المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (12): الحنفي والشافعي..وبينهما امرأة





مصيبةٌ، إن كان في الحب ثلاثة أطراف.. فضيحة، إن أصبح أطراف العلاقة أربعة فما أكثر

قبل غروب شمس العصر المملوكي، حدثت واقعةٌ جمعت بين الحب والمكر والخديعة

كان بطل القصة نور الدين المشالي شاباً في أواسط الحلقة الثالثة من عمره..وظيفته الرسمية: نائب من نواب الحنفية، أي أنه قاضٍ ممن يحكمون على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان. ولم تكن حالته ميسورة نظراً لقلة ومحدودية ما يتقاضاه من المتقاضين. وعلى الرغم من أنه كان متزوجاً وله ولدٌ من هذه الزيجة، فقد ارتبط بعلاقةٍ خاصة مع فاطمة، المتزوجة من أحد نواب "قضاة" الشافعية، ويدعى غرس الدين خليل الذي كان صديقاً للمشالي وأحد رفاقه على المقهى

وظل الأمر على هذه الحال..المشالي على علاقةٍ سرية مع فاطمة، في حين يحتفظ بصداقته لزوجها خليل الذي كان غافلاً عما يحدث، حتى تدخل طرفٌ آخر ليفتح عينيه على ما يجري ويكشف تفاصيل ما يجري في الخفاء: شميس

كان هذا الشاب الملتحق بمجالس القضاة يهوى فاطمة، وكانت بينهما نظراتٌ وعلامات وبشائر اتفاق..وقبل أن تتطور تلك النظرات إلى ما كان شميس يطمح إليه، ظهر الشمالي في أفق فاطمة..وهكذا انصرفت المرأة اللعوب عن شميس وصدَته..من أجل عيني المشالي!

وككل عاشقٍ خائب، فقد ترصدها شميس وأخذ يتحسس أخبارها ليعرف سر انصرافها عنه، حتى عرف أن المشالي هو العاشق الخفي الذي وقعت فاطمة في هواه..وفي 11 ديسمبر كانون أول عام 1513 قرر خليل أن يقضي ليلةً في رحاب مسجد "الإمام الليث" – وهو مسجد بُنيَ بأمرٍ من الملك الأشرف قانصوه الغوري، على مشهد الإمام الليث بن سعد، مفتي أهل مصر، بالقرافة الصغرى، بالقرب من مشهد الإمام الشافعي- مع بعض أصدقائه من الصوفيين يتعبدون وينشدون الأذكار لله ويشكرونه على ما أفاء به من نعيم أعقب شهورالطاعون والكساد

وعندما خرج خليل من بيته قبل صلاة المغرب، كان شميس جالساً على مصطبة أمام منزله المجاور، فألقى عليه الأول التحية وأبلغه بأنه سيقضي الليلة خارج منزله، وعرض عليه أن يصاحبه، لكن شميس اعتذر ورفض العرض

وما إن مضى خليل في اتجاه مسجد الإمام الليث حتى كان شميس قد قرر أمراً: ظل جالساً في مكانه وعيناه مثبتتان على بيت خليل أمامه..تنتقل حيناً إلى المشربية، منتظراً أن يلمح خلفها طيف فاطمة كما كان يحدث في زمن مضى

أخيراً، فُتِحَ الباب

وخرجت من الدار جاريةٌ كان شميس يعرفها تماماً.. إنها كاتمة أسرار فاطمة وموضع ثقتها، وكانت يوماً رسول غرامٍ بينها وبينه..فتبعها إلى أن لمحها وهي تتحدث مع أحد أتباع المشالي في ركنٍ مظلم في أحد الشوارع، فأدرك أن فاطمة قد أرسلت تستدعي عشيقها، وهذا ما تأكد له بعد قليل عندما طرق باب فاطمة أحد أتباع المشالي وهو يحمل بعض اللفافات لم يشك شميس في أنها هديةٌ إلى المعشوقة الفاتنة من عشيقها

وتحت جنح الظلام، لمح شميس من مخبئه غريمه المشالي وهو يتسلل إلى منزل فاطمة. لحظتها قرر الانتقام بدافع الغيرة التي عصفت به، فمضى مسرعاً إلى مسجد الإمام الليث، وهناك وجد خليل مستغرقاً في الذكر بكل جوارحه، فجذبه من كُمه وأخطره هامساً بكل شيء، وركب كلٌ منهما حماره وعادا مسرعين إلى القاهرة. هَمَ خليل بأن يطرق الباب، لكنه خشي أن يخفي الخائنان آثار جريمتهما، فتسلق سور المنزل، وتوجه على الفور إلى حجرة النوم، فوجد المشالي مع زوجته في "الناموسية"، وهما تحت الغطاء متعانقان، فقبض عليهما باليد وأوسعهما ضرباً

أثارت الجلبة فضول الجيران الذين كان معظمهم مستغرقاً في النوم في تلك اللحظة، وسرعان ما فتحت النوافذ وأطل الجميع مستفسرين، ووقف عددٌ من المارة يتسمعون ويحاولون معرفة وفهم ما يجري. فقد المشالي أعصابه - كما يروي صلاح عيسى في كتابه "حكايات من دفتر الوطن"- بعد أن افتُضِحَ أمره في فراش رجلٍ آخر وهو عارٍ ومخمور، لكنه استطاع أن يتمالك ما بقي من أعصابه ليطلب من خليل أن يهدأ، ويتوسل إليه ألا يفضحه، ويعده بأن يكتب له صكاً بألف دينار، فيما قالت له فاطمة إنها مستعدةٌ للتنازل عن جميع أمتعة البيت، على أن يتستر المشالي على الأمر

أصر الزوج على الرفض على الرغم من توسلات المشالي وفاطمة، واستفزه ما عرضاه عليه حتى يصمت ويتستر على الفضيحة، فانهال عليهما ضرباً. وفي النهاية أغلق عليهما باب الحجرة، ووضع عليهما حراسةً من بعض خدم المنزل، وتوجه فوراً إلى دار حاجب الحجاب، أي كبير الأمناء، وهو منصبٌ مملوكي، كان صاحبه يقوم مقام النائب في الولايات، وإليه يشير السلطان، وإليه يرجع عرض الجند وما شابه ذلك، وإليه تُقدّم العروض.. وهو من يقوم بالنظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك (المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، 2/ 219)

بمجرد أن سمع حاجبُ الحجاب، الأمير أنسبائي، تفاصيل القصةِ حتى أرسل فألقى القبض على العاشقين اللذين افتضح أمرهما، وعندما وصلا إلى داره بدأ التحقيق معهما. بدا المشالي مرتبكاً ويود أن يتخلص من الموقف بأي شكل، فاعترف بكل شيء. سمع حاجب الحجاب التفاصيل باهتمام، ثم أرسل لإحضار أحد زملاء المتهم، وهو القاضي شمس الدين بن وحيش، فأعاد التحقيق أمامه، ثم أحضر دواةً وقلماً، فكتب المشالي اعترافه بخط يده، ووقع القاضي ابن وحيش على المحضر بما يفيد أن الاعتراف تم في حضوره، دون ضغطٍ أو تعذيبٍ للمتهم

وبعد أن انتهى التحقيق أمر حاجب الحجاب بضرب المشالي، فضُرِبَ ضرباً مبرحاً حتى كاد يلفظ أنفاسه، ثم رُفٍعَت المرأة على أكتاف الجنود وضُرِبَت هي الأخرى حتى أغميَ عليها..وأمر حاجب الحجاب بالتشهير بهما وتجريسهما في القاهرة

وفي صباح اليوم التالي بدأت عملية "التجريس" وأُركِبَ نور الدين المشالي وفاطمة كلٌ على حمار، وأجبٍرَ المشالي على وضع عمامته وهي الشارة التي تدل على أنه من القضاة..وكان وجه كلٍ منهما إلى مؤخرة الحمار، وطافوا بهما الشوارع المحيطة، والجنود حولهما يدقون الأجراس وينادون على الناس ليجتمعوا حولهما ويسمعوا قصتهما..والمغاني في الخلف يزفونهما بالطارات..وقد وضِعَ في عنق المشالي "ماشة" و"هون". وهكذا طافوا بهما في أحياء "الصليبة" و"قناطر السباع"- حي السيدة زينب حالياً- ثم عادوا بهما إلى دار حاجب الحجاب حيث ضربوهما بالسياط أمام الناس عقاباً لهما

وربما كانت هذه الفضيحة كافيةً لتوقيعها على العاشقين، بعد أن ضُرِبا وعُذِبا و"جُرِسا" في أنحاء القاهرة..وغاية ما هناك أن المرأة كانت ستُطَلَق، أما المشالي فكان المنطقي هو أن يُفصل من وظيفته..لكن الموقف تم تصعيده على نحوٍ غريب ليرسم ملامح أخرى لتلك الحادثة

هنا، بدأ رنين الذهب..وصوت الطمع يعلو فوق الجميع

إذ قبل أن يأمر حاجب الحجاب بالإفراج عن المشالي وفاطمة، فكرَ في أن يكسب من "الجهد" الذي بذله أثناء التحقيق في القضية، فاستدعى الرجل والمرأة وطالب كلاً منهما بمئة دينار كي يفرج عنهما. أبدى المشالي استعدادهلدفع المبلغ، أما المرأة فاعتذرت قائلةً إن زوجها وضع يده على جميع ما تملك من مال

وعلى الفور، أرسل حاجب الحجاب في استدعاء خليل وطالبه بأن يحضِر من مال زوجته مئة دينار على سبيل الرشوة.. إلا أن خليل الذي بدا مذهولاً مما حدث رفض دفع المبلغ، فثار حاجب الحجاب وأمر جنوده بإلقاء القبض على الزوج المخدوع وتعذيبه حتى يذكر مكان مال زوجته ويحضر منه المال المطلوب

دفع المشالي الرشوة فأفرج عنه..وأفرج عن المرأة..وهكذا أفلت المذنبان واعتقل الزوج المسكين وبديء في تعذيبه..لكن خليل الصغير استغل مرور السلطان بالقرب من حوش "الدهيشة" السلطاني في القلعة، فارتمى أمام موكبه وقص على السلطان قانصوه الغوري ما حدث. استفز السلطان ما حدث فاستدعى القضاة وهو غاضبٌ، ثم قال في حضورهم: "والله افتخرتم يا قضاة الشرع..نوابكم شيء يشرب الخمر، وشيء يزني، وشيء يبيع الأوقاف"..ثم سأل عن القاضي ابن وحيش الذي حضر اعتراف المشالي بالزنا..وعندما وقف أمامه طلب منه أن يشهد في المجلس بما صدر عن الزاني من اعتراف. وفي النهاية سأل السلطان القاضي عن رأيه، فقال ابن وحيش: "أنا ثبت عندي رجمهما..لا بد من تطبيق الحد"، فقال السلطان على الفور: "إذاً أصدر حكمك برجمِهما"


غير أن ابن وحيش أثار نقطة شكلية، فقال إنه لا يستطيع أن يصدر حكماً في القضية لأنه مجرد "نائب"، إلا إذا حصل على إذن بالحكم فيها من قاضي قضاة مذهبه، وهو القاضي الشافعي كمال الدين الطويل، فأذن له القاضي الشافعي بذلك. وهكذا أمر السلطان بإعادة القبض على المشالي وفاطمة لتنفيذ حكم الرجم عليهما، وتم اختيار مكانٍ تُحفَرُ فيه حفرةٌ لكلٍ من الزاني والزانية عمقها بطول قامةِ كلٍ منهما، بحيث لا يظهر منهما سوى الرأس فقط، لتكون هدفاً سهلاً للحجارة التي يلقيها الناس عليهما حتى يموتا. أودِعَ المشالي سجن "المقشرة"، وما أدراك ما "المقشرة!

يذكر المقريزي في كتابه "السلوك" الجزء الرابع في حوادث سنة 820هـ أن البرج المجاور لباب الفتوح من سور القاهرة الشمالي بجوار باب الفتوح فيما بينه وبين جامع الحاكم بأمر الله رسم أن يعمل سجنًا لأرباب الجرائم بعد هدم خزانة شمايل، وكان يُعرف باسم برج المقشرة؛ لأنه كان يقشر فيه القمح. ويصفه المقريزي بأنه من أشنع السجون وأضيقها، يقاسي فيه المسجونون من الغمّ والكرب ما لا يوصف‏، وبلغ الأمير فخر الدين أن السجن الذي استجدَّ عند باب الفتوح بالقاهرة- عوضًا عن خزانة شمايل- يقاسي فيه أرباب الجرائم شدة من ضيقه ويقاسون غمًّا وكربًا شديدًا فعين قصر الحجازية بخط رحبة باب العيد ليكون سجناً عوضاً عنه

أما فاطمة فقد ذهبوا بها إلى سجن النساء، وكان يُعرَفُ باسم "الحجرة"، وأفرِجَ عن الزوج المسكين

الغريب أن تطبيق حد الزنا لم يكن يُطبَقُ في مصر منذ عهد الخلفاء الراشدين، ما أثار موجة من الجدل والنقاش في أنحاء القاهرة آنذاك

غير أن الآتي كان أعظم
تابع القراءة

gravatar

جمهورية الفوضى


في وطنٍ تحكمه الفوضى يصبح كل شيء ممكناً

وحين نفقد البوصلة يصبح طبيعياً أن تجد من يسير عكس الاتجاه، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً

وفي مصر، استسلم العامة قبل الخاصة لفكرة الفوضى، بعد أن ضاع التاريخ ولم يعد سوى صورة في بطاقة معايدة أو لوحة غنائية للتباهي في المناسبات الرسمية والأعياد القومية. أما الحاضر، فقد اختطفه اللصوص وصادرته أجهزة الأمن، وأهدرته طوابير طويلة بحثاً عن لقمة العيش، أو العيش نفسه

وحين يضيع التاريخ، ويصبح الحاضر رهينة، يتسرب المستقبل ويخبو الأمل في صنع غدٍ أفضل، إلا في وسائل إعلام رسمية ترهلت وأصابها من الفساد ما أصاب غيرها من الهيئات والمؤسسات في هذا الوطن

لقد أصبحت أبسط الحقوق أحلاماً يصعب علينا تحقيقها مما جعل الحلم الحقيقي يتلاشى ويصبح مطلباً بعيد المنال، أو يدخل في باب المحال

ولأن البعض يتعلق بثوب الدولة ظناً منه أنها الأم والأب، والمنقذ والمخلص، فإن صدمة هؤلاء كبيرة عندما يجدون الدولة مفككة، تتضارب فيها المصالح والمواقف والسياسات. وكيف يمكن أن يكون هناك كيان اسمه الدولة وجميع الحوادث التي تشهدها شوارعها يومياً وبكثافة ربما لا يكون لها مثيل في أي بلد في العالم، جميعها يستوي فيها المخطئ والمصيب، ولا تجد صدى لدى المسؤولين عن الأمن سوي محاولة تطييب الخواطر وإفهام الجميع أن عمل المحاضر وإثبات الحالة وغيرها ليست أكثر من تضييع للوقت، وأنك لن تحصل على حق أو تعويض

هناك من يتساءل: من يحكم مصر؟

والإجابة بسيطة: الفوضى

إننا نعيش مهددين بقبضة الأمن، وسطوة رجال الأعمال، وتحت رحمة تجار جشعين، وبلطجية وجدوا الساحة مهيأةً لفعل ما يحلو لهم. أما المواطن العادي فلم يعد يسير بمحاذاة الجدار، وإنما داخله، إلا أنه يظل فريسة سهلة لكل هؤلاء

وفي ظل تلك الفوضى، يستسيغ الجميع، حكاماً ومحكومين، فكرة الجهل والإهمال والتسيب، ويتقن فن المراوغة والخداع والتلاعب، ويفقد الآباء قبل الأبناء مفهوم الانتماء الحقيقي للوطن، والفهم العميق للدين القويم، لتنتهي المهزلة بضياع البلاد ومهانة العباد داخل المحروسة أو في أرض الله الواسعة

أين الدولة؟

إننا لا نرى من مظاهرها سوى صور عابرة، في ظل انكسار المواطن تحت وطأة الظروف المعيشية القاسية، وصلف السلطات وتعنت الهيئات الحكومية، وانتشار الفساد بمختلف صوره وأشكاله

إن المؤشرات جميعها تؤكد أن الدولة حصرت نفسها في الاحتفالات والبروتوكولات والمكلمات، وصدقت وسائل إعلامها، واطمأنت إلى قدرة أفراد أمنها على تأمين استمرار نظام حكمها.. ثم انزوت في القصور والمباني الفخمة التي يقف على أبوابها حراس أشداء يمنعون البسطاء من الوصول بأصواتهم أو شكواهم إلى أولي الأمر

ترى متى تعود لترعى أحوال شعبها؟

إن أزمات وحروب الغد تولد اليوم..وهو ما غاب عن أذهان صانعي القرار الذين يعيش أغلبهم في كبسولة فضائية لا علاقة لها بالواقع المعاش ولا بحياة أبناء هذا الوطن

وفي علم السياسة، توجد ثلاث وسائل لتعزيز الإصلاح السياسي الديمقراطي في النظم شبه السلطوية. الوسيلة الأولى هي الاستمرار في إدخال إصلاحات تدريجية في إطار النظم القائمة، أما الوسيلة الثانية فهي تقوم على عنصر المفاجأة التي من شأنها أن تؤدي إلى تحولٍ ديمقراطي كامل. وتعتمد الوسيلة الثالثة على تقاسم السلطة بين النظام الحاكم والمعارضة المرتبط بإدراك كلا الطرفين أنه لا يمكن لأحدهما القضاء على الآخر

أما في مصر، فقد ظهرت وسيلةٌ رابعة للتعامل مع واقع سياسي مضطرب: الفوضى..غير الخلاقة

والكتاب الذي بين أيدينا قراءةٌ في ماضي مصر، ودراسةٌ في حاضرها، ومحاولةٌ لاستقراء المستقبل، لعلنا ندرك ما جرى، ونستوعب ما يحدث، فنحسن فهم ما يمكن أن تحمله لنا الأيام والأعوام المقبلة

أو قل إنها بصيصٌ من الضوء، ربما يتحول يوماً إلى بارقة أمل في نفوس أبناء مصر..مصر التي إن ارتفعت هامتها ارتفعت هامة العرب، وإن هانت واستكانت هانوا..وكانوا

وبعد.. إنها كلماتٌ تحاول أن تضيف وتثري، وقراءاتٌ تنظر في أحوال المحروسة حتى تصبح حارسة للحق والعدل والنهضة، وتأملات مخلصة في أحوال القاهرة..حتى لا تبقى مقهورة

من مقدمة كتاب "جمهورية الفوضى: قصة انحسار الوطن وانكسار المواطن" - كتاب "ميزان"- يناير 2008

تجدون إصدارات "ميزان" في معرض القاهرة للكتاب، سراي 4- جناح دار ليلى
وعقب معرض القاهرة للكتاب، تجدونها في المكتبات الكبرى في مصر

تابع القراءة

gravatar

قبل الطوفان



على حافةِ الكون يقفُ المدوِن
ربما يكون باحثاً عن حقيقة ضائعة أو راغباً في لمس سقف السماء بإحساسه وترصيع ملابسه بنجمةٍ أو أكثر، أو حالماً بحرية النفس أو الوطن، أو صاحب رأي وموقف وقضية

هنا ترتدي المدونة عقل وقلب صاحبها، ليصبحا في إيقاع موسيقي عذبٍ الحلقة المفقودة في دورة الحياة ونشأة الإنسانية
والتدوين تنوعٌ، مثلما أن الكتابة فعل التزام

وفي فضاء التدوين، تجد البشر قادرين على تجاوز حدود عالمهم الصغير بالكتابة عن قضايا وهموم وتحدياتٍ لا تعد ولا تحصى، والوصول بأفكارهم ورؤاهم إلى أربعة أركان الدنيا..فالكلمات لها أجنحة
ربما كان هذا السبب وراء انحياز كاتب هذه السطور لتجربة التدوين بشكل عام، خاصة أن مساحة الحرية أكثر اتساعاً، دون رقابةٍ أو قيود تُذكر، على الأقل حتى الآن

ولعل أبرز ما شغلني عند بدء تلك التجربة، هو ذلك التاريخ الضائع الذي يعاني الإهمال ويفتقد الدقة والقدرة على التوثيق. من هنا، كان اهتمامي الأول هو محاولة جمع أوراق تاريخ مصر المبعثرة، لتبيان الحقائق ورصد الأحداث قدر الإمكان

هدف مدونة "قبل الطوفان" في شقها التاريخي كان إذاً التوثيق والتدقيق، لا الإمتاع والمؤانسة. على أن أسلوب الكتابة عنصرٌ بالغ الأهمية في جذب القاريء ولفت انتباهه إلى جوهر الموضوع، وتشكيل رأي عام أكثر وعياً ونضجاً وإدراكاًً للأمور

والتدوينات التي ظهرت على مدونة "قبل الطوفان" تجسد في جانبٍِ منها، رغبةً جادة في قراءة تاريخ مصر المعاصر، وفهم طبيعة وحقيقة الأدوار التي لعبها البعض عبر عقودٍ طويلة، وتحليل طبيعة الشخصية المصرية

لقد حان الوقت كي ننزع القداسةَ عن تاريخنا, لأنه تاريخ بشرٍ يخطئون ويصيبون. ونحن نرى أن "قبل الطوفان" حاولت أن تضيف وتثري النقاش حول قضايا مهمة وشخصيات مؤثرة في تاريخ مصر، سعياً وراء الحقيقة ولا شيء سواها

والحقيقة هنا تشير إلى اختلال الموازين في ظل مصيبةٍ اسمها تولية الأمر لغير أهله، وتبين أن مصر تتأرجح - أو تترنح- مثل بندول الساعة بين الحلم الممكن والواقع المرير

وفي أولى تدوينات تلك المدونة، كتبنا بتاريخ 18 فبراير شباط 2006 وتحت عنوان "الحقيقة..تلك الكلمة السحرية" قائلين:

"وفي وصف حالتنا التي لا تخفى على القاصي والداني..لا تكون الكتابة ترفاً، بل فعلاً ومقاومة وسفينة نجاة.. قبل أن يجتاحنا الطوفان"

وهذا بالضبط ما دفعنا إلى جمع تلك التدوينات وإعادة قراءتها وإضافة بعض التفاصيل إن لزم الأمر واستدعت التطورات المتلاحقة للأحداث، حتى يتسنى للقاريء أن يدرك ما يجري حوله ويستوعب الصورة كاملة، بدلاً من الاكتفاء بجزءٍ منها. ومن رحم المعلومات الشاملة والبيانات الوافية والإرادة الواعية الحرة، تُولد القرارات الصائبة التي تمكث في الأرض وتنفع الناس

والشاهد أن القراءة المتأنية لمدونة "قبل الطوفان"، وتحديداً التدوينات المختارة عن مصر المحروسة، تكشف عن حقيقةٍ لا تقبل الجدل، مفادها أن ثمة احتكاراً حقيقياً للسلطة في البلاد بين أيدي مجموعة قليلة من النخبة ترتبط ببعضها البعض بكل وشائج المصلحة والمصاهرة والمجاورة، وتمنع، بكل سبل التشريع الفاسد والإجراءات الاستثنائية أي مصري آخر من خارجها من الاقتراب من مركز تلك السلطة

تاريخٌ من المظالم الاجتماعية والسياسية، والمفارقات المضحكة والمؤلمة معاً، والنوادر التي تستحق أن تُروى، والتي تثبت أن في بلادنا الآن أكثر من "مصر"

أمصارٌ من كل نوع ولون، تخوض صراعاً لا ينتهي، بعضها تقوده شهوة الثراء، وبعضها الآخر يتمنى نعمة البقاء، وما بين فكي الرحى شعبٌ راح يتساقط تحت وطأة العطش والفقر والبطالة وأمراض الكلى والكبد والأوجاع النفسية والعوز والتفكك الأسري، التي تلقي بفلذات الأكباد إلى غيابة الشوارع والطرقات المتوحشة

وعاشت الدولة في السنوات الأخيرة في حالة صدامٍ دائم مع المجتمع بفئاته المختلفة، ولا ترغب وفقاً للعقد الاجتماعي التاريخي بين الشعب والدولة في التصالح معه والاستجابة لمطالبه الخاصة بالحرية والديمقراطية والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل، بل تأخذها العزة بالإثم والعناد في مواجهة المشكلات التي يواجهها الشعب بمختلف طوائفه حتى أصبح العقد الاجتماعي بين الطرفين فاقداً لمشروعيته ووجوده، وبات زواجاً غير شرعي

ولقد بدا واضحاً ذلك الانسحاب المخزي للدولة من المجال العام - السياسي والنقابي والإداري ـ والمجال الخاص في حماية كل مواطنٍ يحاول أن يسير على قدميه. وامتد انسحاب الدولة ليشمل باقي مجالات الحياة، فالدولة غائبةٌ عن حياة المصريين اليومية، لا تظهر إلا في الكوارث، وتغيب حين يكون مطلوباً منها أن تمنعها أو تواجهها قبل وقوعها

فالمصريون يموت منهم كل عام حوالي ١٠ آلاف قتيل في الطرق وحدها، ولا أحد يتحرك بمن فيهم الناس أنفسهم، ويغرقون في العبارات النيلية، وليس فقط عبارات البحار وهم لا يتحركون، وينهار نظامهم التعليمي ويعيشون في فوضى وعشوائية أقرب إلى المهزلة، ويُستنزَفون منذ الصباح وحتى عودتهم إلى منازلهم في مشاجراتٍ ومشادات وجدلٍ لا ينتهي مع بعضهم البعض، دون أن تحكمهم قاعدة قانونية واحدة تنظم شيئاً واحداً في حياتهم

وهكذا عاشت مصر عصوراً انتشرت فيها ثقافة المسكنات والمهدئات، حتى في الحالات التي كانت تتطلب بتراً أو جراحة عاجلة، لأن أهل المصلحة في بقاء الحال على ما هو عليه رأوا أنه لا ضرورة للإصلاح في مجالات ومناحي الحياة، حتى آلت الأمور إلى ما نحن عليه الآن من تدهورٍ وضياع للدور والمكانة والتأثير

مدونة "قبل الطوفان" كانت رصداً لهذا التدهور، وأول العلاج هو التشخيص السليم

فلنبدأ معاً القراءة.. ورحلة العلاج

من مقدمة كتاب "قبل الطوفان: التاريخ الضائع للمحروسة في مدونة مصرية" - كتاب "ميزان"- يناير 2008
تجدون إصدارات "ميزان" في معرض القاهرة للكتاب، سراي 4- جناح دار ليلى وعقب معرض القاهرة للكتاب، تجدونها في المكتبات الكبرى في مصر
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (11): لعنة "أولاد الذوات"






في قضية مقتل علي كامل فهمي..دخل الفن على الخط

يقول د. لويس عوض في سيرته الذاتية "أوراق العمر": "وقد كانت أهم ثمرة في أدب المسرح لتعاظم هذه الحملة على الزوجة الأجنبية هي مسرحية "أولاد الذوات" التي كتبها ومثلها يوسف وهبي (عام 1930) وهي تصور وجيهاً مصرياً اغتر بالنشرة الحضارية البراقة التي تتميز بها المرأة الأوروبية فتزوج من فتاة أجنبية بددت أمواله وخربت بيته واكتشف أنها تخونه. وقد كنا نتندر ونحن صغار بذلك الكريشندو الذي بلغه يوسف وهبي وهو يصيح في زوجته الأجنبية قبل أن يطلقها "يا امرأة الكل يا مزبلة". ويبدو أن "أولاد الذوات" كانت الرد الميلودرامي على قضية مارغريت فهمي وعنصرية مارشال هول، من وجهة نظر مصرية. بعبارة أخرى: إذا كنتم تصفون كل الأزواج المصريين بأنهم جلادون يسحقون زوجاتهم, فنحن أيضاً نصف كل الزوجات الأجنبيات بأنهن ساقطات يخن أزواجهن, ونبقى خالصين, والبادي أظلم. وهذه التعميمات في الحالتين سذاجات لا تليق بالمتحضرين"

لا بد من القول إن فيلم "أنشودة الفؤاد" من إخراج ماريو فولبي عام 1932, هو أول فيلم مصري طويل ناطق. وبالرغم من أن "أنشودة الفؤاد" أنجِزَ قبل فيلم "أولاد الذوات" إخراج محمد كريم، فإن الفيلم الثاني سبقه إلى العرض في 14 مارس آذار عام 1932 في سينما رويال بالقاهرة, في حين عرض "أنشودة الفؤاد" في 13 أبريل نيسان في سينما ريالتو بالإسكندرية ثم في سينما ديانا بالقاهرة في اليوم التالي

عن نص "أولاد الذوات" كتب يوسف وهبي قصة وحوار الفيلم الذي أخرجه وكتب له السيناريو محمد كريم بالعنوان نفسه. أبطال الفيلم هم: يوسف وهبي، أمينة رزق، سراج منير، كوليت دارفيل، أنور وجدي، حسن فايق. وملخص قصة الفيلم من واقع ما نشر عنه: يخون حمدي زوجته المصرية مع فتاة فرنسية, ويسافر معها إلى باريس, وهناك يكتشف أنها تخونه, فيقتلها ويقتل عشيقها, ويحكم عليه بالسجن. يعود حمدي إلى مصر يوم زفاف ابنه ليجد ان زوجته قد تزوجت من ابن عمها بعد أن تصورت أنه توفي في فرنسا. ومن دون أن يعرف نفسه، يتقدم حمدي نحو ابنه ويقدم له التهاني, فيتصور الابن أنه شحاذ ويعطيه بعض المال. يغادر حمدي المنزل وينتحر!

يذكر المخرج محمد كريم في مذكراته أن جريدة "لابورص" الفرنسية هاجمت فيلم "أولاد الذوات" ونشرت جريدة "المقطم" ترجمةً عربية للمقال في عدد 30 مارس آذار عام 1932 جاء فيها "إذا تركنا جانباً الوجهة الفنية التي عمل عليها فيلم "أولاد الذوات" وهي تعد عتيقة مضحكة, فنحن نجد أن هذا الفيلم هو على مثال أفلام روسيا الشيوعية التي تترك الفن للفن وتقصد الدعاية, فقد أرادوا به أن يروجوا الدعوة لدى المصريين لكراهية المرأة الأوروبية وخاصة الفرنسية, فهي تخرب البيوت وتقود الرجال ضحيتها إلى الدمار وإلى الجريمة وإلى الموت. ولكي يستكملوا المظاهرة وضعوا بطريقةٍ كلها عبث أطفال جميع الرذائل وضروب الخسة في شخص تلك المرأة وعهدوا بها للمدموازيل كوليت درافيل التي قامت بالدور عن طيب خاطر، وهو موضع العجب"

ويستطرد كاتب المقال قائلاً: "وليس من شك أن الكثير من الناس الطيبين قد صدقوا أن هذا هو حال المرأة الأوروبية. ولا حاجة للقول إن شخصية "دافاس" إنما هي كاريكاتورية بل وكاريكاتورية مشوهة, فقد جمعوا فيها كل شيء ليجعلوها رمز رذيلة الغرب في مقابل فضيلة الشرق. وكان هذا منهم عملاً رديئا. كما لو أنهم مثلوا في أوروبا عصابة يبدو فيها شاب مصري يخدع امرأة, فمثل هذا الفيلم يضيق به الناس لأنه ينطوي على الحقد, ولكن ما من أوروبي صنع ذلك الفيلم, فكيف يخرجون في مصر فيلماً كهذا مبنياً على التعصب من دون أن يكون حتى على شيء من الفن"

ويقول محمد كريم في مذكراته: "ثم نشرت "المقطم" النبأ التالي: "قدم بعض الأجانب شكوى إلى وزارة الداخلية في فيلم "أولاد الذوات" وقالوا إن فيه تعريضاً وأسباباً للنفور فندبت الوزارة جناب المستر غرايفز ومعه أعضاء اللجنة المختصة بهذه الأمور فذهبوا يوم الأربعاء إلى سينما متروبول حيث عرض الفيلم عليهم فحكموا بأن ليس فيه ما يستحق الاعتراض أو المؤاخذة على المرأة الفرنسية, وأكدت اللجنة إجازة الاستمرار في عرضه على أنظار الجمهور. وكان قد حدث على أثر هذه الحملة أن أوقفت وزارة الداخلية الفيلم في أول يوم من عرضه الثاني في سينما متروبول في الحفلة الصباحية, وحدثت في البلاد هزة كبرى لهذا المنع أفادت الفيلم فائدة عظيمة, وصادف عرضه إقبالاً كبيراً"





وفي عام 1947 أنتج فيلم The Paradine Case للمخرج ألفريد هيتشكوك عن رواية وضعها عام 1933 روبرت هيتشنز ، الذي كان لفترةٍ مساعداً للأديب أوسكار وايلد. بنى هيتشنز روايته على جريمتين مثيرتين في بريطانيا، الأولى هي جريمة الأمريكية فلورانس مايبريك التي وجدت مذنبة وأدينت بتسميم زوجها البريطاني في ليفربول العام 1889. أما الحادثة الثانية فهي قضية مدام فهمي

كما شهد عام 1994 تقديم مسلسل تليفزيوني يحمل عنوان "في ظروف مثيرة للشكوك"
"In Suspicious Circumstances"

كانت الحلقة الأولى منه حول جريمة مدام فهمي، ولعبت دورها الممثلة جوستين ميدا

ويرى البعض أن أحداث وتفاصيل جريمة قتل علي كامل فهمي تؤهلها لأن تكون من أكثر الجرائم العاطفية إثارة في القرون الثلاثة الأخيرة. وإن كنت من المؤمنين بحكاية لعنة "الملك توت" أو لعنة الفراعنة، فلا بد أن تتوقف طويلاً عند جريمة القتل المذكورة. فقد كان علي كامل فهمي شخصيةً اجتماعية معروفة في بلاط الملك فؤاد - وأثناء فترة زواجه القصيرة زعم أنه يمت بصلةٍ للملك فؤاد وأسبغ على نفسه لقب "برنس"- وكان من أوائل من زاروا معسكر هوارد كارتر ولورد كارنارفون في العام 1922، لمشاهدة الكنز الثمين الذي تم اكتشافه للفرعون الشاب توت عنخ آمون. ويورد البعض اسم علي فهمي ومصيره المأساوي ضمن قائمة طويلة بالنهايات الأليمة التي نزلت بمن شاركوا في هذا الكشف الأثري أو كانوا شهوداً عليه في مراحله الأولى


وقد يستوقفنا في هذا الصدد بحثٌ مهم أعدته لوسي بلاند ونشر في كتاب الجنسانية والتاريخ Gender & History. البحث يحمل عنوان "نساء بيضاوات ورجال ملونون: المخاوف من تمازج الأجناس في بريطانيا عقب الحرب العظمى" White Women and Men of Colour: Miscegenation Fears in Britain after the Great War

تقول الباحثة إنه "من المقترح أن تمازج الأجناس وقف كعلامةٍ حدودية بريطانية، تفصل بين المقبول وطنياً وما يمثل تهديداً وطنياً. والطرفان المعنيان هنا: الرجل البدائي الملون والمرأة البيضاء – من النوع الرخيص- كانا يصنفان بوصفهما من ذوي الانحراف الجنسي"

وفي مقالةٍ ثانية، نشرت لوسي بلاند في العام ألفين دراسةً مهمة تركز على هذه الحادثة تحت عنوان " محاكمة مدام فهمي: الاستشراق، العناد الجنسي وتهديد تمازج الأجناس"The Trial of Madame Fahmy: Orientalism, Sexual Perversity and the Threat Miscegenation

وتبين بلاند أن مسألة العرق وليس العجرفة المعكوسة، هي التي أنقذت مدام فهمي أثناء محاكمتها بتهمة قتل زوجها، الذي كان يُمثَلُ على أنه "شرقي" وبالتالي متوحش ومنحرف جنسياً. وكما تفسر لنا بلاند، فإن المتهمة جسَدَت "الأنوثة الغربية، في مواجهة وحشية الشرق" (ص 193)

ويمكن أن نجد تلك الدراسة في كتاب حررته شاني دكروز بعنوان" العنف اليومي في بريطانيا (1850-1950): الجنسانية والطبقة والعنف في بريطانيا، 1850-1950"، الصادر عن دار لونغمان للنشر

Shani D'Cruze (ed), Everyday Violence in Britain, 1850-1950: Gender, Class and Violence in Britain, 1850-1950

معلوماتٌ أخرى يضيفها أندرو روز في كتاب "فضيحة في سافوي: قضية القتل سيئة السمعة في عشرينيات القرن العشرين" Scandal at the Savoy: The Infamous 1920's Murder Case

يقول المؤلف إن مقتل المليونير المصري العابث في الأول من شهر سبتمبر أيلول عام 1923 على يد زوجته الفرنسية الحسناء في فندق "سافوي" الفخم في لندن، أثار بعناصره المختلفة اهتمام وسائل الإعلام لتنال الجريمة تغطيةً موسعة وتثير نقاشاً مستمراً في أوساط الرأي العام لشهورٍ طويلة

وينطلق أندرو من خبرته العريضة في القانون الجنائي ليفحص الحقائق خلف القضية، ويلقي الضوء على معلوماتٍ وأسرار كثيرة تتعلق بمدام فهمي وزوجها، لم تتح للقاضي ولا المحلفين فرصة معرفتها. ويقول أندرو إن الميول الجنسية المزدوجة لدى علي فهمي هي سر المأساة والجريمة. ولعله من الضروري القول إن أندرو هو أول شخص من العامة يُسمحُ له بالاطلاع على ملف الشرطة بشأن الحادث

لقد كرهت مارغريت زوجها طوال أشهر زواجهما الثمانية، لكنها كانت من الذكاء بما يكفي كي تقتله في لندن، حيث يمكنها الحصول على محلفين أكثر تعاطفاً ومحامي دفاع أفضل، كما نجد في الجزء رقم 86 من مجلة MURDER CASEBOOKوالصادر عام 1991 تحت عنوان"طلقات في الظلام: مارغريت فهمي ولوك آه تام"
Shots In The Dark: Marguerite Fahmy & Lock Ah Tam


The Mammoth Book of Women Who Kill (Mammoth Books)
تأليف ريتشارد غلين جونز

Chronicle of Murder: A Chronological Analysis of Murder
تأليف بريان لين

Murder on Several Occasions
تأليف جوناثان غودمان

ولكن ماذا عن ماري-مارغريت ألبير، أو "مدام فهمي" كما أسمتها الصحافة البريطانية؟

بعد نيلها البراءة، خسرت مارغريت دعوى قضائية أقامتها لنيل تعويض مادي من أهل الزوج الراحل، لكنها سرعان ما انشغلت بمهنتها الجديدة: التمثيل

فقد رفضت في البداية عرضاً بالوقوف على خشبة المسرح، ثم وافقت على عرضِ قدمه لها أحد المنتجين بأن تمثل على الشاشة، على أن يكون دورها الأول هو دور زوجة رجل مصري
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (10): حرب الصحف




لعبت الصحافة البريطانية دوراً مؤثراً في الدفاع عن مارغريت فهمي إلى أن نالت البراءة من التهم الموجهة إليها، وأخلي سبيلها، بالرغم من الضجة التي أثيرت في هذه الجريمة العاطفية الغريبة


وكتبت صحيفة "ديلي ميل" محذرةً من زواج نساء الغرب من رجال الشرق. وقالت الصحيفة إن مثل هذه الزيجات تثير عواطف غير مناسبة. وأضافت أن حالة السيدة فهمي، على وجه الخصوص، "ينبغي أن تكون درساً لبناتنا الشابات القابلات للتأثر واللاتي ما زلن بحاجةٍ إلى اكتساب بعض النمو والتطور"


أما صحيفة "لويد نيوز" فقالت "إن المرأة البيضاء التي تطلب الحب من رجال لا ينتمون إلى عرقها، سواء كانوا من العرق الأصفر، أو البني، أو الأسود، تدخل عالماً ضد طبيعتها ستتمرد عليه عندما تدرك الحقيقة". واتفقت مع هذا الرأي
صنداي بيكتوريال"، قائلةً إن قضية مدام فهمي لم تحمل مفاجأةً كبيرة للذين كانوا على علمٍ بِسماتِ العقلية الشرقية


وفي سياقٍ مماثل، حذرت صحيفة "ويسترن مورننغ نيوز" ضد "روح الليبرالية التي انتشرت في أوساط كثيرٍ من الأسر البريطانية، ما يقودها إلى قبول بعض الشرقيين كأصدقاء في منازلهم، وفي المقابل، يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى الزواج". ومضت الصحيفة لتلاحظ أنه "ومع ذلك، فإن شعور الزوجة البريطانية المتزوجة حديثاً بخيبة الأمل لا يبدأ قبل ذهابها إلى الشرق. يجب على الآباء البريطانيين أن يحذروا بناتهم كي يأخذن حذرهن من الرجال الشرقيين"


ولم تقع كل أقسام الصحافة البريطانية أسيرة هذه الموجة من العداء للرجل الشرقي، خصوصاً في أعقاب الإدانة الشديدة للمحاكمة والحكم من جانب مصريين مقيمين في انجلترا في ذلك الوقت، أو تصادف وجودهم هناك أثناء المحاكمة، إضافة إلى إدانة الشعب المصري الذي صب جام غضبه على الحكم والمحاكمة وذلك على صفحات الصحف الصادرة في مصر
لقد أثارت المحاكمة سخط مواطن مصري، يدعى عبد الرحمن البيلي بك، فأرسل بياناً إلى الصحافة البريطانية، يدافع فيه عن الحياة الزوجية في مصر. واحتج البيلي بك بشدة على مواقف واتهامات المحامي مارشال هول للزوج المصري والشرقي أثناء المحاكمة، فكتب يقول: "إن الرجال المصريين يعاملون زوجاتهم بأقصى درجات الاحترام، ومن يشذون عن هذه القاعدة في مصر ليسوا أكثر من أولئك الذين يشذون عنها في بلدانٍ أخرى. لقد وضعت الشريعة الإسلامية شروطاً على جواز الزواج بأكثر من زوجة بحيث يصبح هذا الخيار شبه مستحيل. علاوةً على ذلك، فإن الصحف البريطانية تنشر بين الفينة والفينة تقارير عن الحركة النسائية في مصر، وهي تقارير تعكس تأثير المرأة المصرية على الشؤون الوطنية. وعندما عاد سعد زغلول باشا إلى القاهرة كان هناك موكبٌ من النساء في 80 سيارة لتحيته. إن الوفد النسائي المصري الذي سافر إلى روما للمشاركة في مؤتمرٍ هناك قدم مساهمةً مهمة في المناقشات التي شهدها المؤتمر. وكان الوفد برئاسة هدى شعراوي، الرائدة المعروفة للحركة النسائية. وأخيراً، فإن القانون المصري لا يمنح الزوج الحق في معاملة زوجته بشكلٍ مختلف عن أي شخص آخر. وبين زوجات الرجال المصريين، هناك العديد من النساء من مختلف الجنسيات الأوروبية اللاتي يستنكرن بقوة ادعاءات السير مارشال هول"

في القاهرة أيضاً، اجتمعت سيدات اللجنة المركزية في حزب الوفد، لصياغة رسالة احتجاجٍ على سير المحاكمة والحكم الصادر عنها. وتقول هذه الرسالة، التي أرسلت في صورة برقيةٍ إلى الصحافة البريطانية وإلى مقر إقامة المندوب السامي البريطاني: "نرفض بشدة المغالطات والاتهامات المروعة الموجهة من قبل محامي السيدة مارغريت فهمي ومعظم الصحافة البريطانية ضد شعوب الشرق عموماً والمصريين خصوصاً. إن نساء مصر يمكن فقط أن ينظرن إلى هذه الادعاءات الزائفة باعتبارها حملةً عدائية متعمدة، وشكلاً جديداً من أشكال التشهير بشعوب الشرق من أجل تبرير السياسة الاستعمارية البريطانية"

وتعدى الغضب حدود مصر، كما يتبين من تقرير "ديلي اكسبريس" الذي أرسله مراسلها في القدس، حيث تسببت محاكمة السيدة فهمي في حالةٍ من اللوم الشديد في صفوف كثير من المغتربين البريطانيين والمواطنين الفلسطينيين

وتعاطفت صحفٌ بريطانية عدة مع المصريين، ووجهت انتقاداتٍ إلى الطريقة التي أخلت بها الأحكام المسبقة بالعدالة. وكانت صحيفة "ديلي هيرالد" الناطقة باسم حزب العمال البريطاني، أول من اقترح أن حكم هيئة المحلفين لم يستند على متطلبات العدالة بأكثر مما تأثر بالأداء المميز للسير مارشال. وأضافت الصحيفة أنه "إذا جاء حزب العمال إلى السلطة، فإن الحكومة سوف تتخلص من هذا النظام الذي يربط إلى حد كبير فرص تبرئة المدعى عليهم بمقدار ما يستطيعون إنفاقه على الدفاع عنهم"

ونشرت "ديلي كرونيكل" افتتاحيةً دفعت "الأهرام" إلى القول بأن الصحيفة البريطانية: "عادت إلى رشدها". وأقرت الصحيفة البريطانية، التي كانت قد رحبت سابقاً بقرار المحكمة، بأن الاعتراضات من جانب المصريين كانت صحيحة، وأن قوانين الزواج في الشريعة الإسلامية "مبنية على مبادئ أخلاقية قوية وتضع الرجال والنساء على قدم المساواة في أداء الواجبات الزوجية. وهناك العديد من الأشخاص المميزين في صفوف المسلمين، بالقدر الذي يوجد به أشخاص مميزون في صفوف المسيحيين. ومن النفاق الإدعاء بأن ثقافتنا تنتج أناساً أفضل من الثقافات "الرجعية" في معظم أنحاء المشرق"

ولكن، على الرغم من اللهجة الاعتذارية في العديد من المقالات البريطانية، فإنه من المشكوك فيه أن تكون قد قطعت شوطاً طويلاً نحو تبديد الرؤية العامة والثقافية والنفسية والذهنية التي أيدت مقولة روديارد كيبلنغ الشهيرة "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً"، وجعلت من الممكن التلاعب بالعدالة استناداً على أسسٍ عنصرية، كما حدث في قضية مدام فهمي

الإثارة التي أحاطت بالقضية والمحاكمة، دفعت مراسلاً صحفياً إلى أن يلاحظ أن "الصحف العربية في مصر أنفقت ثرواتٍ للحصول على أخبار الوكالات من لندن حول محاكمة مدام فهمي"

وبرزت "الأهرام" بوصفها الجريدة الوحيدة التي تنشر نصوص مجريات المحاكمة. ومضى المراسل ليقول إنه عندما حاول ذات ظهيرةٍ شراء نسخة من "الأهرام"، قال له الفتى الذي يبيع الصحف: "حتى لو كنت تستطيع أن تدفع جميع المال الموجود في مصر فإنك لن تكون قادراً على شراء نسخةٍ من "الأهرام" تتناول قضية فهمي"

وعقب حادث فندق "سافوي"، تحدثت الصحافة المصرية عن الزواج المختلط وانقسمت الآراء حوله. وقد كان الكاتب الصحفي أحمد الصاوي محمد من الرافضين للزواج بأجنبيات. وعندما حرم وزير المعارف على أعضاء البعثات العلمية الزواج في الخارج أثنى عليه الصاوي في عموده "ما قل ودل"، وقال: "ولم أشهد تخبطاً في الزواج بالأجنبيات مثل تخبط الطلبة المصريين في أوروبا، فإن الطلبة يتزوجون غالبا بنساءٍ لسن في العير ولا في النفير، بل هن "نفاية" النساء"

غير أن هناك آراء مخالفة ظهرت في مصر

يقول الكاتب والمفكر المصري د. لويس عوض في سيرته الذاتية "أوراق العمر" (مكتبة مدبولي، القاهرة، عام 1989) إنه: "بعد جرائم ريا وسكينة (1920) وجرائم أدهم الشرقاوي (1921)، كانت هناك جريمةٌ روعت الرأي العام في 1923 وظلت حديث الصحافة والناس لسنواتٍ طويلة, وكانت هذه جريمة مارغريت فهمي التي قتلت زوجها (الوجيه) المصري علي كامل فهمي بك في فندق من فنادق لندن الكبرى. وكنت يومئذٍ قد تجاوزت الثامنة من عمري, وكنت أتابع كل ما تكتبه الصحف والمجلات المصرية عن هذه القضية, ولذا بقيت ملامحها العامة في عقلي ووجداني أكثر من ستين عاما حتى كتابة هذه المذكرات. ولكني كالعادة, رجعت قبل التدوين إلى كتاب كنت قد قرأته منذ ثلاثين عاماً اسمه "مرافعات مارشال هول الشهيرة". والسير إدوارد مارشال هول هو المحامي الإنجليزي الشهير الخطير الذي ترافع في لندن عن مارغريت فهمي واستخلص لهذه القاتلة المتلبسة أغرب حكم في تاريخ القضاء وهو البراءة"

ويتابع د. لويس عوض حديثه قائلاً: "فلم تمنع جريمة مارغريت فهمي العديد من الشباب المصريين من الزواج بالأجنبيات", ويقول: "من يقرأ صحافة العشرينيات والثلاثينيات وأدبهما, بل من يقرأ الصحافة والأدب منذ "عيسى بن هشام" و"زينب" حتى بداية الحرب العالمية الثانية, يجد فيها مناظراتٍ لا تنتهي بين الفتاة المصرية والفتاة الأوروبية", وأن الانتصار للفتاة المصرية تعاظم مع انتشار تعليم البنات ومع اتساع الطبقة المتوسطة حتى غدت صورة الزواج بالأجنبيات شبيهة بالوباء القومي, وحتى تعالت الأصوات بحماية بناتنا من هذه المنافسة غير المشروعة وطالبت الأصوات الحكومة بحماية بناتنا كما تحمي الصناعة الوطنية
"

ولم يسكت الرأي العام والفن في مصر على ما جرى
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (9): محاكمة مدام فهمي








بدأت المحاكمة في قضية "مدام فهمي" يوم الثلاثاء الموافق 11 سبتمبر أيلول عام 1923 في قاعة محكمةٍ صغيرة في أولد بيلي في لندن
كانت تلك القاعة من الصغر بمكان بحيث أن مراسل "الأهرام" في أول تقاريره عن المحاكمة وصفها بالقول إنها لا تضم أكثر من عشرين مقعداً ليجلس عليها المحامون والصحفيون وبعض أفراد العامة الذين كانوا قادرين على الحصول على تصاريح بالحضور. ومن الواضح أن المسؤولين القضائيين تصورواأنهم أمام جريمة قتلٍ تقليدية لن تجذب اهتمام
لكنهم كانوا على خطأ

وبعد يومين من بدء المحاكمة احتشد الجمهور في القاعة في حين اصطف خمسون شخصاً في طابور خارج باب قاعة المحكمة في انتظار مغادرة أحدهم القاعة حتى يتمكنوا من الدخول. ويقول المراسل إن بعض من كانوا داخل القاعة اغتنموا الفرصة لجني بعض الربح المادي، وباعوا أماكنهم لأي شخصٍ يتوق إلى حضور جلسات المحاكمة



وداخل قاعة المحكمة، كان هناك القاضي ومحامو الادعاء وهيئة المحلفين التي تضم اثني عشر عضواً. على أي حال، كان نجم المحاكمة هو السير مارشال هول، الذي قاد فريق الدفاع المؤلف من ثلاثة محامين. كان هول هو الشخص الذي حوَل الحادث من جريمة قتل عادية إلى محاكمةٍ للشرق وعاداته، وصنع من القضية مسألة رأي عام، ما دفع البريطانيين والفرنسيين إلى التعاطف مع مارغريت باعتبارها ضحية رجعية وبربرية الشرق، في حين حشد المصريون -ومعهم بعض العرب- صفوفهم للدفاع عن عاداتهم وتقاليدهم

والذي لا شك فيه أن مارغريت استعانت بخدمات السير مارشال هول بسبب مكانته الاجتماعية وأيضاً لسمعته كمحامٍ قدير. غير أن أتعاب هذا المحامي لم تكن قليلة. ووفقاً لجريدة "الأهرام" فإن هول تقاضى ثلاثة آلاف جنيه أسترليني إضافة إلى ألفي جنيه أسترليني وخمسمئة جنيه أسترليني لمساعديه الأول والثاني على التوالي.. وهي أتعابٌ كبيرة بمقاييس ذلك الزمان

وخصصت المتهمة مبلغ أربعة آلاف وخمسمئة جنيه لصحافة لندن وباريس، بهدف "الفوز بتعاطف الجمهور، وذم زوجها الشرقي ورسم "معاناة" زوجةٍ في مصر، خصوصاً إن كانت سيدة أوروبية متحضرة"

غنيٌ عن الذكر، أن الصحف المصرية تحدثت عن أن تلك الأموال لم تكن في حقيقتها سوى أموال الزوج المغدور، التي مكنتها من تحمل النفقات الباهظة التي يتطلبها إفلاتها من عقوبة الجريمة التي ارتكبتها، علماً بأن والدها كان سائقاً محدود الدخل

شهدت محاكمة مارغريت فهمي التي استمرت من 11 إلى 15 سبتمبر أيلول 1923 مفارقاتٍ عدة، إذ سعى محامي المتهمة السير مارشال هول إلى الدفاع عن موكلته باتهام زوجها بالتخلف والرجعية، وتأكيد أن مارغريت ضحية زواجٍ يشبه الجحيم، نظراً لوحشية الزوج..وبالفعل نجح في كسب تعاطف المحلفين وهيئة المحكمة، في جريمةٍ ثابتة تبدو للوهلة الأولى مكتملة الأركان خصوصاً في ظل اعتراف القاتلة بارتكابها

وربما جاز القول إن دفاع هول ركز على أن علي كامل فهمي تزوج مارغريت ليضعها في المنزل كأنها كأسٌ تذكارية نالها في مسابقةٍ ما. سيدة فرنسية يسيل لها لعاب الرجال، لكنه تفوق عليهم وفاز بها. وفي المقابل، قال محامي الدفاع إن العلاقة الجنسية بين الزوجين اتسمت بالفظاظة بل والوحشية، لدرجة أن الزوج كان يفضل إتيان زوجتها من الخلف، وهو ما أثبتته فحوصات طبية لاحقة، بينت حدوث تمزق ونزيف في أماكن حساسة من جسد الفرنسية مارغريت


واستغل هول إفادات الشهود في المحكمة ليرسم صورة الزوج المصري الذي استدرج سيدة غافلةً إلى مصر، حيث "استعرض أمامها قصره الفخم الذي يضم أعداداً كبيرة من الخادمات والعاملين، وأظهر لها سيارته الفاخرة، ويخته وقاربه ذا المحرك وسائر مظاهر الثراء الأخرى". وقال إن فهمي كان "مدفوعاً بهيام رجال الشرق بنساء الغرب"، ولكن تحت ظاهره المتمدن ظل "متوحشاً وقاسياً"

وفي "خطاب حماسي"، كما وصفه مراسل "الأهرام"، أخذ هول يعدد في قاعة المحكمة الأهوال الكثيرة التي ارتكبت ضد الزوجة الفرنسية المحترمة. وادعى أن علي كامل فهمي كان يمتلك مسدساً وأنه كان يطلق النار فوق رأسها "ليخيفها ويحملها على الخضوع له، منتظراً منها طاعةً تماثل ما ينتظره شخصٌ من عبده، نظراً لأن النساء لم يكنَ في نظره أكثر من مجرد ممتلكات"
وأشار محامي الدفاع إلى أنه "في مناسباتٍ عدة، منع فهمي زوجته من استخدام السيارة وأجبرها على استخدام الترام برفقة خادم نوبي ليبقيها تحت المراقبة". ودعونا نوضح هنا أن العائلات المصري، وخصوصاً الراقية منها، كانت حريصةً على أن يرافق قريبٌ أو خادمٌ المرأة لدى خروجها من المنزل، إن لم يكن بغرض حمايتها، فإن ذلك يكون في إطار اللياقة؛ ولكن بالتأكيد ليس لغرض المراقبة

الجريمة الثالثة التي ارتكبها الزوج في حق زوجته، حسب محامي الدفاع، أنه وعد بدفع مهرٍ لها بقيمة ألف جنيه، لكنه لم يمنحها نقداً سوى 450 جنيهاً مع شيك بباقي المبلغ المستحق. وهنا يقول مارشال: "هذا هو كل المال الذي حصلت عليه السيدة فهمي من رجلٍ يمكننا أن نؤكد لكم أنه واحدٌ من أغنى الرجال في مصر"

ومن ثم، يقول هول، عاشت مارغريت في القاهرة في القصر الذي أعده لها زوجها، "ولكن تحت رحمة خدمٍ من الزنوج، وبوصفها سجينة لا أكثر في إمرته". وبأسلوبٍ درامي، قرأ المحامي الشهير مقتطفات من رسالةٍ غير موقعة، زعم أنها مرسلة إلى مارغريت من صديقٍ في باريس، وقرأ تلك المقتطفات على المحكمة. تقول الرسالة المجهولة:


"اسمحي لصديقٍ سافر على نطاق واسع في العديد من بلدان المشرق ودرس أخلاقيات الشرقيين ويعرف طرقهم الآثمة، أن يسدي إليك بعض النصح. لا تعودي إلى مصر.. من الأفضل لك أن تخاطري بأموالك على أن تخاطري بحياتك، لأني أخاف أن يقع لك حادث إذا ذهبت إلى هناك"!

وبأسلوبٍ حاذق، رسم المحامي هول صورة سيدةٍ أوروبية بريئة وقعت في براثن رجلٍ شرقي جمع كل الرذائل. وأضاف أن مدام فهمي ارتكبت خطأ شنيعاً في تقدير أخلاقيات علي كامل فهمي قبل الزواج، وما إن وقعت على وثيقة الزواج حتى تبين لها أنه زير نساء، ومخادع ومتوحش. وقال المحامي: "كلما نظر المرء أكثر في الظروف التي تحملتها هذه السيدة، كلما أصابته رعشةٌ من الرعب والاشمئزاز"

وفي يوم الجمعة الموافق 14 سبتمبر أيلول، خاطب السير هول هيئة المحلفين مباشرة، ودعاهم إلى تجاهل حقيقة أن الضحية كان أصغر سناً من زوجته. "نعم، كان عمره فقط 23 عاماً".. ثم أضاف قائلاً: "لكنه عاش حياة الفسق، وكان مهووساً بقدراته الجنسية". ومضى ليذكرهم بأن فهمي، وبوصفه رجلاً شرقياً، لم تكن زوجته بالنسبة له أكثر من أحد المقتنيات، وأنه مهما امتلك من علاماتٍ خارجية تدل على الدماثة والتمدن، فإنه ظل إلى الأبد شرقياً في أعماقه

وفي ظل كيل محامي الدفاع الاتهامات للقتيل وحرصه على رسم صورة نمطية للرجل الشرقي، احتج سفير مصر لدى بريطانيا علناً على هذه الاتهامات التي يلقيها السير مارشال هول جزافاً. غير أن الصورة انطبعت في أذهان كثيرين، وأصبح القتيل محل إدانةٍ وهو راقدٌ في قبره

وعرض مارشال هول سهولة إطلاق النار من المسدس الذي ارتكبت به الجريمة. وقال خبير المقذوفات النارية من الشرطة إن المسدس يمكن فقط استخدامه عمداً، لأن الزناد كان ثقيلاً. غير أن مارشال هول أمسك بالمسدس وبحركةٍ خفيفة من إصبعه ضغط على الزناد أربع أو خمس مرات، ليثبت كم هو سهل أن تقتل بضغطةٍ خفيفة على الزناد

وجادل محامي الدفاع بأن الخلاف تطور بين الزوجين وخرجت الأمور عن السيطرة عندما أطلقت مارغريت النار على زوجها وهي في حالة دفاعٍ عن النفس، رداً على محاولته قتلها. بل إن مارغريت دفعت في المحاكمة بأنها لم تكن تعلم بأن المسدس محشو بالرصاص وأنها كانت فريسة الخوف من سادية زوجها، فلم تدرك حقيقة ما جرى إلا حين رأته يسقط مضرجاً في دمائه. وقالت إنه حين دخل زوجها جناحها كان غاضباً، وبعد احتدام الخلاف قال لها بلهجةٍ بها الكثير من التهديد: "الآن سأنتقم لنفسي منك"، فصرخت في وجهه وطردته من غرفتها، ثم لمحت مسدسها على المقعد، فتناولته وصوبته على زوجها.. فوقعت الجريمة

وفي مرافعته الختامية، وفي سياق وصفه لعلي كامل فهمي بك، تحدث محامي الدفاع عنه بوصفه أجنبياً غريباً وخطيراً، قبل أن يتقمص أمام المحلفين شخصية "البرنس" المخيفة التي تمثل تهديداً للآخرين. وقد احتج سفير مصر لدى بريطانيا على هذا التصرف

وتقول مراجع إنه لما دافع المحامي الشهير عن مارغريت فهمي بكى أمام المحلفين، فكانت دموعه من أسباب تبرئتها أمام المحكمة. مراسل "الأهرام" الذي تابع المحاكمة وصف هول بأنه "مذهل كممثل كما أنه مذهل كمحام". وكان لهذا تأثير كبير على المحلفين وعلى الرأي العام البريطاني
وفي المحاكمة، أثار الدفاع مسألة مثلية القتيل وعلاقته مع سكرتيره، في حين لم يعرف المحلفون في المحكمة الكثير عن علاقات مارغريت فهمي، التي تصفها مراجع ومؤلفاتٌ بريطانية بأنها امرأة ذات أخلاقٍ فضفاضة a woman of loose morals

وبطبيعة الحال، حرص المحامي هول على ألا تثار مسألة أخلاقيات موكلته أمام المحكمة

ومارشال هول المولود في عام 1858 لأب طبيب من برايتون، محامٍ ذائع الصيت، نال لقب سير عام 1917. وتاريخ هذا المحامي في المحاكم البريطانية يشمل النجاح في محاكمات ترتبط بجرائم قتل شهيرة، مثل محاكمات هربرت بينيت وروبن وود ورونالد لايت وألفونسو سميث. وحسب إرنست لستغارتن، فإن المحامي مارشال هول لم يكن أفضل خبير قانوني في العالم، لكنه كان استثنائياً في إضفاء طابعٍ درامي على قطع الأدلة لدى عرضها على المحلفين

ولم يكن محامي الادعاء قادراً على مجاراة الدفاع، بل إنه أخذ أثناء سير المحاكمة يكيل المديح للسير هول وقدرته الفذة على الدفاع عن موكلته، قبل أن يقول إن السير هول قدم جواً مسرحياً أمام المحكمة يختلف عن حقيقة الأمر. وحاول الادعاء أن يفعل شيئاً، لكنه لم يحرز نجاحاً يذكر ولم يتمكن من إقناع المحلفين بأن فارق السن بين القاتلة والقتيل كان عاملاً مهماً، نظراً لأنها سيدةٌ مجربة أقامت علاقات مع كثير من الرجال، وأنجبت طفلة وهي في سن السادسة عشرة

ثم عاد الادعاء ليتحدث عن حب علي كامل فهمي لمارغريت، لدرجة أنه كتب لها رسائل عاطفية حتى يقنعها بالزواج منه. وقال أيضاً إن المجني عليه وفر لها في القاهرة كل أسباب الراحة والثراء، مفنداً ما قاله الدفاع حول ساديته في تعامله مع النساء. وأضاف الادعاء أن الجشع لعب دوراً بارزاً في زواج هذه المرأة من علي كامل فهمي، سعياً وراء المال والحصول على لقب "أميرة"

غير أن الادعاء اضطر إلى الإقرار بوقوع مشاجراتٍ متكررة بين الزوجين، وربما أضعف من حجته إعرابه عن الأسف لأن الشريعة الإسلامية تمنح الزوج المسلم حقوقاً زوجية، مثل حق تأديب الزوجة، مثل الحق في تأديب الزوجة، ولكنه سرعان ما استدرك قائلاً: "ليس بالطريقة الوحشية التي وصفها السير مارشال"

وبدا القاضي الذي يرأس المحاكمة مدركاً بشكلٍ جيد لأي اتجاه يميل الرأي العام. كان بوسعه أن يرى ذلك على وجوه أعضاء هيئة المحلفين، وفي سلوك المشاهدين وفي تعليقات الصحافة البريطانية. وبناء على ذلك، وفي ختام جلسات الاستماع، أخذ القاضي على عاتقه مشقة توجيه تحذيرٍ صارم إلى أعضاء هيئة المحلفين:

"أظهر الادعاء أن المدعى عليها قتلت علي فهمي بك، في فعلٍ يعتبره القانون قتلاً متعمداًً، طالما أن الدفاع لم يتمكن من أن يثبت خلاف ذلك. وإذا كان أعضاء هيئة المحلفين يشكون في أن المدعى عليها اعتقدت أم لم تعتقد أن ما أقدمت عليه جريمة أو أي شيء أقل من القتل، فإنه يجب عليهم على أي حال التوصل إلى أنها بالفعل ارتكبت عمداً فعل القتل. ويجب علينا ألا نسمح للإفادات التي تقشعر لها الجلود أن تلهينا أو تؤثر على أحكامنا. لا تدعوا الخوف أو البغض يمنعكم من إعمال عقولكم"

وبالرغم من هذا التحذير لم تستغرق مداولات المحلفين أكثر من ساعة. وحين عادوا إلى قاعة المحكمة وجلسوا على مقاعدهم، وقف الحاجب وسألهم عن الحكم الذي توصلوا إليه وعما إذا كانت مدام فهمي مذنبة بالقتل العمد؟، فأجاب المتحدث باسم المحلفين: ليست مذنبة. عاد حاجب المحكمة ليسألهم: هل المدعى عليها مذنبة بالقتل الخطأ؟ فرد عليه المتحدث باسم المحلفين: ليست مذنبة

وما إن سمع جمهور القاعة الحكم حتى بدأوا في التصفيق. ووصلت الأخبار بسرعة إلى الجمهور الذي كان منتظراً خارج القاعة، فبادر أيضاً إلى التصفيق. وغضب القاضي من هذا الموقف، ودعا جمهور القاعة إلى التزام الهدوء ثم أمر كل الموجودين في القاعة بمغادرتها، باستثناء المحامين والصحفيين. بعد ذلك، التفت ليخاطب المدعى عليها قائلاً: "مدام فهمي، لقد وجدتك هيئة المحلفين غير مذنبة. لقد تمت تبرئتك من التهم التي وجهت إليك"

وبذلك انتهت محاكمة "عادات الشرق" التي سلقتها الصحف البريطانية لفترةٍ طويلة بمجموعة من المقالات والآراء المعادية للشرق ورجاله

غير أن هذا كان مجرد جزءٍ من الصورة..ومجرد مشهدٍ من معركةٍ جرت وقائعها بين القاهرة ولندن وباريس
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (8): فندق الحب والقتل




لندن.. موتٌ مريبٌ في ذاكرة المصريين، الذين نزفوا فوقها دماءهم في مناسباتٍ وظروفٍ مختلفة

وفي الساعات الأولى من يوم الثلاثاء الموافق 10 يوليو تموز عام 1923، روِعَ المجتمع المصري بمصرع المليونير علي كامل فهمي بك على يد زوجته الفرنسية ماري-مارغريت ألبير بعد شهورٍ من زواجهما

فندق "سافوي" في العاصمة البريطانية لندن كان شاهداً على الجريمة

فقد صعد الزوج إلى جناحه في الدور الثاني بالفندق، وكان قد تشاجر مع زوجته بعد أن رفض طلبها بالسفر إلى باريس لإجراء عملية جراحية. فكر في أن يناقشها في الأمر.. دخل جناحه رقم (40) وارتدى ملابس نومه، ثم توجه إلى جناحها. طرق الباب، فأبت أن تفتح له..هددها بأن يحدث ضجة، ففتحت له الباب. حدثت الضجة بالفعل بعد أن سمحت له بالدخول. بعد لحظات خرج الزوج شبه مطرودٍ من جناح زوجته

أثار ذلك فضول الخادم الليلي في الفندق فوقف يشاهد ما يجري في الردهة، وكانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحاً. كان علي مرتدياً البيجامة، وقد بدت آثار صفعة الزوجة على خده. خرجت الزوجة بعد لحظة وهي ترتدي ملابس مسائية مطرزة، وأنبأت الخادم وهي تصرخ في غضب أن زوجها حاول خنقها. أدرك الخادم أنه أمام مشاجرةٍ زوجية قد تكون تقليدية..طلب منهما بأدبٍ مراعاة الهدوء وعدم إزعاج باقي النزلاء، ثم مضى في طريقه

كان آخر ما رآه هو مشروع مداعبةٍ بين "البرنس" - وهو اللقب الذي كان يزعمه علي كامل فهمي لنفسه- وبين كلبه الصغير الذي كان يلهو في الردهة، في حين أخذ علي يأمره بصفيره بالعودة

ما كاد الخادم يصل إلى منعطفٍ، حتى سمع دوي رصاصة، ثم أعقبها إطلاق عيارين ناريين آخرين. عاد الخادم ليجد "البرنس" وقد سقط متخبطاً في دمه، والكلب عند رأسه يلغ في هذا الدم، ومسدس "براوننغ" في يد مارغريت فهمي التي كانت تشير إلى جثة زوجها الذي كان الدم يخرج من فمه

وبسرعةٍ، حضر مساعد مدير الفندق إلى مكان الجريمة، وطلب على الفور طبيباً، كما أبلغ إدارة العلاقات العامة في الفندق قبل الاتصال هاتفياً بشرطة اسكوتلنديارد

كان من الممكن أن يظل هذا الحادث أسير صفحات الجريمة في الصحف البريطانية والمصرية والفرنسية، لولا هوية وجنسية القاتلة والقتيل، والتطورات المثيرة التي شهدتها تلك القضية

كانت ليلةً لندنية عاصفة..المطر يتساقط والبرق يضيء في السماء.. شقت سيارة الإسعاف طريقها مسرعةً إلى مستشفى "تشيرنغ كروس"، ونُقِلَت مدام فهمي إلى سيارة البوليس. في هذه الأثناء، كان العاملون في فندق "سافوي" قد أزالوا كل آثار جريمة القتل وخصوصاً آثار الدماء على سجادة الفندق، الذي استضاف منذ افتتاحه في العام 1889مشاهير مثل ونستون تشرشل، وتشارلي شابلن، وهمفري بوغارت، وجون واين، وريتشارد هاريس، وبرناردو برتولوتشي، وإلتون جون. ونامت في غرفه مارلين مونرو، وإليزابيث تايلور في إحدى مرات "شهر العسل"، ومارلين ديتريتش، وآفا غاردنر، وجان مورو، كما رسم فيه كلود مونيه مشاهد من نهر "تيمز"، ومن ذلك لوحة Waterloo Bridge, Temps Couvert (``Waterloo Bridge, Overcast Weather

في قسم الشرطة، قالت مارغريت: "قتلته، ولست أخشى شيئاً"!.. لكنها بعد لحظةٍ انخرطت في بكاء حاد، بعد أن وصلت قصة الحب الفاجعة إلى نهايتها.. فالقتيل علي كامل فهمي بك المشهور بالفشل والإسراف واللهو، وقع في غرام المطلقة الفرنسية ماري-مارغريت ألبير وأغرقها بالهدايا ليفوز على منافسيه من عشاقها، وذلك بعد أن زارت مصر في شتاء عام 1922،
وقضى العاشقان أياماً بعد ذلك بين فرنسا وإسبانيا

كان لدى علي كامل فهمي ثلاثة أشقاء، وبدا للجميع أنه ينفق ببذخ كأنه أمير، لدرجة أنه، ووفقاً لجريدة "الأهرام"، أنفق في السنوات الأربع التي سبقت مقتله "نصف مليون جنيه على النساء والخمور والسيارات. وتكلف القصر الذي بناه لنفسه 120 ألف جنيه. وكان من عادته أيضاً تقديم هدايا ثمينة إلى الشرطة في كل مدينةٍ يقيم بها"

وفي مذكراتها بشأن زواجها من علي كامل فهمي – وهي المذكرات التي تسابقت الصحف على نشرها بعد محاكمتها-
تقول مارغريت إنها كانت في القاهرة حين بدأ الرجل الذي سيصبح لاحقاً زوجها، في التودد إليها. وبطبيعة الحال، تأثرت مارغريت بهذا الغزل والإعجاب "ومع تنامي حب فهمي لي ليصبح أقوى يوماً بعد يوم، بدأت أرى أمامي حياةً قرأت عنها فقط في كتاب "ألف ليلة وليلة" وسمعت كلاماً عاطفياً عن الحب ووعوداً بما يمكن أن توفره لنا ثروته الضخمة من سعادة"
وقدمت مذكرات مارغريت صورة عن سخاء وبذخ زوجها، إذ كانت لديه ثلاثة هواتف في غرفته بالفندق، موضوعة بشكل معين بحيث توفر عليه مشقة التنقل في الغرفة. وكان لديه قارب سريع مزود بمحرك بقوة 450 حصاناً "كان يندفع به على سطح نهر النيل بسرعةٍ مخيفة وخطيرة، صانعاً أمواجاً قوية تتسبب في اهتزاز العوامات بشدة وميلها باتجاه الضفاف، وتحطيم الأواني الفخارية الموجودة بها، في حين كان شاغلوها يصعدون إلى سطحها ليطلقوا وابلاً من الشتائم على القارب وركابه"

وبعد مراوغاتٍ من المرأة اللعوب وافقت على الزواج منه، وعُقِدَ الزواج المدني في 26 ديسمبر كانون أول عام 1922وفي 11 يناير كانون ثانٍ أشهرت مارغريت إسلامها وحملت اسم والدة زوجها منيرة..وبعد بضعة أسابيع أخرى عُِقدَ الزواج الديني

وكما نُشِرَ في مجلة "اللطائف المصورة" عدد 23 يوليو تموز عام 1923، فإن علي كامل فهمي أنفق 120 ألف جنيه في تأثيث القصر الذي بناه على النيل في الزمالك (مجمع الفنون الآن) عشية زواجه من مارغريت في فبراير بعد أن أسلمت وأطلقت على نفسها اسم منيرة, وابتاع لها في باريس جواهر بمبلغ 200 ألف فرنك أمنت عليها بمليون ومئتي ألف فرنك. ووصفت المجلة آنذاك صورة مارغريت بأنها "صورة الشيطان في جسم ملاك"

وأثناء شهر العسل، اتضحت الهوة بين الزوجين..فكلٌ منهما ينتمي إلى حضارة مختلفة.. إذ كان الزوج البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً حريصاً على أن يسيطر على زوجته النمرة المتمردة فيما ضاقت هي بتصرفاته الشرقية. وبدأ الصراع يتطور حتى أخذ الزوج يعامل مارغريت - التي تكبره بعشرة أعوام، إذ كانت في الثالثة والثلاثين- باعتبارها جاريةً يملكها، فيضربها أمام خدمه ويهجرها. وأثناء الأسابيع التي استغرقتها رحلة اليخت من القاهرة إلى الأقصر لقضاء شهر العسل، عاملها الزوج بقسوةٍ، في محاولةٍ للسيطرة على تصرفاتها التي أثارت في نفسه الغيرة والشكوك، لدرجة أن الرعب تملكها، فكتبت رسالة إلى محاميها المصري البروفيسور أسود، وطلبت من وصيفتها الفرنسية أن ترسلها له بالبريد.. وألحقت بالرسالة وثيقة طلبت من المحامي أن يحتفظ بها

وجاء في نص هذه الوثيقة: "أنا ماري-مارغريت ألبير..أقر وأنا مالكة لقواي العقلية تماماً أنني في حالة مصرعي بالعنف، أو وقوع أي مكروه لي.. أتهم رسمياً زوجي "علي بك" بأنه قد ساهم في اختفائي من الحياة..ذلك أنه في الساعة الثالثة من بعد ظهر أمس- 21 يناير 1923- تناول القرآن ثم لثمه..ثم وضع يده عليه، وأقسم بأن ينتقم لنفسه مني ذات يوم، سواء غداً أو بعد غد أو بعد أسبوع أو شهر أو ثلاثة أشهر..المهم أن أختفي من الأرض بيده..وقد أقسم زوجي هذا القسم دون أدنى سبب مفهوم، سواء من غيرة أو سوء سلوك أو مشهد عاصف جانبي..لذلك فإنني أرغب، بل وأطالب بإنصاف ابنتي وأسرتي من عواقب فعلته..والثأر لي منه"

لكن المفارقة وقعت، إذ كانت "ماغي" ذات الجسم الصغير والمثير هي التي أقدمت على قتل زوجها بإطلاق الرصاص عليه في ظهره، بعد أن ضاقت ذرعاً بساديته واستمتاعه بتعذيب من يحب، إضافة إلى ميلوه المنحرفة في علاقته الحميمة معها، لدرجة أنها خضعت لعلاجٍ طبي من آثار هذا الانحراف، ونصحها الطبيب المعالج بإجراء عمليةٍ جراحية. وعندما رفض علي كامل فهمي سفرها إلى باريس للعلاج وزيارة ابنتها غير الشرعية ذات الخمسة عشر ربيعاً التي تدرس هناك، دب الخلاف بينهما

وفي إفادتها، قالت مارغريت إن زوجها كان يسيء إليها جسدياً ويحبسها في يخته أثناء رحلة شهر العسل. وفي الأقصر، جعلها ترقد في مقبرة فرعونية فارغة لالتقاط صورة لها. وحين وصلا فندق "سافوي" بعد بضعة أشهر، وصلت العلاقة بينهما إلى نقطة الفراق، بعد رفضه دخولها مستشفى لإجراء عملية جراحية كانت تحتاجها

وفي ظل هذه الصورة المعقدة، اتجهت أنظار المعنيين بالقضية إلى المحاكمة

وفي قاعة المحكمة، وقعت مفاجآتٌ من العيار الثقيل
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator