراسة
تمسحُ على جبهتي وأنا مسترسلٌ في الاحتماءِ من الأخطاء الفادحة
تخلعُ المرأة الثلاثينية قميصها المزركش بدعوى الحر، وهي تخبرني عن زوجها الذي ماتَ في حادث تزلج في العام الأول بعد الهجرة..أراقبُ النهدين المُمعنين‏‏‏ في الاستدارةِ والتوثب‏‏‏..صدرُها الذي يتَّسع لكل المقهورين، ينتمي إلى أصابع الجراح أكثر مما شكلته يدُ الله
جنينُ النص يتحرك..أبحثُ عن ورقةٍ وقلم لأكتبَ عن تلك اللحظاتِ المختلسة، فلا أجد..لا بأس إذاً سأنقش الحروف على جسدي..المهم أن أحفظها في لوح لا يبلى إلا بموتي
سأكتبُ كثيراً، إن نساني الموت قليلاً
أكتبُ وأكتئب..وألتهب
يحتضنني صديقُ العمر ويبتسم قائلاً: "لم يتغير فيك شيء"، فأرد عليه بالقول: "وأنت تغيرت تماما"..تعلم فن النفوذ واحتقار الآخرين
حين تصبح رحالةً يجوبُ الآفاق، يمضي الأصدقاءُ متوارين كالصور الهاربة

نافورةُ المقهى يتوسطها نسرٌ نحاسي يحطُ على قاعدة من رخام، وهو لا ينظرُ بعينيه إلى أسفل، حيث خرير دمي الذي ينزُ مني يداعبُ حصى القاع.. تدلُ عليه كَشَّافَاتٌ مُتَوَهِّجَة
أبي ينقر على كتفي كطائرٍ ويهزني برفق قائلا: "قم معي"
أتذكرُ نشيجه عشية الجنازة..أنينه يُشبه نحيبَ بيوت تحتجُ على موتِنا المفاجيء..أحتضنه ليصبح أكبر أبنائي
وأمي، نعشُها يهبط تدريجياً من الطائرة..صوت الرافعة الآلية يطن في أذني، وأنا أحملُ في يدي الأوراق الرسمية البغيضة
أتساءلُ أمام رهبةِ المشهد..هل ستستيقظُ أمي الآن لتسقي نباتاتها التي تستلقي في وداعةٍ على أطراف شرفة المنزل؟
سأطلبُ في وصيتي أن يكون موتي لائقاً بقصائدي غير المنشورة وأفكاري المعلنة

في المدافن، تعانقني القريبة التي زادها الثوب الأسود فتنة، وتهمس في أذني مثل قطةٍ مبللة بالشهوة: "أوحشتني"، ثم تدس في يدي بخفةٍ ورقةً صغيرة تحوي رقم هاتفها
تهزُ النزوةَ النائمة في جسدي بلمسة واحدة.. يا لها من ساحرةٍ حقيقية تخبيء تحت ردائها كل النمور المرقطة
تدعوني فأتمنعُ..وأتمنى
أطفيء ببقايا كوبٍ أمامي بعضاً من حريق اشتعلَ في جوفي الفارغ..وحين يفيضُ، ترفضُ امتصاصه تلك الطاولة الرخامية، لتسيلَ آثاره مثل دماءٍ تهبطُ من التل
يأتيني صوتُ صديقي الشهم من بلاد العدم:"أرسلت لك باقي مستحقاتك"..ويتناهي إلى سمعي صوتُ صديقنا المشترك الذي يلوّحُ لي بيدٍ لا تُرى وهو يردد ضاحكاً جملتي المبتكرة "يا سلام..لو الناس تبطل كلام"
يقتربُ مني ساعي البريد، يوزعُ علي بطاقتين بريديتين من حوريةِ البحر..أعلقُ البطاقتين بدبوس على ملابسي كأنهما وسام، أو نيشان..حب
وحين نحبُ، تُولَدُ الحماقة
تتسلقُ رأسي رغبةُ سماعِ اسمها، وصوتِها: "اشتقتلك"أرفعُ سماعةَ الهاتف وأخبرها: الآن مثلاً، أريدك..وحين أنزع عنك حمالةَ الصدر سأضعها في جيبي كتذكار..لن تعود
تردُ قائلة: أنت تبللني أيها الشقي في أوقاتٍ لا مطرَ فيها، وأماكنَ بلا أنهار

البرازيلية التي تتصلُ بي بعد أربع سنواتٍ تصرخُ بصوتها المعجون من طفولةٍ وشهوةٍ: لقد انتصرنا على الماكينات الألمانية.. وغسلنا هزيمتنا أمام الديوك الفرنسية
لم تنس ثأرها الكروي..ولم أنس رائحتها..كرائحة شجر اللوز..كل هذا العبق‏‏‏
اللعنةُ على الذاكرة
أدخلُ حدائق البياض العفية بفرشاةٍ عابثة تعشقُ الألوان الزاهية وتنامُ في حضن البُني الدافيء..لون الشوكولا وبدايات الخريف
أرسمُ بخطوطٍ مرتبكة امرأةً تركض في اللوحة وتتشح بساتانٍ أسود مرير..وعند منتصف الليل أقول لها: سأدلككِ بزيتِ المتعة ورؤى جنون الوصل والتجليات، كي تستعصي مفاتيح مدينتك على غيري
فتاة البلطيق التي تجلسُ بجوار النافذة..صامتة، إلا حين تزور مدينة اللذة
تلتفُ حولي كحبلِ مشنقة، وتصهلُ كجوادٍ جامح: نارٌ، جسدي وقودُها
نسقطُ في هذه الهاويةِ المُدوّخة التي لا قرارَ لها



أقتربُ من نافذة ابنة التاسعة عشرة وأطلُ على الميناء الذي تحتله السفن بأعلامها وراياتها الغامضة
أرى الناسَ غائبين عن الوعي،‏‏‏ من نافذةٍ مفتوحةٍ على الغيب..فأوقنُ أن الوقت مُحقٌ في الهرب
في الأيام المتشابهة،‏‏‏ تكونُ الشمسُ حكماً محايداً يغضب الجميع
أجدُ نفسي في سيارة تعبر الجسر المعلق فوق الماء..أفقٌ أسود ورائحة سجائر الركاب تلتصق بملابسي..تمارس الجنس مع أشباحها، تلك التي تجلس بجواري وترى الزمنَ في سيجارتها. أنظرُ إلى الجهةِ البعيدة ويحيرني السؤال: لماذا حين نسيرُ بسرعةٍ إلى الأمام تهربُ منا قوافلُ الأشجار إلى الوراء؟
يستفزهم السؤال فيقذفون بي خارجاً..لأتذوقَ طعم التراب والأسفلت في بلعومي
وفي أعماق المحيط تلتمعُ لؤلؤة..ألتقطها وأضعها في جيبي ثم أسير وراء طيف كلمات سيد حجاب
"أنا قلبي ملان جدعنة وحنان..وأبان ساهي سهتان سهيان..إنما عقلي للعدل..ميزان..أنا فلتة..إنما مش فلتان"
أهّبُ واقفاً كسنديانة. أنفضُ ثيابي وأجدُني في دولة الاغتراب..متكئاً على الرصيف وحدي، كسائحٍ جاهل فاته القطار الأخير إلى مدينةٍ أثرية

تلقي السماءُ بعباءتها السوداء اللامعة على جسد المدينة العارية
في مساءٍ منفلتٍ من قبضة يومٍ موحش، تهرعُ النافذة إلى عيني
أطالعُ العماراتِ الباهتةَ الواهنةَ لدرجةِ الشفقة، قبل أن تسيلَ الصورُ مثل غناءِ عصفور:

الجنازةُ تشقُّ خطوَتَها في الزحامِ، وتضْبطُ إيقاعَها حسْبَ أنظمةِ السيرِ واللافتات
العسكريُ المتقاعدُ يستيقظُ عند الفجر ويحلقُ لحيته كأنه لم يزل جنديّاً
المراهقةُ تحرقُ أجسادِ الرجالِ المعلقةَ في ذاكرتِها
الأطفالُ يمضون في الصباح نحو الرجولةِ مبكراً
بائعاتُ الملابسِ يتكلّمن مع الزبائن ويفكّرن في عشاقهن
الجارةُ تعلنُ موتَ زوجها، وتركلُ نومَ أهلِ الحي بعيداً
الجوعى الذين أعياهم الوقوف على جانبي الطريق، يهتفون لموكب الملك بسياراته الفارهة: "عاش الملك عاش"
عِشْ أنت وحدك، ودعنا نموت!
كم نتعذبُ قبل أن تطلَ علينا شمسٌ مختالةُ، مثل فتاةٍ وحيدةٍ بين صفٍ من الجنود
أتوقُ إلى مغطسٍ كبير بحجمِ الكون، أغرقُ فيه حتى منابتِ شعري، علَّني أجدُ تحت الماء حورية بحرٍ لا ترتدي سوى جمالها

أخبىءُ أغنيات فيروز ومحمد منير وعايدة الأيوبي في جيبِ قميصي حين تقتربُ مني الكردية، التي تروي لي وهي ترقصُ كيف هربت عبر الجبال من جحيم الموت، قبل أن تستقرَ هنا وتتحولَ إلى عشبٍ سهلٍ يطؤه الجميع
تطلبُ مساعدتي لاقتلاع غرس النرجس من المتنزه العام الذي تمارسُ فيه العصافير طقوس الاحتفال..تقتربُ مني بشعرها القصير فأقولُ لها بمكرٍ: ما هكذا نقتلعُ النرجس

تُنْهِكُنَا العلاقات العابرة في حياةٍ استنزفتها جولاتُ التسوق والضحكاتُ المفتعلة والملامحُ المستعارة
الكهلُ الذي ترمّل لتوه، يجيدُ قراءةَ الأفكار. يرفعُ قبعته محيياً، ثم يقول: لا قُبلة تذهبُ هباءً
ليتني أعودُ طفلاً بريئاً يقطف عنبَ المشيئة وتفاحَ المسرة



يلكزُني أخي مشيراً بطرف عينه إلى امرأة تتفحصنا بنظراتها..أفاتحه في فكرةٍ مجنونة: تخيل لو أن الإنسان لديه ذيل..ألن يكون هذا أفضل في العلاقةِ بين الرجل والمرأة؟..وبدلاً من حيرةِ الرجلِ أو المرأة عما إذا كانت هناك مشاعر بين هذا وذاك، سواء في البيت أو المطعم أو حتى موقف الحافلات..سنعرفُ من الذيل..إن اهتز ذيله فهذا معناه الحب والفرح لرؤياك ورغبته فيك. هكذا تنتهي حيرةُ البشر..يحبني، لا يحبني..أو تحبني، لم تعد تحبني

وأنا حائرٌ..اَهٍ لو أستطيع الرحيل إلى مرافيء رفضِكِ، علَني أكتشف معنى جملة "دعني أفكر"..ليس لي سوى أرجوحتِكِ..بَعدكِ ستحلقُ طائراتي الورقية في سماءٍ تقودُ إلى الهاوية

يقترحُ عليَ ناشِرُ الكتب الصعود إلى الطابق الثاني من المقهى لنتحادث في هدوء..المصعدُ مزدحمٌ، والأنفاسُ خانقة، لكنك تتبادلُ الابتساماتِ المغتصَبة كعادةِ الناس في المصاعد..ابتسامة كأنها درعٌ واقية من فضولِ الآخرين ورهابِ الأماكن الضيقة
يغازلُ الناشرُ الذاتَ المتضخمة، قبل أن يفاوضَني على نشرِ كتابٍ بالمجان: حياةٌ أخرى مهداة للضجر‏‏‏‏‏
أسمعُ صوتَ اشتعالِ عودِ كبريتٍ ورائي. يتسربُ التبغُ بقوةٍ إلى أنفي، ويزدادَ توترُ من ينفثُ دخانه في ظهري
المراهقةُ التي اصطدتُ غيمتها تحرق خشب السرير، وتتلوى بكاملِ مُشْمُشِها مثل مقطوعةٍ مسها الناي، قائلة: "إنني أموت".. تتذوق عطرها السائل وتجيب: "لكي تولدي من جديد عليكِ أولاً أن تموتي"
يحرضُني الخيالُ على الطيران
أصابعي تندسُ بين الأغطيةِ والمفارش لتغرقَ في فطيرتِكِ المشتهاة، وتنسحبُ مع النوارس مع استيقاظ الفجر عن عظامكِ التي نخرتْها النشوة
عند تلك النقطة التي تذوبُ في رحمِ الغياب، يتثاءبُ الوقت..كما الأفكارُ التي تؤرقنا وتختطفُ النومَ من عيونِنا
على السُلم الذي بنيتُه لأصعد، يهتفُ بي بول إيلوار "لا أجمل من صباحٍ يسقط فيه الخونة"..أعترفُ له بأنني فشلتُ في قصقصةِ أحقادهم، فنهشوا قلبي مثل مشهدٍ مسروقٍ من قناة "ديسكفري" عن عالم الحيوان
يضربُ الشاعر محمد عفيفي مطر كفاً بكف وهو ينشدُ متسائلاً: "هل رجلٌ وضربته تجيء من الوراء؟!"
صديقي الأديب الذي تفوحُ من فمه رائحةُ القبلاتِ الطائشة، يرشقُ الحياةَ بنظرةٍ باردةٍ وهو يسألني: متى تعود؟..نسخةٌ مهداة من روايتي الأخيرة ترقد على الرف..في انتظارك
ربما ستنتظرُ طويلاً.. فأوطاننا هي الكرةُ التي لم تحرز هدفاً واحداً في مرمى أحلامنا
طيورُ الزّينةِ تَداعِبُ مخيلتي بلطْفٍ حين تدخلُ المقهى أستاذةٌ جامعية.. يبللُها المطرُ لكنها تتظاهرُ بالثبات..الشارةُ التي على ثوبها المحتشم ليست سوى رقمها في سجن الوحدة الموحشة
تبدو هاربةً باختيارها من جنةِ القيم العائلية. روحُها تتلعثمُ في غيابِ الماء، وصدرُها ‏العارمُ يفيضُ عن حاجةِ أُمةٍ من المراهقين
سيلتقطُها بعد قليل مغامرٌ خبُرَ دروبَ الهوى والجسد، يقرأ لها الجزءَ الأخير من "أزهار الشرّ"‏‏‏ ويحدثها عن نيتشه..يلفُ يده حول خاصرتها في المتاحف، ويشرحُ لها اللوحات الفنية التي لا يعرف الناس كيف ينظرون إليها، لتتعثر في كَعبِها العالي..قبل أن يتمدد فوقها، وهي تقسم له للمرة الألف بأنها مرتها الأولى
أغمض عينيَّ حتى لا أرى، ثم أسائل نفسي: حتى لو أغمضتُ عينيَّ، هل تعود تلك الوقائعُ من حيث أتت؟
فلأفتحهما إذاً على اتساعهما، ففي اليقظةٍ هروبٌ دائم

تتذكر جينيفر تيلي في فيلم Getaway
امرأةٌ تلهو ببراءة على سرير يشاركها فيه قاتلٌ مأجور
قارىء نشرة الأخبار يرتدي بدلةً فاخرةً وهو يحذر المشاهدين من انفلونزا الطائفية والفقر.. خطرهما منتشرٌ في الهواء، واحتمالات الإصابة بهما تزداد هذا الصيف
أهربُ مِنْ نشرةِ "الأخطارِ"..كلَمَتنا عن الخطر، لكنها لم تحدثنا عن سبل الوقاية
الزبائن ناموا على الطاولات، وسط أعواد الثقاب الرطبة، وحبات الزيتون في الصحون المشاعة..ووحدتي طوال الليل، تجعلني آيلاً للبكاء على بطن مصقول ناعم كالمخمل
قطٌ يمسّح ذيله على ساق المرأة الجالسة لوحدها إلى الطاولة، متوهماً أنها أحد أرجُل المائدة الأربع، مُستدِرّاً حنانها.. ليأخذها ملمس ذيل القط إلى أزمانٍ بعيدة
على طاولةٍ مجاورة، يهمهم جنودٌ هاربون من أوامرِ حربٍ مقبلة
فجأةً، تنتفضُ الطاولاتُ لتقودَ مظاهرةً ضد لاعبي الورق
أمسحُ الأركان المهجورة بنظراتي، فألاحظ أن إدارة المقهى تعلق صور الحزن
اللعين على الجدران. الخبرُ الجيد أن صورتي هربت من الإطار
أستغربُ وجودي في المكان
إشارات يدي إلى النادل كانت تريدُ أن تحركَ الفراشاتِ المرسومةَ على الحائط
أطلبُ منه فاتورة الحساب..ينظرُ إلي بدهشةٍ ويقولُ بصوتٍ مرتبك: "لكنك يا سيدي لم تطلب شيئاً بعد"..أفركُ عيني، لأكتشف أنني لم آتِ إلى هنا أصلاً، فأقرر الانصراف
في الخارج، كانت الدنيا تغلقُ أبوابها وشبابيكها في وجه الشوارع التي تُرِكت مفتوحة على امتداد الأرق الذي لم يفارقني
والأبراجُ الشاهقة الارتفاع تتسلى بالتلصص على المارة، مثل رجلٍ يكتفي بالتلصص على جسد امرأةٍ يشعر بعجزه عن مواعدتها..أو إشباعها
أرقب وجوه ‏المارة مبتلةً بالندى، تهرب من دخان عوادم السيارات
عاطلون يقرأون الجرائد الرديئة بالمجان، ونساء يتعثرن بنظرات العابرين، والأفق عجوز يغفو فوق الرّصيف
النَّهارُ يوزِّعُ الأدوار ببراعة فائقة على البشر
أسيرُ، فلا تعبأ الطريق بلونِ حذائي
أرى توم هانكس يجري بلا هدف‏‏ في "فورست غمب" ليتخلص من عبء الماضي.. وأحمد زكي يعتلي في "الهروب" سطح القطار المندفع باحثاً عن الحرية مع الطيور

الآن أدرِكُ أنني ما زلتُ جديراً بالحياة

تابع القراءة

gravatar

الموت الغامض في لندن 4: تصفية حسابات




الخامس من يوليو تموز عام 1977

يوم ثلاثاء عادي، لم يكن ينذر بأي جديد في العاصمة البريطانية لندن..لولا البلاغ الذي تلقته شرطة اسكتلنديارد يفيد بالعثور على جثة في شقـّة مؤجـّرة مفروشة في شارع هارلي ستريت في لندن
وعندما وصلت الشرطة إلى موقع الحادث وجدت الشقة مقلوبة رأسا على عقب، وكانت رأس القتيل مهشمة، والدماء تغطي وجهه، ومخـّه إلى جواره، على البلاط

كانت الجثة لرجل يرتدي البدلة كاملة ومازالت في يده حقيبة.. تم فتحها فوجدوا فيها مليون جنيه استرليني عدا ونقدا
فشل أبرع ضباط اسكتلنديارد في التعرّف على القاتل..لكنهم توصلوا إلى هوية القتيل
لم يكن سوى العقيد علي شفيق مدير مكتب نائب الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة المصرية سابقا المشير عبد الحكيم عامر

ويبدو أنه كان من الصعب الإلقاء بالضحية من الشباك أو الشرفة، كما أنه كان ثقيل الوزن شديد البدانة، فاكتفى الجاني ـ أو الجناة- بضربه على رأسه بآلة حادة فجرت شرايين النزيف حتى فارق الحياة‏.. وظل ملقى على أرض الحجرة في الشقة المفروشة لمدة عشرة أيام
ولم يتم اكتشاف الجريمة إلا بعد أن فاحت رائحة عفنة من شقته في شارع هارلي المتفرع من شارع أكسفورد‏،‏ ويعرف ذلك الشارع الجانبي بشارع الأطباء‏،‏ ففيه عيادات مشاهير الأطباء البريطانيين في مختلف التخصصات

‏تبين من التحقيقات أن الجريمة وقعت ليلا‏، في وقت كانت فيه حفلة صاخبة في أكثر من شقة بالعمارة‏.‏ وأغلب الظن أن هذه الضجة كانت متعمدة كي لا يسمع أحد صراخه وهو يموت بتلك الطريقة البشعة‏
المبلغ المالي الضخم الذي عثروا عليه بجوار القتيل، بعث رسالة واضحة للجميع، مفادها أن هدف القتل لم يكن السرقة‏..‏ كانت مجرد تصفية حسابات داخلية في إحدى شبكات السلاح‏..‏ كأنهم يقولون في رسالة دموية:‏ إن المال لا يهم‏..‏ المهم عدم تجاوز الخطوط الحمراء لاقتناص المزيد من المال والصفقات على حساب أحد الكبار في سوق تجارة الموت..وهو ما فعله علي شفيق‏..‏فقد باع سرا صفقة سلاح لفصيل من الفصائل اللبنانية وتصور أن لا أحد سيعرف بما فعل‏،‏ وأنه سينجو بفعلته‏،‏ لكن‏‏ صدرت الأوامر لاثنين من أقرب أصدقائه في الشبكة أن يذهبا إليه ويتناولا كأسا ثم يتخلصا منه‏..‏وهو ما كان‏

وبالرغم من أن الجريمة وقعت على أرض بريطانية‏، فإن شرطة اسكتلنديارد لم تجد في الجريمة ما يغري بمواصلة التحقيق فيها‏..‏فأغلقت الملف وقيدتها ضد مجهول
ومليون جنيه استرليني رقم فلكي..على الأقل بمقاييس ذلك الزمان

دعونا نتذكر أن رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي باشا بعد أن قتله عبدالمجيد أحمد حسن عند مصعد وزارة الداخلية صباح يوم الثلاثاء 28 ديسمبر كانون أول عام 1948..وجدوا في جيوبه ثلاثة جنيهات وخمسة وعشرين قرشاً سلموها لزوجته
الفارق الوحيد هنا هو أن ورثة علي شفيق لم يتسلموا أي شيء من المال الذي عثر عليه بجوار الجثة

وعلي شفيق واحد من الشخصيات السياسية التي كانت مطلعة على العديد من الملفات والأسرار أيام عمله كمدير لمكتب‮ المشير‮ عبد الحكيم عامر‬، والسيرة الذاتية لهذا الرجل تحمل في طياتها الكثير والكثير من أسرار أهم فترة في تاريخ مصر منذ قيام الثورة في يوليو تموز 1952 وحتى بعد حرب يونيو حزيران 1967
لقد شهدت مصر في مطلع ستينيات القرن الماضي انقساما خطيرا في القيادة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة.. ومنذ عام 1962 كانت الغلبة للمؤسسة العسكرية.. وقيل وقتها إن سلاح الطيران مع جمال عبد الناصر والجيش كله مع عبد الحكيم عامر
وفي ذروة هذا الصراع جاء علي شفيق كاتم أسرار المشير عبد الحكيم عامر، وحشد المدفعية حول منزل عبد الناصر وقال: أي طائرة ستقلع من المطار سنضرب بالمدفعية بيت جمال عبد الناصر ..وهذا يوضح عمق الصراع بين الصديقين اللذين انتهى بهما الأمر..كل في طريق
إلى هذا الحد بلغ نفوذ علي شفيق..وإلى هذه الدرجة انحاز في الصراع على كعكة السلطة في مصر
وحين تتورط في اللعبة عليك أن تدفع الثمن غاليا حين تخسر الرهان

وبعد هزيمة 1967، أمر الرئيس عبد الناصر باعتقال كل دفعة 48 - دفعة شمس بدران وعلي شفيق- وتقديمهم جميعا للمحاكمة
كان علي شفيق مشغولا بالحياة الخاصة واللهو والملذات أكثر من اهتمامه بالجيش، وفي منتصف ستينيات القرن الماضي تزوج من زكية فوزي محمود التي يعرفها الجمهور باسمها الفني: مها صبري

كانت مها صبري - صاحبة أغنيات "ما تزوقيني يا ماما" و"امسكوا الخشب" و"وحشني كلامك"- تمتاز بجمال أنثوي من النوع الذي يدير الرؤوس، وربما يتذكرها البعض في دور الراقصة الدلوعة في فيلمي "بين القصرين" و"السكرية" المأخوذين عن ثلاثية نجيب محفوظ واللذين أخرجهما حسن الإمام للسينما في عامي 1964 و1973 ..كانت زيجات مها الثلاث السابقة قد انتهت بالفشل، فقررت التركيز على طموحها الفني، ورعاية ثمار زيجاتها، وهم الأبناء مصطفى ونجوى وفاتن
غير أن القدر وضع في طريقها حبا جديدا
فقد تعرف عليها علي شفيق في ذكرى ميلاد الفنان أحمد رمزي - الذي كان وقتها متزوجاً من صديقتها الراقصة نجوى فؤاد- في ملهى الأوبرج بالهرم.. وهناك اشتعلت شرارة الحب بين الضابط - وهو في الأصل من أقارب الفنان أحمد رمزي- وقد كان شديد الإعجاب بها ويتلهف على التعرف عليها
وبسرعة توطدت العلاقة بينهما وتحولت إلى قصة حب غامرة لم تكن تخفى على أحد مع أن الضابط المذكور كان متزوجا آنذاك من ابنة الفنان حسين صدقي. وعندما علم المشير عبد الحكيم نصحه بالابتعاد عنها، كما ابتعدت مها صبري عنه خوفاً على مستقبله، ولكنه لم يستطع أن يبتعد عنها طويلاً وسرعان ما عاد إليها وتزوجها بالفعل مضحياً بزوجته وبيته وعمله عندما خيره المشير بين الاستمرار في منصبه المهم وبين مها صبري
أنجبت مها صبري منه ابنها الصغير أحمد واعتزلت أيضاً الفن من أجله لعدة سنوات ومنعت أغنياتها من الإذاعة المصرية
وفي عام 1977 تلقت مها صبري عرضا مغريا للغناء في مقهى الإمبريس في لندن، في الوقت الذي برز فيه اسم علي شفيق في مجال التجارة ومن بينها تجارة السلاح..واستمر زواجهما ساريا إلى أن جرى قتله في إحدى عمارات لندن.. وبعد صراع مع المرض إثر إصابتها بقرحة المعدة استمر قرابة أربع سنوات عانت في آخرها من الغيبوبة الكبدية توفيت مها صبري في 16 ديسمبر كانون أول عام 1989 ‏

بقيت جريمة قتل علي شفيق لغزا في الأوراق الرسمية التي تحتفظ بها شرطة لندن..شأنها شأن ملابسات وفاة أشرف مروان وسعاد حسني والليثي ناصف

الموت الذي يقذف بالمصريين من الشرفات ليس كل ما يربط بين القاهرة ولندن

فقد بقيت المدينة مقصد ومقر إقامة أسماء كثيرة وكبيرة حتى يومنا هذا..من "المايسترو" صالح سليم رئيس النادي الأهلي المصري طوال نحو عشرين عاما إلى أن توفي في السادس من مايو أيار عام 2002.. مرورا بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذي أجريت له هناك العملية الجراحية التي قضت عليه رغم أنه كان يصرخ بأعلى صوته: لا أريد إجراء هذه العملية..ووصولا إلى العقيد شمس بدران الذي كان وزيرا للحربية ثم انتهى به الأمر تاجرا في صناعة الجُبْن

وفي عاصمة الضباب عمل جمال مبارك نجل الرئيس المصري لفترة من الزمن في القطاع المالي والمصرفي.. وإلى لندن كان يسافر رئيس حزب الغد المعارض أيمن نور لحضور المؤتمر السنوي لحزب العمال.. وفي لندن تحول عمرو خالد من داعية محلي إلى واحد ضمن قائمة أهم مئة شخصية تأثيرا في العالم والتي أعلنتها مجلة تايم الأمريكية في عام 2007


وفي لندن أيضاً دارت تفاصيل القضية الغريبة التي وقع في حبائلها الدكتور ممدوح حمزة -الذي يتمتع بسمعة دولية كمهندس حاز عددا من الجوائز الدولية منها تسع جوائز لبنائه مكتبة الإسكندرية- بعد توجيه اتهامات مريبة له‏،‏ ‏تتعلق بالتحريض على قتل أربعة مسؤولين مصريين‏..قبل أن يخرج بريئاً بعد سنوات من السجن والمعاناة دون أن نفهم لماذا جرى ما جرى

غريب أمر تلك العلاقة بين القاهرة ولندن

علاقة تبدو مثل الزواج الكاثوليكي..لا تنتهي عادة إلا بالموت

تابع القراءة

gravatar

الموت الغامض في لندن 3: زوزو تتحدى الجاذبية







إلى روح صديقتي المثقفة أروى صالح


أتذكرك الآن.. و"المبتسرون" من حولي
..................









"إن لم أجد حلما لأحلمه


سأطلق طلقتي وأموت


مثل ذبابة زرقاء في هذا الظلام

وبلا شهية"
محمود درويش - "هي أغنية..هي أغنية"




الساعة التاسعة وبضع دقائق بتوقيت غرينتش من مساء يوم الخميس الموافق 21 يونيو حزيران عام ألفين وواحد .. في ميدافيل غربي العاصمة البريطانية لندن.. بالتحديد عند بناية "ستيوارت تاور" والتي اشتهرت خلال السنوات الأخيرة بأنها "برج الانتحار" لما شهدته من حوادث انتحار عديدة



ليل لندن الكئيب يخيم على المكان..أنوار قليلة مضاءة في البناية الشهيرة من بينها ذلك الضوء المنبعث من شقة بالطابق السادس .. الهدوء يلف الأرجاء وكأنه ينذر بوقوع شيء ما


في هذه الأثناء شاهد صبي مغربي الجنسية في السادسة من العمر يسكن في العمارة المقابلة لبناية "ستيوارت تاور" شخصا ما يسقط من شرفة الشقة رقم (6A) بالطابق السادس

يجري الصبي الصغير - ويدعى أحمد- مذعورا يلوذ بأحضان أمه ويحكي لها عما شاهده منذ لحظة فتسرع الأم إلى الهاتف وتتصل بالشرطة الانجليزية مؤكدة رواية ابنها الصغير


لحظات ويصل رجال الشرطة إلى مكان الحادث وبالفعل يعثرون على جثة سيدة في نهاية عقدها السادس ملقاة على أرض الشارع

وقبل أن يبدأ رجال الشرطة عملهم في جمع التحريات حول الحادث تصل سيدة أخرى تدعى نادية يسري إلى المكان..وبعد قليل تصرخ وهي في حالة انهيار: سعاد..سعاد

بعد قليل اكتشفت الشرطة البريطانية أن الجثة هي لفنانة عربية شهيرة اسمها: سعاد حسني



تم نقل الجثة إلى مشرحة مستشفى وستمنستر للكشف عليها وبيان ما بها من إصابات.. وأجرى رجال الشرطة البريطانية تحقيقات سريعة حول ملابسات الحادث وتم التحفظ على الجثة وإبلاغ السفارة المصرية بالحادث


وظهر يوم الجمعة الموافق 22 يونيو طار الخبر إلى الناس.. قطع التليفزيون المصري برامجه وأعلن للملايين من عشاق سندريلا الشاشة العربية أن فنانتهم المحبوبة قد ماتت في لندن..ولم تجرؤ سوى صحيفة واحدة هي "الوفد" على نشر العنوان الصادم: انتحار سعاد حسني في لندن



صرح البوليس البريطاني بالإفراج عن جثمان سعاد حسني بعد إحالة القضية إلى محكمة وستمنستر لقول الكلمة النهائية.. وسافر عز الدين شقيق الفنانة الراحلة بصحبة ابنه أحمد إلى لندن لإعادة جثمان السندريلا إلى القاهرة. وكان موعد الوصول إلى مطار القاهرة بتاريخ الخميس الموافق 28 يونيو حزيران 2001 حيث استقبل الفنانون نادية يسري بالاستهجان واندفع بعضهم نحوها ووجهوا لها اتهاما بأنها وراء قتل سعاد حسني أو أنها على أقل تقدير تعرف من وراء الجريمة


لم يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما قدم عدد من الفنانين والفنانات ومعهم شقيق سعاد حسني بلاغا لنيابة النزهة يتهمون فيه نادية يسري بإخفاء معلومات عن حادث موت السندريلا. وبدأت نيابة النزهة التحقيق في البلاغ واستدعت نادية يسري لسؤالها فيما هو منسوب اليها..لكن نادية أكدت أن سعاد حسني انتحرت، وقررت نادية أن هؤلاء الذين يذرفون الدموع علي رحيل سعاد هم أول من تخلوا عنها في محنة مرضها وغربتها

أخلت النيابة سبيل نادية يسري بلا ضمان، في حين كان الآلاف من عشاق السندريلا يودعونها في جنازة مهيبة



ولم يكن مواراة جثمان سعاد حسني التراب يعني نهاية الحكاية.. بل على العكس، ظل لغز موتها يحير الجميع.. الكل يحاول جاهدا معرفة الحقيقة الغائبة.. ويحاول الإجابة عن السؤال: كيف ماتت سعاد حسني؟


البوليس البريطاني أعلن بعد اطلاعه على تقرير الطبيب الشرعي أن سعاد قد سقطت من الشرفة، وحلل البعض ذلك بأنها فقدت توازنها بسبب زيادة وزنها أو العقاقير. وأعلنت محكمة الأدلة الجنائية البريطانية إقفال قضية وفاة سعاد، إذ أكدت التحقيقات وخلصت إلى نتيجة مفادها أن "الوفاة وقعت بسبب حادث انتحار"


وقبل أن يفيق عشاق سعاد حسني من صدمتهم راح الكثيرون يرسمون السيناريو تلو الآخر لحادث موت السندريلا.. هناك من رأى أن سعاد حسني انتحرت بعد يأسها من الشفاء، وإصابتها باكتئاب بعد ما نشرته عنها الصحف المصرية بأنها فقدت جمالها ورونقها وأصبحت تعيش حياة بائسة في الغربة

لقد بكت سعاد كثيرا عندما قرأت المقال الذي كتبته عنها الصحفية مديحة عزت‏ في مجلة "روز اليوسف" وقالت فيه إن سعاد حسني ليس بها أي مرض عضوي، لكن بعد زيادة وزنها إلى 100 كيلوغرام وتدهور حالتها النفسية أصبحت غير مسؤولة عن تصرفاتها..امرأة ضائعة، تأكل بطريقة غير حضارية، حتى أن صاحبة البيت التي دعتها لم تتحمل استضافتها.. كما أنها تتسول الحياة بعد أن ينفد المبلغ الذي يقدمه لها أحد أمراء الدول الشقيقة، وتأكل من صفائح القمامة في شوارع لندن



وسيرة الفنانة سعاد حسني توحي بأنها دخلت في أزمة مع صورتها في المرآة، فهي ترفض الاعتراف بمتغيرات الزمن، وهذه الأزمة النفسية يعرفها المشتغلون بعلم النفس والطب النفسي، فلم يكن سهلا على "السندريلا" تقبل واقعها الجديد، وقد تكالب عليها المرض والغربة وضيق ذات اليد


غير أن آخرين رأوا أن بطلة فيلم "خلي بالك من زوزو" بمرحها المعتاد لا يمكن أن تكون انتحرت، ورجحوا أن يكون توازنها اختل فسقطت من شرفة الشقة ولقيت مصرعها..وكان أصحاب هذا الرأي ممن يدعون أنهم على مقربة من سعاد ويعرفون كم هي محبة للحياة ولا يمكن لها أن تفكر في وضع نهايتها بيدها



وكان هناك رأي ثالث يرفض الرأيين السابقين ويؤكد أن سندريلا الشاشة العربية لم تنتحر ولم يختل توازنها وسقطت من الشرفة، وإنما تعرضت لجريمة مدبرة للتخلص منها بإلقائها من شرفة الشقة. وراح أصحاب هذا الرأي إلى ماهو أبعد من ذلك ، من أن صديقتها نادية يسري تعرف تفاصيل المؤامرة وشاركت فيها



حضرت سعاد إلى لندن بتاريخ الأربعاء 16 يوليو تموز 1997 وكانت تعاني من مرض الاكتئاب منذ أكثر من 15 عاما لأسباب متعددة، منها عدم نجاح آخر فيلمين لها هما "الدرجة الثالثة" و"الراعي والنساء".. وقبلها فقدت صلاح جاهين الأب الروحي لها لحرمانها من حنان الأب محمد حسني البابا (وهو ابن المطرب السوري حسني البابا، وشقيقه الممثل الكوميدي أنور البابا الذي اشتهر في الإذاعة اللبنانية باسم شخصية نسائية وهو شخصية "أم كامل") . فإذا كان عبدالرحمن الخميسي قدمها للسينما - حينما رشحها للمخرج هنري بركات عام 1958 لتقديم شخصية "نعيمة" في فيلم "حسن نعيمة" وعهد إلى الممثل إبراهيم سعفان بتعليمها القراءة والكتابة وإلى إنعام سالوسة بتعليمها التمثيل والإلقاء السليم - فإن صلاح جاهين كان بنك الإرشاد والمستشار الأول في حياتها







كانت سعاد تعاني أيضا من تآكل فقرتين بالعمود الفقري، بعد أن أصيبت بشرخ في الفقرتين الأوليين للعمود الفقري عندما صممت على القيام بنفسها بدور لاعبة أكروبات في السيرك تقفز وتسير على الحبال في فيلم "المتوحشة" . لقد أجرى لها البروفيسور رينيه لوي عملية في فرنسا في مستشفى "دي لا كونسيبسيون" عام ألف وتسعمئة واثنين وتسعين وكانت نتائجها جيدة، لكن بعد فترة بدأت الصفيحة المثبتة في الفقرتين في الالتواء أيضا المسامير التي كانت تربطها، وكانت نتيجتها آلاما مبرحة لدرجة أنها لم تكن تستطيع المشي أو الجلوس مدة طويلة


بدأت الآلام تتزايد عندما مثلت "الراعي والنساء"، وتحاملت على نفسها كي لا تحرج زوجها السابق علي بدرخان مخرج ومنتج الفيلم الذي لم تتقاض عنه أجرا. أيضا كانت سعاد تعاني من أسنانها، إضافة إلى مشكلة الوجه فقد أصيبت بشلل فيروسي في العصب السابع وأثر ذلك على حالتها النفسية..أضف إلى ذلك مسألة الوزن الزائد وحاجتها لنظام غذائي صحي على يد متخصصين

أما المشكلة الكبرى كما تقول أختها جنجاه فقد كانت رحلة العلاج على نفقة الدولة. لقد استمر العلاج عاما وخمسة شهور، وحين تولى د. عاطف عبيد رئاسة الوزراء ألغى قرار العلاج بحجة أنها يمكن أن تعالج في مصر. وكان الأطباء قد نصحوا سعاد عام 1997 بأن تعالج في الخارج فقررت الذهاب إلى لندن.. وعرضت عليها صفاء أبو السعود وزوجها الشيخ صالح كامل علاجها في الخارج فرفضت وقالت إن معها ما يكفيها




كان من الضروري إجراء عمليتين لسعاد: جراحة تشوهات في العمود الفقري لنزع اللوحة المعدنية والمسامير من ظهرها ولكن بعد إنقاص وزنها، إضافة إلى العلاج من الشلل في الوجه.. لكن قرار د. عبيد جاء بالرفض. وأرسلت سعاد إلى رئيس الوزراء المصري تقريرا بحالتها الصحية لكن الخطاب لم يغير من القرار


وكان آخر قرار من الحكومة المصرية بشأن سعاد حسني بتاريخ يوم السبت الموافق 23 يونيو حزيران عام 2001 والذي ينص على تحمل الدولة نفقات تجهيز ونقل جثمان الفنانة الراحلة من لندن إلى القاهرة


وحينما قدمت سعاد إلى بريطانيا ذهبت لتسكن مع صديقة لها في مقاطعة كنت..ولتتمكن من المواظبة على العلاج كان يجب أن تسكن في لندن، فوجدت حجرة مؤقتة بحمام فى بيت الطالبات المسمى لي آبي في منطقة كرومويل لفترة الصيف فقط .. ثم أمضت في فندق إليزابيث في لندن حوالي ستة أشهر. وبعدها استأجرت شقة متواضعة في حي كينسنغتون بمبلغ 800 جنيه استرليني في الشهر..كانت شقة تتكون في بناية أمام مستشفى كرومويل الذي تذهب إليه من وقت لآخر لمراجعة الأطباء. والبناية تضم عددا من الشقق يمتلكها رجل أعمال عراقي يدعى فيصل علي


استمر الوضع على هذا المنوال لأكثر من ثلاث سنوات، تعرفت سعاد خلالها على الأطباء الذين سيعالجونها وبعض الشخصيات المصرية الأخرى. هناك من حاول احتواءها، وأيضا من أساء إليها واستغلها.. بل إن أحد المسؤولين دعاها إلى حفل عشاء ودعا الكثيرين لكي يروا ما وصلت إليه سعاد حسني


في تلك الفترة برز طبيبان كصديقين في حياة سعاد وقدما لها المساعدة قدر الإمكان



فقد أجرى الدكتور هشام العيسوي عمليات جراحية لزرع أسنانها على مدى عامين، حيث خلع كل أسنانها وعالج اللثة، وأجرى ترقيع عظام وزرع 22 دعامة للأسنان. وتولى طبيب التخدير الدكتور عصام عبد الصمد مهمة تخدير سعاد في هذه العمليات ولم يتقاض أجرا، وانتهى العلاج قبل وفاتها بأسبوعين
لم يكن د. عصام عبدالصمد يعرف عن سعاد سوى أنها ممثلة مشهورة، ولم ير لها أي فيلم لأنه ترك مصر منذ 33 عاما



تطورت صداقة سعاد بالدكتور عصام فأصبحت أيضا صديقة لعائلته: زوجته الانجليزية جويس وأولاده شريف وسالي...وعقب رحيلها وضع د.عصام عبدالصمد كتابا عنها بعنوان: "سعاد حسني بعيدا عن الوطن..ذكريات وحكايات" صدر عن دار طباعة جنرال باك للطباعة
تلقت سعاد علاجا طبيا في مصحة تشابنير التي تبعد عن لندن 100 كيلومتر وتعتبر من أحسن المصحات في العالم وكان صاحبها ثريا سعوديا. رحب الرجل باستضافتها لمدة ثلاثة شهور دون مقابل.. وقالت له سعاد إنها عندما تشفى وتعود لمصر ستقوم بعمل بعض الإعلانات عن المصحة مجانا
تركت سعاد شقتها قبل أن تذهب إلى المصحة بتاريخ 20 مارس 2001 وعندما أنهت فترة العلاج بعد ثلاثة أشهر كاملة انتقلت للإقامة لدى نادية يسري التي تعيش بمفردها في لندن.. في الوقت نفسه أرسلت سعاد بعض حاجياتها الأخرى إلى مصر استعدادا للعودة
يقول د.عصام: "بدأنا خطة لعودة سعاد عن طريق شركة طيران "شارتر" تقوم بالسفر إلى القاهرة عن طريق شرم الشيخ هناك تستقبلها سامية جاهين أقرب صديقة لسعاد وهي أخت صلاح جاهين لأنها لا تريد مقابلة أحد"


ولكن لم يمهلها القدر لتنفيذ الخطة، حيث إنها سافرت إلى مصر حوالي شهر أو شهرين مبكرا على شركة مصر للطيران.. في صندوق



تحدث المشككون في ظروف وفاة سعاد عن تضارب أقوال صديقتها نادية يسري في الحادثة، وشهادة السيدة المغربية إيمان الإدريسي وزوجها وابنها وشهادة السيدة الفلسطينية.. والأخيرة قالت إن نادية يسري لم تأت من الشارع العام لتصعد إلى الشقة فتفاجأ بسعاد وقد وقعت على الأرض ضحية جريمة أو انتحار.. وأكدت أنها شاهدت نادية يسري في مرآب السيارة قبل وقوع الحادث، وبعدها ظهرت نادية وكأنها آتية من الخارج حسب روايتها


واتهم البعض شرطة اسكتلنديارد بالتقصير في التحري عن الحادثة، إذ لم تأخذ البصمات من داخل الشقة ولم تتحر عن الآلة التي تم بواسطتها قطع الشبكة المعدنية على الشرفة لمنع السقوط. كما أن الشرطة البريطانية لم تتفحص هاتف سعاد المحمول لملاحقة المكالمات التي وردت إليها أو أجرتها هي، واكتفت بالشهادة التي قدمتها نادية يسري



ولكن..من هي نادية يسري؟
في عام 1974 تعرفت سعاد حسني على نادية يسري في الاستوديو وكانت تتعرض لمشكلة مع شخص هرب فور تدخل السندريلا. والشخص المقصود هو "م.خ" الذي عرف بإجادته لأدوار الشر. وأمام وضع نادية الصعب عرضت عليها سعاد حسني أن تعمل معها كسكرتيرة، وظلت ترافقها بين فترة وأخرى كصديقة وكاتمة أسرارها، إلى حين وفاة النجمة الكبيرة في لندن في ظروف غامضة أدت إلى توجيه أصابع الاتهام إلى السيدة الأقرب لها في أواخر أيامها

تقول نادية -والتي تدير ملهى عربيا في إدجوار رود بلندن- في حديث صحفي: "بعد طلاقي من زوجي جئت إلى بريطانيا، كنت أحبه، وعندما حطّم قلبي، قرّرت الهجرة، فقد أجهضني وأنا في الشهر السادس، وسافر بعد طلاقنا وما إن عاد حتى قرّرت الهجرة كي لا أبقى معه في البلد نفسه. وبعد سنوات عاد وبحث عنّي، وما إن التقينا حتى عاد إلي ونصب عليّ بمبلغ ربع مليون جنيه، فأصبت بجلطة، أنا لا أستخدم عقلي بل أستخدم قلبي"

كيف كانت حال سعاد في يومها الأخير؟

تقول نادية: "لم تكن سعاد محبطة فقط في يومها الأخير، بل هي شعرت أن زوجها ماهر عواد كان يلح عليها، وهي لم تكن مستعدة للرجوع إلى مصر، كان لديها برنامج آخر من تصليح أسنانها وإنقاص وزنها، ففي الفترة الاخيرة لم تكن تهتم بشكلها الخارجي.. استسلمت للإحباط، وقالت لي يوماً "ماذا سيقول عني الجمهور، كيف سيتقبلني؟". كان لدى سعاد سن مميز، وعندما تم تركيب أسنان جديدة لها تغير شكلها، فقالت لي "انظري..أين سعاد؟" شعرت أن سعاد تذوب أمامي وأنا لم أكن أعرف كيف أتصرف"

غير أن كثيرين لا يعرفون سوى الجانب المضيء من النجمة التي ظلت تسحرهم بفتنتها منذ أن أطلت بصوتها الصغير عبر برنامج "بابا شارو" للأطفال في الإذاعة وهي تشدو "أنا سعاد أخت القمر، بين العباد حسني اشتهر"

المرأة التي خطفت قلوب الملايين..احتفظت في قلبها بأسماء قليلة


ويروي د. عصام في كتابه كيف أنه بعد أن أصبحا صديقين سألها عن أزواجها، فقالت له إنها تزوجت خمس مرات: المصور صلاح كريم، وعبدالحليم حافظ، وعلي بدرخان، وزكي عبدالوهاب، وماهر عواد



قال لها د. عصام: "فلماذا أخفيت زواجك من عبدالحليم؟".. وكان ردها: "كانت هذه رغبة عبدالحليم حافظ.. كنا متزوجين عرفي.. ولم يكن عندي مانع من إعلان الزواج لكن عبدالحليم طلب السرية التامة خوفا علي معجباته..وأنا كنت متغاظة قوي من الموضوع ده..وعشان أبرد ناري قلت له أحسن لي كمان خوفا من المعجبين بتوعي..ومفيش حد أحسن من حد"
عاد ليسألها قائلا: "ولماذا أخفيت الموضوع بعد وفاة عبدالحليم؟".. فقالت: "لكي لا يعتقد أهل عبدالحليم أني طمعانة أو عايزة حاجة منهم"
وكان لغط كبير قد أثير بعد أن أذاع الكاتب الصحفي مفيد فوزي على صفحات مجلة "صباح الخير" قصة زواج سعاد من العندليب الأسمر قائلا إن سعاد هي التي أقرت له بزواجهما..كما قال إن الزواج استمر لمدة خمس سنوات، وإنه يحتفظ بمستندات وشريط كاسيت مهم لهذه الواقعة ولكنه لا يريد استغلال مثل هذه القضايا الشخصية لأصدقائه والترويج لها إعلاميا. جاء ذلك في ندوة روتاري صن رايز بالإسكندرية (راجع جريدة "الأخبار" المصرية بتاريخ 12/5/2006 السنة 54 العدد 16866). وفي موقع الإنترنت الذي أنشأته جنجاه شقيقة سعاد حسني بمناسبة ذكراها اعترفت عائلة سعاد أخيرا بزواجها من عبد الحليم حافظ وأدرجته ضمن زيجاتها الخمس. وذكر الموقع أن الحب قد اشتعل في عام 1962 أثناء رحلة المغرب مع بعثة "صوت العرب" أثناء الاحتفال بالجلوس الملكي.. أما أيام العسل فقد كانت بين إيطاليا وسويسرا وإسبانيا


دعونا فقط نتذكر أن الفنانة سعاد حسني رحلت عن عالمنا في 21 يونيو/حزيران..اليوم الذي يوافق ذكرى ميلاد عبد الحليم حافظ الذي عاش خلال الفترة بين21 يونيو/حزيران 1929 و 30 مارس /آذار 1977



أما أول أزواجها فهو المصور صلاح كريم وكان يعمل مساعد مصور مع أخيه الكبير كمال كريم في فيلم "المغامرون الثلاثة" عام 1965 بعدها عملا معا في فيلم "الزواج على الطريقة الحديثة" وتزوجته عام 1968 لمدة عام واحد..أما علي بدرخان فقد أحبته وقد كان يعمل مساعدا لوالده المخرج أحمد بدرخان في فيلم "نادية". تزوجا بعد أن انتهيا من تصوير الفيلم وانتهاء فترة الحداد فقد مات أحمد بدرخان في منتصف تصوير الفيلم ودام الزواج حوالي أحد عشر عاما (من أوائل 1970 إلى أواخر 1980). بعد ذلك تزوجت من زكي فطين وهو ابن المخرج فطين عبدالوهاب وليلي مراد.. وكان يعمل مساعدا لعلي بدرخان في فيلم "أهل القمة" عام 1981 والذي لعبت سعاد بطولته أمام نور الشريف وعزت العلايلي.. تزوجته في السر بسبب اعتراض والدته الفنانة ليلي مراد لفارق السن بينه وبين سعاد، وتزوجها في الفترة من (4/4/1981) إلى عام (28/8/1981).. أما زوجها الذي ماتت وهي على ذمته فكان السيناريست ماهر عواد الذي تزوجت منه عرفيا.. وتم الزواج يوم الخميس الموافق (11/6/1987) وعملا في فيلم واحد هو "الدرجة الثالثة"







كل الذين تزوجتهم سعاد لم يكونوا من الأثرياء

إن سعاد محمد حسني البابا ـ التي حصلت على الجنسية المصرية في ستينيات القرن الماضي- أحست في لندن بالاغتراب والوحدة والمرض..وهي التي كان لديها من والدها ووالدتها ستة عشر أخاً وأختاً بينهم أربعة عشر غير أشقاء..لعل أبرزهم المطربة نجاة الصغيرة


لقد كانت العودة في ظل هذا الوضع هي الكابوس نفسه، ووجدت الفنانة نفسها في حالة حصار.. وفي لحظة قررت الخروج من الجسد والأزمة. لقد فقدت الأمل وروح "زوزو" المتحدية حيث تكالبت عليها عوامل الخنق وتلاشت الأضواء وكان عليها الخروج من مسرح الحياة فاختارت هذه الطريقة الفاجعة






كأنها أطلت من الشرفة ورأت في لحظة حشد المعجبين في الشارع وهتافهم الهادر "سعاد.. يا سندريلا..يا زوزو"..انتشت من التصفيق فانحنت لتقترب من جمهورها أكثر من اللازم

تحدت سعاد حسني قانون الجاذبية وفردت جناحيها لتعرف مذاق التحليق.. للمرة الأخيرة
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator