المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

عصر الجواري.. والباشوات أيضاً







الرقيق، كانت كلمة السر في مصر لزمن طويل

فقد كانت تجارة الرقيق منتشرة، وخاصة بين مصر والسودان

وفي مذكراته المهمة، يقول السياسي والمؤرخ أحمد شفيق باشا (1860- 1940) "كان الرقيق يكاد يعتبر يومئذ جزءاً من الأسرة. وكانت تجارة الرقيق منتشرة في البلاد، سواء منه الأسود أو الأبيض
"وكانت توجد في القاهرة بيوت خاصة ببيع الرقيق تعرض بواسطة (يسرجيات أو يسرجيين) فكان يرتاد هذه البيوت من يريد اقتناء الجواري أو المماليك أو العبيد
"وكان المعتاد أن يكشف عن الجنسين وهم عرايا. وقد يبالغون في ذلك، خصوصاً بالنسبة للإماء، فيوضعن في طسوت ملأى بالماء، ثم يخرجن، فإن نقصت كمية الماء دل ذلك على الصحة
"وكان يوجد بين الجراكسة عائلات بتمامها، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً؛ وقد اقتنى أبي عائلة مؤلفة من رجل وامرأة، وولد وبنت صغيرين
"وكان مالكو الرقيق يستمتعون بالإناث منه (الجواري) وخصوصاً البيض منهن. وكن يملأن بيوت الكبراء. وبذا اختلط الدم المصري بدم الجراكسة في بعض الأسر. وكان المصريون يعاملون الرقيق معاملة حسنة، فيرسلون الذكور للمدارس ويعتقونهم. ومن هؤلاء من وصل إلى وظائف مهمة في الجيش والإدارة، حتى إن شوارع حلوان قد سمي أكثرها بأسمائهم؛ ومنهم من كان يزوج بناته منهم، أما الإناث فكان يعنى بتزويج الكثيرات منهن"
[1]
ولما تولى الخديو إسماعيل حكم مصر أصدر أمراً إلى حكمدار السودان عام ‏1863‏ بتعقب تجار الرقيق ومنعهم بالقوة من ممارسة تجارتهم المحرمة،‏ ونفذ الحكمدار أوامر الخديو فضبط 70 سفينة مشحونة بالرقيق واعتقل التجار الذين جلبوهم،‏ أما الأرقاء فقد أطلق سراحهم وأعادهم إلى بلادهم. وفي عام ‏1865‏ احتل الجيش المصري بلدة فاشودة لكي يسد الطريق على تجار الرقيق،‏ وأقام فيها نقطة حربية دائمة لمنع تجارة الرقيق‏.‏ وفي 4 أغسطس عام ‏1877‏،‏ وقعت مصر على معاهدة حظر الاتجار في الرقيق، مع فترة سماح لمن لديه جوارٍ لمدة 12 سنة للتصرف فيهن
[2]

استمرت عمليات تجارة الرقيق في مصر، على رغم صدور المعاهدة الثانية لمنع الرقيق في بروكسل عام ‏1890‏‏، وإنشاء مصلحة لرعاية شؤون الرقيق وبحث أحوالهن وما استتبع تطبيق قانون إلغاء الرقيق من إجراءات ومشكلات،‏ يقودها ضابط إنجليزي يُدعى شيفر بك. وكانت من مهام المصلحة ملاحقة تجار الرقيق وتقديمهم للعدالة وكانت تلك الجريمة عقوبتها حينئذ السجن لمدة خمس سنوات. ووفق التقديرات البرطانية وتعداد السكان عام 1850 ومن واقع سجلات مكتب تجارة الرقيق الذي تأسس في أعقاب معاهدة عام 1877، فإن عدد الرقيق في مصر طوال القرن التاسع عشر تراوح بين 20 ألفاً و30 ألفاً
[3]. وعلى رغم صعوبة تحديد رقم الرقيق في مصر آنذاك، فإن الباحثة جوديث تاكر، تقول إنه خلال الفترة بين عامي 1877 و1905، نال 25 ألفاً من الرقيق حريتهم في مصر[4]. غالبية هؤلاء الرقيق كن من النساء، اللاتي عملن خادمات في المنازل، كما وردت الوثائق حالات رق لغرض الزراعة في الصعيد، في حين جرى تجنيد أعداد كبيرة من الرقيق في الجيش مطلع القرن التاسع عشر[5]
لكن حادثة وقعت في عهد الخديو عباس حلمي الثاني حفيد إسماعيل،‏ كان لها تأثير كبير على تاريخ الرق في مصر‏.‏
ففي الأول من أغسطس عام ‏1894‏ حطت في عزبة نصار بجوار أهرامات الجيزة قافلة مكونة من خمسة نخاسين من البدو معهم ست من الجواري، كالآتي:حمدان ومعه جارية تُدعى مريم، علي مبروك ومعه سعيدة، محمد شغلوب ومعه حليمة وفاطمة، محمد درحان ومعه مراسيلة، وعبد الله سعيد ومعه زنوبة
توجه النخاسون الخمسة إلى منزل أحد معارفهم بالعزبة - ويُدعى عبد الرحمن نصار- لإخفاء الجواري الست في حجرة بأعلى المنزل، لحين العثور على زبون. لجأ علي مبروك إلى صديق يهودي يدعى إبراهيم منير - وكان صاحب ورشة لإصلاح العربات سابقاً، قبل أن يصبح عاطلاً عن العمل في أغلب الأحيان- وباح له بالسر، وطلب منه أمرين، الأول هو البحث عن مشترٍ، والثاني هو تدبير وسيلة لنقل الجواري سراً إليه
صحبه إبراهيم منير إلى يوسف اليَسَرجي صاحب عربخانة بدرب المناصرة، فهو بحكم عمله يلتقي الأعيان، الذين يصلح لهم عرباتهم. أجابهم الرجل بأنه يعرف بستانياً في قصر علي باشا شريف رئيس مجلس شورى القوانين حينئذ
وبالفعل عرض البستاني الأمر على الباشا، فوافق وطلب عرض الجواري عليه بقصد المعاينة. عاد البستاني لإبلاغ أفراد المجموعة الذين كانوا في انتظاره في "قهوة أبو فراخ" في الفوالة
وعلي باشا شريف هذا كان رجلاً قصير القامة، ممتلىء الجسم، يميل إلى الإسراف والتبذير. تزوج أربع نساء، بينهن مغنية سيئة السيرة، وعرف بطيشه ونزواته حتى إنه تم الحجر عليه مرتين وبلغت ديونه أكثر من 300 الف جنيه على الرغم من امتلاكه 13 ألف فدان
وعندما توفي عباس باشا الأول ورث ولده إلهامي باشا ثروته من الخيول العربية، لكنه انصرف عنها وباع حوالي 200 رأس من صفوة الخيل، اشترى أكثرها علي باشا شريف، فاستمر في تربيتها وأسس اسطبلات في الشارع الذي يعرف بالهدارة الذي يؤدي إلى شارع عبد العزيز في القاهرة. واشتهر علي باشا شريف بتنظيم حفلات سباق الخيل والعناية بها وإحراز قصب السبق في اقتناء خير الجياد، حتى صار عنده نحو 400 رأس، لكن مرض الطاعون حصدها. وبعد وفاته، بيعت خيول علي باشا شريف في مزاد عام
تولى هذا الباشا رئاسة مجلس شورى القوانين (7 سبتمبر 1884 - 24 سبتمبر 1894)، وكان هذا المجلس صنيعة الاحتلال وتألف من 30 عضواً يعين الإنجليز نصفهم، فضلاً عن كونه مجلساً استشارياً فقط، ليس قراراته ملزمة
في هذه الأثناء، كان شيء آخر يدور في عزبة نصار.فقد ارتاب مرشد يُدعى محمد بطران في التجار الخمسة، فجمع أتباعه وهجم على منزل عبد الرحمن نصار، وهو الرجل الذي أخفيت عنده الجواري وعثر عليهن بالفعل، لكنه أخذ بعض المصوغات وجنيهين من عبد الرحمن مقابل عدم إفشاء سره، فخرج وقال لأتباعه إنه لم يجد شيئاً
طلب الجميع التعجيل ببيع الجواري بعد هذا الموقف، وبالفعل حضر السمسار اليهودي ومعه زوجته تحت جنح الليل لنقل الجواري، كما كان معهم أحد خدم الباشا لإرشادهم إلى طريق القصر
عاين الباشا البضاعة وبعد مساومة دفع في ثلاث منهن - هن حليمة وسعيدة ومراسيلة- 60 جنيهاً، إضافة إلى 7 جنيهات للسماسرة، ثم استبدل الجارية سعيدة بزميلتها فاطمة، بعد أن رأى أن الأولى معتلة الصحة
ورجا النخاسون علي باشا شريف إخفاء الجواري الثلاث الباقيات في قصره لحين توفر مشترٍ، وهو ما تم بالفعل في اليوم التالي
الدكتور عبد الحميد الشافعي، طبيب مرموق، تعلم في أوروبا وتزوج أيضاً من طبيبة أوروبية شهيرة، أقامت معه في مصر بعد ذلك وعملت طبيبة لسيدات الأسر الكبيرة في مصر. استعرضت السيدة الجواري الثلاث، واشترت منهن واحدة، وطلبت إبقاء اثنتين لعرضهما على بعض معارفها. توجهت الطبيبة بهاتين الجاريتين إلى منزل حسين باشا واصف مدير مديرية أسيوط، وكانت حرم د. الشافعي طبيبة خاصة لزوجة حسين باشا واصف، وعرضت عليها الجاريتين، فاشترت واحدة، وأرسلت الأخيرة إلى عزبة محمد باشا الشواربي عضو مجلس النواب وأحد أعيان قليوب
كان مجلس شورى القوانين في تلك الفترة قد بدأ في المشاكسة والعناد، فرفض المرتبات الضخمة للموظفين الإنجليز ورأى أنها تستنزف ميزانية الدولة، كما أنهم بلا كفاءة تذكر تؤهلهم لتولي تلك المناصب. وانتقد المجلس شغل المناصب العليا في مصر بعددٍ من الأوروبيين، كما طالب بتفكيك مصلحة إلغاء الرقيق؛ لأنها تزدحم بالأوروبيين الذين يتقاضون مرتبات ضخمة، بالإضافة إلى أن تجارة الرقيق قد انتهت من مصر

وكان الخديو عباس حلمي الثاني، الشاب الصغير المعروف بمشاكسته لقوى الاحتلال، قد زار بعض وحدات الجيش المصري وانتقد بشدة مستوى التدريب السيء بها، مما عده السردار الإنجليزي كتشنر باشا قائد الجيش المصري حينئذ طعناً فيه وتقدم باستقالته، الأمر الذي أثار المعتمد البريطاني اللورد كرومر ضد الخديو، ودفعه إلى مطالبة الخديو باسترضاء كتشنر، وهو ما فعله خديو مصر مُكرهاً
في غضون ذلك، ظهرت علامات الثراء على محمد بطران، فشك فيه زملاؤه وأبلغوا عنه شيفر بك، وبعد البحث تبين صحة الشكوك، وتجمعت الخيوط في يد شيفر، وعرف من هم الزبائن، فانطلق إلى رؤسائه يبشرهم بالصيد الثمين
فقد خولف القانون، وممن؟ من رئيس مجلس شورى القوانين وعضوين في المجلس وطبيب مشهور. لقد بدت الفرصة سانحة للطم الجميع وإسكات الأصوات المشاغبة، والانتقام من المحرضين على رفض سياسات الاحتلال
توجه ضابط مصلحة الرقيق بنقطة الأهرام، إلى حيث يقيم النخاسون الخمسة وألقى القبض على أربعة منهم،‏ في حين لاذ الخامس بالفرار.‏ واعترف النخاسون تفصيلياً ببيع الجاريات إلى الباشوات المصريين. ووصلت إشارة إلى مأمور قسم السيدة زينب، وهو البكباشي محمد ماهر، فتوجه إلى منزل الدكتور الشافعي وسأله عن الموضوع، فأجاب الطبيب بمنتهى البراءة بكل تفاصيل الموضوع
[6]‏ ‏
أرسل علي باشا شريف وحسين واصف باشا والدكتور الشافعي إلى قسم عابدين ليبيتوا فيه، على ذمة التحقيق في القضية. أما الشواربي باشا، فإن الجنود الذين ذهبوا لإلقاء القبض عليه لم يجدوه في منزله بالقاهرة، وقيل لهم إنه موجود في عزبته في قليوب، فأرسلت إشارة عاجلة لضبطه وإحضاره مخفوراً إلى القاهرة
وتوجه الضابط محمد ماهر إلى بيت رئيس مجلس شورى القوانين علي باشا شريف،‏ وطلب التحقيق معه،‏ لكن الباشا تذرع بحصانته البرلمانية ورفض التحقيق‏.‏ ورفع محمد ماهر تقريراً بذلك إلى رئيسه الإنجليزي شيفر بك،‏ فتقرر استدعاء علي باشا شريف للتحقيق، فتوجه الباشا إلى وكيل نظارة الداخلية الذي أفاده بأنه لا علاقة له بالموضوع وأنه مطلوب للتحقيق في مكتب شيفر بك
توجه علي باشا شريف إلى مكتب شيفر وهم بالدخول، فمنعه الحاجب وجعله ينتظر فترة قبل أن يسمح له بالدخول.وجه الضابط شيفر بك إلى علي باشا شريف تهمة الاشتراك في الاتجار بالرقيق،‏ فطلب الباشا الاتصال برئيس النظار نوبار باشا أو الإبراق له، لكن الضابط الإنجليزي رفض‏.‏ وعندئذ لجأ الباشا إلى حيلة كان يلجأ إليها أثرياء مصر في ذلك العهد،‏ وهي الاحتماء بسفارة أجنبية بحجة أنه واحد من رعاياها،‏ حتى يتمتع بالامتيازات الأجنبية التي لم تكن قد ألغيت بعد‏.‏ فقد زار علي باشا شريف أحد أبنائه فطلب منه ضرورة إحضار ورقة مهمة من بيته تفيد بأنه يتمتع بالجنسية الإيطالية، وبالفعل عثر عليها ابنه وعرضها على القنصل الإيطالي الذي توجه معه إلى القسم وطلب الإفراج عن الباشا لكونه أحد رعايا إيطاليا، وهو ما تم على الفور
أما واصف باشا والدكتور الشافعي، فقد أفرج عنهما بضمانة من عثمان باشا ماهر
كان كبار المسؤولين حينها يُصيفون خارج القطر المصري، فالخديو عباس كان مسافرا للآستانة ومنها إلى فينيسيا وسويسرا، أما اللورد كرومر فكان يروِّح عن نفسه بالصيد والقنص في مروج اسكتلندا. في هذه الأثناء، كان نوبار باشا رئيس النظار ونائب الخديو يمارس سلطته من قصره بالإسكندرية، ووصلت إليه أخبار الحادث لكنه آثر الانتظار حتى يرجع الخديو، فمازالت حادثة السير كتشنر قريبة، وبدا له أن الموضوع له أبعاد أخرى، فمن غير الطبيعي أن يتخذ شيفر بك إجراءات بمثل هذه الخطورة بدون موافقة ودعم رؤسائه
وتحت الضغط الشديد على نوبار باشا، وافق على إحالة القضية إلى المحاكمة العسكرية. وصدر قرار من السردار كتشنر باشا بتشكيل المجلس العسكري العالي برئاسة ضابط أرمني يُدعى زهراب باشا، وعضوية عدد آخر من الضباط الإنجليز والمصريين
توجه الشعب – الذي أثاره موقف الاحتلال من مسؤولين مصريين- بنظره إلى الخديو أملاً في إنقاذ الموقف، وكان ينظر للحاكم على أنه سيدٌ مطلق،‏ حتى إن أمير الشعراء أحمد شوقي نظم قصيدة في نهاية عام ‏1900‏ في مدح الخديو عباس يهنئه على حلول شهر رمضان المعظم كان مطلعها‏:‏
عباس ظل الله في مصر ------------- ومجمل الاسلام في العصر
[7]

أمر عباس حلمي الثاني بتأجيل القضية لحين عودته، لكن هذا التأجيل لم يستمر سوى يوم واحد، فالجميع في النهاية خضع لسلطان الاحتلال

تشكلت محكمة عسكرية في ‏4‏ سبتمبر ‏1894‏ لمحاكمة كل من اشترك في الجريمة‏:‏ النخاسين والجواري والباشوات‏.‏ استقطبت المحاكمة اهتمام جميع الأطراف، ومن هؤلاء الزعيم الوطني مصطفى كامل الذي انتقد بسرعة إجراءات تلك المحاكمة ، فيما أرسلت الصحف المصرية مجموعة من مراسليها إلى قاعة المحكمة لموافاتها بتقرير إخباري يومي عن تطورات المحاكمة. كما أرسلت "لندن تايمز" و"ذي مانشستر غارديان" صحفيين للتغطية الغخبارية، وكذلك فعلت الصحف الإيطالية والفرنسية. وبدت محاكمة الباشوات، كما أصبحت معروفة، فضيحة ذات أبعاد دولية
أخذت المحاكمة شكل المواجهة بين معسكرين
على جانب واحد برز معسكر المدافعين عن الرقيق وهم موالون للنخبة من المشترين، إضافة إلى محامي الدفاع وغيرهم من الوطنيين الذين يعتقدون أنه لا توجد جريمة في شراء الرقيق والجواري من السودان. وأصر هؤلاء الكتاب الوطنيون على أن جلب الرقيق والجواري من السودان ليس في حقيقة الأمر سوى مهمة حضارية لتعليم هؤلاء الفتيات السودانيات الفنون الراقية وشؤون التدبير المنزلي وتعاليم الإسلام بطريقة لا يمكن أن يحصلن عليها في السودان نفسه
على الجانب الآخر وقف المسؤولون البريطانيون ودعاة إلغاء الرق، الذين رأوا في شراء الجواري مثالاً آخر على الوحشية والاستبداد، مما يثبت عدم قدرة المصريين من أن تكون قادرة على حكم بلادهم، وفي ذلك تبرير آخر لاستمرار الوجود البريطاني في مصر
في قفص الاتهام، وقف حسين باشا واصف والشواربي باشا والدكتور الشافعي، بجوار النخاسين الأربعة المقبوض عليهم والمرشد الخائن والسمسار اليهودي وصاحب العربخانة، في حين كان علي باشا شريف قد سقط قبل ذلك بأيام متأثراً بأزمة قلبية حادة، وأُجِّلت محاكمته إلى حين شفائه
أرسلت المحكمة إلى القنصلية الإيطالية لتسألها هل علي باشا شريف يتمتع بحمايتها أم لا؟ فردت القنصلية الإيطالية بأن الباشا وإن كان قد قيد نفسه بدفاترها كرعية إيطالية إلا أنه لم يدفع الاشتراكات المفروضة على الرعايا الإيطاليين منذ عدة سنين،‏ وعليه فهو لا يعتبر واحداً من رعاياها‏
[8]
دفاع المتهمين من الباشوات انحصر في نقطة قانونية، هي أن الإثم هو الاتجار في الرقيق فقط، أما الشراء فلا يعاقب عليه القانون، وأن الاتهام ينحصر في النخاس فقط وليس بالنسبة للمشترين؛ لأن المشتري يقدم خدمة للجارية، إذ تنتقل من حياةٍ قاسية تعاني شظف العيش إلى رغده
[9]

وكان القانون ينص بالفعل على عقاب التاجر لكنه لم ينص على عقاب المشتري، وهو ما فطنت إليه الداخلية، فأصدرت منشوراً يفيد بأن العقوبة للبائع والمشتري باعتبار أن كلاً منهما مكمل للآخر
وأقبلت الجواري للشهادة، فقالت سعيدة: "سيدي اللي في سيوة مات، وأهل بيته باعوني لسيدي على مبروك (النخاس) وجينا من سيوة لمصر"
أمر القاضي زنوبة بأن ترفع رأسها عندما تتكلم، فكانت ترفعه لثوان ثم يهبط مرة أخرى، فالرأس اعتاد الانحناء، وبعد تكرار الطلب من القاضي، أصابه اليأس وسلم أمره لله وكف عن أن يأمرها برفع رأسها
ثم طلب القاضي من مريم أن تصف المكان الذي أتى بها النخاسون إليه، فأجابت قائلة: "جنب الحجرين الكبار والحجر الصغير" تقصد أهرام الجيزة، فضجت القاعة بالضحك.سألها القاضي: هل تعرفين الشواربي باشا، فأجابت بنعم، وعندما سألها: هل له لحية؟، لم تستطع الإجابة فهي لا تعرفها.فقال لها القاضي: اللحية شعر ينبت في الوجه، في حين أشار أحد الأعضاء إلى لحيته
فجأة أصبحت الجواري الخمس حديث الساعة ومحل اهتمام العالم كله، يهتم لأمرهن الخديو وكرومر، ووزراء خارجية بريطانيا وفرنسا، تتبنى قضيتهن جريدة "التايمز" وكبرى صحف العالم
اتهمت صحف عالمية المصريين بالتوحش والبربرية، فيما تغزلت "التايمز" في العدالة الإنجليزية التي تلقن الشعوب الهمجية دروساً في الحرية والمساواة
وفي إيطاليا، أمر وزير الخارجية بنقل القنصل الإيطالي في مصر؛ لأنه تدخل للإفراج عن علي باشا شريف، وطلب تأجيل محاكمته دون أن يستأذن من الحكومة الإيطالية أولاً. كما أمرت الخارجية الإيطالية بنفي الفرنسي - الإيطالي، "المسيو جوارنبري" – صاحب ومدير جريدة "الجورنال إجبسيان" التي تصدر في مصر- لأنه هاجم إنجلترا
ودارت رحى المعركة نفسها بين الصحف المصرية، فتبنت جريدة "المقطم" - وكانت ممالئة للاحتلال- قضية الجواري والحرية والكرامة، وهاجمت الباشوات "الذين يتمنون أن يكونوا هم السادة وسائر الناس العبيد".دافعت الجريدة دفاعاً مستميتاً عن حرية الإنسان وضرورة تحرير العبيد، وأوضحت موقف الإسلام تجاهه، وأن البيع والشراء وجهان لعملة واحدة. واستماتت تلك الصحيفة وغيرها من صحف الاحتلال في الدفاع عن العبيد والمطالبة بتحريرهم، والمطالبة بسيادة القانون وتساوي الجميع أمامه
وكتب محرر "الإجبشيان جازيت"، التي تحظى بدعم اللورد كرومر، مقالاً خلال سير المحاكمة قال فيه إن العلاقة بين المالك والرقيق وثيقة الصلة بالسؤال الأكبر، وهو: أي الثقافتين أو الحضارتين، البريطانية أم المصرية، أفضل وأكثر استعداداً للسيطرة على السودان نفسه؟
بالنسبة لمحرر الجريدة، فقد كان المجتمع المصري متأثراً إلى حد بعيد بقدر من الاستبداد الإسلامي بشكل علني أو في الخفاء، وهو عامل يجعل في رأيه المصريين غير قادرين على حكم الآخرين!
[10]
وبدا لكثيرين أننا أمام مفارقة مضحكة، إذ إن تلك الصحف تحديداً لم تأل جهداً للدفاع عن شرعية الاحتلال، في حين تجاهلت عدالة قضية الاستقلال الوطني
أما إبراهيم رمزي الأرضروملي، صاحب جريدة "الفيوم"، وهو أيضاً كاتب وشاعر شهير، فقد كان من القلائل الذين حملوا على النخاسين والباشوات على حد سواء، واتهمهم بالوحشية والبربرية. وقال في مقال له إن هؤلاء الباشوات الأعضاء في مجلس شورى القوانين كان يُفترض بهم أن يكونوا أشد الناس حرصاً على قيم ومبادىء الأمة، فإذا فسدوا فإن المجتمع كله سيصاب بالفساد
[11]
على الجانب الآخر، تبنت الصحف المصرية الوطنية المعارضة للاحتلال مهمة الدفاع عن الباشوات وتبرير قضية الرق
فعلى سبيل المثال، رأت جريدة "المؤيد"، لصاحبها الشيخ علي يوسف، أن الحادثة مدبرة بهدف البرهنة على "عدم كفاءة رجال الشورى لمناصبهم"، وقالت أيضاً إن اختيار علي باشا شريف بالذات لإيقاعه في هذا الفخ عملية مقصودة "بصفته رئيس مجلس كان في آخر السنة الماضية يعارض في بقاء "مصلحة إلغاء الرقيق" ويبرهن على قلة الحاجة إليها بزوال معنى الاسترقاق من عقول المصريين"
[12]
وناقشت "المؤيد" قضية الحرية الشخصية للباشوات وإساءة استخدام السلطة معهم، ووصفت إجراءات شيفر بك بالمتعسفة. وقالت الصحف ذات الميول الوطنية إن شراء الرقيق عمل حضاري بعكس بيعه، فالسادة بذلك الفعل يقدمون عملاً للخير، فالرقيق لم يطمعوا في العتق ولا يرغبون في مفارقة منازل وقصور شبوا فيها ولم يعرفوا سواها، فالعبيد الذين غادروا منازل أسيادهم عانوا الفقر المدقع والتشرد، وأدى بهم هذا إلى "أن يعاشروا أمثالهم من أبناء جلدتهم، ففسدت أخلاقهم تمام الفساد.. واصبحوا ضربة قاضية على الحرية وعالة على الإنسانية، وقد بلغ الشقاء ببعضهم مبلغاً ليس بعده غاية، وهم أحرار، فليتهم لبثوا أرقاء، فإنه كان خيراً لهم في كل حال"
[13]
كما شددت تلك الصحف على أنه من حق أي عبد أو جارية أن يطلب عتقه وقتما أراد ويمنح شهادة بذلك
ومن المؤسف حقاً أن يكون هذا هو دفاع الصحافة الوطنية التي كانت تحارب الاحتلال بشدة وتستنقذ كرامة الشعب
ردد الدفاع عن الشواربي باشا – وكان يتولاه خليل بك إبراهيم- الفكرة نفسها، فقال إن من يشتري عبداً أو جارية، فإنه ينقله من التعاسة إلى السعادة ويحسن تربيته ويطعمه ويكسوه ويشبعه، فينقذه بالتالي من أسباب الشقاء ووجوه الفقر
[14]
أما الدفاع عن واصف باشا فقد احتج في مرافعته على قلم الرقيق؛ لأنه أخرج الجارية "سعيدة" من منزل الباشا ومنحها شهادة العتق، وقال: "بفرض المستحيل أنه اشتراها فإنه لا يحق للمذكور أن يعتقها طالما أنها لم تشتكِ أو تطلب عتقها"
[15]
من جهته، غازل إسماعيل بك عاصم الاحتلال في مرافعته، وتحدث عن دوره في نقل مصر إلى المدنية، وأثنى على دور مصلحة الرقيق، وقال "ولكن نقول إن عمال قلم الرقيق مجتهدون.. والمجتهد لا يكون معصوماً، بل هو دائماً مُعرضٌ لكل خطأ"
وفي محاولة لتبرئة أنفسهم، ادعى النخاسون أن الجواري الست لسن سوى زوجات لهن
وبالنسبة لرجال مثل فريث بك، وهو أحد القضاة الإنجليز في المحاكمة، فإنه يمكن فقط وصف الجواري بأنهن ضحايا: فريسة بريئة، وجاهلة للصوص الرقيق الذين يشنون غارات بهدف أسرهن، والنخب المسلمة التي بلا ضمير
[16]
وخلال المحاكمة، اقتراح السردار كتشنر باشا تفتيش حريم علي باشا شريف بحثاً عن ثلاث من الجواري. وفي أثناء البحث "كان يتم التعرف على النساء البيضاوات عبر أيديهن، ويسمح لهن بالمرور بدون فحصهن"
[17]. في نظر هؤلاء المسؤولين، إذن، ارتبطت فكرة الرقيق باللون. وأي امرأة ذات بشرة سوداء تعيش في كنف أسرة مصرية، فإنها تعتبر تلقائياً من الرقيق. ورأت بريطانيا أن وجود النساء غير المتزوجات من ذوات البشرة السوداء في شوارع القاهرة، مؤشراً يدعو إلى القلق
وبحسب وثائق وزارة الخارجية البريطانية، فقد أبدى مسؤولون في الخارجية خشيتهم من أنه، بمجرد التحرر من العبودية، فإن النساء السودانيات من ذوات المهارات القليلة والصلات العائلية المحدودة، يعدن إلى الأسر المسلمة، ليصبحن فريسة مرة أخرى إما للرق أوالتسري أو البغاء. ولمواجهة ذلك، تأسست "دار الجواري المعتقات" في القاهرة عام 1886 للمساعدة في توفير عمل مناسب لهؤلاء المساء، وأغلبهن من السودان وإثيوبيا
[18]
من جهته، كان البوليس المصري في منتصف القرن التاسع عشر إذا ألقى القبض على امرأة ذات بشرة سوداء ولم تتمكن من تقديم ما يثبت أنها حرة وليست من الرقيق، فإنه كان يعيدها إلى سوق الرقيق في حي خان الخليلي
[19]
إلا أنه مع إغلاق مثل تلك الأسواق، وتشديد الحرب على الرق، لجأ البعض إلى التمييز بين الجواري وغيرهن عن طريق الملبس. وفي أثناء إدلاء الشهود بإفاداتهم عن حركة الجواري وتنقلهن من وإلى منازل الباشوات، كانت الملابس هي التي تحدد هوية الجارية
[20]. وعلى سبيل المثال، فإنه في أثناء المحاكمة، سأل محامي الدفاع سائق العربة عن لون الملابس التي رآها على إحدى الجواري وهي تغادر منزل علي باشا شريف، وهل كانت تلك الملابس معروفة أم لا بوصفها ملابس مصرية؟[21] وسأل محام آخر البواب كيف عرف أن المرأة التي تم جلبها إلى المنزل الذي يحرسه من الجواري، فرد بالقول "من ملابسها". وأضاف وفق ما أوردته الصحف أنها "جاءت بملاءة سوداء وغطاء وجه أبيض، كملابس الجارية"[22]

استغرقت "محاكمة الباشوات" نحو عشرة أيام
ولما كانت الإدارة الإنجليزية قد شفت غليلها وأسكتت الساسة في مصر وقرصت آذان البعض، فقد صدر الحكم في ‏13‏ سبتمبر كالتالي:
براءة حسين باشا واصف ومحمد باشا الشواربي، أما الدكتور عبد الحميد الشافعي فقد أدين وصدر حكمٌ بحبسه خمسة شهور، كما صدرت أحكام على النخاسين وصلت إلى السجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة

اندهش كثيرون لهذا الحكم، الذي استند إلى أن الدكتور الشافعي هو من اعترف صراحة بشراء جارية، في حين أنكر الشواربي باشا الأمر، وأصر حسين باشا واصف على أن حرم الطبيب هي من أرسلت الجارية لتتعلم الطبخ في مطابخه
واتهمت جريدة "الأهرام" الطبيب الشافعي بأنه دسيسة إنجليزية، وقالت إنه اعترف ليورط الباشوات الثلاثة في القضية
وسخر الأدباء والشعراء من الحكم، فقال أحدهم مخاطباً الدكتور الشافعي:



والصدق إن ألقاك تحت العطب ------------- لا خير منه، فاعتصم بالكذب

ونظم إبراهيم رمزي في مديح المجلس العسكري شعراً جاء فيه:

دعوى الرقيق أبانت عدل من حكموا ---------- فيا بني مصر، أنتم خير أقبال
فبائع الناس ذو إثم بفعلته --------------- لكن شاريهم خلٌ لهم غال


وكان ضرورياً اتخاذ إجراء مع آخر المتهمين: علي باشا شريف، فقد طُلِبَ منه إرسال اعتراف مُذل بخط يده بالخطأ الذي ارتكبه، يقول فيه إنه تصرف بقدرٍ من الإهمال وقد ندم وتأسف على ما بدر منه، طالباً العفو والسماح. وبالفعل، فقد سامحه الخديو وأصدر أمراً بالعفو عنه، مما قلب عليه الصحافة المصرية بالكامل، من مؤيدي الاحتلال ومعارضيه، ونعتوه بالدناءة والجبن واللجوء للدول الأجنبية. قدم علي باشا شريف استقالته من رئاسة مجلس شورى القوانين بذريعة ظروفه الصحية[23]، ولزم بيته حتى مات بعد ذلك بنحو عامين إثر أزمة قلبية
بعد ذلك، لم يجرؤ مجلس شورى القوانين على أن يثير مرة أخرى موضوع إقفال أو تفكيك مصلحة إلغاء الرقيق
[24].أما الجواري فقد خرجن من قاعة المحكمة إلى الحرية، ومنحتهن مصلحة إلغاء الرقيق مستندات تثبت عتقهن من الرق، وأقمن لفترة معاً في دار الجواري المعتقات في القاهرة، بدعم من الجمعية البريطانية والأجنبية لمكافحة الرق[25]. وحين غادرن المنزل إما للعمل في مصرأو للزواج اختفت أخبارهن فلم يُعرف أين ذهبن، وإن كان الثابت أن مريم، أكثرهن ذكاء، كانت أول من مزق شهادة العتق الصادرة عن المصلحة البريطانية، وعادت إلى بيت سيدها[26]
وأيامها، لم يكن هناك أمام الجواري من سبيل للحياة المستقرة سوى أن يعملن في منازل وقصور تضمن لهن المسكن والطعام.. والأمان!




الهوامش


[1] أحمد شفيق، مذكراتي في نصف قرن جـ 1 (1873- 8 يناير 1892)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999
[2] إقبال بركة، حكاية الباشوات والجواري، جريدة "الأهرام"، القاهرة، 7 مارس 2001
[3] Gabriel Baer, “Slavery and Its Abolition” in Studies in the Social History of Modern Egypt, Chicago: University of Chicago Press, 1969, p. 167
[4] Judith E. Tucker, Women in nineteenth-century Egypt, Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1985
[5] See: Tucker, p. 167; Baer, p. 165; John O. Hunwick, “Black Africans in the Mediterranean” in Slavery and Abolition, 13:1, April 1992, p. 21
[6] صلاح عيسى، حكايات من دفتر الوطن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 233
[7] أحمد شوقي، الشوقيات، دار الأرقم للطباعة والنشر، عمان، 2001
[8] إقبال بركة، حكاية الباشوات والجواري، مرجع سابق
[9] عبد الحميد يونس، تاريخنا الجنائي في الشارع السياسي، مرجع سابق، 2003
[10] The Egyptian Gazette, Cairo, 31 August 1894
[11] جريدة "الفيوم"، الفيوم، 6 سبتمبر 1894
[12] صلاح عيسى، مرجع سابق، ص 241
[13] المرجع السابق، ص 242
[14] جريدة "المقطم"، القاهرة، 10 سبتمبر 1894
[15] صلاح عيسى، مرجع سابق، ص 244
[16] Eve Troutt Powell,The Tools of the Master: Slavery and Empire in Nineteenth Century Egypt, School of Social Science, Institute for Advanced Study, New Jersey, 1 September 2002, Paper Number 13
[17] F.O. 407/127 Rodd to Kimberly, 17 September, 1894
[18] F.O. 84/1770 Report by C.G. Scott Moncrieff, May 1886
[19] Terence Walz, “Black Slavery in Egypt”, Slaves and Slavery in Muslim Africa, vol. 2, ed., John Ralph Willis (London: Frank Cass, 1985), p. 149
[20] Ibid., p. 139
[21] جريدة "المقطم"، القاهرة، 6 سبتمبر 1894
[22] جريدة "المقطم"، القاهرة، 10 سبتنمبر 1894
[23] F.O. 407/127, no. 125 and 126 Rodd to Kimberly, Cairo, Sept. 24, 1894
[24] .Eve Troutt Powell,The Tools of the Master: Slavery and Empire in Nineteenth Century Egypt
[25] The Anti-Slavery Reporter, vol. 14 (July-August 1894), p. 246
[26] صلاح عيسى، مرجع سابق، ص 250
تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة




المرأة هي التاريخ، وجسدها هو الجغرافيا


وفي كل مرةٍ نبحر فيها في جغرافيا الجسد، علينا أن نتذكر جيداً أننا نغوص في أعماق أعماق التاريخ.. تاريخهن وتاريخنا أيضا
ً


والذي لا يتجاوز غلاف الجسد لن يفهم أبداً حقيقة المرأة وجوهرها. إن شؤون المرأة وشجونها هي في الأصل مسألة اجتماعية وقضية إنسانية، تتداخل فيها حكايات الاضطهاد والقمع والخديعة، لتثمر في النهاية فوضى وحرية غير عاقلة، وفي ذلك شقاءٌ للمدن وهلاكٌ لأهلها


وهذا الكتاب محاولة للإبحار في الشرايين التي توصل قلب المرأة بعقلها، وعاطفتها برغباتها، وحريتها بحياتها، بدلاً من احتجاز النساء في قيود المكان والمظهر العام، فلا يبارحن ذلك "كأنهن النبات ينمو ويذبل في إنائه" كما يقول ابن رشد

إن الحب فنٌ وحنان وليس شهوة وعدواناً، و"المرأة ليست لعبة الرجل" كما يقول الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن، وهي ليست قطعة أثاث تركها أبٌ مستبد أو "زوج يغار وهو في قبره" على حد تعبير الكاتب سلامة موسى. ومحو شخصية المرأة ليس في رأينا سوى دليل آخر على ضعف الرجل سواء أكان أباً أو أخاً أو زوجا
ً


وما بين سطور قصص الكاتبات اللاتي وردت أسماؤهن في هذا الكتاب، نلمح رفضاً قاطعاً لسعادة الغفلة والنعاس والأنانية، مثلما نكتشف أن الذين قتلوا إرادة المرأة ووعيها يعاودون دائماً استغلالها والاستخفاف بها والحط من شأنها


هنا نطالع كتابات نساء حاولن استعادة أجسادهن الحاضرة الغائبة، وحطمن قوالب الحجز والعزلة القسرية، وكشفن عن حقيقة بالغة الأهمية، مفادها أن حرية الرجل ترتهن بحرية المرأة، فإذا سلبنا من المرأة حريتها، فقد الرجلُ كثيراً من حريته.. وإرادته. إن الإنسان الذي يجعل من نفسه عبداً للشك والغيرة العمياء وحب التملك، ليس بالإنسان الحر على أي حال


والذي يخشى شيطان جسد المرأة فيقرر حبسه في قارورة الكبت كأنه جنيٌّ مخيف، يجهل أن النوافذ والأبواب المحكمة الإغلاق تصنع خميرة الانفلات والتعهر


بعض الأعمال المنشورة في الكتاب لقيت من العنت الكثير، حتى صودرت ومنعت من التوزيع وألصقت بها تهم الفضائحية والتعري والابتذال، في مشهد يستعيد أجواء التحقيق والمحاكمة التي خضعت لها الأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي في ستينيات القرن الماضي، بسبب ما ورد في سياق قصتها "سفينة حنان إلى القمر". ويستوقفنا هنا مقطعٌ من استجواب مفوض الشرطة للأديبة ليلى بعلبكي جاء فيه:

"سؤال: ألا يتهيج المراهقون بعد قراءة كتابك، ويجب مصادرته؟
جواب: الكتاب يتكلم عن البشر، عن الناس، عن الأشخاص، في هذا البلد. يصور الواقع بطريقة أدبية فنية. وإذا كانت تجب مصادرته فالأصح أن تصادر البشر هنا، لأنهم مادته"

هنا نتذكر قصيدة لإدواردو غاليانو
"تقول الكنيسة: الجسد خطيئة
يقول العلم: الجسد آلة
تقول الإعلانات: الجسد مشروع تجاري
يقول الجسد: أنا مهرجان"

إن الجسد أداة لتشكيل الذات، فلا تجعلوا الطبيعة تغادر طبيعتها. والعقل والجسد مرتبطان على نحوٍ لا فكاك منه بسبب موضع العقل ضمن الجسد


والأعمال التي وقع عليها الاختيار في هذا الكتاب تقدم كتابات للمرأة أو عنها، وهي جميعها بأقلام نسائية، باستثناء الفصل الخاص برسائل المبدع الفلسطيني غسان كنفاني لمحبوبته الأديبة غادة السمان، وهو في رأينا أمرٌ ينسجم مع محتوى الكتاب ورسالتهن.. فالمرأة هنا طرفٌ أساسي في علاقة تحف بها الرغبة والمحبة معاً، وهي التي عمدت إلى نشر الرسائل مع مقدمة ضافية وكثير من الهوامش الشارحة، قبل أن تنشر كتاباً بعنوان "محاكمة حب" يضم تعليقات وحوارات عن تداعيات نشر تلك الرسائل


أما الأقلام التي اخترناها فهي تمتد على امتداد الخارطة العربية، من مصر (نوال السعداوي، لطيفة الزيات، أهداف سويف، سحر الموجي) إلى الأردن (عفاف البطاينة، حزامة حبايب)، ومن لبنان (علوية صبح، إلهام منصور) إلى سوريا (غادة السمان/ غسان كنفاني، سلوى النعيمي، سمر يزبك، هيفاء بيطار)، ومن الكويت (ليلى العثمان) إلى السعودية (رجاء الصانع، وردة عبدالملك، صبا الحرز، زينب حفني) مروراً بالعراق (عالية ممدوح)، ومن الجزائر (مليكة مقدم) إلى المغرب (فاطمة أوفقير، مليكة أوفقير، باهية الطرابلسي، فاطمة المرنيسي). ومن رحم هذا التنوع الجغرافي والفكري، يمكن أن نلتقط تفاصيل مهمة عن الرواية العربية وكتب السيرة الذاتية، خاصة تلك التي تتحدث عن المرأة


وبغض النظر عن لعبة الأسماء المستعارة والهويات الملتبسة نتيجة اعتبارات اجتماعية واخلاقية فرضت على عدد من الكاتبات إخفاء هوياتهن الحقيقية، فإن الهوية الأنثوية تبقى الأوضح والأكثر التماعاً مثل سيف في الظلام


هنا نساء من مختلف الطبقات والأعمار، أغلبهن يروين قصة حياتهن، وبعضهن يلجأن إلى حكايات تتقاطع مع الذات. قد تدور الأحداث على أرض الوطن، فتشير إلى الغربة وسط الأهل والأحبة، وربما تخرج إلى تخوم أخرى من بلاد المهجر أو المنافي، فتكون الكتابة عن الذات الممزقة والهوية المرتبكة بين الأمكنة والأزمنة و"الآنا" والآخر"


ولا يخلو الكتاب من حكايات - أقرب إلى البحث عن بوصلة- عن الحب والحرب، الدين والسياسة، الخضوع والانعتاق


وفي هذا كله نجد المرأة العاشقة، ذلك الميناء المفتوح على الحرية والجنون. تأتي إلينا المرأة في تلك الأعمال كصحراء تتسع لشمس لا تغيب، وظمأ إلى الحياة، وحنين جارف إلى التحرر من ثنائية الصائد والطريدة


وحكمة النساء كما يقدمها الكتاب تقول: كوني قوية كالحياة، وإلا صرعتك الأيام بعد جولة واحدة


"إننا ننام على فضيحة، وستنكشف يوماً"، كما يقول عبدالرحمن الربيعي في روايته "خطوط الطول.. خطوط العرض". وفي كتاب الأيام، تستيقظ بعض النساء على تسرب العمر من بين اليدين، فتبدأ رحلة محاسبة النفس والآخرين على ليالي الحرمان والفرص الضائعة والقبلات المختلسة، والأيدي التي ضلت الطريق إلى أجساد خضعت لأنها لا تعرف سوى لغة الرضوخ


وما بين الاستعباد والاستبعاد، وجدت المرأة نفسها أسيرة مفاهيم تتجرع منها أشد أنواع المهانة والازدراء


لحظات مكاشفة. هذا ما يتجلى في تلك التجارب الإنسانية المذهلة


وفي كل الأحوال، تعد هذه القراءة الإنسانية في الكتاب جهداً متواضعاً لرؤية العالم بعيون نساء رأين في الجسد حرية.. وفي الاشتهاء حرائق مستحبة.. وفي الرغبة طيف غريزة ونسائم شهية وملايينُ البحار


الرواية كانت الشكل الأمثل للكشف والتمرد، ربما لأن الرواية هي بيت أسرار المرأة وصندوقها السري الذي يحوي أسرار العصا والعصيان


ويسترعي الانتباه في تلك القراءات أن المرأة يحدوها في أغلب الأحوال توقٌ إلى الحرية وشوق إلى الرحيل. ويبدو لنا أن النساء يجدن في الخروج من صدفة الوطن إلى محيط العالم فرصة لبدء حياة جديدة تختلف كلياً عن حياتهن الأولى
وإذا كانت شهرزاد قد أنقذت نفسها وبنات جنسها من بطش شهريار بالسيطرة عليه عبر حكايات متدفقة، فإنها تنقذ حياتها اليوم من بطش المجتمع بحكايات أخرى تفتح بها النوافذ المغلقة ليدخل هواء نقي إلى حياتنا جميعاً


سنلاحظ في الكتاب أن هناك من اكتفين في الحديث عن الجسد والجنس باختراق المنطقة المحرمة على أجنحة الخيال، وهناك أيضاً من نجحن في إضفاء بُعدٍ فني وفكري عميق على مشاعرهن وتجاربهن الحميمة. القهر الذي تعرضت له غالبية هؤلاء الكاتبات والمبدعات قد يكون أحد دوافع الكتابة والبوح، بأسلوبٍ لا يخلو في معظمه من وعي بحقيقتها في مجتمعات تعاني التشظي والازدواجية والعطب الاجتماعي


في عالم الأنثى، سنجد علاقات مبتورة وحكايات تدخل سراديب ودهاليز وقاعات، ونرى شبابيك ذات زجاج ملون تطل على شجيرات ياسمين. متاهات تصنع اليقين


ثراء التفاصيل سمة معظم الكتابات النسائية موضوع الدراسة، إذ تصحبنا "النساء المنذورات كالقرابين للغياب، القابضات على الغبار، المرسومات بفرجار وفق زوايا منحنية" - كما تقول الشاعرة البحرينية حمدة خميس- إلى أعماق الذات البشرية والحواس، والإحساس بالوجود، والوعي بالمكان، مع اهتمامٍ جلي بالجذور الدفينة للمخزون العاطفي والحسي المضمر. ومن يقرأ لهؤلاء الكاتبات بإمعان سيلحظ توظيف الموسيقى والرسم والأدب، لتولد من بين أصابعهن لغة عربية ساحرة وأنيقة ومدهشة


الوشائج بين النصوص في هذا الكتاب واضحة، فهي تعبر عن محنة نساء وجدن أنفسهن أسيرات لنظام بطريركي تفرضه السلطة في شتى مجالات الحياة، بدءاً من عالم الأسرة وانتهاء بعوالم السرير


ونحسبُ أن نصوص المرأة رمزٌ للخصب والنماء، ومفتاحٌ يلج منه القارىء الفطن أبواب المعرفة بدلاً من بقائه في غرف الحيرة متدثراً بعباءة الماضي


قد يتساءل البعض: هل تلك الحكايات حدثت فعلاً لكاتباتها أم أنها محض خيال؟


والإجابة التي نراها هي أن هذا الأمر ليس مهماً، ما دمنا نقرأ ونتذوق ونعيش تلك الرحلة الوجدانية بصدق وشغف. ولعلنا في هذا نتذكر قول الرسام العالمي بابلو بيكاسو "كلنا نعرف أن الفن ليس الحقيقة، الفن هو الأكذوبة التي تجعلنا ندرك الحقيقة. على الأقل الحقيقة التي ندركها
"


على أي حال، فإن كتابة السيرة الذاتية عند المرأة نوع من تحويل البياض إلى تجربة نابضة، قد تكون أحياناً جارحة. ففي مجتمعٍ أبوي بامتياز، يكون من الصعب العودة إلى البئر الأولى بقصد البوح بطوفان الرغبات وشهوة الأحاسيس، وتحرير الروح المعاقة بالموروث الاجتماعي ومنظومة القيم والتقاليد والأعراف والمحظورات التي صيغت عبر قرون واستمرت الى اليوم. وما بين ماء الطوفان المُهلك وماء البوح المبدع، تلجأ كثيرات إلى اللعب بالواقع والخيال، وممارسة تقنية الكشف والإخفاء عبر تذويب ذاتها في ثنايا السرد. وبذلك تكون المرأة حاضرة من خلال التفاصيل التي يتورط القارىء في حبها والتلصص عليها ملتبساً بفضوله أو سيف ثقافته، إما ليروي كبته أو ليجز عنق النص باتهامات مُعلبة
لا تُجهدوا أنفسكم إذاً في البحث والتحقق من مدى تطابق العمل الإبداعي مع شخصية كاتبته، فلا نظن أن هناك كاتبة لم تلبس ثوب بطلاتها، حتى تخرج من الخباء دون أن تنال منها أقلام حادة وأصوات زاعقة هنا أو هناك. أما من وجدن في أنفسهن الجرأة على وضع أيديهن في "أسيد" الكتابة الحارق، فإنهن تصدين لقوانين الذكورة كما تقول أنيسة عبود ("كتابة النساء بين الشكوى والاحتجاج" في "السير الذاتية في بلاد الشام"، تنسيق: ماهر الشريف وقيس الزرلّي)

إن المرأة التي تهتم بكتابة تفاصيل حياتها الشخصية، سرعان ما تصبح متهمة بكتابة تلك التفاصيل، ولذا لجأت كثيرات إلى التوسل بالمتخيّل الروائي حتى لا يعثر القارىء على جسدها بالكامل في النص


ولعل الفصل الحاد بين الرواية والسيرة الذاتية مسألة قد تهم النقاد المولعين بالتصنيف، غير أن ما يهمنا هو مدى جودة النص وتأسيسه لحضور مبدعه والقضايا التي يطرحها بعمق، على أجنحة من الخيال


ونشير هنا إلى رفضنا لأي تقييم أخلاقي للأدب أو دعوة إلى تنقيته من الجنس؛ لأنه فعل إنساني جوهري تماماً، وأي أدب لا يفهم دور الجنس أو كيفية التعامل معه وتوظيفه فنياً هو في نظر كثيرين أدب ناقص. بل إنه من الخطأ - أو الخطل- اعتبار أي مشهدٍ جنسي في أي عمل إبداعي دليلاً على أنه أدب إيروتيكي، فالكتابة الإيروتيكية هي الأدب المبني مباشرة من أجل الجنس باعتباره المحور والأساس ولبّ الكون. وهناك فرقٌ كبير بين ثقافة الحكي عن الجسد وتجاربه.. وافتعال الجرأة وتعمد فجاجة الألفاظ والمعاني


إنه الجسد ولا شيء سواه


كتاب الرغبة وسيرة الذات ومفتاح الصراخ المكتوم الذي تمتزج فيه اللذة بالألم في إبداعات العديد من الأديبات والكاتبات العربيات


وفي السيرة الذاتية لهؤلاء الكاتبات تفوح رائحة الاعتراف وأشواق الحنين وهواجس الجنس. الرغبة هنا تحاول الخروج من حيز المصادرة لتصبح كلمة مكتوبة يراها البعض أدبا راقيا ويعتبرها الآخرون - ببساطة يحسدون عليها- مجرد فضيحة


وسطور الغرام واعترافات الحب واللذة التي خطتها أنامل الأديبات والكاتبات العربيات تبدو كأنها طائرات فانتوم تكسر حاجز الصوت.. والصمت


ربما حان الوقت لكي نستمتع بصدمة "الفانتوم" وهي تخترق الحاجز.. أي حاجز.. في تلك السير الذاتية والرسائل والأعمال الروائية المدهشة والصادمة معاً


ربما حان الوقت كي نبدأ في التطبيع بين الحياة العربية والحقيقة، كي نتخلص من كابوس الازدواجية


بقيت كلمة أخيرة


إن نحن لم نقرأ للنساء وعنهن، فإننا نقع في فخ الغياب عن واقعنا، إلى أن تغير النار اتجاهها، ونكتشف سقطتنا في الوقت الضائع


أتمنى لكم جميعاً قراءة ممتعة


من مقدمة "كتاب الرغبة"، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010

تابع القراءة

gravatar

سليمان جودة.. عن فيلم مصري طويل



خط أحمر

سليمان جودة

فيلم مصري طويل‮!‬
ليس هذا هو الكتاب الأول للدكتور ياسر ثابت،‮ ‬فقد صدرت له من قبل،‮ ‬عدة مؤلفات مهمة،‮ ‬وكان كل واحد فيها،‮ ‬يدل على أن المؤلف يعرف جيداً،‮ ‬كيف يختار موضوعه،‮ ‬وكيف يختار الكتاب الذي يوضع اسمه على‮ ‬غلافه‮!‬ ولكن الكتاب الجديد،‮ ‬هذه المرة،‮ ‬عنوانه‮ "فيلم مصري طويل" ‬وهو صادر عن مركز الحضارة العربية،‮ ‬ولا ينافس الغلاف في جاذبيته،‮ ‬وأناقته،‮ ‬وشياكته،‮ ‬إلا المادة المنثورة على صفحات الكتاب‮!‬

ولأن فصول الكتاب،‮ ‬تتناول موضوعات،‮ ‬تبدو وكأن كل موضوع مستقل بذاته،‮ ‬فأنت تستطيع أن تبدأ القراءة من أي موقع شئت‮.. ‬تستطيع ـ مثلاً‮ ‬ـ أن تفعل كما فعلت أنا،‮ ‬فتبدأ من عند الفصول الخمسة التي تتناول حياة المشير عبدالحليم أبوغزالة،‮ ‬من البداية،‮ ‬إلى النهاية،‮ ‬لترى كيف كانت الدراما حاضرة،‮ ‬في مواقف كثيرة،‮ ‬من حياة ذلك الرجل،‮ ‬وربما يكون أكثر المواقف درامية،‮ ‬متجسداً‮ ‬في اللحظة التي خرج فيها المشير،‮ ‬من موقعه في الوزارة عام‮ ‬1989،‮ ‬فعاش صامتاً‮ ‬بعدها لا يتكلم،‮ ‬حتى رحل عام‮ ‬2008‮!.. ‬ولم يحدث أن خصص المؤلف خمسة فصول كاملة،‮ ‬لأحد في الكتاب‮.. ‬إلا المشير‮!‬
وتستطيع أن تبدأ من عند الفصل الذي يحمل عنوان‮ "وعليكم السلام 89" ‬أو من عند الفصل الذي يتكلم عما كان ذات يوم،‮ ‬بين أحمد حسنين باشا،‮ ‬رئيس ديوان الملك فاروق،‮ ‬وبين الملكة نازلي،‮ ‬أم الملك‮!‬ أو تستطيع أن تقفز فوق الزمن،‮ ‬للتأمل مع المؤلف ياسر ثابت،‮ ‬ما كان يوماً،‮ ‬بين عبدالناصر،‮ ‬وبين المشير عامر‮.. ‬أو ما كان في يوم آخر‮.. ‬بين الرئيس السادات،‮ ‬وبين عثمان أحمد عثمان‮.. ‬أو‮.. ‬أو‮.. ‬إلى آخر هذه العناوين التي سوف تتكفل وحدها بأن تُسيل شهية كل قارئ محترف،‮ ‬نحو التهام مادة مكتوبة باحتراف،‮ ‬لهدف،‮ ‬كما أن وراءها فلسفة تريد أن تقول إن تاريخنا،‮ ‬في الفترة التي تناولها الدكتور ياسر،‮ ‬يبدو وكأنه فيلم مصري طويل حقاً،‮ ‬وهو وإن كان فيلماً‮ ‬معروفة بدايته،‮ ‬إلا أن نهايته تظهر،‮ ‬وكأنها مجهولة،‮ ‬أو كأنها مفتوحة على الأفق،‮ ‬بكل احتمالاته‮!‬
ولا أعرف لماذا أحسست من ناحيتي،‮ ‬بأن معنى عنوان الكتاب يتجسد علي أفضل ما يكون،‮ ‬في فقرة جاءت في الفصل الأخير،‮ ‬حين قال الرئيس مبارك،‮ ‬يوم أن تولى الحكم،‮ ‬عام‮ ‬1981،‮ ‬ما يلي‮: ‬ولكل أهم ما يتعين أن نوفره للعمل الوطني،‮ ‬في هذه المرحلة،‮ ‬هو ما كان القائد الراحل ـ يقصد السادات ـ يسعى لتحقيقه في عهد السلام،‮ ‬وهو الجدية والطهارة،‮ ‬فلا هزل،‮ ‬ولا جدل،‮ ‬ولا تضليل،‮ ‬ولا استخفاف بعقول الجماهير،‮ ‬ولا تناقض بين القول والعمل،‮ ‬ولا نفاق،‮ ‬ولا رياء،‮ ‬ولا فساد،‮ ‬ولا اتجار بقوت الشعب،‮ ‬ولا حاكم،‮ ‬ولا محكوم،‮ ‬فكلنا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات‮.. ‬ثم يقول الرئيس‮: ‬لا فضل لأحدنا إلا بالتقوى،‮ ‬والعمل الصالح،‮ ‬ولا عصمة لأحد من سيف القانون القاطع،‮ ‬الذي لا يفرق بين قوي وضعيف،‮ ‬وبين‮ ‬غني وفقير،‮ ‬وقريب وبعيد،‮ ‬وأن يشعر كل مواطن بأنه يستطيع الحصول على حقوقه دون وساطة أو شفاعة،‮ ‬ويؤدي ما عليه من واجبات دون ملاحقة أو مطالبة،‮ ‬لأن الجهد القومي العام هو محصلة عمل الأفراد والجماعات،‮ ‬بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات‮!‬

في هذه الفقرة،‮ ‬التي جاءت على لسان الرئيس،‮ ‬يوم وقف يخطب فينا،‮ ‬عندما تولى شئون الدولة دستورياً،‮ ‬في‮ ‬14‮ ‬أكتوبر‮ ‬1981،‮ ‬يتجلى عنوان الكتاب،‮ ‬وموضوعه،‮ ‬ثم هدفه،‮ ‬على أوضح ما يكون‮!
جريدة "الوفد"، القاهرة، 15 أبريل 2010
تابع القراءة

gravatar

جرائم الأفندية



حملت رياح القرن العشرين عدداً من الأزمات الاقتصادية التي بدأت تطرق أبواب مصر منذ عام 1907
ففي عام 1906 ازداد الإقبال على المضاربات الطائشة في سوق الأوراق المالية وأراضي البناء، مما أدى إلى حدوث أزمة اقتصادية شديدة في عام 1907 استمرت تداعياتها حتى عام 1909
فاقمت الأزمة المالية عام 1907 من سوء الأوضاع في مصر، الأمر الذي زاد من حدة الفرق بين كبار مُلاك الأراضي وصغارهم، حتى إذا جاء عام 1909 كانت الصحف تنشر يومياً ما لا يقل عن 40 إعلاناً من البنك الزراعي بتوقيع الحجز على صغار المُلاك وبيع أراضيهم في المزاد. وكان معظم هذه القطع مساحات صغيرة تتراوح بين نصف فدان وعشرة أفدنة
[1]
ومع انخفاض دخل المواطن، ارتفع المنحنى البياني لأمر آخر: معدل الجرائم
فقد واكب الانهيار الاقتصادي ارتفاع كبير في معدل الجرائم، فبلغ عدد الجرائم 3288 جريمة في عام 1907، وارتفع الرقم إلى 3655 جريمة في عام 1907 ثم إلى 3828 في عام 1909
ويبدو أن نشوب الحرب العالمية الأولى أدى إلى حدوث تغيير ملموس في مجرى الحياة الاقتصادية في مصر، ففي أعقاب إعلان الحرب سارع الأفراد إلى سحب ودائعهم من البنوك وأقبلوا على الأسواق لشراء ما بها تحسباً لمقبل الأيام. ونجم عن ذلك أن البنوك لم تقو كلها على استمرار دفع الأمانات إلى أصحابهم، فأغلقت في وجوههم أبوابها. ثم كفت البنوك عن التسليف على المحصول، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إصدار أمرها في 4 أغسطس 1914 بإعلان "الموراتوريوم" – التأجيل الجبري – أي عدم دفع الودائع والأمانات والديون لأربابها إلى أول نوفمبر 1914. غير أن هذا الإجراء لم يُجدِ نفعاً بسبب تلاعب التجار من أولي الذمم الواسعة
[2]، فصدر في 26 أكتوبر 1914 أمرٌ بانتهاء التأجيل الجبري، لتسوء الحالة المالية، وتزداد أحكام الحجز على التجار، وتضطرب الأسواق. كما قلت الأموال المتداولة بين الناس، وقلت بالتالي الثروة التي يملكونها، والنتيجة، أن أقبل الأفراد على بيع حليهم ليدفع بعضهم ديونه، وليقتات البعض الآخر بأثمانها[3]

وارتفعت أسعار حاجيات المعيشة الضرورية إلى درجة عالية، ووقع عبء هذا الارتفاع على كاهل الطبقات الفقيرة التي لم يكن باستطاعتها ولا بقدرتها دفع الأثمان العالية للوازم حياتها. وتبعاً لذلك، زادت الوفيات من 300 ألف حالة قبل الحرب إلى 375 ألف حالة عام 1916، وفي عام 1918 وصل عددها إلى 510 آلاف حالة أو أكثر من عدد المواليد في تلك السنة، هذا بالإضافة إلى ضحايا الحرب والجرحى والمشوهين[4]. وكثرت الجثث التي عثر عليها وتبين أن أصحابها قد ماتوا بسبب الجوع[5]
وأصيب الفلاحون بدورهم بالضنك الشديد أثناء الحرب العالمية الأولى، خاصةً بعد انخفاض أسعار القطن انخفاضاً كبيراً في موسم 1914، وزيادة إيجارات الأطيان، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتشدد البنوك في تحصيل الديون العقارية. وانتشرت ظاهرة طرح أراضي الفلاحين في المزاد العلني وبيعها بأبخس الأثمان، واتسع نشاط المرابين الذين زادوا من ديون الفلاحين وساهموا في نزع ملكية الأراضي[6]
هنا، تعالت الأصوات في الصحف مطالبة الأغنياء بمد يد المساعدة لفقراء مصر، وسط دعوات للدولة كي تشرف على هذه الجهود. فقد قالت صحيفة "الأهرام": "أما البلاد فمع حالتها الحاضرة يوجد بها أغنياء كثيرون يملكون أطياناً وعقارات جمة ويستطيع كل منهم أن يتبرع بجانب عظيم من أمواله الوافرة تنفق على فقراء البلاد، وهذا لا يتم إلا بأن تأمر الحكومة بتأليف لجنة لكل مركز قوامها العمدة والأعيان والتجار والعلماء وتعين هذه اللجنة لجاناً فرعية تؤلف لهذا الغرض وتفرض هذه اللجنة على كل مقتدر نقوداً يدفعها أو غلالاً لإعانة الفقراء[7]
وبعد فترة من الارتباك والتردد، اضطرت الحكومة المصرية أثناء الحرب العالمية الأولى إلى منح موظفيها علاوات غلاء معيشة. الطريف أن الحكومة رأت في الوقت نفسه أن تستقطع من الموظف الذي يزيد مرتبه على 15 جنيهاً رُبع المرتب والذي يزيد مرتبه على 50 جنيهاً ثلث مرتبه، ثم قرر قومسيون بلدية الإسكندرية توفير المستخدمين الذين لايزيد مرتب الواحد منهم على 14 جنيهاً في الشهر، بحجة التدابير الاقتصادية. حدث ذلك في وقتٍ كان أكثر موظفي بلدية الإسكندرية يتقاضون فيه راتباً شهرياً يتراوح بين 40 جنيهاً و100 جنيه[8]
المشكلة أنه حتى المعونات التي قررت الحكومة أن تعطيها للبعض ما لبثت أن قطعتها، فعلى سبيل المثال "جعلت محافظة القاهرة للمدعوة فاطمة زهرة وأولادها إعانة يومية قرشان، فلم ينقض إلا وقت قصير بمنحها إياه حتى قطعتها"[9]
الأخطر أن شركات المرافق العامة راحت تضغط على الشعب، فقطعت شركة المياه خدماتها عن الأهالي[10]، وطرد أصحاب المساكن الأهالي منها فافترشوا الأرصفة[11]
ترتب على اشتداد الأزمات الاقتصادية كثرة الجرائم
وإذا ذهب الفقر إلى بلدٍ، قال له الكفر خذني معك
فقد قالت إحدى الصحف: "توالت أخبار الجرائم في أنحاء القطر لدرجة لم يعهد الناس لها مثيلاً، فقد عددنا أمس في إحدى جرائد العاصمة اثنتي عشرة حادثة وقعت في الأرياف والمدن متباينة النوع ما بين قتل وسطو وجرح، واشتد الرعب في بعض القرى خصوصاً في مديرية الشرقية ومدينة الزقازيق نفسها، فقام الأهالي يضعون قضبان الحديد وراء أبوابهم غير مكتفين بالأقفال"
[12]
وبدا واضحاً أن سنوات الحرب العالمية الأولى كان عنوانها كثرة جرائم القتل والحوادث الجنائية، مع انتشار سلطة الأشقياء والخطرين. وقويت شوكة عصابات السرقة، حتى كان أفراد هذه العصابات يسرقون الحبوب من مخازنها فوق الأسطح ويسرقون المصوغات والنقود، وانضم إليهم بعض الخفراء. ولما كثرت الجنايات وتعددت حوادث السطو، اضطرت وزارة الداخلية إلى نشر بلاغ رسمي أمرت فيه المشايخ والعُمد أن يقدموا إلى مأموري المراكز تقارير وافية كاملة يذكرون فيها أسماء الرجال المشتبه فيهم في دائرة محيطهم، وفي نفس الوقت يلاحظون عن قرب جميع التحركات[13]
اللافت للانتباه أن عدداً من العُمد والمشايخ كانوا يتسترون على جرائم سرقة إن لم يكونوا ضالعين فيها، ولذا تمت محاكمة 28 عمدة ورفت 38 آخرين[14]. وكان للموظفين والأفندية نصيب من السرقات، حتى قال المستشار القضائي في تقريره "إن حوادث الضيق الذي أصاب فريقاً من الناس، كان سبباً في زيادة السرقات في القطر"[15]
وطوال سنوات الحرب العالمية الأولى تباينت أرقام ومعدلات ارتكاب الجريمة. ففي عام 1914 كان عدد الجنايات 3769 حالة، ثم بلغ الرقم 4192 في عام 1915، وفي عام 1917 ارتفع إلى 4241، حتى وصل في عام 1918 إلى 4494
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت حالة الموظفين قد ساءت أكثر. وبالرغم من علاوات غلاء المعيشة، فإن الوثائق تؤكد أن حالة موظفي الحكومة ظلت سيئة للغاية وصولاً إلى عشرينيات القرن العشرين، ولم تشهد تحسناً يذكر مع تلك العلاوات، حتى وقع معظمهم في ديون ضخمة، وفق ما تورده وثائق الأرشيف البريطاني الموجودة في دار الوثائق القومية المصرية
[16]
وفي عامي 1920 و1921 وقعت كارثة القطن التي هبطت بأسعاره من 99 ريالاً إلى 19 ريالاً المتوسط، فنتجت عن ذلك أزمة طاحنة، ارتفع خلالها معدل ارتكاب الجرائم إلى 7502 جناية عام 1920 ثم بلغ 8681 جناية في عام 1921[17]
وفي ظل تلك الظروف، أطلت البطالة برأسها
مدينة القاهرة - على سبيل المثال- كانت تعج بعشرات الألوف من ساكني الأحياء المتواضعة مثل بولاق التي غصت بأعداد غفيرة من العاطلين وغير اللائقين للعمل. وكل هذه الأماكن كانت معامل تفريخ لمرتكبي الجرائم، ولم يكن مستغرباً والحال كذلك أن تشهد معدلات ارتكاب الجرائم ارتفاعاً ملحوظاً
[18]
وأتت سنوات الكساد الاقتصادي العالمي، بدءاً من عام 1929 وحتى منتصف الثلاثينيات، لتلقي بظلالها على الاقتصاد المصري. ظهرت أولى آثار الأزمة الاقتصادية في مصر على شكل انخفاضٍ رهيب في أسعار القطن وصعوبةٍ بالغة في تسويقه. ضربت مظاهر الفقر مصر - وخاصة المناطق الريفية- نتيجة قلة الطلب على القطن المصري، في حين اتخذت الحكومة المصرية مجموعة تدابير لتصحيح خطأ الوقوع في فخ الاقتصاد الأحادي منذ عهد محمد علي وحتى وقوع الأزمة بتحول مصر إلى مزرعة للقطن
والشاهد أن مصر بمدنها وريفها قد تأثرت بشدة بهذا الكساد العالمي، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، ومن ذلك أحوال المعيشة والزواج والطلاق والتعليم والصحة والتبشير والبطالة والإجرام والبغاء والمخدرات
وخنقت الأزمة الاقتصادية معظم الأسواق المحلية، وأدت إلى إفلاس كثيرين نتيجة استمرارها بضعة أعوام
وخلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) ارتفعت أعباء المعيشة وفشلت الحكومة في توفير المواد الأولية الضرورية، في حين وجد المواطنون صعوبة في العثور على الوقود (الكيروسين)، والمواد التموينية الضرورية كالزيت والسكر والدقيق، وهو ما تسبب في أزمة الخبز
[19]
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، استمر مستوى المعيشة في الانخفاض، لترتفع في المقابل معدلات الجرائم التي تغذيها الظروف الاقتصادية السيئة والبطالة المنتشرة
وتقدم د. عبير حسن عبدالباقي في دراسةٍ مهمة لها ملامح تستحق الرصد والتحليل عن طبيعة الجرائم التي ارتكبها أصحاب الياقات البيضاء، أو الأفندية، خلال النصف الأول من القرن العشرين
لعل أبرز تلك الجرائم هو الرشوة
لقد كان نظام الرشوة شديد التعقيد كثير الفروع، حتى رسخ في ذهن الهيئتين الرسمية والاجتماعية في مصر
[20]. ويبدو أن أسباباً عدة ساعدت على انتشار الرشوة، ومنها ارتفاع أسعار السلع مقارنة بتواضع مستوى الأجور، وتأخر دفع رواتب الموظفين، إضافة إلى عوامل أخرى مختلفة
ووفق التقارير السنوية لوزارة الداخلية، وتحديداً بوليس مدينة القاهرة، فإن الرشوة شقت طريقها في مجتمع الأفندية والموظفين، إذ تم ضبط حالة رشوة واحدة في عام 1913، وارتفع الرقم إلى 3 حالات في عام 1914، ثم بلغ الرقم 20 في عام 1924، ثم 25 في عام 1925، و20 في 1926 و19 في عام 1927. وبعد سنواتٍ شهدت تراجع عدد حالات الرشوة المضبوطة، ارتفع الرقم إلى 16 في عام 1943، قبل أن ينخفض مجدداً ليصل إلى 10 في عام 1944، ثم ارتفع إلى 14 في عام 1945، قبل أن ينحسر إلى 6 حالات مضبوطة في عام 1946
[21]
الأرقام السابقة لا تشير بطبيعة الحال إلى العدد الفعلي لجرائم الرشوة التي وقعت، وإنما تتحدث عن الجرائم التي تم ضبطها على يد بوليس مدينة القاهرة. وفي ظل انتشار مفهوم عدم الإبلاغ عن الرشوة، فإن الحالات المضبوطة والمسجلة رسمياً تظل أدنى بكثير من واقع الحال
وربما نلاحظ من الأرقام السابقة أن عدد جرائم الرشوة في القاهرة ارتفع ووصل إلى ذروته أثناء وقبل الأزمة المالية العالمية وأثناء الحرب العالمية الثانية. أمرٌ يشير بجلاء إلى ارتباط معدل جرائم التعدي على المال بدون إكراه – كالرشوة- في أوقات الأزمات الاقتصادية. بل إن انخفاض أرقام جرائم الرشوة أثناء الحرب العالمية الأولى قد يكون خادعاً، إذ يمكن أن نعزو ذلك إلى انشغال أجهزة الأمن بأمور أخرى، مثل الحفاظ على استقرار الأوضاع في البلاد وتقديم الخدمات المختلفة لقوات الجيوش المتحاربة على أرض مصر
ويبدو أن الرشوة كانت على أشدها خارج القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين
فقد بلغ عدد حالات الرشوة المضبوطة في أنحاء القطر المصري 13 حالة في عام 1906، و8 حالات في عام 1907، ثم ارتفع الرقم إلى 11 في عام 1910. عدد مماثل من حالات الرشوة تم ضبطها في أنحاء مصر عام 1931، قبل أن ينخفض الرقم إلى 4 في عام 1932، ويرتفع إلى 7 في عام 1933، ثم يصل إلى 9 في عام 1936، ويبلغ رقماً قياسياً (14) في عام 1950
[22]
والأفندية أنواع.. حتى في جرائمهم
وتحكي الصحف عن رجال الشرطة الذين تغاضى بعضهم عن مخالفات في قضايا التسعيرة وغش المأكولات وتجاوز مواعيد السهر في الحانات وبيوت الدعارة، مقابل رشى مالية
[23]. كما تروي الصحف عن الرشى التي كان عدد كبير من العُمد والمشايخ يتقاضونها كي يُعفوا البعض من إرسالهم إلى السلطات العسكرية، في ظل عدم وجود رقيب عليهم في اختيار من يقدمونه للسلطة. وحكمت محكمة بولاق الدكرور بالحبس سنة مع الشغل؛ لأنه ثبت عليه الرشوة. وكتب المستشار القضائي في تقريره عن جرائم الرشوة "إن قلة ما يبلغ ولاة الأمور منها لا يمكن أن يؤخذ دليلاً قاطعاً على قلة ما يقع منها"[24]
وارتكب جريمة الرشوة فليبدس مأمور ضبط القاهرة، الذي كان رئيساً للمكتب السياسي، وقوبل الحكم عليه وعلى زوجته بارتياح شعبي نظراً للمظالم التي تسبب فيها من قبل. وتقاضى أحد مأموري الضرائب مبلغاً من المال على سبيل الرشوة من أحد أصحاب الأملاك، في مقابل تسهيل حصوله على إعفاءات ضريبية، وهو ما أتاح له فرصة التهرب من الضرائب[25]
وتتحدث أوراق أخرى عن وكيل نيابة تقاضى رشوة من مواطن، في مقابل التغاضي عن عدد من المخالفات القانونية[26]. وتغاضى أحد الأطباء بدوره عن فحص مومسات فحصاً دقيقاً كما تقضي به لوائح عمله –وكنا آنذاك في عصر السماح بالبغاء قانوناً- في مقابل حصوله على مبلغ مالي منهن[27]
كما تسجل صحيفة واقعة ضبط طبيب يعمل مفتشاً في مصلحة الصحة، تقاضى مبالغ مالية على سبيل الرشوة من بقالين وتجار، نظير التستر على مخالفات، وعدم تحرير محاضر مخالفة لبيعهم عقاقير ممنوعة من التداول في مثل تلك المتاجر ومحال البقالة[28]
أطباء وموظفون ومأمورو ضرائب.. إلخ. كلهم سقطوا في امتحان طهارة اليد، وتقاضوا رشى للتجاوز عن مخالفات قانونية أو لتسهيل ارتكابها
وبالمثل، انتشرت جرائم الاختلاس التي تعد نموذجاً آخر لجرائم التعدي على المال العام بدون إكراه
ظلت معدلات ضبط تلك الجريمة في القاهرة متقاربة طوال النصف الأول من القرن العشرين. ومن 7 جرائم اختلاس تم ضبطها عام 1917، انخفض الرقم إلى 3 حالات في عام 1918، قبل أن يرتفع إلى 5 في عام 1925، ثم يصبح 7 عام 1926، ويقفز إلى 9 جرائم مسجلة عام 1928، ويستقر العدد عند الرقم 6 في عامي 1929 و1930، ويصل إلى 5 عام 1936، قبل أن ينخفض إلى جريمة واحدة مضبوطة عام 1937. غير أن الرقم يأخذ في الارتفاع نسبياً في الأعوام التالية، فمن 3 جرائم اختلاس في عام 1938 إلى 8 في عام 1939، و9 حالات في عام 1940، ويهبط قليلاً إلى 8 جرائم في أعوام 1942 و1943 و1945، ثم يقل الرقم ليبلغ 4 جرائم في عام 1946
[29]
وإذا كانت التقارير الأمنية لا تتحدث عن جرائم اختلاس مسجلة في الفترة بين عامي 1913 و1916، فإن هذا لا يعد دليلاً كافياً على عدم وقوع مثل تلك الجريمة، خاصة أنها شهدت اضطراباً في الأحوال الاقتصادية. غير أن أولويات أجهزة الشرطة على ما يبدو تختلف في أوقات الأزمات والحروب، كما أن وجود قوات متحاربة على أرض مصر، فرض مشاغل أخرى على البوليس المصري
وفي عموم القطر المصري، يتضح لنا مجدداً أن الجرائم المسجلة خارج القاهرة كانت أكبر بكثير. فقد سجلت التقارير السنوية لوزارة الداخلية عن حالة الأمن العام 25 جريمة اختلاس عام 1929، و24 جريمة في عام 1930، قبل أن يرتفع الرقم إلى 39 في عام 1931. وعام 1933 بلغ الرقم 24 جريمة اختلاس مسجلة، قبل أن ينخفض الرقم إلى 19 حالة في كلٍ من عامي 1934 و1935، و21 جريمة في عام 1936. وإذا كان عام 1937 قد شهد ضبط 11 جريمة اختلاس، فإن عام 1950 شهد تسجيل 15 جريمة من هذا النوع
وتشير الصحف إلى نماذج من جرائم الاختلاس في تلك الفترة، ومن ذلك اختلاس أحد الموظفين مبلغ 1500 جنيه، واختلاس آخر من مصلحة الري في الإسكندرية مبلغ 400 جنيه، ووصل الأمر إلى اختلاس أحد موظفي السكة الحديد 40 صفيحة بترول
[30]. واختلس كاتب في تفتيش المساحة مبلغاً من المال من خزينة المصلحة عن طريق الغش في استمارات صرف رواتب المستخدمين، وزيادة عدد الموظفين بإضافة أسماء وهمية في دفاتر الحسابات ثم الاستيلاء على رواتبهم[31]. ووقعت عدة جرائم اختلاس في قلم الهندسة بمصلحة السكك الحديدية، كان أبرزها ما وقع في محطة القباري من أحد كتابها، الذي حرر كشوفات مزورة بأسماء عمال وهميين، ليسهل لنفسه اختلاس هذه الأموال، قبل أن يختفي ويذوب في زحام الحياة[32]. واختلس موظف في مصلحة السكك الحديدية بعض الطرود المرسلة عن طريق المصلحة، والتي تحوي بداخلها أقمشة وأمتعة وأجهزة[33]
ولم يكتف البعض باختلاس الأموال، فقد وجدنا من اختلس الشيكات والسندات والأوراق المالية – كما حدث في حالة مجموعة موظفين في بيت المال
[34]- والأشياء العينية كالأمتعة والأجهزة
وانتشرت جريمة خيانة الأمانة بين الأفندية بشكل ملحوظ، وبخاصة بين المحامين، وطفت على السطح شكوى الموكلين وأصحاب القضايا والمصالح من المحامين. وشهدت تلك الفترة أيضاً جرائم أخرى، كالتبديد، والتزوير، والتلاعب بالعطاءات، والإهمال. ونقرأ في "الأهرام" عن تورط ناظر مدرسة في تبديد مبالغ مالية خاصة بأهالي بعض التلاميذ، وبرسوم الشهادات الدراسية الخاصة بالتلاميذ، بدلاً من تسليمها لوزارة المعارف، الأمر الذي تسبب في منع هؤلاء التلاميذ من أداء امتحاناتهم، وهو ما دفع الأهالي لإبلاغ النيابة التي أمرت بإحالة الناظر إلى المحاكمة
[35]
وتحكي "المقطم" عن جريمة تزوير بطلها أحد المستخدمين المفصولين من عملهم، بعد أن زوَّر شهادة رسمية تثبت أنه لم يستخدم بالحكومة وأنه حسن السير والسلوك، وذلك لرغبته في أن يستخدم بإحدى الوظائف، وبالفعل تم توظيفه، ولم يكتشف أمره إلا بعد أن زوَّر في أوراق عمله[36]
ولم يعد مستغرباً أن تطفو على السطح جرائم غش وتزييف سواء في المصوغات أو النقود، فظهر النحاس المطلي بالذهب الذي يباع على أنه ذهب خالص، وانتشرت أوراق مزيفة من فئة 100 جنيه، وضبطت الآلات المستخدمة
[37]، حتى المأكولات مسها الغش في مختلف الأنواع والأصناف[38]
وانتشر الربا بسبب الظروف الاقتصادية الخانقة، وظهر المرابون في القرى والعواصم والبنادر، فكبلوا المزارعين بالديون ووصل الأمر إلى فقدان الملكيات، فقد أراد تاجر أن يقترض 500 جنيه إلى سنة، فطلب 50%، واقترض صاحب محل 150 جنيهاً بفائدة قدرها 45% وقد أصبحت قيمة الجنيه المصري في شرع المرابين 480 قرشاً[39]
ووقعت جرائم الاحتيال، إذ أوهم البعض البسطاء أنهم موفدون من جانب السلطة العسكرية، ليستحوذوا على ممتلكاتهم، ومنهم من شكَّل عصابات احتيال بدعوى إخراج الشبان من الجندية[40]. كما وجدت أعمال الدجل والشعوذة والتنجيم أرضاً خصبة في تلك الفترة
وتكررت جرائم التلاعب في العطاءات أو المواصفات، ومن ذلك ما نشرته إحدى الصحف عن تلاعب مهندس في مواصفات مبنى كان مكلفاً بالإشراف على إتمام بنائه مما أدى إلى انهياره
[41]، وتلاعب أحد موردي الأغذية لوزارة المعارف في الأغذية المتفق على توريدها لبعض المدارس[42]
بعض الجرائم التي انتشرت في ذلك الزمان تنتمي إلى فئة الإهمال، ومن ذلك خبر إهمال طبيب علاج أحد الأطفال، بعد أن تركه بين أيدي الممرضات وهو في حالة سيئة وانصرف إلى بيته، وهو ما أدى إلى تحويل الطبيب إلى مجلس تأديب[43]
ومن جرائم الخلل الاجتماعي التي ارتكبها الأفندية، تبرز جرائم صادمة، ومن ذلك أن أحد الفقراء "أخذ بنتاً من بناته إلى بلد أخرى غير بلدته وعرض بيعها على رجلٍ وساومه فيها، فابتاعها منه بثمنٍ بخس بدراهم معدودة"[44]
صورةٌ أخرى من الذل والهوان، وبلاء الفقر الذي دفع البعض إلى الإقدام على ارتكاب جرائم غير مألوفة
ووقعت أيضاً جرائم التعدي على النفس، وتتمثل في جرائم القتل والشروع فيه، والانتحار والشروع فيه، والضرب. وتحفل الصحف والدوريات المختلفة بنماذج لمثل هذه الجرائم. جرائم القتل على سبيل المثال، كانت ترتكب باسم الثأر، أو لضغائن، أو لنفقة شرعية، أو لدفع العار، أو نتيجة ضائقة مالية. كما كانت ترتكب بسبب المنازعات والمشاجرات التي تقوم بسبب الري، أو النزاع، أو بسبب السرقات
[45]
ولهذا ليس مستغرباً أن نقرأ عن إقدام موظف في إحدى المصالح على قتل أخيه طعناً بمدية، طمعاً في ماله[46]، أو نطالع خبراً عن قتل موظف جدته لأمه بعد أن سرق أموالها[47]
أما جرائم الانتحار فقد كانت في الغالب الأعم نتيجة اضطرابات عصبية وضغوط نفسية، أو نتيجة إدمان المخدرات والمسكرات، والضيق المالي، وسوء المعاملة، والتخلص من مرض ما
وفي فترة الكساد العالمي التي كانت لها تداعياتها على مصر، انتشرت حوادث الانتحار، فمثلاً رب البيت الذي لا يجد ما يكفيه وعائلته ولم يستطع فعل شيء كان يستسلم وينتحر، ولهذا ارتفعت نسبة حوادث الانتحار وعلى الأخص بين الطبقة الفقيرة الأكثر تعرضاً من غيرها لآثار الأزمة. فقد "شنق شخص نفسه بحبل يدعى الشيخ أحمد حسن من كفر علي آغا بطنطا لضيق ذات يده"
[48]
ومن أرقام حوادث الانتحار نتبين أن حدة الأزمة كانت في عامي 1931 و1932، إذ وصلت حوادث الانتحار في تلك الفترة إلى أعلى نسبة بالمقارنة بإجمالي حوادث الانتحار خلال الفترة بين عامي 1929 و1933[49]
غير أن جرائم الانتحار كانت معروفة ايضاً في مطلع القرن العشرين
فقد شرب أحد مستخدمي مصلحة التلغرافات قدراً من حمض الفينيك، لضيق ذات اليد، فلفظ أنفاسه
[50]. كما شنق أحد مستخدمي المجلس البلدي نفسه، نتيجة لتراكم ديونه، والحجز على ممتلكاته[51]
وشهدنا أيضاً انتشار جرائم التعدي على الممتلكات، ومن ذلك السرقة. وبطبيعة الحال، كانت السرقة رائجة في سنوات الحرب العالمية الأولى، بسبب البطالة وغلاء المعيشة وضيق ذات اليد. وتنوعت الدرجات الوظيفية والمهنية والمستويات الاجتماعية للأفندية الذين ارتكبوا هذه الجريمة، فكان بينهم الطبيب وموظف الجمارك، وصغار مستخدمي النظارات المختلفة[52]
وتكررت جرائم النصب، التي ارتكب عدداً منها محامون استغلوا درايتهم بالقانون في خداع الآخرين، ووقعت جرائم التدليس التي ارتكبها أفندية أحياناً بحق أحد الأقارب أو الأصدقاء أو الأصهار. ولم تكن جرائم التعدي على الأخلاق والآداب العامة غائبة، فشهدنا جرائم هتك العرض والفسق والتغرير والشذوذ الجنسي وغيرها[53]
ومن جرائم هتك العرض نورد واقعة لأفندي هتك عرض ابنة عمه[54]، وواقعة كان بطلها محامٍ اعتدى على موكلة بعد خداعها وإغرائها بقضاء حاجتها لديه[55]
ووقع الأفندية أيضاً في المحظور حين تورطوا في قضايا تتعلق بالعبث بالآداب العامة، كالسُكر والقمار، وتعاطي المخدرات والبغاء. وعن وجود السُكر والقمار في مطلع القرن العشرين، يقول اللورد كرومر: "قلما يرى ساكنو الريف - في قراهم- رجلاً سكران، أما البنادر فالسُكر فيها أكثر انتشاراً"[56]
ويبدو أن وجود القوات المتحاربة أثناء الحرب العالمية الأولى على أرض مصر، كان له دورٌ وتأثير في انتشار الخمور ومحال تناولها، كما انتشرت المخدرات كالكوكايين. وأسهم الأفندية في مصر في انتشار المخدرات، سواء بالاتجار أو تسهيل التداول، أو التعاطي، إذ تم ضبط عدد من الصيادلة والأطباء وأطباء الأسنان الذين سهلّوا التعامل في المواد المخدرة على اختلاف أنواعها من الحشيش والهيروين والكوكايين[57]. وكان هناك من الصيادلة من يبيع الكوكايين بدون تذكرة طبيب طمعاً في الربح، ووصل الأمر إلى تهريب المواد المخدرة إلى المرضى داخل مستشفيات العلاج من الإدمان[58]. وتحايل عدد من الأطباء على القانون ومنحوا مواد مخدرة لآخرين عبر التبادل الشخصي او الطرود البريدية المرسلة لآخرين باسم عينات طبية.. إلخ. ونشير هنا إلى أن القضاء العادل أصدر أحكاماً بالحبس والسجن لمدد متفاوتة على من أحيل من هؤلاء الأطباء إلى محاكمات جنائية[59]
وامتدت جرائم الاتجار في المخدرات وتعاطيها لتشمل فئات ومهناً أخرى مثل المحامين والموظفين، حتى إن بعضهم كان يتخذ من منزله وكراً ومخزناً للمواد المخدرة المختلفة[60]. ولوحظ أن إدمان المخدرات كان سبباً في ارتياد عدد من الأفندية – وبخاصة صغار الموظفين- بيوت الدعارة، وممارسة البغاء، بل وأحياناً ما كانت تتم زيجات بين بعض الأفندية ومومسات[61]
أما الدعارة فقد كانت تجارة معروفة في مصر منذ زمن، وفي عام 1908 كان عدد الفتيان والفتيات الذين عملوا في هذا المجال في الإسكندرية 759 ثم ارتفع الرقم إلى 1203 عام 1909 ووصل إلى 2263 في عام 1910[62]. ومع تزايد عدد المهاجرين واشتداد الأزمة الاقتصادية، راجت تجارة الرقيق الأبيض وانتشرت مهنة الدعارة، خاصة في ظل وجود جنود بريطانيين قادرين على الدفع مقابل إقامة مثل تلك العلاقات الجنسية العابرة. وهكذا "انتشرت البيوت السرية في القاهرة والإسكندرية وحواضر المديريات، وتعدى الفساد إلى النيل فإذا بشاطىء النيل من وجهة العاصمة والجيزة رست عليهما الذهبيات أعدت للفحش والتجارة بالأعراض، وكذلك كثرت في منطقة الأزبكية وشارع وجه البركة بما وفد عليها من البغايا والمتهتكات فكثرت باراتها وبيوتها، ولم تخل طرقاتها من أسرابهن تغدو وتروح تشاغل المارة وتعاكس الجالسين"[63]
وانتشر القمار بدوره في ربوع مصر، وأصبح في كل مقهى مجتمع للمقامرة يؤمه الناس، لدرجة أن أحدهم خسر في جلسة قمار واحدة مبلغ 600 جنيه، ودخل القمار المنازل والنوادي وغيرها[64]. أما وزارة الداخلية فلم يكن منها سوى أن سمحت بتداول القمار، وشاركت النساء في الأمر فإذا بهن يقامرن في النوادي العامة[65]
خلاصة القول، إن طبقة الأفندية التي نشأت مع نشأة التعليم في عصر محمد علي ثم برزت في عصر الخديو إسماعيل، كانت طرفاً في جرائم النصف الأول من القرن العشرين، مثلما كانت جزءاً من الحراك الاجتماعي والاقتصادي الذي شهدته مصر في تلك الفترة
وفي كلتا الحالتين، كان الأفندي حاضراً بقوة، قبل أن تأتي ثورة يوليو 1952 وتلغي اللقب، وتتغير صورة الموظف.. ودوره
الهوامش
[1] جمال بدوي، نظرات في تاريخ مصر، الطبعة الثانية، دار الشروق، القاهرة، 1994، ص 35- 36.
[2] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 13 أغسطس 1914.
[3] د. لطيفة محمد سالم، مصر في الحرب العالمية الأولى، طبعة الشروق الأولى، القاهرة، 2009، ص 113.
[4] Charles Issawi, Egypt: an Economic and Social Analysis, New York, Oxford Univ. Press, 1947, p. 31.
[5] جريدة "وادي النيل"، القاهرة، 19 مارس 1915.
[6] جريدة "الأفكار"، القاهرة، 11 سبتمبر 1914.
[7] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 6 سبتمبر 1914.
[8] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 29 أغسطس 1914.
[9] الديوان العالي السلطاني، القسم العربي 1915، 25 أكتوبر 1915.
[10] جريدة "الدليل"، القاهرة، 16 سبتمبر 1914.
[11] جريدة "السفير"، القاهرة، أول سبتمبر 1914.
[12] جريدة "المحروسة"، القاهرة، 25 أكتوبر 1914.
[13] جريدة "الأخبار"، القاهرة، 10 أغسطس 1915.
[14] جريدة "الوطن"، القاهرة، 16 نوفمبر 1918.
[15] جريدة "الوطن"، القاهرة، 26 مايو 1917.
[16] (F.O. 407/186, Enclosure in No. 302, Report on General Situations in Egypt for Period from, May 18 to 24, 1920).

[17] د. عبدالوهاب بكر، البوليس المصري (1922-1952)، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988، ص 106.
[18] المرجع السابق، ص 109- 112.
[19] د. محمد صابر عرب، هجوم على القصر الملكي.. حادث 4 فبراير 1942، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2003، ص 395- 406.
[20] اللورد كرومر، تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان لسنة 1902، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، 1903، ص 60.
[21] د. عبير حسن عبدالباقي، طبقة الأفندية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2005، ص 205.
[22] المرجع السابق، ص 206.
[23] جريدة "الإكسبريس"، القاهرة، 6 أغسطس 1917.
[24] جريدة "المحروسة"، القاهرة، 31 يوليو 1917.
[25] جريدة "الزمان"، القاهرة، 2 فبراير 1948.
[26] دار الوثائق القومية، محافظ عابدين، محفظة رقم 508، القاهرة.
[27] د. عبدالوهاب بكر، مجتمع القاهرة السري (1900- 1952)، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000.
[28] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 6 يوليو 1932، ص 8.
[29] د. عبير حسن عبدالباقي، مرجع سابق، ص 210.
[30] جريدة "الأفكار"، القاهرة، 31 يوليو 1915.
[31] جريدة "المقطم"، القاهرة، 26 إبريل 1900، ص 3.
[32] جريدة "الزمان"، القاهرة، 3 فبراير 1948، ص 4.
[33] جريدة "اللواء"، القاهرة، 10 إبريل 1903، ص 3.
[34] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 5 مايو 1935، ص 6.
[35] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 1 يوليو 1935، ص 6.
[36] جريدة "المقطم، القاهرة، 17 يناير 1900 ، ص 3.
[37] وزارة الداخلية، أحكام تأديبية، فهرست الأوراق العمومية 1918، القاهرة، 4 إبريل 1918.
[38] جريدة "الأهالي"، القاهرة، 11 نوفمبر 1916.
[39] جريدة "المحروسة"، 16 أغسطس 1914.
[40] جريدة "وادي النيل"، القاهرة، 31 مايو 1915.
[41] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 15 مارس 1934، ص 8.
[42] مجلة "المحاكم"، القاهرة، 4 يناير 1932، ص 4.
[43] دار المحفوظات العمومية، القاهرة، ملف 27060، محفظة 1227، رف 3، دولاب 60.
[44] جريدة "وادي النيل"، القاهرة، 24 فبراير 1915.
[45] المملكة المصرية.. وزارة الداخلية: إدارة عموم الأمن العام، تقرير عن حالة الأمن العام في القطر المصري عن المدة من سنة 1930 إلى سنة 1937، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، 1952، ص 13.
[46] جريدة "كوكب الشرق"، القاهرة، 5 يناير 1930، ص 6.
[47] دار الوثائق القومية، محافظ عابدين، القاهرة، محفظة رقم 511، "التماسات".
[48] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 16 سبتمبر 1914.
[49] كريمة حسن، الكساد ضرب أمريكا عام 1929 فأفلست بنوك وتجار مصر في الثلاثينيات، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 31 أكتوبر 2008.
[50] جريدة "المقطم"، القاهرة، 5 سبتمبر 1900، ص 2.
[51] جريدة "المقطم"، القاهرة، 7 نوفمبر 1900، ص 2.
[52] د. عبير حسن عبدالباقي، مرجع سابق ص 227.
[53] جريدة "الحرية"، القاهرة، 24 أغسطس 1915.
[54] جريدة "الجريدة"، القاهرة، 7 إبريل 1908، ص 4.
[55] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 16 أغسطس 1935، ص 6.
[56] اللورد كرومر، تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان، سنة 1904، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، 1905.
[57] د. عبير حسن عبدالباقي، مرجع سابق، ص 234.
[58] جريدة "وادي النيل"، القاهرة، 18 سبتمبر 1916.
[59] جريدة "الأهرام"، القاهرة، 2 يوليو 1934، ص 8.
[60] جريدة "الوفد"، القاهرة، 4 مايو 1944، ص 2.
[61] جريدة "الإكسبريس"، القاهرة، 8 يونيو 1919، ص 3.
[62] جريدة "الأهالي"، القاهرة، 6 يوليو 1911.
[63] مجلة "العفاف"، القاهرة، 7 سبتمبر 1914.
[64] د. لطيفة محمد سالم، مرجع سابق، ص 197- 198.
[65] جريدة "الإكسبريس"، القاهرة، 25 نوفمبر 1917.
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator