المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

أم المباريات




في الأزمة المصرية- الجزائرية، كان أول خروج على قواعد "العراك الكروي" من نصيب الإعلام الرياضي المصري قبل أن تنساق الصحافة الجزائرية إلى لعبة التحريض

 غير أن الجماهير الجزائرية نقلت التجاوزات إلى مستوى أسوأ حين اعتدى بعضها على مصريين أبرياء مقيمين في الجزائر. وتعالت استغاثات مصريين في الجزائر قالوا إنهم حوصروا في منازلهم ومقار سكنهم، خصوصـًا بعد أن نشرت صحيفة "الشروق" الجزائرية خبرًا غير صحيح عن سقوط قتلى جزائريين في القاهرة[1]، علمـًا أن السفير الجزائري تحدث عن إصابة أحد عشر جزائريـًا بجراح[2].

وهاجم مشجعون متعصبون مقار سكن وعمل مصريين في وهران والعاصمة الجزائرية، خصوصـًا في شركات "جيزي" للهواتف النقالة المملوكة لـ"أوراسكوم تليكوم"[3] وقد أقرت الصحافة الجزائرية بأن أعمال التخريب طالت 15 فرعـًا ومركزًا لهذه الشركة في العاصمة الجزائرية[4]- و"المقاولون العرب"، و"مصر للطيران" التي تحطم مقرها الرئيسي. واختلط الغضب بأعمال نهب وسلب. وزادت على ذلك لاحقـًا شكاوى من شركات المقاولات المصرية العاملة في السوق الجزائرية، وصلت إلى حد تفكيرها في إغلاق فروعها وتصفية أنشطتها في الجزائر، بسبب التضييق الاقتصادي عليها وعدم إسناد عطاءات جديدة لها[5].

"من باب رد الفعل"!

هكذا حاول السفير الجزائري في القاهرة تبرير ما يحدث من اعتداءات على المصريين، قائلا إن ما جرى في الجزائر جاء ردًا على ما نُشِرَ عن اعتداءات وقعت على الجماهير والمنتخب الجزائري في مصر.

واتهم السفير الجزائري الإعلام المصري - ممثلا في الفضائيات الخاصة- بالوقوف وراء حالة الشحن الجماهيري. وقلل حجار، في تصريحات صحفية بمقر وزارة الخارجية المصرية عقب استدعائه، من مسؤولية الصحف ووسائل الإعلام الجزائرية عن هذه الحالة.

وقال: ليست هناك مقارنة بين نسبة المشاهدة بين الفضائيات التي حددها بالاسم ("مودرن" و"الحياة" و"دريم")، وبين الصحف الجزائرية وعلى رأسها "الشروق". حجار جدد نفيه الأنباء التي نقلتها وسائل الإعلام الجزائرية عن سقوط قتلى من المشجعين الجزائريين في مصر، لكنه قال لـ"الشروق" إن إصدار بيان حول عدم سقوط أي قتيل جزائري في القاهرة "لا يعني أننا أغلقنا ملف القتلى بصفة نهائية"[6].

يُذكر أنه بينما كان التليفزيون الجزائري يكتب أسفل شاشته لفترة ليست قصيرة أنه لا يوجد قتلى جزائريون في القاهرة، كان السفير عبدالقادر حجار يرسل خطابـًا إلى الخارجية المصرية يقول فيه إنه نمى إلى علمه أن هناك قتلى.. ويطلب إبلاغه إن كان هذا قد حدث[7].

حجار قال للصحفيين: "لقد حذرنا كثيرًا من الشحن الجماهيري، وقلنا إن مصر لها مصالح في الجزائر وهي المستثمر الأول هناك"[8].

وتلك هي الخطيئة الأولى.



 لقد تحول الحدث الرياضي إلى قضية وطنية وسياسية، لذلك وجدنا إسرافـًا في تعبئة الجمهور لصالح الفوز في الخرطوم. صحيح أن التعبئة واسعة النطاق كانت حاصلة أثناء المباراة الأولى في القاهرة، إلا أن فوز المنتخب المصري فيها ضاعف كثيرًا منها، الأمر الذي ألهب مشاعر الجماهير ورفع من سقف توقع وصول مصر إلى التصفيات النهائية لكأس العالم، من ثم أصبح كسب مباراة الخرطوم الشاغل الأول للإعلام والمجتمع في مصر.

وتمخضت صراعات الكرة فولدت "أزمة دبلوماسية وحرب باردة بين الجزائر ومصر"، وتحدثت الصحافة الجزائرية بلا مواربة عن هذه الأزمة، مشيرة إلى أن "خير دليل على الانسداد الذي أصاب العلاقات بين البلدين، هو استنكار رئيس المجلس الشعبي الوطني عبدالعزيز زياري، ونواب الأمة الاعتداءات السافرة ووصفها بالخسيسة السافلة، التي تعرضت لها الجماهير الجزائرية"[9].

واستمرت الهوجة.

حيث سارع إلى تسجيل أغنيات وطنية جديدة أكثر من 10 مطربين، بينهم شيرين عبدالوهاب، ومحمد فؤاد، وحمادة هلال، وأحمد فهمي، وحكيم، ومحمد حماقي، ومصطفى كامل، ومنة فضالي، ودنيا سمير غانم، وأخذت الفضائيات تذيع تلك الأغنيات التي تم تسجيلها على عجل تفاؤلا بالفوز[10]. وطنطنت بعض الفضائيات وشهدنا الزفة البلدي في عدد من البرامج، بل ورقص بعض مقدمي البرامج على شاشات التليفزيون، واستمر الفرح حتى يوم المباراة الفاصلة، لنشاهد في أحد البرامج حشدًا من الحسناوات والشباب مع الطبول والدفوف استعدادًا للرقص بعد انتهاء المباراة الفاصلة[11]، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن.


وكما أن بعض الغلاة في الجزائر اعتبروا أن الفوز على المنتخب المصري حدث تاريخي يأتي بعد تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، فإن نظراءهم في مصر اعتبروا الهزيمة في الخرطوم من جنس الهزيمة التي لحقت بمصر وأدت إلى احتلال سيناء في عام 1967[12].

ولم يُجد نفعـًا في ظل هذا الاحتقان، تدخل علماء الدين على الخط للمطالبة بالتهدئة قبل المباراة الحاسمة. ويبدو أن القيادتين السياسية والرياضية لم تقفا طويلا عند بيان أصدره الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس هيئة علماء المسلمين آنذاك، يدين التصعيد المتبادل بين الشعبين المصري والجزائري، ويناشد الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة أن يبادر بالعمل على إطفاء الفتنة التي أوقدها الشيطان، على حد قوله، وأضاف في بيانه: "المباراة ليست معركة بدر ولا معركة حطين، ولا معركة عين جالوت. إنها مباراة توصل إلى بداية السُلَّم في كأس العالم، وهيهات أن نصل إلى نهايته، أو إلى القرب من نهايته، كما شاهدنا خلال الدورات والسنين الطويلة. وهب أننا وصلنا إلى كأس العالم، وحصلنا عليه فعلا، هل سيدخلنا ذلك الجنة ويزحزحنا عن النار؟"[13].

غير أن ترمومتر المواجهة بلغ أعلى درجاته، قبل يوم واحد من لقاء الحسم.

فقد استقبل الرئيس السوداني عمر حسن البشير أعضاء اتحادي كرة القدم المصري والجزائري، كما استقبل مسؤولين من البلدين عشية المباراة الفاصلة. وفي ختام اللقاء مع الرئيس السوداني، رفض رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم محمد روراوة مصافحة نظيره المصري سمير زاهر[14]. ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن روراوة قوله: "أرفض مصافحة من يقف وراء كل ما حصل في القاهرة؛ لأنه هو الذي بدأ بإطلاق التصريحات وطلب من مشجعيه زلزلة الأرض تحت اقدام الفريق الجزائري"[15].

"المريخ مقبرة الفراعنة"[16]!

عنوان عمود صحفي لكاتب جزائري، ينم عن قدر من الوعيد والاحتقان.

فجأة أصبحت الخرطوم هي محط أنظار المصريين والجزائريين على حد سواء.

وخلال اليومين السابقين للمباراة، حطت في الخرطوم 100 طائرة تقل مشجعين، بينها 64 طائرة تابعة للجزائر تحمل 8500 مشجع و34 طائرة تابعة لمصر تحمل 3500 مشجع.

وذهبت تقارير إعلامية مصرية إلى القول بأن نسبة كبيرة من مشجعي الجزائر في مباراة أم درمان كانوا ميليشيات ذات طابع أمني أو إجرامي، وأضافت أن أغلبية المشجعين الجزائريين وزعت عليهم وجبة موحدة، مطبوع عليها العبارات التالية بالعربية والفرنسية: وجبة فردية للقتال - وزارة الداخلية - المديرية العامة للأمن الوطني -  مكتب الإعاشة[17]. وكانت الحكومة الجزائرية قد تحدثت قبيل المباراة عن تعليمات للرئيس بوتفليقة لنقل المشجعين إلى الخرطوم، "وتقول الحكومة إنه يمكن إذا اقتضت الضرورة أن يتم أيضـًا تجنيد طائرات النقل للجيش الوطني الشعبي" مع "تهيئة مخيم للشباب يتسع لـ2000 مكان سيكون وجهة للمناصرين"، مضيفة أنه "سيكون مناصرونا مرفوقين بأزيد من 200 طبيب وعون من الحماية المدنية والشرطة لتأطيرهم بالوسائل المناسبة بما فيها الخيم"[18].



هستيريا المباراة أعمت البصائر، لدرجة أن عددًا من مشجعي الجزائر تجمع أمام فندق المنتخب المصري في الخرطوم صبيحة يوم المباراة الفاصلة، وأحرقوا علم مصر، بعد أن تناوبوا على دهسه بأقدامهم، مرددين شعارات ضد مصر وسياستها، وحاصرت مجموعات منهم الفندق الذي يقيم فيه إعلاميون مصريون، ما دفع السفارة المصرية بالخرطوم إلى مطالبة الصحفيين بملازمة غرفهم حرصـًا على حياتهم[19].

والثابت أنه عندما وقعت الواقعة في أم درمان[20] في 18 نوفمبر 2009، أعيد الشحن الجماهيري منتقلا هذه المرة من كرة تلهو بها الأقدام إلى كرامة ديست تحت الأقدام. في "الأربعاء الأسود" أصبحت الكرامة "وجهة نظر"، فالذين تشنجوا دفاعـًا عن كرامة مصر التي مستها حجارة - أو حتى أسلحة بيضاء- جزائرية هم في الحقيقة من يسطون على معنى الكرامة ويقومون بتزويره.

"كرامة المصريين فوق كل اعتبار"[21]!

هكذا عنونت إحدى الصحف اليومية في مصر مانشيتها الرئيسي، في وقت تلقف المصريون الغاضبون مصطلحين من نوعية "عدوان الجزائر على الكرامة المصرية" و"الدفاع عن كرامة المصريين"، لكنهم لم يلتفتوا في حمى غضبهم إلى أن الذين روَّجوا المصطلحين هم أول من اعتدى على كرامة المصريين[22].

في أعقاب المباراة التي أقيمت على استاد المريخ ووصفتها صحيفة "ديلي تليغراف" البريطانية بأنها "أم المباريات"[23] وقالت إنها "مشحونة سياسيـًا"، بلغت نتيجة الشحن المعنوي مبلغها حين اغرورقت عيون بعض المذيعين ومقدمي البرامج في مصر وهم ينعون إلى الأمة خبر ضياع ما يسمونه "حلم التأهل إلى كأس العالم"، وشاهدنا حالات من التشنج والعصبية والانفلات لبعض الوجوه التي تظهر في هذه الفضائيات، والتي تقوم بدور "السنيدة" للبطل المذيع[24].

غير أن الآتي كان أعظم!



هوامش

[1]  _________، المصريون في الجزائر يدفعون ثمن الفوز، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 17 نوفمبر 2009.
[3] أمير حيدر، الجزائريون يحرقون مصنعا تابعا لـ"أوراسكوم".. وساويرس يقدر الخسائر بـ"عشرات الملايين من الدولارات"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 18 نوفمبر 2009.
[4]  كريمة خلاص، "جيزي" تؤكد سلامة كل موظفيها وتتبرع بالملايير لنقل المناصرين الجزائريين، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 5.
[5]  محمد عبدالعاطي، شركات المقاولات المصرية تدرس الخروج من السوق الجزائرية بسبب التضييق عليها، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 22 سبتمبر 2010.
[6]  سميرة بلعمري، سفير الجزائر بالقاهرة يؤكد لـ"الشروق".. "ملف الضحايا الجزائريين بمصر لم يغلق بعد"، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 3.
[7]  عبدالله كمال، كل الذي جرى: أول وأكبر تحقيق سياسي موثق عن مباراة مصر والجزائر، مجلة "روز اليوسف"، القاهرة، 28 نوفمبر 2009.
[8]  جمعة حمدالله وخليفة جاب الله وعمرو بيومي ويسري البدري وشيماء عادل وجمال نوفل وهاني عبدالرحمن، "الخارجية" تستدعي السفير الجزائري بالقاهرة.. و"حجار" يعد بتوفير الحماية للمصريين في بلاده، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 17 نوفمبر 2009.  
[9]  سميرة بلعمري، أزمة ديبلوماسية وحرب باردة بين الجزائر ومصر، جريدة "الشروق"، الجزائر، 18 نوفمبر 2009.
[10]  محسن محمود، "الثنائي" شيرين وحكيم وحمادة وفؤاد وحماقي يشجعون المنتخب بـ10 أغنيات وطنية، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 17 نوفمبر 2009.  
[11]  أسامة دعبس، هزيمة المنتخب الوطني من الجزائر كشفت القنوات الفضائية وبرامجها، جريدة "الدستور"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.
[12]  فهمي هويدي، بعد صدمة الخرطوم: الخطايا العشر، مصدر سابق.
[13]  يوسف القرضاوي، نص رسالة الشيخ القرضاوي للشعبين الجزائري والمصري: نداء إلى الإخوة في مصر والجزائر.. أطفئوا النار التي أوقدها الشيطان قبل أن تحرق الجميع، جريدة "الشروق"، الجزائر، 24 نوفمبر 2009، ص 7.
[14]   ____________, Raouraoua: “I refused to shake hands with Zaher because he was responsible for the incidents of Cairo”,  Ennahar online, http://www.ennaharonline.com/en/sports/2459.html, November 19, 2009.
[15]  وكالة الأنباء الفرنسية، روراوة يتهم الاتحاد المصري بالوقوف وراء أعمال العنف في القاهرة، موقع العربية نت، http://www.alarabiya.net/articles/2009/11/17/91621.html، دبي، 17 نوفمبر 2009.
[16]  جمال لعلامي، المريخ مقبرة الفراعنة!، جريدة "الشروق"، الجزائر، 18 نوفمبر 2009، ص 4.
[17]  عبدالله كمال، كل الذي جرى: أول وأكبر تحقيق سياسي موثق عن مباراة مصر والجزائر، مجلة "روز اليوسف"، مصدر سابق.
[18]  سميرة بلعمري، طائرات الجيش تحت أنصار الخضر، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009.
[19]  ____________، باق من الزمن "90 دقيقة".. الليلة الفاصلة: "هيستريا" في الجزائر.. توتر في الخرطوم.. ودبلوماسية في القاهرة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 18 نوفمبر 2009.
[20]  في تلك المباراة، فاز منتخب الجزائر على منتخب مصر بهدف دون مقابل، أحرزه اللاعب الجزائري عنتر يحيى، لتحجز الجزائر مكانـًا لها في نهائيات كأس العالم 2010، ويعود المصريون إلى وطنهم خاسرين.
[21] ____________، كرامة المصريين فوق كل اعتبار، جريدة "الأهرام المسائي"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.
[22]  حمدي عبدالرحيم، السطو على الكرامة، جريدة "الشروق"، القاهرة، 4 ديسمبر 2009.
[23]  Ian Chadband, Algeria versus Egypt World Cup play-off is the 'mother of all matches', The Daily Telegraph, London, November 18, 2009.
[24]  د. طارق الغزالي حرب، هذا ما كان يجب أن تبكوا عليه.. يا رجال، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 30 نوفمبر 2009.
تابع القراءة

gravatar

إعصار في استاد القاهرة



أول القصيدة إنكار

ففي الطريق إلى المباراة الأولى، نفت آلة الإعلام في مصر واقعة الاعتداء على حافلة المنتخب الجزائري[1]، وزاد عليها اتحاد الكرة المصري بالقول إن لاعبي الجزائر هم الذي حطموا نوافذ الحافلة من الداخل وأصابوا أنفسهم لافتعال أزمة[2].
ترويج إعلامي لرواية غير صحيحة، علمـًا بأن ثلاثة من أعضاء الاتحاد الدولي (الفيفا) كانوا يستقلون سيارة خلف الحافلة، ومعهم ممثلون عن التليفزيون الفرنسي، وهؤلاء سجلوا ما حدث وصوروه. الحادث الذي نلمس فيه أيضـًا تقصيرًا في إجراءات الأمن اللازمة[3]، دفع الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة إلى إجراء اتصالين هاتفيين بالرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، ليطمئن مبارك نظيره الجزائري بأنه سوف يتخذ جميع الإجراءات الأمنية الكفيلة لحماية الفريق الجزائري وأنصاره.

الغريب أن الإعلام المصري لم يسكت فقط عما جرى للحافلة، لكنه تجاهل أيضـًا ما جرى للمشجعين الجزائريين في مصر، الذين تقول وزارة الصحة المصرية إن 20 منهم أصيبوا بجراح مقابل 12 مصابـًا مصريـًا، في حين سجلت السفارة الجزائرية أن عدد المصابين 51 وقالت إن أحد المصابين الجزائريين طُعن بمطواة في بطنه[4].

هذا الإنكار الذي بدا نوعـًا من المكابرة، دفع كاتبـًا لبنانيـًا إلى أن يقول "أنا خجول بما حدث في مصر. أو بما قيل إنه حدث في مصر. أو بما نفي أن يكون قد حدث في مصر. أي أن تتحول مباراة "رياضية" إلى رشق بالحجارة، وتكاد تشعل حربـًا بين بلدين"، مؤكدًا أنه "لم يكن أبشع من الحجارة المصرية على الفريق الجزائري سوى بعض التعابير والمقالات في بعض صحف الجزائر. ولم يكن أبشع من أقوال المستفتين في الشارع المصري سوى أقوال العابرين العابسين والغاضبين في الشارع الجزائري"[5].

وإذا كان الإعلام المصري في أغلبه قد أنكر الواقعة، فإن صحيفة "الشروق" الجزائرية على سبيل المثال كتبت في المانشيت الرئيسي صبيحة يوم مباراة القاهرة في 14 نوفمبر: "اللاعبون المصابون في الاعتداء يتعهدون: حقرونا.. وسنحول حجارتهم إلى أهداف". العناوين الأخرى في الصفحة الأولى شملت: "الشروق كانت شاهدة على حادثة الاعتداء على الخضر: ليلة مشؤومة واجتماع عاصف"، "الرئيس بوتفليقة اتصل بالبعثة مرتين وروراوة رفض استقبال زاهر"، "رفيق حليش: الدم الجزائري غال ولن يذهب هدرا"، "كريم زياني: ضربونا وشتمونا لكننا سنفوز.. وتحيا الجزائر"[6]. وفي الصفحات الداخلية نقرأ عنوانـًا مفاده: "فضيحة "بجلاجل" تلاحق مصر وشهود زور لاغتيال حقيقة الجريمة"[7]!، وعنوانـًا ثانيـًا: "رغم استفزازكم.. سننتصر.. موتوا بغيظكم"[8]، وثالثا يقول: "السطايفية يبكون لدماء لموشية وزملاءه ويصرخون.. "ما دمتم تحسنون الرشق بالحجارة لماذا لا تحاربون الكيان الصهيوني؟"[9].

وتحت عنوان "فعلها أشباه الأنصار!" نقرأ ما يلي: "ما حدث للفريق الوطني أثناء دخوله للأراضي المصرية أوضح بشكل صارخ أن بعض المصريين فعلوها واستجابوا لنصيحة السيد زاهر الخبيثة"[10].

وأكد جمال لعلامي أن "هناك تواطؤ في مصر سهّل الاعتداء السافر على المنتخب الجزائري"، قبل أن يقول "على الجزائر أن تتحرك الآن، وقد انتقل مصريون  من مرحلة التلفيقات والإساءات والاستفزازات والسب، والغارات الفضائية على شهدائنا وثورتنا ولغتنا ورموز الدولة ورئيسنا وصحافتنا، إلى مرحلة الاعتداء  والضرب والإجرام"[11].

أما المدير العام مسؤول النشر في جريدة "الشروق" علي فضيل فقد كتب تحت "عنوان التفوق"، قائلا إن "أشقاءنا المصريين لم يتخلصوا بعد من "عقدة" التفوق المصري التي تمثلها مقولة "مصر أم الدنيا" وأن مصر - الشقيقة الكبرى- لا يجب أن "تزعل". وأضاف أنه "عندما تنطع أحد الإعلاميين المصريين الموتورين عقب مباراة الجزائر ورواندا، وتقيأ كلاما مهينا للجزائر والجزائريين، قال لنا بقية الزملاء المصريين: "لا مؤاخزة.. دا عيّل صايع لا يمسل الإعلام المصري". وأضاف: "لكن العدوان الذي تعرض له الفريق الوطني بعد وصوله القاهرة أمس والهبة الإعلامية المصرية الشاملة لطمس الحقائق وتضليل الرأي العام تركتنا مشدوهين مذهولين من الصدمة"[12].

الصحف المصرية شحذت أسلحتها أيضـًا صبيحة يوم مباراة القاهرة، وظهرت عناوين في الصفحة الأولى من عينة "يا منتخبنا فجّر إعصارك.. كأس العالم في انتظارك"[13]. وقبلها بأيام نقلت عن المهاجم المصري محمد زيدان قوله: "سنحرق قلب الجزائريين بعد الفوز عليهم في استاد القاهرة كما حرقوا علم مصر"[14].

عواطف وعواصف، أنست كثيرين أن اللقاء الكروي المرتقب بدأ بعزف السلام الوطني المصري الذي لحنه عبقري التلحين في مصر سيد درويش، قبل أن يبدأ عزف السلام الجمهوري الجزائري الذي لحنه الملحن المصري محمد فوزي وكتب كلماته الجزائري مفدي زكريا[15].

لنتوقف قليلا مع مشاهد داخل استاد القاهرة أثناء لقاء منتخبي مصر والجزائر، كما رواها شاهد عيان[16].

كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة، حين طلب المذيع الداخلي من الجماهير أن تصمت لرفع الأذان، فساد الصمت للحظات لتعود المدرجات الملتهبة إلى ثورتها العارمة المزدانة بعلم مصر، ليعود بعدها المذيع بدعوة الجماهير لترديد فاتحة الكتاب وراءه لتكرار ما حدث عام 1989. يستجيب الجمهور، ثم يعاود المذيع ترديد "قل هو الله أحد"، ثم يهتف "الله أكبر" ثم "يا رب"، والجمهور وراءه، لدقائق.

 وإذا كان الدين حاضرًا طوال اللقاء فإن السياسة لم تغب، ولعب المذيع الداخلي الدور نفسه بترديد اسم مبارك، راعي الرياضة - كما قال- لاصطياد تصفيق الجماهير، وقد نجح في ذلك لكنه لم يفلح في انتزاعه عند ذكر اسم نجليّ الرئيس المصري حينذاك، ليسود صمت مع استهجان ضعيف من المدرجات، وعلى المنوال نفسه استقبلت الجماهير حسن صقر، رئيس جهاز الرياضة في مصر، وإذا ما قارنت ما حصده محمد أبوتريكة أو نجوم المنتخب من تصفيق فالفارق شاسع كما هو بين الأرض والسماء.


"دعاء الساعات الحاسمة: يا رب"[17].

جمهور.. يشتم ثم يطلب مددًا من السماء!

إنه الجمهور المصري، فهو متقلب، يخدعك، لا تستطيع أن تتصور ردود فعله، هكذا بدا طوال المباراة، يغضب، يحزن، يهتف، يشتم، يصفق، يلعن، يفرح، بدأ بهتاف "كل الناس بيقولوا يارب" لكنه لم يتوان عن سباب جماهير الجزائر ودولتهم، وبعبقرية يحسد عليها قام بتأليف هتافات وشعارات يخجل القلم من كتابتها منها تحريف لأغنية "دقوا المزاهر"، وكان مؤدبـًا جزئيـًا عندما قال بكل حرارة "واحدة واحدة تاتا.. الجزائر هتشيل تلاتة".

إنهم حقـًا  "المصريون الرائعون وتناقضاتهم القاسية"[18]!

"المنتخب يهدي مصر وردة التحية في الدقيقة الأولى وقبلة الحياة في اللحظة الأخيرة"[19].

هكذا أعلنت الصحف المصرية صبيحة اليوم التالي للمباراة[20]، بعد اقتناص فوز صعب جعل الفريقين بحاجة إلى مباراة فاصلة، وسط ارتباك البعض في التقدير، قبل أن يتضح أن الفيفا لم يعتمد قاعدة احتساب الهدف خارج الأرض بهدفين لكسر التعادل، في لوائحه المنظمة للتصفيات المؤهلة لمونديال جنوب إفريقيا[21].

فرحة طاغية في مصر، قابلها بركان غضب في الجزائر، التي كانت تغلي تحت وقع مانشيت صحيفة "الشروق": "الخضر يحطمون غرور الفراعنة.. والحسم في الخرطوم"[22]، قبل أن تختار الصحيفة نفسها عناوين أخطر في اليوم التالي: "شهود عيان يكشفون لـ "الشروق" سقوط ضحايا وحجار ينفي: مناصرو الخضر قضوا ليلة رعب في القاهرة"، "لقنت مواطنا جزائريا الشهادة وهو يلفظ أنفاسه بالفندق: "رضا سيتي 16" يروي لـ"الشروق" تفاصيل العدوان"، "الشروق ساهمت في تحرير 400 جزائري بعد محاصرتهم داخل الملعب"، "الأمن المصري تعمد نقل حافلات المناصرين للأحياء الشعبية للاعتداء عليها"[23].

وصدرت تصريحات نارية عن وزير التضامن الوطني والأسرة الجزائري جمال ولد عباس الذي كان ضمن البعثة الجزائرية في مباراة القاهرة، إذ قال في حديث صحفي: "هجموا علينا كالوحوش وبحوزتنا شريط فيديو يكشف العدوان" و"كنا ضحية مسرحية أبدعت أبدعت السلطات المصرية في لعب أدوارها بكل نفاق" و"لم نسلم حتى في المنصة الشرقية ولجأوا إلى التصفير خلال عزف النشيد الوطني قبيل المباراة"[24]. وفتحت صحف جزائرية بابـًا للنواح المبالغ فيه، فنقلت - على سبيل المثال- عن أحد المشجعين الذين حضروا لقاء القاهرة قوله: "جوّعونا وتبولوا علينا وأحضروا لنا الرقاصات ليشوهوا سمعتنا"[25].

وظهر على الساحة ناشرو الصحف الجزائرية الذين أصدروا بيانـًا أدانوا فيه "أعمال العنف التي ارتكبت في حق الجزائريين والجزائريات بالقاهرة، والتي مست بالكرامة الوطنية، أمام مرأى ومسمع السلطات المصرية المتواطئة"، كما شجبت "هذه الأفعال الهمجية المبيّتة والإجرامية المخطط لها، منذ وصول الفريق الوطني لكرة القدم إلى القاهرة"[26].
وإذا كان أول خروج على قواعد "العراك الكروي" من نصيب الإعلام الرياضي المصري قبل أن تنساق الصحافة الجزائرية إلى لعبة التحريض، فإن الجماهير الجزائرية نقلت التجاوزات إلى مستوى أسوأ
 
هوامش

[2]  إيهاب الفولي ومحمد يحيى، اتحاد الكرة يرسل إلى "الفيفا" ملفا بأدلة "فيلم الجزائر"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 14 نوفمبر 2009.
[3]    John Leicester; Associated Press, Egypt-Algeria: When Fair Play Died, New York Times, http://www.nytimes.com/aponline/2009/11/17/sports/AP-SOC-John-Leicester-171109.html, November 17, 2009.
[4]  فهمي هويدي، بعد صدمة الخرطوم: الخطايا العشر، جريدة "الشروق"، القاهرة، 1 ديسمبر 2009.
[5]  سمير عطا الله، حروب الكرة، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 17 نوفمبر 2009.
[6]  ___________، اللاعبون المصابون في الاعتداء يتعهدون: حقرونا.. وسنحول حجارتهم إلى أهداف، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 1.
[7]  جمال لعلامي، فضيحة "بجلاجل" تلاحق مصر وشهود زور لاغتيال حقيقة الجريمة، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 5.
[8] رشيد فيلالي، رغم استفزازكم.. سننتصر.. موتوا بغيظكم، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 20.
[9]  سمير منصوري، السطايفية يبكون لدماء لموشية وزملاءه ويصرخون.. "ما دمتم تحسنون الرشق بالحجارة لماذا لا تحاربون الكيان الصهيوني؟"، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 21.
[10]  _________، فعلها أشباه الأنصار!، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 2.
[11]  جمال لعلامي، بص.. حرامية ونص!، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 4.
[12] علي فضيل، عقدة التفوق، جريدة "الشروق"، الجزائر، 14 نوفمبر 2009، ص 2.
[13] بليغ أبو عايد ووائل عباس، يا منتخبنا فجّر إعصارك.. كأس العالم في انتظارك، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 14 نوفمبر 2009.
[14]  محيي وردة ومحمد، اتحاد الكرة يختار "السودان" لـ"المباراة الفاصلة" وزيدان يتعهد بحرق قلوب الجزائريين،  جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 11 نوفمبر 2009.
[15] سارة سند، ٥٠ عاما بين تلحين محمد فوزي للنشيد الوطني الجزائري.. ومعركة ١٤ نوفمبر، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 13 نوفمبر 2009.
[16] علاء الغطريفي، مذيع الاستاد فشل في انتزاع التصفيق لجمال وعلاء مبارك.. وسائق تاكسي رئيسًا للوزراء، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 16 نوفمبر 2009.
[17] __________، دعاء الساعات الحاسمة: يا رب، مصدر سابق.
[18]  ياسر أيوب، المصريون الرائعون وتناقضاتهم القاسية، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 11 نوفمبر 2009.
[19]  محيي وردة، المنتخب يهدي مصر وردة التحية في الدقيقة الأولى وقبلة الحياة في اللحظة الأخيرة، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 15 نوفمبر 2009.
[20]  في هذا اللقاء، فاز منتخب مصر على منتخب الجزائر بهدفين دون مقابل، أحرزهما عمرو زكي وعماد متعب، ليتساوى الفريقان في النقاط وفارق الأهداف، ويتم الاحتكام إلى مباراة فاصلة لتحديد هوية المنتخب المتأهل عن تلك المجموعة إلى كأس العالم في جنوب إفريقيا عام 2010.
[21] ________, Regulations 2010 FIFA World Cup South Africa, FIFA.com, http://www.fifa.com/mm/document/tournament/competition/fifa_wc_south_africa_2010_regulations_en_14123.pdf, FIFA, Zurich, July 2007, p. 21, §17.6.
[22]  الخضر يحطمون غرور الفراعنة.. والحسم في الخرطوم، جريدة "الشروق"، الجزائر، 15 نوفمبر 2009، ص 1.
[23]  ____________، شهود عيان يكشفون لـ "الشروق" سقوط ضحايا وحجار ينفي: مناصرو الخضر قضوا ليلة رعب في القاهرة ، جريدة "الشروق"، الجزائر، 15 نوفمبر 2009، ص 1.
[24]  سميرة بلعمري، وزير التضامن جمال ولد عباس ينقل لـ"الشروق" شهاداته حول الجحيم بالقاهرة: "هجموا علينا كالوحوش وبحوزتنا شريط فيديو يكشف العدوان"، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 3.
[25]  نوال بليلي، شاهد عيان من مناصري الخضر يفضح بطش المصريين: جوّعونا وتبولوا علينا وأحضروا لنا الرقاصات ليشوهوا سمعتنا، جريدة "الشروق"، الجزائر، 18 نوفمبر 2009، ص 6.
[26]  محمد مسلم، ناشرو الصحف ينددون ويطالبون الدولة بحفظ كرامة الجزائر، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 3.
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator