المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

بقعة صغيرة زرقاء





أنت تدري ما كان بعدك حالي

فتـُرى كيف كان حالك بعدي

صفي الدين الحلّي




الصباحُ يلفُ المدينة، والشمس تجاهد كي تضيء

جريحٌ، يقرصُ خد الهواء، ويسيرُ بلا هدى.. فالصعلوك بوصلة الطرقات المشوشة

في الشوارع الصاخبة، المتدافعة، غير المبالية، يذرع الأسفلت الموشى بالمهمشين، فيما يدوس على ظله بائعٌ جوال كان على عجلة من أمره، لدرجة أنه أشعلَ النار في حياته كأنَّه يُشعل سيجارة لصديق

يمرُ بجوار شجرة لوزٍ تبتسم، ونافذة لا أحد يُصلِحُ صريرها

يطالعُ أمًا تصالحُ طفلها على باب المدرسة، قبل أن يلحق ببراعم محشوّين عن آخرهم بآمال الأمهات

قطرة عرق تسقط من على جبين أحد المارة، فتستغرق الأرض طويلا لترتوي بها

عمال البناء يشيدون منازل لكائنات على وشك الانقراض

فتاة تكاشف صديقتها قائلة: "إنه يعاملني كفتاة تضع مقوِّم الأسنان.. ويتسرب إليَّ من نقاط ضعفي"

يلمحُ شابًا يقودُ سيارته الرياضية ببراعةٍ تحسده عليها الطُّرقُ، وآخر يطوق العابرات بحزنه وحرمانه

تتناهى إلى مسامعه أغنية قديمة تباغته بالشجن

كلّه لغزٌ هذا الفتى الذي يعابث ذقن السنين

نبي القلم.. والقلق

لم ينتبه الأصدقاء لغيابه، فهم موزعون على المقابر والمنافي والسجون

يصارعُ ضجره، وهو يطالعُ الرجالَ الذين يلعنون الضرائب والطقس، والسيداتِ المترعات بالشبق، الذاهبات إلى السوق أو جهنم

يملُ من السير، يقف أمام شجرة أشد منه نُحولا، ويستوقفُ سيارة أجرة كي تقله إلى وجهته

داهمته برودة المكيف، والأغنية الهندية التي يستمتع بها سائقٌ تشبَّع برائحة العرق والرطوبة. على الأقل، كان ممتنا لقيادته السيارة بصمت

على باب المستشفى، انزوى رجل لم تبق في فمه سوى سن ذهبية وحيدة، أخذ يدخنُ حكمته مثل قطار قديم

في الداخل، تدفعه كل التفاصيل إلى التبرم: حياد البياض، الضوء الكابي للمصابيح، الروائح النفاذة التي لا تستأذنك، الأرضية اللامعة، السرير اليابس الذي يتمدد عليه مرضى يرقدون في رهان غير متكافئ مع الموت بعد أن ضيّعوا مواعيدهم مع المعجزات

موظفو الاستقبال الذين يملكون وجوهًا من شمع، عيونهم مُسمرة إلى الشاشات المضيئة لتسجيل البيانات، وتحصيل النقود ممن يقتلهم الألم



فضوليون استسلموا للمقاعد الجلدية في انتظار علاج أحبتهم، يشغلون أنفسهم بمجلات فارغة إلا من الصور، وتسقط سهام نظراتهم المزعجة على رواد المكان.. يتلصصون على الأحاديث الجانبية، بحدة براغيث بشرية تلتهم جسدًا تسللت إليه خفية

يسير بخطوات تشبهُ حفيفَ رياحٍ ليليّة في مبنى تنمو في أوردته قنوات ضيقة، ويعبر بجوار مجموعة من الأطباء الذين يدسون في معاطفهم كلمات المواساة الباردة

الممرضة الفلبينية ذات البشرة الجرداء والنظرة الزائغة، تقوده إلى غرفة في آخر الردهة، قبل أن تتركه وحيدًا

يحصي أنفاسه التي تتصاعد كسلّمٍ موسيقي في دار أوبرا

يتنهد مثل عاملِ منجم يحصي الساعات الطويلة التي أهدرها في نفق مظلم

الأصوات تتسرب إلى غرفة الكشف الطبي كما لو كانت صدى لمطر بعيد

على الحائط، تطل شهادة جامعية يحيط بها إطار خشبي عريض بزخارف مرهقة

يزوره طبيب، مدورٌ كما عدستا نظارته، يبدو كأنه يمر بأزمة منتصف العمر، حتى إنه يهدي عشيقاته الشابات حقيبة يد في بداية العلاقة ووشاحا عند إنهائها

كاد يسألُ الطبيبَ الذي يتفحصه: أي الأماكن امتطيتَ البارحة؟

يتراجع، لينصت إلى رأي الرجل المصاب بمرض الدبلجة: الآن وقد جربنا العلاج الطبيعي، ولم تُجد الأدوية نفعا، لم يبق أمامنا سوى الحقن.. لكن علينا أولا إجراء اختبار الحساسية. سيستغرق الاختبار ربع ساعة فقط


بآلية تستعصي على الوصف، تتولى الممرضة المفتقرة إلى الغموض حقنه في ذراعه، ثم ترسم حول مكان الحقن دائرة وتكتب تحتها التوقيت. حدق في ساعة "اليد" التي صنعتها في ذهول. يتمدد وحده في السرير ويتابع مربعات السقف، مستغرقا في تأمل الأجهزة الطبية التي تم تغطية بعضها بملاءات بيضاء. تصلح الغرفة للتعذيب وانتزاع الاعترافات، فكل ما فيها موحش ومحايد

لا أثر في الذراع سوى بقعة صغيرة زرقاء - ستتحول لاحقا إلى اللون البنفسجي- مثل تلك التي يرسمها التلاميذ فوق أيديهم في فترات الاستراحة والشغب البرىء

الضجرُ عنكبوت يتدلى من سقفِ الغرفةِ، وهو مثال ساطع على الخوف

يعود الطبيب، يتحسسُ رسغه والآلام التي تنضج تحت جلده، ويسأله عن موضع الألم. يقوس حاجبيه، ويطلب من الممرضة حلق تلك المنطقة بشفرة ساذجة، قبل أن يختارها هدفا للحقنة المنتظرة

خُذ نفسًا عميقا، يأمره الطبيب، فيمتثل في وجل

يحقنه لدهر.. يده تتحدّى إغراء المخدّر

ينصت إلى إيقاع الموسيقى في رأسه، ويسبح بين مجرتين

يستسلم للزمن، وهو يسائل نفسه: لم الضوء شيء ثانوي في المستشفيات؟

الحقنة دخلت رسغه ولم تخرج أبدا. تحز في العظم، تسيخ في اللحم.. ولا نهاية

يرى عُري عذابه، ويأبى أن يتكلم، خشية أن تقشر الأنات قناع قوته

الإزميل يتوغل بشراسة في عروق الرخام، ورأسه يدور مثل حوّامة، وروحه تذوب في حمض قوي المفعول

أثر الوخز يشبه رصاصة تطل من ثقب في رقبة

لوهلة، احتفى بفكرة كونه ميتا، وهو الذي يوقن - منذ تَقَبَّل أَولَ مراتِ موتِه- أن الموت ليس لحظة واحدة بل هو خط متصل؛ نموت منذ الولادة، حتى نموت فعلا

نموت؟

لن يكتب سيرته الذاتية إذن. سيكتفي بالحروف والسطور والفواصل التي تغلغل فيها حتى صارت جزءًا منه. لن يقول لأحد كيف كان الفتى من أنصاف الآلهة، وكيف أصبح الرجل من أنصاف البشر

يصعد اسمُها على شفتيه، ليصرع تنين الحزن بسيف البهجة

خَياله المحمومُ بالمتأنية على نحو مذهل، يداعبُ ذَاكِرته

امرأة صقلتْ ظلها، تشبه جميلات الأبيض والأسود

وجهها المستدير يمنحها ملامح طفولية لن تبرأ منها

ضوء القمر يتهدجُ في مد عينيها


تخلع عنه رداء العمر، حتى يعود إلى طفولته الوديعة

لكن الطفولة أمدها قصير: صدى يبتلعه صدى

رآها بالأمس، عبر واجهة زجاجية قاتمة، تتأبط ذراع آخر، يضاجع نساء بعدد أيام غيابها عن المنزل

مد يده، وكاد أن.. لولا...

أهو نبلٌ أن نحب ونتخفى؟

لا بأس، يقول لنفسه، ستمرُ يوما من هنا، وستقرأ كلماتي خلسة، لتدرك أنني لم أنس.. ولن أنسى

وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب

ينوء القلب بالحكايات، فمن يحمي كلامَ الصمتِ من عبث الهواء

إنه شعور مضطرم ومضطرب وحزين، وغائم إلى حد ما. حنين مرهق، مثل شغف الصورة بالإطار، قبل أن يخنقها الغبار

يتذكرُها: الضحكة المكتومة، النظرة الغافية، الشعر المنفلت الذي يهطل مطرًا على كتفيها، والعِطرُ الذي يصيبه بالدوار

كانت تعبر شرايينه يوميا، من أقصاها إلى أقصاها

تجوس داخل أحلامه، تلهمه، وتبقى.. فالإلهام قد يأتي عندما نريده، لكنه لا يرحل إلا عندما يريد هو

لحضنها رائحة التفاح المخمر، ولصوتها الناعم نقرٌ خفيف على نافذة الأذن، خصوصا حين يكون كلامها خارجا للتو من معابد الجسد

يغوص في شفتيها المسترخيتين كما المرساة تشتهي القاع، ويلمسها برفق، فالأصابع اللينة نابعة من القلب وليس الجسد



كانت تمسكُ يده وتقودها إلى مدائن أخرى، وأرض الأنثى، ليبعثرَ أمطاره في مداها ويسكن جنتها الأخيرة

تذوب، كنثار دانتيلا قذفت في الهواء، وتخرج رغباتها من الغرف السرية إلى الهواء الطلق

والمرأة التي تخشى الذوبان بين أحضان رجل يجب أن تتعلم من السُكَّر..

السُكَّر لا يخشى الذوبان، لأنه يعلم جيدًا أنه يشارك في صنع متعة استثنائية مع المكونات الأخرى

لا ينسى التفاصيل: الخشخشة الواهية من السلسلة التي تتأرجح على عنق ينفر منه عرق أخضر صغير، النحر الذي يشكل نقطة فاصلة بين موت شاهق وحياة باطنية، حقول الشقرة التي تنصب له فخ اللذة، وأصابعه التي تقود دبيب النمل فوق جلدها حتى تغرق في حرارة الألوان

يفرط رمانها حبة تلو أخرى، والرمان ياقوتٌ مسَّه الشجن

كان يُقرضها أصابعه، حين تطلبُ منه مُساعدتها في رفعِ سَحّابِ الفُستان

أحدنا فحسب تغير، والقلبُ قُلَّبٌ

يمنحها قبلة الوداع، وكرنفال الارتباك ينصب شباكه حولهما. تعمد أن تكون مبتورة، لعلها تصبح فاتحة لقاء آخر

لكنها أطفأت الأنوار وانسحبت من أيامه بهدوء، تاركة بعض الفُل يبكي رحيلها

لعلها مسحت رسائله الإلكترونية، ومزقت صفحات إهداءاته من الكتب، وأخفت كل بطاقاته البريدية الملونة، وهو الذي يحتفي بتذكاراتها: روايات إلياس خوري وسمر يزبك، وقصائد أدونيس، وعلبة بخرزة براقة تضم قرطًا منسيًا على هيئة شمس صغيرة من فضة، وأربعة عشر دبوس شعر

دائمًا لا وصول يا عربة الأسى

وهو انتظار.. ينتظر

يطول الرحيل بينهما، يتحول إلى سكة قطار لا تنتهي

يكتب لها رسائل لن تصل، فهي مرسلة من منسيين إلى أشخاص لم يعودوا كما كانوا:

"لأن صوركِ تحمل بعضًا من ألقكِ وروحكِ التي تضيء الأمكنة

ولأن صوتكِ الغائب عني سبب وجيه للحياة

ولأن وجهكِ الباسم يمنح الدنيا معنى جديدًا لم يرد من قبل في الكتب والموسوعات

ولأنك الليلة الثانية بعد الألف التي لم يلحق أحدٌ بأن يعيشها أو يرويها

لهذا كله وأكثر، أتأمل صوركِ الآن وأبتسم في طمأنينة"

أمنياتٌ كثيرة نعلقها على ظهر أيام قليلة، أضعف من أن تحملها

على شاطئ البحر الذي يداعب رذاذه وجوه العابرين، كانت تسائله: قل لي، إن كان هذا البحر في حوزتي

يرسم لوحة طبيعية لحورية البحر ويجيبها بالقول: هو شلال من الرغبة يتدفق في رحلته من خليتكِ التي تقطرُ عسلا، مرورًا بشبق الخاصرة، وصولا إلى إسفنج القدمين، حتى يلامس نهايته السعيدة


تقول: الموج عالٍ جدًا اليوم

يرد قائلا: ربما لأنه يريد أن يعلو جدًا كي يلمس خصلات شعرك

تبتسم وتتساءل: ولِمَ؟

يجيبها: البحرُ موجُه طامع، يحاول ولا ييأس.. فلا يأس مع البحر ولا بحر مع اليأس

اليوم، اختفى البحر، وصارت اليابسة مجرد صخرة عارية وحقل من رماد

كم هي قصيرة جدًا تلك الأبدية

أين هي الكلمات التي لم يقولاها، والأشياء التي لم يفعلاها؟ أين هي؟

في الليالي الطويلة نتساءل:

أيها الحنين الذي لا يصبر على فراق، الفجر لاح في السماء، فلِمَ تؤجل آمالنا إلى غد بعيد؟

أيها الأمان الذي نشتهيه، هل صان من نحبُ شعلة الهوى؟

يتردد السؤال مع الصدى، لكن في أعماق أعماقنا تأتي الإجابة: من يحب يهلكه الفراق، ومن يعشق يتلفه الانتظار

يمد الطبيب له يده بورقة تضم قائمة من الأدوية والمسكنات، وينصحه بوصفة تقليدية قد تمنح الأوجاع بعض السكينة


يخرج إلى رصيف العمر..

كانت تنقصه غيوم أكثر ليبكي

هذه المدينة ليس لها كتف يتكئ عليه

هذه المقاهي ليس بها كرسي أعمى ليسند ظهره إليه

كم نرتدي البداية بأخطاء عتيقة

تطيِّر الريح النفايات المهمَلة

يتمنى رئة قوية كي يتنفس هواء الكون، لكنه يكتشف أنه أصبح مجرد عاشق مرسوم في فنجان قهوتها

الأرض تفتحُ جرحها للعابرين، وقلبه أيضًا

الآن تكتمل الحكاية
تابع القراءة

gravatar

حروب كرة القدم




عن هذه اللغة التي ابتكرتها البشرية، وحروب الكراهية التي صنعتها في الملاعب وخارجها، يتحدث هذا الكتاب

عن كرة القدم نتحدث

تلك الكرة الأنيقة التي ضربت موعدًا مع المتعة، فاصطادت آهات الإعجاب، وصنعت زفرات الأسى، وصارت راية المجد للبعض ووسادة الأحزان للبعض الآخر

هذه الكرة التي تتدحرج لتعانق العشب أو الشباك بعد عزف خرافي لسيمفونية الأقدام، وقد تنبت لها أجنحة فتطير في الزمان والمكان بسرعة يغار منها الضوء، باحثة عن المرمى، حتى تصير كرة القدَر

وهنا، لا بد من اعتراف شخصي صغير

ولدت فكرة هذا الكتاب في صيف عام 2006، مع انطلاق نهائيات كأس العالم في ألمانيا، ولم تنتهِ رحلة كتابته إلا بعد شهور من إسدال الستار على نهائيات كأس العالم في جنوب إفريقيا 2010. وما بين هاتين النقطتين، استجدت أمور، وحصلت وقائع، وسطعت أفكار جعلت الكتابة عن كرة القدم وتوظيفها في الإعلام والسياسة والاقتصاد واجبًا أقرب إلى الضرورة

لم يكن الشغف بكرة القدم وحده هو الدافع، وإنما الرغبة في تأمل تاريخ تلك اللعبة الشعبية الأولى عالميًا، والغوص في أسرارها

فكرة القدم هي كرة العالم، أو تلك اللعبة التي تستحق في نظر محبيها كل هذا التعرّق واللهاث، التوتر والقلق، الترقب والانتظار، الفرح والشقاء. هي الجمهور التوَّاق للانتماء، للصراخ، لملء الفراغ، وحتى للغضب الخارج عن السيطرة

ويكفي أن نشير إلى أنه عندما تُقرَع الطبول وتُنفَخ الأبواق، وتُنشَر الألوان وتُطلَق صيحات الحرب، تدرك البشرية تلقائيا أن موعدها قد تجدد مع أهم حدث كروي يجمع بين التكتيك والمهارة: المونديال

وهذا الكتاب محاولة متواضعة لفهم ما يجري في الملاعب وخارجها، وفك ألغاز التاريخ السري للعبة حجزت مكانا لها في قلوب عشاقها في أربعة أركان المعمورة، حتى أصبحت شمسهم التي تهديهم الحب واليقين معًا

هكذا انطلقنا في رحلة التعرف إلى حقيقة كرة القدم وسبب تعلق الجماهير بها، أبطال اللعبة وضحاياها، علاقتها بالأدب والأدباء، استيهاماتها الجنسية، أهم الأهداف المؤثرة في الوقت القاتل، دور الأقليات العرقية في اقتناص البطولات، هفوات حراس المرمى في المونديال، الكبرياء القومي الذي يضفي على الملعب لون الوطن، وحكايات الزعماء السياسيين والطغاة مع الساحرة المستديرة

مجددًا، كان التوثيق هو عماد الكتاب وركنه الركين

تطرقنا في الكتاب بالأسماء والوقائع إلى أشرس اللاعبين، سر ارتباط كرة القدم بمفهوم القوة وسلوكيات العنف وصولا إلى شن الحروب، مولد التعصب، وجماعات الشغب الكروي

والفرق بين الشعب والشغب يتجاوز تلك النقطة المعلقة في سقف الكلمة الثانية

وسيكتشف القارىء بنفسه أوجه الخلل في علاقة المشجعين بالكرة، بدءًا من إغفال جوهر التنافس الرياضي، وانتهاء بمأساة تعظيم الأقدام وتغييب العقول

بين السطور سنرصد ملامح الأجواء الكرنفالية التي تسبق نهائيات كأس العالم لكرة القدم وتصاحبها، والإعلانات التجارية والمسابقات، والمراهنات، والدعاية.. والمتاجرة بمشاعر الملايين من محبي الساحرة المستديرة

والشيء الأكيد أن كرة القدم انتقلت على مر السنين، من مجرد لعبة محبوبة ورياضة شعبية إلى نشاط اقتصادي بكل معنى الكلمة. وقد ساهم في هذا التحول أنظمة الاحتراف والرعاية، وتسويق المباريات، وتحول الأندية من جمعيات إلى شركات بدأت تقتحم البورصات. ولم تعد المناسبات الكروية الكبرى كنهائيات كأس العالم مجرد مناسبات لتسويق المنتوج فحسب، بل أصبحت كذلك فرصًا لاقتحام أسواق جديدة

صورة سنحاول عبر صفحات هذا الكتاب استكمال تفاصيلها بالرأي والفكرة والأمثلة، ليتأكد لنا في نهاية المطاف أن مباريات كرة القدم ليست سوى وقت الإعلان والبيع والاستهلاك والوطنية معًا

وسنتابع في إمبراطورية الكرة التي وحدت العالم: غضب المدربين، وتمرد اللاعبين، وأخطاء المعلقين، وانفعالات المشجعين بوجوههم المطلية وملابسهم المزركشة، ورايات المجد ولافتات الاستعلاء التي تنتظر ساعة الاستعراض لتعلو أو لحظات الانكسار لتنزوي

وكلها تفاصيل مثيرة للصراع الكروي في الطريق إلى المونديال

ومن العام إلى الخاص، أخذنا نبحث في تاريخ كرة القدم في مصر، ودور الاحتلال البريطاني، مولد الأندية الشهيرة، وصعود أهل الحكم والقصر إلى المواقع والمناصب الكروية

أردنا أن نقدم نموذجًا مضيئا للبطولة التي تولد من رحم الهزيمة، فتوقفنا عند تجربة الدراويش في بطولة إفريقيا للأندية أبطال الدوري موسم 1969- 1970

ومن رحلة إلى أخرى، أبحرنا حتى وصلنا إلى جوهر الحكاية: مصر والجزائر

فالمسلسل الطويل والمزعج في التوتر الكروي بين البلدين الشقيقين، بلغ نقطة خطيرة تأثرت بتحريض من أهل السياسة ورجال الإعلام، إلا من رحم ربي.. وقادت إلى دهاليز ومتاهات لم نخرج منها حتى اللحظة

وفي تلك الأحداث الفارقة تسقط أقنعة، وتتضح حقائق، ويتبين العقلاء من مروجي الأكاذيب، ويكتشف الجمهور الحقيقة في الوقت بدل الضائع

وربما لهذا السبب كان منطقيًا أن نفرد مساحة كبيرة من الكتاب لمناقشة مباريات الحرير والحديد بين مصر والجزائر، التي دفعت البعض إلى التهور بالقول والفعل تحت لافتة تجليات الهوية الوطنية، والسقوط في فخ رفض العروبة، متناسيًا أنها جزء أصيل من هوية المصريين، وغافلا عن حقيقة أنها النظام الإقليمي الذي لا تستطيع مصر منه فكاكا، لأن مصالحها تمتد إليه، وليس بوسعها أن تتجاوزها

إن الكرة أرقى من الشوفينية التي يلصقها بها هذا الفريق أو ذاك، وأسمى من لعبة الأكاذيب التي شحنت العامة وأثارت الغوغاء

وإذا كان من المسلم به أن المال والسياسة هما أبرز المؤثرات في جمالية اللعبة وتوجهاتها، فإن مسرح كرة القدم العظيم، الممتد على مستطيل العشب الأخضر، بقي المغناطيس الذي يشدنا جميعا إلى هذا الملعب المدهش

ولن ننسى إلقاء الضوء على أصحاب المال والنفوذ ممن يبتذلون الفرحة ويقحمون أنفسهم بالاسم والصورة في مشاهد الانتصار الكروي، إعلام الأزمة الذي أوقعنا في تضليل فادح قبل أن نكتشف أزمة الإعلام

وإذا كانت الكرة هي عنوان الانتماء فإنها باتت أيضًا سؤال الهوية.. الوطنية والدينية على حد سواء. من هنا، أخذنا نقتفي أثر الدين في ملاعب الكرة، ونجوم اللعبة، وسلوكيات المشجعين. وفي أتون الحرب الحديثة التي تشاهد في المدرجات منقسمة بين مشجعي الفريقين بالأعلام والأبواق والزينة في ملحمة عصرية، أطلت قضايا الدين والأخلاق والطائفة لتضفي الكثير على المشهد الكروي وتفاصيله المذهلة

وما بين هذا وذاك، يجد البعض في كرة القدم نوعا من "الدين الجديد" الذي يملك أتباعا ومناصرين شديدي الولاء، في وقت يلمس الخبراء أعلى درجات التماس بين الدين واللعبة: طقوس تختلط بالركل والركض والتسديد.. والتشجيع

وبقدر ما لكرة القدم من بهجة، بقدر ما تحتفظ في استدارتها بقسط من اللعنات الغامضة

عن لغة الكرة ولعنتها سيدور هذا الكتاب، مستندًا بموضوعية وتجرد إلى كل ما توصلنا إليه من معلومات ووثائق، وكتابات وشهادات

أتمنى لكم قراءة ممتعة

من مقدمة كتاب "حروب كرة القدم"، دار العين للنشر، القاهرة، 2010
تابع القراءة

gravatar

ديمقراطية كرة القدم




أغرى نجاح كرة القدم كثيرين بالمقارنة بينها وبين عالم السياسة

يعرب الكاتب الصحفي فهمي هويدي عن أمله في إخضاع اللعبة السياسية إلى قواعد وقوانين الفرق الرياضية، ويقول إن "العوامل الرئيسية للنجاح واحدة في الحالتين، لكن تلك العوامل توظف في الرياضة ويتم تجاهلها في السياسة، فعنصر الكفاءة مثلا يتم التعامل معه بمنتهى الشدة والحزم في الرياضة، بينما الأمر ليس كذلك في السياسة"

وعن هذه النقطة يقول د. أسامة الغزالي حرب إن "أسباب النجاح الكروي والفشل السياسي هو أنه في فرق النوادي وفي الفريق القومي ليس هناك، في الغالب الأعم، إلا معايير الموهبة والكفاءة والمهارات لاختيارات اللاعبين، سواء على مستوى كل ناد، أو على المستوى القومي"، مشيرًا إلى أنه "ومن حسن الحظ أيضًا أنه لا يوجد توريث في الكرة، وإذا برز ابن أو قريب لأحد اللاعبين أو المدربين أو مسؤولي الأندية أو الاتحادات الرياضية، فإن عليه أن يثبت فعلا كفاءته وقدراته الحقيقية"

الشفافية عامل أساسي آخر في الرياضة، وهو نسبي في السياسة وأحيانا ينعدم تماما. ذلك أن النشاط الرياضي يمارس أمام الناس وتحت أعينهم. فهم يرون من أصاب ومن أخطأ، ويعرفون أسباب اشتراك البعض في اللعب وغياب البعض الآخر. أما السياسة فهي إن كانت فن الممكن عند البعض، فإنها أيضا مستودع الأسرار والألغاز، خصوصا في الدول غير الديمقراطية، فالمفاتيح كلها بيد السلطان


المساءلة قيمة ثالثة حاضرة بقوة في عالم الرياضة، وهي غائبة بالقوة نفسها في عالم السياسة. سنلاحظ هنا أن عالم كرة القدم تجري أغلب أحداثه ووقائعه على مرأى ومسمع من الرأي العام، بل إن الرأي العام كثيرًا ما يكون شريكا في بعض القرارات التي تتخذ بشأن اختيار لاعبين، أو تشكيل أجهزة، أو تقييم لأداء أفراد أو مؤسسات، بل إن مباريات الكرة نفسها لا يكتمل معناها إلا بحضور الجمهور، حيث التأييد والتشجيع جزء لا يتجزأ من اللعبة نفسها، غير أن تلك الشفافية تكون مفتقدة في النظم السياسية غير الديمقراطية. وذلك ما يفسر الفتور الشديد الذي ينتاب المشاهدين في لعبة السياسة، والحماس البالغ الذي يبديه المشاهدون في مباريات كرة القدم. وفي مباريات الكرة نفسها، يحدث الثواب والعقاب في التو واللحظة، بدءًا من الإنذار، وحتى الطرد من الملعب أمام جمهور المتفرجين، وذلك أمر كثيرًا ما يفتقد في السياسة

وبينما يؤكد فهمي هويدي "أننا نتصرف بمنتهي الجدية في الرياضة لأن سيف الحساب ينتظر الجميع، في حين أننا نلعب ونتدلل في السياسة لأن هراوة الأمن المركزي تهدد الجميع" ، يضيف د. أسامة الغزالي حرب أن من أسباب النجاح الكروي، والفشل السياسي هو أن الفريق القومي "الكروي" لا يحتكره ناد واحد، على عكس الفريق القومي "السياسي"، أي الحكومة التي يحتكرها حزب واحد، منذ ما يزيد على ثلاثين عاما

وفي هذا الجانب يقول الكاتب نفسه "إن عدد اللاعبين الذين شكلوا الفريق القومي المصري كان ثلاثة وعشرين لاعبا (يقارب عدد أعضاء الحكومة) ولكن هؤلاء اللاعبين الثلاثة والعشرين ينتمون إلى تسعة أندية (الأهلي: 6، والزمالك: 5، والإسماعيلي: 2، وإنبي: 3، والمنصورة: 2، والمصري: 1، حرس الحدود: 1، بتروجيت: 1، الاتحاد السكندري: 1)

أما لاعبو الفريق السياسي، "الحكومة"، فهم جميعًا ينتمون إلى حزب واحد، وهو أمر مستمر منذ ما يقرب من نصف القرن"


وقد يرى كثيرون أن كرة القدم هي الديمقراطية التي يبحثون عنها، أو هي حق من حقوق الإنسان التي لا يستطيع أحد أن يقترب منها، ففيها حق الحديث وحق الكلام وكثير من الحرية. ومع وجود الشفافية والمساءلة وتداول السلطة، تبدو كرة القدم مصدر سعادة المصريين وغيرهم من العرب، ففيها كل ما لا يجدونه في عالم السياسة . إنها شعوب محرومة من الإحساس بالانتصار والإنجاز فتلجأ إلى كرة القدم، محرومة من النزول إلى الشارع للهتاف ورفع الأعلام دون تنغيص أمني، فتخرج مفرغة كبتها وغضبها عقب مباراة كرة قدم 

في كرة القدم قواعد ولوائح وقوانين ومواقيت، أما في السياسة فإن القيادي أو الحاكم يعلم أن قوانين اللعبة بيده يستطيع التلاعب بها وقتما شاء ولمصلحة من أراد، لعلمه بغياب الرقابة المنظمة لقواعد اللعب، والجمهور المشجع، والنقاد القادرين على تحريك الجماهير، لتسير اللعبة على طول الوقت من طرف واحد

وينص قانون كرة القدم على أن زمن المباراة 90 دقيقة، تقسم على فترتين يطلقون عليها "شوطين"، كل شوط 45 دقيقة، مع وجود استراحة 15 دقيقة بين كل شوط. كما يدرك الحكم ضرورة حساب "الوقت الضائع" على مدار زمن المباراة؛ لأن ذلك جزء من مهامه ليحافظ على الوقت الذي ضاع أثناء تبديل اللاعبين أو إصابة لاعب أو تحذيرات وطرد أو خلافات حصلت بين اللاعبين

ويختلف الأمر لدى الحكام في ساحة اللعب العربي

إن وقت المباراة محسوب بالثانية في عالم الكرة، ولكن في عالم السياسة يمتلك الحكام العرب كل الوقت ليقولوا ويفعلوا ما يشاؤون، ليصير الوقت الضائع هو حياة الشعوب العربية ذاتها

في كرة القدم هناك ديمقراطية ووقت محدد والتزامات محددة، في حين يأتي الحكام العرب إلى الحكم وليست لديهم نية الخروج في الزمن المحدد، فيستمرون إلى أن يضع الموت نقطة النهاية

وفي السنوات العشر الأولى من الألفية الجديدة، تغيرت أساليب جماهير الكرة المصرية في مؤازرة فرقها، فظهرت روابط المشجعين، ومجموعات الألتراس، التي عرفتها الكرة الإيطالية في ستينيات القرن الماضي. وجرى استيراد مظاهر استعراض القوة والانتماء لفريق، لتتحول إلى مظهر خطير يعرف بما يسمى "كورتيج".. وهو تكوين تجمعات كبيرة تتحرك موحدة ومتحدة بأعلام ناديها ومرددة الهتافات، وهو مظهر مستورد من عصابات المخدرات في أميركا الجنوبية، ودخل شارع الكرة المصرية بدءًا من عام 2009، لتتواجه الجماعات المتحفزة ويقع المحظور،  مثلما حصل من اعتداء على مقر النادي الأهلي والممتلكات والمحال في الشوارع المحيطة بالنادي، ثم الرد بمحاولة الاعتداء على نادي الزمالك في 21 سبتمبر 2010 

وهذا الاعتداء بالذات دعا العقلاء إلى التحذير من أنه "حين يتواصل ويشتد مسلسل ترويع الآمنين ومداهمة البيوت والمحال وإحراق السيارات، لن نعرف وقتها من هو الأهلاوي ومن الزملكاوي.. لكننا سنبكي كلنا فقط على وطن أحرقه التعصب الغبي والأعمى لأندية كرة القدم"

وفي السنوات الأخيرة أيضا، انقرض "لقب كبير المشجعين"، وعلت أصوات جماعات المشجعين.. وباتت الألوان في المدرجات علامة، وأمسكت الأيدي بالإعلام، وتنوعت أحجامها، وأصبح كل جمهور يحتفي بفريقه لحظة دخوله أرض الملعب، فيما يسمى الدَخلة، وبهتافات وأغنيات جديدة.. وباتت مباريات المنتخبات مظاهرات وطنية تجسد حالة الانتماء وتشعل الحماس، وتثري أصحاب الأعلام. وشأن كل شيء ظهر أيضًا العلم المصري المصنوع في الصين وأصبح العلم بطلا.. وشأن صيحات المساواة بين الرجل والمرأة، غيَّرت الوجوه الجميلة في كأس الأمم الإفريقية 2006 من ملامح مدرجات الملعب المصري

إنها ثورة كروية ترسم ملامح ديمقراطية مفقودة في الشارع

تابع القراءة

gravatar

عناية جابر.. عن كتاب الرغبة




عناية جابر





في «كتاب الرغبة» للكاتب المصري ياسر ثابت، عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» وقع اختيار الكاتب على أعمال تقدم كتابات للمرأة أو عنها، وهي جميعها بأقلام نسائية، باستثناء الفصل الخاص برسائل الفلسطيني غسان كنفاني للأديبة غادة السمان، ما اعتبره الكاتب أمراً ينسجم مع محتوى الكتاب. الفصل الخاص برسائل كنفاني إلى السمان، المرأة فيه طرف أساسي في علاقة تحف بها الرغبة والمحبة معاً.

في «كتاب الرغبة» نقرأ كتابات نساء حاولن استعادة أجسادهن الحاضرة الغائبة، أقلاما نسائية اختارها الكاتب على امتداد الخارطة الروائية العربية، ومن رحم هذا التنوع الجغرافي والفكري في الاختيارات، أمكن التقاط تفاصيل مهمة عن الرواية العربية وكتب السيرة الذاتية، خاصة التي تتحدث عن المرأة. نساء كاتبات من مختلف الطبقات والأعمار، أغلبهن يروين قصة حياتهن، وبعضهن يلجأن إلى حكايات تتقاطع مع الذات، حكايات تبحث في الحب والحرب، الدين والسياسة، الخضوع والانعتاق. وفي هذا كله نجد المرأة العاشقة، ذلك الميناء المفتوح على الحرية والجنون. نساء يستيقظن على تسرب العمر، فتبدأ الكتابة كما لو رحلة محاسبة النفس، والآخرين، على العمر الذي تسرب، في سرد يشبه جلسات مكاشفة، تسندها تجارب إنسانية مؤثرة.

يربط الكتاب موضوع عام. ليس موضوع الروايات المتناولة هو العام، بل الأقلام النسائية التي كتبتها، وهي وحدة موضوعية كافية تماماً لجمعها في كتاب، ومعالجتها، وتبيان الفوارق الأسلوبية بين كاتبة واخرى. أما اختلافات التناول، فهي تشبه تعدد الأصوات الموسيقية تحت تيمة واحدة هي الكشف عن المستور، وإن كانت تتميز كاتبة عن أخرى بحيازتها مكنة السرد والتأليف الروائي، وهي شروط لا غنى عنها سواء لكتابة امرأة، أو كتابة رجل.

تجربة جارحة

ثمة أسئلة يتوقف عندها بعض القراء، تشبه حالات فضولية ورغبة في معرفة إن كانت الحكايات التي كتبتها النساء الكاتبات، حدثت فعلاً لكاتباتها أم أنها محض خيال. والحقيقة أن التساؤل هذا يدخل في باب التلصص على المرأة، ولا يظهر اهتماماً فعلياً في نتاجها. ثابت يرى أن كتابة السيرة الذاتية عند المرأة نوع من تحويل البياض إلى تجربة نابضة، قد تكون أحياناً جارحة. كثيرات يلجأن إلى اللعب بالواقع والخيال، وإلى ممارسة تقنية الكشف والإخفاء عبر تذويب ذاتها في ثنايا السرد. وبذلك تكون المرأة حاضرة من خلال التفاصيل التي يتورط القارئ في حبها والتلصص عليها ملتبساً بفضوله أو بثقافته.

بالنسبة إلى الفصل الخاص برسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، نوافق الكاتب رأيه على أن للمرأة فيه (غادة السمان) دوراً أساسياً، ولعل في هذا الفصل العاصف بحب الرجل للمرأة، ما يعوض عن كل التهميش الذي لحقها، سواء في نص هذه الكاتبة أو تلك. يقول غسان لغادة في إحدى رسائله التي تنتمي إلى أدب الاعتراف، شبه الغائب عن مكتبتنا العربية: «أنت تستحقين أن أرحل إليك، عبر الليل والبرد والتوحش، ثلاثين عاماً. لو وجدت في كوة الضوء التي انفتحت امامي بعد رحلة الشوك الطويلة واحدة غيرك لمت من اليأس، ولكن أنت؟! إنني أستعذب الرحلة الآن، بل أرى أنني لو لم أقطعها ـ في الليل والبرد والتوحش ـ لما وجدتك».

عين محايدة

لم يجمع الكاتب ياسر ثابت روايات بأقلام نسائية، مكتفياً بجمعها في كتاب، مع مقدمة وبعض التدخل، بل نلحظ الجهد الذي بذله في تقديمه لكل من الكاتبات، سواء لناحية الإضاءة على التيمات التي اشتغلت عليها الكاتبة، بل أيضاً على الفنية التي ترفع من الشكل الروائي، وتجعل كاتبته تتميز عن هذه أو تلك من الكاتبات. بعين فاهمة ومحايدة، يرى ثابت إلى كاتباته المختارات لكتابه «كتاب الرغبة» من دون إبداء أي ميل شخصي مجاني، يرفع من شأن كتابة على أخرى، ما عدا أهميتها وتأثيرها في الخارطة الروائية العربية. أهداف سويف، سمر يزبك، علوية صبح، سلوى النعيمي، لطيفة الزيات، نوال السعداوي، هيفاء بيطار، سحر الموجي، رجاء الصانع، زينب حفني، صبا الحرز، وردة عبد الملك، فاطمة أو فقير، مليكة أو فقير، عفاف البطاينة، عالية ممدوح، مليكة مقدّم، إلهام منصور، حزامة حبايب، ليلى العثمان، باهية الطرابلسي، فاطمة المرنيسي... كاتبات شاء الكاتب اختيارهن ضيفات على كتابه، من دون سواهن من كاتبات الجيل الجديد الذي تزخر كتابته بأكثر من وعد، وموهبة، وثقة في تقديم الذات الساردة. محاولة (يقول الكاتب) للإبحار في الشرايين التي توصل قلب المرأة بعقلها، وعاطفتها برغباتها، وحريتها بحياتها، بدلاً من احتجازها في قيود المكان والمظهر العام، فلا تبارح ذلك «كأنهن النبات ينمو ويذبل في إنائه»، كما يقول ابن رشد.

جريدة "السفير"، بيروت، 28 سبتمبر 2010
تابع القراءة

gravatar

كيمياء.. أيام النصر







الإدمان الكروي في مصر فتح صندوق الأسئلة

برز تساؤل منطقي مفاده: "ما سر كرة القدم مع المصريين؟ هل هي كالأفيون، أم هي المخدر الذي يهدئ أعصاب المصريين، هل ولد المصريون وكرة القدم تجري في دمائهم، أم هي الشيء الذي يُنفس (بضم الياء) فيه المصريون عن هذا الكبت والحرمان الذي يعيشونه، ما هذا الفوز الذي يبعث الحياة في المصريين، ما هذا الحب الذي ينزل فجأة وبالهبل لبلدهم مصر، ما سر هذه الأعلام التي يتسلح بها المصريون، هل هذا العَلم - الذي بدا في أجواء المباريات بهيا قويا كما لم يبد من زمن بعيد، خفاقا كما لم نره من قبل إلا قليلا - هو الحضن الذي يبعث الحنان والدفء لديهم، أم هو الساتر الذي يمنع عنهم صعوبات الحياة التي يعيشونها، ولماذا كرة القدم؟ لماذا لم يخرج المصريون عندما حصل نجيب محفوظ والرئيس السادات وأحمد زويل على جائزة نوبل، لماذا لا يخرجون في احتفالات نصر أكتوبر مثلما يخرجون الآن؟

"إذن هناك سر خاص، هناك كيمياء بين المصريين وكرة القدم خصوصًا أيام النصر"



صحيح أن الأفراح الكروية تنفجر في كل مكان، غير أن الحالة المصرية ترتبط أكثر من غيرها بالسياسة. فالمواطن المصري بات يرى فريقه، سواء المنتخب أو النادي، "مشروعه القومي، وجماعته الخاصة.. ففوزه انتصار له وخسارته تعني هزيمته.. وهو يرى نتيجة مشاركته في هذا المشروع القومي الذي هو المنتخب فورًا، يرى النتيجة في الحال، ويعتبر نفسه صاحب الانتصار، ويعتز بذلك ويفخر به ولو لم يعلنه. والمواطن المصري يرى أنه لا يخسر في الانتخابات السياسية؛ لأنه لا يشارك فيها أصلا، فكيف يخسر شيئًا لم يفعله، وهو أيضًا لا يفوز في الصحة أو في التعليم، ولا ينتصر في عمله على أنصاف المواهب وأصحاب الواسطة.. وهو يرى الفريق ملكًا له. وبقدر ما في قلبه من انتماء لمصر إلا أنه لا يجد حدثا عاما يحرك هذا الانتماء سوى كرة القدم.. وهذا هو الفارق"

ويبدو أن مصر فقدت الإنجازات التي تجعل المصريين يلتفون حول هدف محدد، وهذا ناتج عن غياب الدولة والرعاية الاجتماعية التي تجعل الإنسان شغوفًا مهتمًا بتحقيق الهدف، وكرة القدم هي الشيء الوحيد الذي له شعبية ويتم الالتفاف حوله. والمشكلة الآن محورها أن الشعب المصري لا يلتف أو يبتهج ولا يهتم ولا يحزن ولا يحشد نفسه ولا يجيش شبابه ولا يحقق ذاته إلا من أجل كرة القدم؛ لأن كل شيء غير كرة القدم غير محقق

ويمكن هنا أن نلفت الانتباه إلى رأي يقول بأن المشجع الأوروبي يرى الملعب ساحة للخروج عن النظام والقانون والقيود؛ لأن كل ما يحيط به، في الشارع والمكتب والمنزل يخضع للنظام، والقانون والقيود.. ويرى المشجع المصري الملعب ساحة للتعبير من سخطه؛ لأنه يعاني من غياب النظام والقانون والقواعد في الشارع والمكتب والمنزل

ويستغرب د. جلال أمين "ذلك الربط المدهش بين الفوز في لعبة ككرة القدم، وبين الشعور القومي والولاء للوطن. من الممكن أن تتصور أن يشتعل الحماس للوطن لدى الانتصار في حرب من أجل قضية يؤيدها الناس، أو للنجاح في اقتحام الفضاء أو النزول على القمر، أو اكتشاف أحد مواطنينا اكتشافًا عبقريًا أو اختراعه اختراعًا يفيد العالم بأسره، أو حتى فوز أحد مواطنينا بجائزة نوبل في الأدب أو العلم.. إلخ"


ولعل النجاح الكروي على الصعيد القاري استدعى تساؤلات سياسية وإسقاطات لا تنتهي

فقد تساءل البعض لماذا تحقق مصر إنجازاتها الكبيرة في مباريات كرة القدم في حين تخيب جامعاتها ولا تذكر في أي تصنيف عالمي محترم. أحدهم سأل: لماذا لا يعين الكابتن حسن شحاتة رئيسًا للوزراء، ووصل الأمر إلى أن رئيس تحرير سابق أيد الدعوة بأن استشهد بتولي محمد علي حكم مصر عام 1805 وكان تاجر دخان لا يعرف القراءة والكتابة. وتورط بعض الكتاب والصحفيين برفع الفوز بكأس الأمم الإفريقية إلى مستوى أهمية انتصار القوات المسلحة في حرب أكتوبر 1973



أحد أصحاب الأقلام الجادة، جعل حسن شحاتة، المدير الفني لمنتخب مصر، أحد رجلين - إلى جانب مرشح الرئاسة الإيرانية حسين موسوي- من العالم الثالث استطاعا في توقيت متقارب أن يدفعا شعبي بلديهما إلى الشارع. تحدث الكاتب عن "دولة تحتاج إلى منقذ في السياسة يمتلك براعة منقذها في الرياضة"، مشيرًا إلى أنه "لم يأمر الكابتن حسن شحاتة أحدًا بالجري في الشوارع والرقص حتى مشارف الفجر، لكنه أنجز مهمة ثقيلة في صمت فاستحق الإعجاب والثناء، وعبر الناس عن إعجابهم عفويًا بحناجرهم وأكفهم وأرجلهم التي دبت كثيرًا في الأرض، وبأبواق السيارات التي ملأت آذان كل العابرين" 

العالم المصري د. محمد النشائي، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة كامبردج البريطانية، طالب بضرورة وجود منتخب علمي يرفع اسم مصر عالميًا ويقودها نحو المستقبل، مثلما فعل منتخب كرة القدم بقيادة الكابتن حسن شحاتة، بفوزه ببطولة إفريقيا للمرة الثالثة على التوالي

وأشار النشائي إلى أن الإصرار والإخلاص والإرادة وتحديد الهدف، هي الخلطة السحرية للنجاح والتقدم على كل المستويات، وقال: "ما حققه منتخب شحاتة لمصر وللعرب يمكن تحقيقه في جميع المجالات، وأولها البحث العلمي الذي يحتاج إلى تشكيل منتخب علمي يكون هدفه تقديم حلول عملية لمشكلات مصر والمشاركة والمنافسة بقوة في الهيئات والمراكز البحثية العالمية"



وعلى حافة منطقة رمادية، وجهت انتقادات لسوء استخدام بعض نجوم الكرة – وخصوصًا حارس مرمى المنتخب عصام الحضري- عَلَم مصر، الذي هو جزء من التعبير عن الانتماء للوطن. وجزء من التعبير عن رغبتنا في احتضان الوطن لنا. وانتقد هؤلاء صورة الحضري وهو يضع العلم حوال خصره ويرقص فرحًا بالفوز الكروي أمام كاميرات التليفزيون 

وبلغ الأمر مداه حين تساءلت بعض الأصوات: ماذا لو كان لمنتخب كرة القدم المصري علم خاص به "هل كان الناس سيحملون علم مصر بهذه الكثافة، أم أن نسبة الأحمر والأبيض والأسود كانت ستتضاءل؟!.. بتبسيط أكثر: هل كان هؤلاء السعداء الراقصون في الشوارع ينتمون لمصر أم ينتمون لمنتخب مصر؟"

ويبدو أن صحيفة "لوموند" الفرنسية على حق حين تقول إن المصريين يمزحون في كل ما يتعلق بحياتهم اليومية من أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية، حتى إن "النكت" السياسية في مصر هي أقرب للرياضة الوطنية التي يمارسها الشعب، إلا أنه فيما يتعلق بالرياضة وتحديدًا كرة القدم فالأمر أكثر جدية والنكت والمزاح أمر مرفوض تماما

ومع استدعاء المقارنة بين الرياضة والسياسة، والتساؤل عن أسباب النجاح في الأولى دون الثانية، تطوع البعض بالرد والتفسير


تابع القراءة

gravatar

محاكمة كرة القدم



هناك من يؤرخ لبداية ما يسمى "الاستخدام السلبي للرياضة" بصعود مصر إلى كأس العالم 1990، إذ كانت مصر وقتها في حاجة لمشروع يلتف حوله الجمهور بعد سلسلة من الإخفاقات والتغيرات الاجتماعية التي أثرت على المصريين، بالإضافة إلى حالة الجمود السياسي التي بدأت تظهر

وعلى يد منتخب محمود الجوهري جاء الحل عندما اهتم الناس بشكل تلقائي بالمنتخب والتفوا حوله، فظهرت لأول مرة مطبوعة رياضية حكومية تؤصل للاهتمام، وتدعمه وهي "أخبار الرياضة"، وبعدها بدأ عدد كبير من المطبوعات الرياضية في الصدور، وبدأ الجمهور في الاهتمام بالرياضة كبديل لأي مشروع سياسي أو اجتماعي، وهو ما لاقى قبولا عند النظام فدعمه، من خلال مظاهر عدة تطورت في 2009، لأكثر من قناة فضائية رياضية، ووزراء يسافرون خلف منتخب الكرة، أكثر من الوزراء الذين زاروا موقع حادث مثل عبَّارة "السلام 98" أو الدويقة

حتى في الكوارث العامة التي شهدتها مصر، كان لكرة القدم دور بارز وتأثير واضح

ففي 3 فبراير 2006، غرقت العبَارة "السلام 98" فـي البحر الأحمر الذي ابتلعت مياهه 1034 إنسانًا، معظمهم من المصريين العاملين فـي السعودية وباقي دول الخليج، ممن كانوا عائدين إلى عائلاتهم بعد أشهر أو سنوات من الغربة


وفي 27 يوليو 2008، برَّأت محكمة جنح سفاجا ممدوح إسماعيل، مالك العبَارة الغارقة "السلام 98"، وجميع المتهمين معه فـي القضية، فيما أدانت قبطان العبَارة "سانت كاترين" صلاح الدين السيد جمعة بالحبس ستة أشهر وغرامة 10 آلاف جنيه لإيقاف التنفيذ، وحمَلت المسؤولية الكاملة على عاتق قبطان العبارة الغارقة المفقود

وفي الحالتين، كانت كرة القدم حاضرة لغرض في نفس يعقوب

ففي المرة الأولى، كانت مصر على أعتاب المشاركة في كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم، وسرعان ما دارت آلة الصخب الإعلامي والرياضي ليعلو صوت هتاف المشجعين على أصوات أهالي ضحايا العبَّارة الغارقة. وفي نهائي تلك البطولة الذي أقيم في 10 فبراير 2006، كانت القيادة السياسية في مصر بالكامل تحتفل في الاستاد بالفوز وتتبادل العناق فرحًا بالفوز ، في حين غابت تمامًا – أو غُيّبت- أحزان قطعة من جسد مصر وأهلها وناسها، ممن لم تكن دموعهم قد جفت بعد حزنا على كارثة العبَّارة


تواصلت المباريات والاحتفالات، واتحد المصريون في فرحتهم بالكأس، ولم يوحدهم
الحزن على ما راح. اتحدوا في الصمت عن ممدوح إسماعيل بعد أن هُمشت التقارير التي تُدينه والاستجوابات وطلبات الإحاطة ليهرب على مرأى ومسمع من الجميع، ومع ذلك لم تتغير الأولويات وبقيت الكرة رغم كل المعاناة في صدارة الاهتمامات

وفي المرة الثانية، كان التشجيع على أشده في الشارع والإعلام المصري للقاء رياضي مهم بين ناديي القمة، الأهلي والزمالك على بطولة السوبر، فغابت صرخات الاحتجاج على حكم القضاء، قبل أن تنصف محكمة جنح مستأنف سفاجا الضحايا وذويهم بإصدار حكم جديد في 11 مارس 2009 ألغت فيه حكم البراءة الصادر من محكمة الجنح، وعاقبت ممدوح إسماعيل، بالحبس 7 سنوات مع الشغل والنفاذ، في حين برَّأت نجله عمرو

هنا تساءل البعض: هل كانت مصادفة أن يتعاظم الاهتمام والاحتفاء ببطولة إفريقيا لكرة القدم التي استضافتها مصر وفازت بها بعد أيامٍ من الكارثة؟ وهل كانت مصادفة أن يصدر الحكم القضائي الأول فـي يوم بطولة السوبر بين ناديي الأهلي والزمالك؟

إنها كرةُ القدم.. غسيل أموال وأرواحٍ من طرازٍ جديد

ووسط الحديث عن إصرار أهل السياسة على انتزاع انتصارات كروية وسط ركام الأزمات، نتذكر رأي د. مصطفى حجازي، الذي يقول إن "الجماهير في حالة قصور واضح، فيبدو وكأن الاستكانة والمهانة هي الطبيعة الأزلية لها، وهذا ما تحاول قوى التسلط غرسه في نفسيتها، والطريقة الكلاسيكية ليتحول المواطن إلى دجاجة مستكينة هي الإلهاء"


الإلهاء، أحد المفاتيح التي يطرحها البعض لفهم أبعاد العلاقة بين كرة القدم والسياسة

تيري إيغلتون، أحد أبرز المفكرين اليساريين الماركسيين في بريطانيا، يقول إنه "لو أن كل مركز أبحاث خرج بخطة لحرف أنظار الشعب عن الظلم السياسي وتعويضه عن حياة الأشغال الشاقة التي يعيش، فإن الحل لدى كل من هذه المراكز لن يخرج عن كونه واحدًا: كرة القدم" . ولذا، يدعو إيغلتون إلى "إعدام" هذه اللعبة: "لا أحد يمكن أن يكون جدّيا في دعوته إلى التغيير السياسي، يستطيع التهرّب من الحقيقة بأنه يجب إلغاء هذه اللعبة"

وبغض النظر عن هذا الاقتراح الذي قد يثير حنق ملايين البشر من عشاق الكرة، فإننا سنجد هناك من ينتقد التوظيف السياسي لكرة القدم ويقترح منح "صفر للسياسة المأزومة؛ حينما تريد أن تمتطي الرياضة الرابحة، لتمرر مشروعاتها الفاسدة، وتغطي على أدائها المهترئ، وتعوض الجمهور البائس عن خسائره، في الطبابة والتعليم والضمان والمكانة بين الأمم، بالتلويح بالعلم في مقصورة الاستاد، أو برسائل التهنئة ومداخلات الهاتف على الفضائيات الرائجة والمنتشية"

وكأن مرآة الاهتمام بالكرة وطغيانها على الأجندة السياسية، ألقت بظلالها على قضايا ذات بُعد قومي وعربي. وقارن البعض بين حماس المصريين لما حققه الفريق القومي لكرة القدم، وبين الفتور النسبي الذي قابلوا به ممارسات إسرائيلية، مثل اقتحام المسجد الأقصى وضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح إلى الآثار اليهودية. وكانت خلاصة ما خرجوا به من المقارنة أن "الرأي العام المصري استولت عليه كرة القدم، وغيرها من المعارك الصغيرة وأنه لم يعد يكترث كثيرًا لا بالقضية الفلسطينية ولا بالمقدسات الإسلامية"

غير أن إطلاق الحكم السابق على الشعب المصري لا يخلو من بعض التعسف. ذلك أنه في اليوم الذي نشرت فيه أخبار اقتحام المسجد الأقصى، تحدثت الصحف المستقلة في مصر عن مظاهرات في جامعات القاهرة والأزهر والزقازيق احتجاجا على اقتحام المسجد. وكانت بعض الهتافات واللافتات تحمل النقد نفسه الذي نتحدث عنه، فقد ظل طلاب الأزهر يرددون: "ماتش كورة حرَّك دولة والأقصى بعناه مقاولة"


وما إن أطلق الحكم صافرته، معلنًا انتهاء المباراة النهائية في كأس الأمم الإفريقية في أنغولا بفوز مصر على غانا بهدف مقابل لا شيء، حتى تغيرت كيمياء معظم المصريين وتبدلت أحوالهم، من "هم" و"غم" و"كوارث طبيعية ومصنوعة"، ليخرج الناس في فرق وجماعات، سيرًا على الأرض أو قفزًا فوق السيارات، يتشحون بـالأعلام أو يحملونها أو يلوحون بها، نساء تزغرد وفتيات ترقص، وشباب يصفق ويطلق الألعاب النارية، وأطفال يهتفون باسم "مصر" ومرور يتوقف وشوارع "تُغلق" و"سهر وسمر وطبل وزمر وتبادل للتهاني"

وكأن حصول مصر على كأس الأمم الإفريقية ثلاث مرات متتالية وسبع مرات متقطعة وخوضها تسع عشرة مباراة بلا هزيمة ليسا إنجازًا رياضيًا كرويًا فقط، وإنما حدث قومي وانتصار بطولي تاريخي وانتفاضة شعبية اندلعت على يد "المعلم" حسن شحاتة وفرقته. وكأن أكثر من عشرين لاعبًا فقط بيدهم إسعاد الناس وشقاؤهم، فرحهم وغمهم، إذا أدوا أداء كرويًا جيدًا وكسبوا مباراة مهمة أو بطولة خرج الناس من بيوتهم مستبشرين متهللين، وإذا حدث العكس بقوا رهائن محابسهم حزنًا وكمدًا، وكأن الناس لم تعد تأكل أو تشرب أو تتنفس إلا بكرة القدم


وبعد حصول مصر على كأس الأمم الإفريقية في عام 2008 اندلع إضراب عمال المحلة، وسقط من سقط واعتقل من اعتقل، وارتفعت أسعار الوقود، لكن الناس في مصر انشغلوا عن كل ذلك بقضية هروب عصام الحضري من النادي الأهلي وتعاقده مع نادي "سيون" السويسري، لتصبح هذه القضية الشغل الشاغل لهم. وفي بداية 2010 وقعت أحداث نجع حمادي الدامية، وانهمرت السيول فوق بعض المحافظات المصرية، ونجمت عنها مآس وكوارث. وبدلا من التكاتف للبحث عن حلول لهذه الأزمات، تحوَّل كل الاهتمام للمباريات وفوز مصر الساحق على الجزائر ثم حصولها على كأس الأمم الإفريقية في أنغولا، وتحقيق النصر الذي لا نعرف غيره

بدا الإعصار الكروي الذي يجتاح كل شيء أمامه - بما في ذلك أشكال الشعور القومي الأخرى- لغزًا يحتاج إلى تفسير وفك طلاسم
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator