المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

الموت الغامض في لندن 1: شرفة تلو أخرى




لندن على موعد جديد مع الموت

مع دقات ساعة بيغ بن تحين ساعة شخصيات لامعة ومثيرة للجدل في تاريخ مصر المعاصر

شرفة تلو أخرى.. يبدو الغموض مريباً وساخراً في أحيان أخرى..حتى بدأ المصريون يتداولون نكتة مفادها أن عمدة لندن أصدر أوامر بإلغاء وإزالة "البلكونات" حرصا على أرواح المصريين

اهتزت الأرض تحت أقدام كثيرين -لأسباب متباينة- بعد نشر خبر وفاة أشرف مروان المستشار السياسي ومدير مكتب الاتصالات الخارجية للرئيس المصري الراحل أنور السادات‏..إثر سقوطه من شرفة منزله في الدور الرابع بالعاصمة البريطانية لندن في السابع والعشرين من يونيو حزيران عام ألفين وسبعة

فتح خبر الرحيل الغامض لأشرف مروان -وهو زوج منى عبد الناصر كريمة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر‏- بابا لتساؤلات لا تنتهي عما إذا كان مروان قد انتحر أم نُحر

فقد كان مروان يخشى على حياته في الفترة الأخيرة.. وكانت تنتابه حالة من الاكتئاب.. وقد عاد أخيرا من رحلة علاجية في الولايات المتحدة بسبب متاعب في القلب كان يعاني منها
وفي عددها الصادر يوم الخميس الموافق الثامن والعشرين من يونيو حزيران عام ألفين وسبعة.. نقلت صحيفة "الأهرام" المصرية عن "مصادر وثيقة الاطلاع على التحقيق بأن مروان كان في شقته وحيدا ظهر أمس‏،‏ وفي الساعة الواحدة وأربعين‏ دقيقة ظهرا سقط من شرفة شقته في منطقة بيكاديللي الراقية بوسط لندن‏،‏ وقد توفي على الفور‏،‏ وقبل نقله للمستشفى"

وهكذا انتهت حياة الملياردير البالغ من العمر ثلاثة وستين عاما في مشهد مأساوي..جثة ملقاة أمام شقته في شارع كارلتون هاوس تراس والتي تطل على سانت جيمس بارك

جثةٌ تنتظر وصول أفراد من عائلته وفي مقدمتهم أرملته منى عبد الناصر -التي كانت في زيارة للبنان وقت حدوث الواقعة- يرافقها نجلها جمال - الذي سمح له مكتب النائب العام المصري بالسفر بسبب وفاة والده.. علما بأنه مدرج على قوائم الممنوعين من السفر بسبب دعاوى قضائية تتعلق بإصدار شيكات بدون رصيد- إلى لندن للتعرّف على هوية الراحل رسمياً وتسلّم الجثمان تمهيداً لمراسم التشييع والدفن

الوفاة الغامضة صدمت دائرة أصدقاء وخصوم "الطفل المعجزة" في لندن..ومن بينهم تاجر السلاح المليونير عدنان خاشقجي ..وغريمه الملياردير المصري محمد الفايد.. وكين باتز رئيس مجلس إدارة نادي تشيلسي لكرة القدم سابقا.. ونضيف إليهم الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي

مرة أخرى تنشغل شرطة اسكتلنديارد بقضية موت غامض لشخصية مصرية معروفة
لكنه لم يكن حادثاً روتينياً

ولعل أول ما يستوقفنا هنا ما طالعتنا به جريدة "الوفد" في اليوم التالي للوفاة نقلاً عن أحد المقربين من أسرة مروان قوله إن "الفقيد كان يستعد قبل وقوع الحادث بخمس عشرة دقيقة للتوجه إلى مطار هيثرو في طريقه للعودة إلى القاهرة في زيارة قصيرة كان يعتزم القيام بها. وقد شاهده أحد أصدقائه من الجالية المصرية كان في طريقه لوداعه قبل السفر أثناء وقوفه "ببلكونة" منزله يتحدث من تليفونه المحمول وشاهده أثناء سقوطه بعد أن اختل توازنه"

وأوضح المصدر أن "الدكتور أشرف مروان كان يعاني من حالة عدم الاتزان أثناء الحركة ويستخدم عصا يتوكأ عليها"

السيناريو الذي ترسمه هذه الشهادات الأولية مبني على أن أشرف مروان، الذي كان يرأس ايضا الجالية المصرية في لندن، كان يهم للنزول من شقته وأنه توجه للشرفة لأجل الإشارة لأحد منتظريه أسفل العمارة قبل أن يسقط

الشرطة البريطانية قالت إنها لا تستبعد أي فرضية في مقتل أشرف مروان.. وإنها ستخضع الجثة للتشريح قبل الحكم على الظروف الغامضة لوفاة رجل الأعمال المصري..خاصة أن أقارب أبلغوا الشرطة أنه كان يخشى على حياته منذ أن كشفت إسرائيل في عام ألفين وثلاثة أنه "عميل كبير للموساد"

الأخطر من ذلك أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية ذكرت أن أشرف مروان -من مواليد الثاني من فبراير شباط عام ألف وتسعمئة وأربعة وأربعين- مات في اليوم نفسه الذي كان يفترض أن يلتقي فيه المؤرخ الإسرائيلي آهارون بريغمان الذي كشف عن هوية مروان الجاسوسية في كتاب صدر تحت عنوان "تاريخ إسرائيل" جاء فيه أن أشرف مروان المستشار لعب دور العميل المزدوج ببراعة وزود إسرائيل بمعلومات مضللة قبل حرب أكتوبر/تشرين أول عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين وأثناء المعارك..ونقلت عن بريغمان قوله إن مروان اتصل به في الليلة السابقة لموته وترك له ثلاث رسائل صوتية على آلة التسجيل حدد فيها موعدا للقائه مساء اليوم التالي


وأضافت الصحيفة "أن إيلي زعيرا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي أثناء حرب أكتوبر/تشرين أول عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين وكبار قادة الموساد في ذلك الوقت و"الشاباك" الأمن الداخلي اعتبروا ان أشرف مروان كان عميلاً مزدوجاً"

لكن صهر الرئيس عبد الناصر نفى أكثر من مرة هذه المزاعم وأكد أنه لم يعمل مطلقاً لحساب أي جهاز استخباري في أي جانب





من جهتها، صمتت الدولة في مصر طويلا بشأن الدور الغامض للملياردير وصهر الرئيس السابق..إلى ما بعد رحيل أشرف مروان ببضعة أيام..إلى أن ألقى الرئيس المصري حسني مبارك بثقله دفاعاً عن سمعة الرجل


وفي أول رد رسمي مصري على هذا الموضوع، قال مبارك "إن أشرف مروان كان وطنياً مخلصاً لوطنه"..ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية عن مبارك قوله في الطائرة التي عادت به من العاصمة الغانية أكرا حيث شارك في افتتاح قمة الاتحاد الإفريقي إن ًأشرف "قام بأعمال وطنية لم يحن الوقت بعد للكشف عنها ولكنه كان بالفعل مصرياً وطنيا ولم يكن جاسوساً على الإطلاق لأي جهة"

وأشار مبارك إلى أن "ما نُشِرَ عن الراحل أشرف مروان وإبلاغه إسرائيل بموعد حرب أكتوبر 1973 لا أساس له من الصحة". وأضاف "لا أشك إطلاقاً في وطنية الدكتور أشرف مروان وكنت أعلم بتفاصيل ما يقوم به لخدمة وطنه أولاً بأول"

وهكذا ارتدت مراسم تشييع أشرف مروان طابعاً رسمياً حيث شارك فيها حشد من كبار المسؤولين السياسيين من بينهم جمال مبارك نجل الرئيس المصري، كما حضر الجنازة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي..وجرى دفنه في مقابر "الكومنولث" التي تضم عدداً من الشخصيات البارزة، منها رئيس الوزراء المصري الدكتور عاطف صدقي وعدد من الضباط الأحرار مثل عبداللطيف البغدادي




ويقول آهارون بريغمان إنه بعد مضي نحو عامين على حرب يونيو /حزيران عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين طرق شاب مصري في منتصف العشرينيات من العمر باب السفارة الإسرائيلية في لندن وطلب العمل لحساب الموساد
ولأن الطريقة التي تطوع بها هذا الشاب كانت مباشرة وغريبة.. لم يستجب له ممثل الموساد في السفارة، لكنه أصر وترك بياناته على وعد بالعودة مرة أخرى


وذكر الكتاب أن مسؤولي الموساد أصيبوا بصدمة شديدة لدى تحققهم من شخصية هذا المتطوع، إذ اكتشفوا أنه مسؤول مصري كبير تربطه صلة قرابة بالرئيس المصري في ذلك الوقت، جمال عبد الناصر


وجاء في الكتاب أن الإسرائيليين جندوه على الفور، واعتبر فيما بعد أهم جواسيس إسرائيل المصريين، فكان يتقاضى في كل مقابلة له مع ضابط الموساد المشرف عليه مئة ألف جنيه إسترليني..وهكذا دفعت إسرائيل لأشرف خلال سنوات تخابره معها ثلاثة ملايين دولار. وللحفاظ على سرية شخصية هذا الجاسوس كان الإسرائيليون يشيرون إليه باسم "الدكتور" أو "زوج الابنة"..وأطلق على هذه العملية اسم "عملية بابل"



وانتهج "زوج الابنة" استراتيجية بعيدة المدى بدأت بتقديم معلومات صحيحة وقيمة للموساد لكسب ثقة الإسرائيليين انتظاراً لأوان توجيه ضربته

وكان من أبرز عوامل نجاح زوج الابنة في إقناع الموساد بولائه -حسبما يروي بريغمان في كتابه- قصة ليس لها علاقة مباشرة بحرب أكتوبر

ففي فبراير/ شباط من عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين ضلت طائرة ركاب ليبية طريقها بسبب عاصفة واقتربت من إسرائيل.. فخشي الإسرائيليون من أن تكون الطائرة متوجهة لضرب مفاعل ديمونة في صحراء النقب فأسقطوها..وكانت النتيجة مقتل مئة وستة من ركاب الطائرة ونجاة سبعة فقط .. وكان من بين ضحاياها المذيعة المصرية الشابة المعروفة سلوى حجازي ووزير الخارجية الليبي سابقا صالح بو ياسر


وقد ثار الزعيم الليبي معمر القذافي وحمل برج المراقبة الجوية المصري المسؤولية عن انحراف الطائرة.. وطالب السادات بالرد على إسرائيل مصراً على الانتقام بإسقاط طائرة إسرائيلية.. لكن السادات خشي من أن يؤدي القيام بعمل انتقامي إلى اندلاع حرب شاملة مبكرة وإفساد خططه الحربية التي يعد لها منذ سنوات.. فتظاهر بالتجاوب مع الزعيم الليبي وعهد إلى أشرف مروان بإعداد خطة لشن هجوم انتقامي

واقترح أشرف مروان أن يقوم فريق من خمسة فلسطينيين بضرب طائرة ركاب إسرائيلية أثناء إقلاعها من مطار روما بصاروخ محمول على الكتف.. لكن مروان أبلغ الإسرائيليين بالخطة واعتقل الفلسطينيون الخمسة في إيطاليا قبل تنفيذ العملية بعد أن نقل الموساد لأجهزة الأمن الإيطالية المعلومات التي تلقاها من عميله

ويقول الكتاب إن مصر نجحت بذلك في تحقيق ثلاثة أهداف: فقد تفادت إشعال حرب شاملة مبكرة، وحافظت على علاقاتها مع ليبيا، وكسبت ثقة الموساد في"زوج الابنة"



كان أشرف مروان صاحب رصيدٍ حافل بالمغامرات في عالم الثروة والسلطة


إذ لم يكن أحد يتوقع للسياسي الطموح الذي اقترن بكريمة عبدالناصر في يوليو تموز عام ألف وتسعمئة وستة وستين ـ أي بعد عامٍ واحد من حصوله على تخرجه في كلية العلوم في جامعة القاهرة قسم كيمياء بدرجة جيد- أن يصبح واحداً من أكبر رجال الأعمال في لندن

كان أشرف مروان برتبة ملازم أول في سلاح الحرب الكيميائية عندما تعرّف على ابنة العشرين ربيعاً منى عبد الناصر، طالبة الجامعة الأمريكية، ذات يوم من صيف عام ألف وتسعمئة وخمسة وستين، ‏وفي إطار لعبة التنس في أحد نوادي القاهرة ‏الرياضية..أوقعها أشرف في شباكه بذكاء إلى أن تزوجا

قرّر عبد الناصر أن يبقي الصهر الجديد تحت ناظريه بأن عيّنه أوّلاً في الحرس ‏الجمهوري ــ سرية الكيمياء حيث خدم لعامين، ثم نُقل أواخر عام ألف وتسعمئة وثمانية وستين إلى مكتب ‏الرئيس للمعلومات ليكون تحت الإشراف المباشر لعين الرئيس الساهرة سامي شرف

وفي عام ألف وتسعمئة وتسعة وستين حدثت واقعة تستحق أن تروى


ففي أثناء دراسته في بريطانيا لنيل درجة الماجستير..طلب أشرف من ‏ سعاد الصباح قرينة الشيخ الكويتي عبد الله المبارك الصباح معونة مالية، بحجة أن ‏مخصصاته التي تدفعها القاهرة له كمبعوث لا تكفي لسد نفقاته في بلد مكلف. دفعت سعاد الصباح لأشرف ما طلب.. لكن القنصل المصري هناك رفع ‏تقريره لمكتب الرئيس.. فجاءه الجواب بشحن أشرف مروان على أول طائرة. ‏جرى التحقيق معه فاعترف بذنبه وعلّله بغلاء المعيشة‏


لكن نصرة ‏منى لزوجها أسهمت مرة أخرى في تليين الموقف.. وفي السماح له بالعودة إلى لندن لاستكمال دراساته العليا مع دفعه المبلغ المستدان لسعاد الصباح.. وتعهّده بعدم تكرار هذه التصرفات في المستقبل.. وبالتوجّه إلى مكتب الرئيس المصري إن احتاج أي ‏عون مادي


ثم بدأ عهد السادات..الذي عين أشرف سكرتيرا للمعلومات بدلاً من سامي شرف في مايو/أيار من عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين



اكتسب الرجل ثقة السادات وكان مبعوثا شخصيا للرئيس المصري منذ عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين لرؤساء وملوك الدول العربية والأجنبية..وعندما تم تأسيس الهيئة العربية للتصنيع عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين برأسمال مليار دولار بين مصر والسعودية وقطر اختير رئيساً لها..وهاجمته الصحافة بقوة في ذلك الوقت نظراً لما اعتبره البعض بذخاً في الإنفاق.. واتهمه الكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي بارتكاب تجاوزات مالية. كما شن موسى صبري الصحفي المقرب من السادات حملات قوية ضده أطلق فيها عليه "الطفل المعجزة"


ويحكي موسى صبري في كتابه "السادات.. الحقيقة والأسطورة" أنه دار بينه وبين السادات حديث وديٌّ حول مروان سأله فيه عن سر تمسكه بالأخير بالرغم من هذه الشائعات المحيطة به فأجابه السادات بالقول: "أنا لا أقبل أن أمد يدي لأي حاكم عربي، لكننا نتعرض لمآزق مالية خطيرة، وأشرف يقوم بهذه المهمة، كما أنه قدم خدمات ممتازة في موضوع الأسلحة، واستطاع بجهده الشخصي أن يذلل كثيرا من العقبات مع المصانع الفرنسية بالذات، وتم هذا في أوقات حرجة وقبل حرب أكتوبر 1973"


تدريجياً بدأ نجم أشرف مروان في الأفول لدرجة أن الرئيس السادات طلب عام ألف وتسعمئة وثمانية وسبعين أن يحقق النائب العام معه بسبب أراض زراعية اشترتها زوجته في منطقة الهرم.. وكان السؤال الرئيسي في التحقيق هو: من أين لك هذا؟.. وفي التحقيق قال مروان إن زوجته اشترت أرضاً بثمن سيارات أهدتها لها شخصيات عربية تكريما لها بوصفها ابنة الرئيس عبدالناصر ثم باعت هذه الأرض بسعرٍ أكبر واشترت بالثمن الجديد قطعة أكبر.. وفي النهاية تم حفظ التحقيقات


وفي عام ألف وتسعمئة وتسعة وسبعين خرج مروان من الهيئة العربية للتصنيع بعد أن منحه الرئيس السادات وسام الجمهورية من الطبقة الأولى لينطلق بقوة في دنيا الأعمال

ويقول د. محمود جامع صديق ومستشار الرئيس السادات في فترة السبعينيات إن "مروان استغل وجوده على رأس الهيئة العربية للتصنيع في الدخول إلى عالم صفقات السلاح مستغلا علاقاته الدولية الواسعة.. وأنجز بالفعل لصالح مصر صفقات طائرات الميراج الفرنسية التي كانت متعثرة.. وأنجز صفقات سلاح لدول عديدة منها ليبيا.. وكان بالفعل يأخذ عمولاته"

ومن الواضح أن أن أشرف مروان و‏نافذته الليبية -وبالتحديد عبر الرجل الثاني في ليبيا آنذاك عبد السلام جلود - حصدا ثروات طائلة عبر صفقة الميراج الفرنسية لليبيا ‏أواخر عام 1969


ويشير جامع إلى أن "أشرف مروان استمر في هذا البيزنس بعد خروجه من رئاسة الهيئة وابتعاده عن السلطة ودخل في صراعات مع تجار سلاح كبار.. وكان له رجاله في لندن. ولم تنقطع في هذه الأثناء صداقته بالرئيس السادات وظل على اتصال وثيق به. كذلك ارتبط بصداقة حميمة بالسيدة جيهان السادات حيث كانت بينهما مصالح مشتركة"


والشاهد أن الرجل استغل علاقاته وصداقاته القوية بعدد من المسؤولين العرب وعلى رأسهم صديقه كمال أدهم -صهر العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز ورئيس جهاز المخابرات العامة السعودية- ليؤسس شركات تجارية وعقارية في لندن

وهناك في أرض الضباب صعد مروان بسرعة الصاروخ ليصبح واحداً من نجوم المال.. ويقال إنه اشترى أرضاً باعها بخمسة أضعاف قيمتها بعد أقل من عامين وهو ما جعله يشتري أسهماً في شركات عديدة منها "هارودز" و"بولي بيك" و"بي فيس لوكس" وهي شركة تجارة ومقاولات كبيرة. كما اشترى فندقا سياحيا في إسبانيا.. فضلاً عن أسهم في شركات .."فيليب استريد هولدنغ" و"أمريكان انترناشيونال بتروليوم"..وكان في وقت سابق من كبار حملة الأسهم في نادي تشيلسي الرياضي لكرة القدم


وتقول تقارير إن أشرف مروان ربما قُتِلَ نتيجة لخلافات مع بعض رجال الأعمال، وإن الحادث يلقي الضوء على ما ورد في كتاب "من قتل ديانا؟"، الذي يشير فيه المحقق الصحفي البريطاني سيمون ريغان إلى علاقة مروان بأجهزة مخابرات عربية، ويتحدث عن تحالف مروان مع الرجل الذي حارب محمد الفايد صاحب محلات "هارودز" طويلا: رولاند "تايني" رولاند

ويكشف سيمون ريغان في كتابه عن علاقات مروان وعن الصفقات التي عقدها وكون منها ثروة ضخمة في عهدي عبد الناصر والسادات.. قائلا إن أول ظهور لأشرف مروان كرجل أعمال وتاجر سلاح في بريطانيا كان عام 1979 عندما اشترى 40 % من أسهم شركة "تريدوندز" والتي كان يمتلكها أكبر تجار السلاح في ذلك الوقت وهو رولاند، والتي سرعان ما شارك فيها أحمد قذاف الدم ابن عم الزعيم الليبي وشقيق رئيس جهاز المخابرات الليبية، والسير إدوارد دو كان.. حيث جرى عبر هذه الشركة تهريب أسلحة أمريكية إلى ليبيا وبعض الجهات المتناحرة في لبنان وبعض الدول الإفريقية وفصائل فلسطينية. وتكشف تقارير أجهزة الاستخبارات عن نجاح شركة مروان في الحصول على حصة أسهم بقيمة 12 مليار دولار أمريكي في "لونرهو"..وكان القذافي قد خول مروان وقذاف الدم الحصول على أي أموال لازمة لصفقات السلاح التي سعى إلى توزيعها على قوى وفصائل معينة من خلال شركة البترول الليبية "لافيكو"


وقد أثار مروان ضجة كبيرة بين رجال الأعمال البريطانيين عندما قدم عرضاً لشراء مجموعة شركات "كوتراد" المالكة لسلسلة محلات "بريتيش هوم" مقابل ملياري جنيه استرليني



ومما يذكر أن النسخة العربية من مجلة "فوربس" اختارته العام الماضي ضمن أغنى الشخصيات العربية إذ قدرت ثروته بأكثر من ثمانمئة مليون دولار..وهو أحد رجال الأعمال القلائل في مصر الذين يمتلكون طائرات خاصة. وقد أسس ابنه الأكبر جمال مجموعة قنوات تليفزيونية باسم "ميلودي"..في حين يعمل ابنه الأصغر أحمد في مجال المقاولات والاستثمار السياحي وقد تزوج قبل سنوات هانيا -كريمة عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية- لكن الزيجة التي أثمرت طفلين -محمد وأمينة - لم تصمد طويلا



في الفترة الأخيرة لم تكن لأشرف اتصالات تذكر بباقي أفراد عائلة عبد الناصر وبأقاربه في مصر..التي كانت زيارته الأخيرة لها لحضور حفل زفاف جمال مبارك نجل الرئيس المصري في شرم الشيخ في أبريل نيسان الماضي


عودٌ على بدء: هل كانت وفاة أشرف مروان انتحارا أم أنها جريمة قتل مدبرة؟


وإن كانت الفرضية الأخيرة صحيحة قد تقفز إلى أذهان البعض أسئلة عن هوية الجاني والجهة التي كلفته بالتنفيذ: مافيا السلاح لتصفية حسابات قديمة أو جديدة.. أو "الموساد" لأن المعلومات الاستخبارية التي كان القتيل يملكها ـ وسجلها في مذكراته التي بدأ في كتابتها منذ عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين- قد تؤثر على سمعتها بشكل كبير..أو أي جهة أمنية أخرى ترى أن دور أشرف مروان وصل إلى خط النهاية؟

لقد أخذ أشرف مروان معه إلى القبر حل الألغاز الكثيرة التي حامت حوله..وما بين 5 شارع الحكماء بحي مصر الجديدة حيث ولد.. و24 كارلتون هاوس في لندن حيث لقي حتفه ..مسافة قدرها ثلاثة وستون عاماً من الغموض

غير أن ما يهمنا هو أن الرحيل الغامض لأشرف مروان في لندن هو الحادث الرابع من نوعه لشخصيةٍ مصرية معروفة.. فمن قبل قُتِلَ علي شفيق ورحل الفريق الليثي ناصف والفنانة سعاد حسني..الجميع رحلوا بسيناريو تتشابه تفاصيله في لندن عاصمة الضباب..وفي أحد أيام الصيف

أثيرت أقاويل كثيرة تؤكد تعرضهم للقتل وتنفي تماما أن يكون رحيلهم عن الدنيا جاء نتيجة الانتحار

وربما من الأفضل أن نفتح هذا الملف الساخن.. الآن
تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة 2: سقوط امبراطورية




"شهود الحق في النساء أعظم الشهود"
محيي الدين بن عربي


هذه المرأة كتبت سيرتها الذاتية على دفعات..وقدمت أسلوباً لا يتحدث عن المرأة بالقطاعي..أي شفاه وعيون وأكتاف، بل نقلتنا إلى المرأة كإنسان


فقد راودت الكاتبة والناقدة والمناضلة السياسية د. لطيفة الزيات (1923-1996) فكرة "كتابة الذات" مرتين على الأقل: الأولى تجسدت في رواية "الباب المفتوح" (1960) والتي تحولت إلي فيلم سينمائي (1963) يحمل الاسم نفسه، بطولة: فاتن حمامة، محمود مرسى، صالح سليم، حسن يوسف، سيناريو: يوسف عيسى، وإخراج هنري بركات


والثانية في "حملة تفتيش: أوراق شخصية" (1992) الذي يحمل مزيجاً من أوراقها الشخصية واعترافاتها الشجاعة..وهي السيرة التي قال عنها الأديب اللبناني إلياس خوري إننا أمام تجربة مثيرة ومدهشة باعتبارها أول كاتبة عربية تعرّي حياتها أمامنا. تكتب لا لأنها تعرف بل لأنها تبحث. تروي الحكاية لأنها ستكتشفها..وفي النهاية تبدو أمامنا تجربة إنسانية متوترة وقلقة وملتزمة في وقت واحد


ولأنها تكتب للبحث عن هويتها فإنها تحكي عن فترات من حياتها لا تخضع للمسار التقليدي..ونجدها تمزج بين لحظات ومحطات الزمن المختلفة..فكان السرد ينتقل بين الماضي والحاضر.. ماضي الأحداث وحاضر الكتابة.. وماضي الألم والحاضر الواعي بالتفاصيل وبخفايا السلوك وأسباب القهر

تسير الكاتبة على خطى الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في سيرتها الذاتية -رحلة صعبة..رحلة جبلية" (1985) و"الرحلة الأصعب" (1993)- وتصحبنا عبر ذاكرة انتقائية تعيد ترتيب واختيار الأحداث..ربما بسبب الوضع الاجتماعي للمرأة والعيب والحرام الذي يقيد رصد المرأة لسيرتها الذاتية من خلال أدب الاعتراف..ولهذا تكتب المرأة العربية في منطقة ليست محددة تماماً بين الرواية وأدب الاعتراف.. وتراوغ حتي لا تصبح هي الذات الساردة فتتعرض دوماً لتساؤل ساذج: هل ما تكتبه هو حكايتها وتجاربها الشخصية؟

يقول الكاتب محمد برادة في الصفحة (103) من كتاب "سياقات روائية" ما يلي:" من هنا فإن كتاب "حملة تفتيش: أوراق شخصية"، للناقدة المبدعة لطيفة الزيات يكتسي أهميةً خاصة بما يشتمل عليه من مكونات شكلية وتيمات حميمية تسعى إلى استجلاء الذات وانعطافاتها. وهي لا تفعل ذلك في شكل كتابة ملتبسة تتدثر بمظلة الرواية، وإنما تقيم "تعاقداً" واضحاً بينها وبين القارئ، على أنها تحكي له فتراتٍ ونتفاً من حياتها، لكنها لا تريد لهذا الحكي أن يكون تقليدياً أو مجرد استمتاع بأجواء الطفولة ومرابع الصبا...منذ البدء، نحس أن المسار لا يتجه من الماضي إلى الحاضر (هل الولادة بداية لوجودنا؟)، بل من وعيٍ معين بالحاضر يسترجع ملامح ولحظات من ماض هو بدوره متحرك عبر الذاكرة وإعادة تشخيص الأحداث"

قالت عن نفسها ذات يوم في إحدى شهاداتها الإبداعية: "أنا امرأةٌ، وهذا في يقيني عنصر مهمٌ جداً للتعريف بالذات، والوصف يرسم علي الفور حدود الحركة، وحدود القهر المادي والمعنوي الذي ينزل بالمرأة والوصف يرسم علي الفور آلافاً من نقاط الضعف الموروثة، وآلافاً من نقاط القسوة المكتسبة في وضعية المرأة عامة، وفي وضعية المرأة الفرد، التي هي أنا، عانيت كما يعاني الإنسان كل أنواع القهر التي تنزل بالإنسان وعانيت كما تعاني كل امرأةٍ من كل أنواع القهر المعنوي الذي ينزل بالمرأة، وعايشت القهر أحياناً وتجاوزته أحياناً أخرى، وما بين المعايشة والتجاوز، التي استحالت إلى قانونٍ يحكم حياتي، تم إهدار الكثير من طاقاتي الإنسانية، التربوية والإبداعية والنقدية والنضالية"

وتمثل "حملة تفتيش: أوراق شخصية" رواية السيرة الذاتية بما تحمله من امتزاج الوقائع الحياتية بالمتخيل. فلم تكتب د. لطيفة الزيات سيرتها بالطريقة التقليدية المتعارف عليها، إذ تداخلت الحكايات الشعبية والأحداث التاريخية وعلاقة الراوية بالسرد ..كذلك علاقتها بالشخصيات الأخرى

هاجس الاستقرار طغى على مشاعر الحب لدى الكاتبة في هذه السيرة الذاتية القصيرة التي وإن كانت مزيجاً بين العام والخاص فإن لغتها تبتعد كل البعد عن لغة التأريخ السردية وتقترب أكثر وأكثر من اللغة الأدبية ذات الإشارات والدلالات والمجازات

قد تكون كتابة السيرة الذاتية "رداً" على أزمة أو محنة، وربما تكون لطيفة الزيات بدأت في كتابة سيرتها الذاتية وهي تتأمل في احتضار أخيها

"..لا يعرف أخي بطبيعة مرضه، وبحقيقة أنه يحتضر، أجلس لأكتب، أدفع الموت عني فيما يبدو أنه سيرة ذاتية لا يكتب لها الاكتمال"


في سيرتها الذاتية تزيح لطيفة الزيات الستار عن جزءٍ من كيانها

تقول: "والنقطة الرئيسية من جديد أننا لا نتوصل إلى ذواتنا الحقيقية إلا إذا ذابت الذات بدايةً في شئ ما خارج عن حدود هذه الأنا الضيقة.‏‏ ونحن نفقد هذه الذات الحقة حين نصبح محدودين، محبوسين في قفصٍ، متحلقين حول الأنا، حين نغرق في بحر من التفاهات، وفي دائرةٍ أبديةٍ خبيثةٍ تستحيل إلى قدرنا ونهايتنا"

إنها حكاية امرأة دخلت السجن مرتين: الأولى وهي عروس في السادسة والعشرين من عمرها عام ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين..والمرة الثانية وهي في الثامنة والخمسين من عمرها عام ألف وتسعمئة وواحد وثمانين إثر حملة الاعتقالات التي ضمت الكتاب والصحفيين المعارضين لحكم السادات

ينقسم "حملة تفتيش: أوراق شخصية" إلى جزءين.. الأول بداية سيرة ذاتية لم تكتمل تتناول سنوات تشكل الوعي، ثم مرحلة منتصف العمر. والثاني يتكون من أوراق كتبتها وهي في سجن النساء عام ألف وتسعمئة وواحد وثمانين..وتدور حول تجربة السجن وتتخلق من جديد حول منتصف العمر بمنظور جديد تبلور في ضوء تجربة الاعتقال

وهي تروي تفاصيل مهمة عن شكل حياتها مع زوجها الأول أحمد شكري سالم الذي دخل السجن سبع سنوات بسبب مواقفه السياسية

تقول الكاتبة: "وحين تزوجت زيجتي الأولى بدأت مرحلة جديدة من مراحل الانتقال من مكان إلى مكان، كان محركها هذه المرة المطاردة الدائبة من جانب البوليس السياسي لزوجي، أو لي، أو لكلينا. وقد تنقلت مع زوجي الأول في المدة الزمانية ثمانية وأربعين ـ تسعة وأربعين في خمسة منازل كان آخرها بيتي الذي شمعه البوليس السياسي في صحراء سيدي بشر التي لم تعد بصحراء. وفيما بين عمليات الانتقال الرئيسية في هذه المرحلة، تعين علي حين عنفت مطاردات البوليس السياسي أن أنتقل ليلاً من مسكن إلى مسكن إلى أن وجدت السجن مسكني في مارس ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين. ولم يكن انتقالي إليه هذه المرة اختيارياً"

ومن يقرأ أعمال لطيفة الزيات سيكتشف أنها ربما تكون أبرع من وصف "البيت" في الأدب العربي الحديث..وهي التي عاشت سنوات الحرمان من الاستقرار تحت سقف بيت
ولأنه لا حب دون استقرار، فإن عش الزوجة يصبح في هذه الحال في مهب الريح..تعصف به الأنواء وتهزه المشكلات وتحاصره الخلافات

في "صاحب البيت" التي صدرت عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين -وهيَ خليط ٌبينَ الرواية والسيرة الذاتية- تستعرض لطيفة الزيات ملابسات تعثر بطلةٍ مناضلة في جو مناويء وتستبطن تراوحها الداخلي بين المقاومة والتسليم. وعلى الرغم من أن بطلة الرواية امرأةٌ من لحم ودم فإنها ترمز أيضاً إلى الثورة في طموحاتها وتعثر مسيرتها وتذبذبها بين الاندفاع والاستكانة. لطيفة الزيات التي تتداخل أعمالها تستكمل بهذه الرواية ما أغفلت أو تغافلت عن تقديمه في سيرتها الذاتية وهو الجزء المرتبط بزيجتها الأولى..لكنها هنا لا تقدمه كتاريخ شخصي بل عبر شفرة روائية وقناع سردي
وفي كتابها "حملة تفتيش: أوراق شخصية" تتحدث لطيفة الزيات عن تجربة زواجها الثانية من شخصية ثقافية مرموقة وذات سطوة هي د. رشاد رشدي، ليتضح أن العلاقة كانت مأزومة. تحدثت عنه أيضاً بالشفرة وهاجمت حياتها معه بشراسة

تقول: "ولم يكن انتقالي اختياراً أيضاً وأنا أنتقل من مسكن إلى مسكن آخر مع زوجي الثاني. ولعلي أضعت القدرة على الاختيار، بل القدرة على الحركة والفعل في فترة طويلة من فترات زيجتي الثانية التي بدأت عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين ودامت ثلاث عشرة سنة"

ربما يفسر هذا الاضطراب في الحياة العاطفية ذلك الحلم الغامض الذي ظل يطارد أستاذة الأدب الإنجليزي ويزعج منامها..لأن الحلم ليس في النهاية سوى انعكاس لظروف ضاغطة ورغبات متقدة أو موؤدة. تقول الكاتبة: " لكلٍ منا حلمه الليلي المتكرر، ولا أجد وقد وصلت إلى هذه النقطة من السرد غرابة في حلمي الليلي المتكرر الذي لم ينحسر عني إلا منذ سنين. فأنا أجد نفسي ليلياً في فندق غاية في الفخامة والاتساع والارتفاع، أو في سفينةٍ ينطبق عليها نفس الوصف، حافية أو بملابسي الداخلية، أو على أي وضع استنكره لنفسي، ألف وأدور سعيا للعودة إلى غرفتي، وأطرق متعثرة ومستميتة ممراً مشابهاً بعد ممر من الممرات المتعددة المتشابهة، ولا أجد أبداً غرفتي. وأستيقظ من النوم وأنا على حافة السطح على وشك السقوط في هاوية أو في البحر"


أتاح لها رشاد رشدي مستوى مادياً مريحاً..لكنها عاشت تعاسةً نفسية اعترفت بها في كتاباتها

هذه المعاناة وصلت إلى حد أنها أهدته روايتها "الباب المفتوح" تحت الضغط.. كان دائماً يؤكد لها أنها بدونه بلا قيمة وأنه صاحب أفضال عليها. وفي المقابل فقد أهدى الكاتب المسرحي كتاب "ما الأدب" الصادر عام ألف وتسعمئة وستين إلى زوجته التي لمحت في قصة "الرحلة" إليه وكيف أنه كان يعود ليحكي لها فتوحاته مع أخريات..كما أشارت إليه في قصة "الشيخوخة" عندما تحدثت عن علاقتها بزوج تشعر أنه مات

اللحظة الفارقة تدمي القلب..لأنها ببساطة اختيار ما بين القلب والعقل..الاستسلام والإرادة..الانصهار أو الاستقلال

"في يوم من أيام يونية 1965، وأخي والمأذون يجلسان في الغرفة المجاورة، قال لي زوجي في محاولة أخيرة لإثنائي عن إتمام إجراءات الطلاق، وهو يستدير يواجهني على مقعدٍ متحرك: ولكني صنعتكِ"

"وانطوى من عمري عمر قدره ثلاثة عشر عاماً بوهم التوحد مع المحبوب لفترة، وبإصابتي بالشلل المعنوي والعجز عن الفعل في الفترة الأخيرة. ولم أشأ أن أصعد النغمة حتى لا تفشل مهمتي، وتساءلت وأنا أرقبه: أي مرحلة من مراحل عمري المنقضي صنع؟ أكل المراحل أو لم يصنع هو شيئاً؟ انقضى الزمن الذي كنت أعلق فيه على مشجبه سعاداتي وتعاساتي، انقضى يوم برئت من الشلل"

وحين يكرر عليها الزوج على مسامعها كلمة الاستعطاف لا المن "لقد صنعتك" يكون ردها: "حتى لو كنت صنعتني فعلا كما تقول، فهذا لا يعطيك الحق في قتلي"

يقرر البعض أن د. لطيفة الزيات بلغت قمة التناقض بزواجها من د. رشاد رشدي: ارتباطٌ مقدس بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، فكراً وسلوكاً

وعندما سئلت ذات مرةٍ عن أسباب ارتباطها بهذا الرجل تحديداً بالرغم من الخلاف الفكري الحاد بينهما، أشارت إلى أن الجنس هو السبب


"لماذا تزوجتيه أصلا؟
سألني أستاذي عقب الطلاق وأجبت: كان أول رجل يوقظ الأنوثة فيّ"


إنها تفتح نوافذها المغلقة وتكشف عن مدى قوة الرغبة واللذة وتأثيرها على قراراتها كأنثى..لا يهم هنا المستوى التعليمي أو الثقافي وإنما الأهم هو أنها أنثى، قد تكره الرجل لكنها تتعلق به إن أجاد مخاطبة أنوثتها وفك شفرة الجسد



مرة أخرى تؤكد د. لطيفة الزيات المعنى نفسه وربما بوضوح أكبر هذه المرة حين يرد في كتابها الحوار التالي: "الناس تفهم لم طلقتيه، غيرُ المفهوم أصلاً لم تزوجتيه؟ قالت مذيعة ناصرية ونحن في انتظار إعداد الكاميرا للتسجيل في استوديو في التليفزيون بعد طلاقي بفترة طويلة. وبغتني السؤال وبغتتني أكثر الإجابة التي صدرت عني بلا تفكير سابق: الجنسُ سبب سقوط الإمبراطورية الرومانية"


إجابتها تكشف عن الكثير، ولذا لم يكن مستغرباً أن تقول: "في أعماقي دار سؤال بقي على البعد معلقاً: هل استطعت حقاً أن أقتلعه تماما من جلدي حيث سرى في أعمق أعماق مسام جلدي؟"


من الإنصاف القول إن الفتاة والمرأة عاشت قبل زيجتها الثانية، وأثناءها، على إشباع نصف ملكاتها الإنسانية على حساب النصف الآخر، وإن هذه الحقيقة شكلت سبباً من الأسباب التي أدت إلى اختلال سير حياتها



"في مراهقتها عرفت الفتاة فورة الجنس، وبحكم تربيتها وجديتها صادرتها، وفي ظل شعور حاد بالذنب دفعت في أعماقها الأنثى حتى غابت عن وعيها، أو كادت، لا يتبدى منها إلا هذا الخجل الذي تستشعره من هذا الجسد الممتليء، الغني بالاستدارات. وفي صعوبة كانت الفتاة تقطع الطريق من الجانب المخصص للقراءة إلى الجانب المخصص لأرفف الكتب في حجرة الاطلاع في مكتبة جامعة فؤاد الأول، يخيل إليها وهي تعود بمرجعٍ من المراجع أن كل عيون من في القاعة مركزةٌ عليها وتفضل الهروب من القاعة إذا ما اتضح لها أنها لم تلتقط المرجع المطلوب، وتطلب الأمر معاودة الرحلة في ظل العيون المتربصة"

صحيح أنها "من عباءة الوصل الجماهيري ولدت، ومن الدفء والإقرار الجماهيري تحولت من بنت تحمل جسدها الأنثوي وكأنما هو خطيةٌ، إلى هذه الفتاة المنطلقة الصلبة قوية الحجة" وأنه "من منطلق الإنسان لا الأنثى، تعاملت الفتاة في النطاق العام".. غير أن الوضع تغير بعد الزيجة الثانية..فقد "كانت المرأة في بدايات زيجتها الثانية الأنثى وقد بعثت كالمارد من خمود تمسح على ما انقضى وكأن لم يكن، وتعب من الحار وتزدهر"

يقول عنها الكاتب الصحفي كامل زهيري: " تزوجت فتاة الأربعينيات الجسورة، ثم سجن زوجها سبع سنوات ومات. وحصلت بعدها على الدكتوراه ثم طلقت من زوجها الثاني، ونجحت في الدكتوراه، ولم تحصل على الابتدائية في الزواج كما قال البعض وكان الطلاق إعلانا بالإفراج عنها لأنها نشرت رواية "الباب المفتوح"

لقد كانت لطيفة الزيات مقتحمة قابضة علي جمرة الحرية ودفعت من أجل تأكيد هذه القيمة ثمناً باهظاً..غير أن أكثر ما هز كيانها هو إلحاح الجسد ومطالبه التي لا تنتهي

وهكذا تسقط الإمبراطوريات..ويتداعى البشر
تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة 1: السرير النحاسي




إنه الجسد ولا شيء سواه

كتاب الرغبة وسيرة الذات ومفتاح الصراخ المكتوم الذي تمتزج فيه اللذة بالألم في إبداعات العديد من الأديبات والكاتبات العربيات

وفي السيرة الذاتية لهؤلاء الكاتبات تفوح رائحة الاعتراف وأشواق الحنين وهواجس الجنس. الرغبة هنا تحاول الخروج من حيز المصادرة لتصبح كلمة مكتوبة يراها البعض أدبا راقيا ويعتبرها الآخرون - ببساطة يحسدون عليها- مجرد فضيحة

وسطور الغرام واعترافات الحب واللذة التي خطتها أنامل الأديبات والكاتبات العربيات تبدو كأنها طائرات فانتوم تكسر حاجز الصوت..والصمت

ربما حان الوقت لكي نستمتع بصدمة "الفانتوم" وهي تخترق الحاجز..أي حاجز..في تلك السير الذاتية والرسائل والأعمال الروائية المدهشة والصادمة معا

د. نوال السعداوي في أجزاء السّيرة الذّاتية الثّلاثة "أوراقي..حياتي" تبنت أسلوب الصراحة الصادمة..فهي محاطة منذ طفولتها بأحاديث وحكايات وإرث زاخر بالجنس والعلاقة بين المرأة والرجل

"أتمدد فوق الأرض وأنام، أفتح عيني، أرى النجوم وصوت ستي الحاجة لا يزال يحكي عن ليلة الدخلة، الدم كان ينزف من بين فخذيها، فضت الداية بكارتها بإصبعها المدبب، حملتها الحمارة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، أغرق الدم بردعة الحمارة وهي تسير من خلفها الطبول. في بيت العريس رقدت فوق الحصير تنكمش داخل جلبابها الجديد المزركش ببقع الدم"

الدم هنا ألم وأنوثة..عذاب واستسلام.."تلك الليلة كانت ستي الحاجة في العاشرة من العمر، لم يدركها الحيض بعد، وقد جثمت فوقها وهي تدس الطرحة في فمها تكتم الصراخ. لم يكن للعروس أن تصرخ وإلا لسعتها الخيزرانة، أو ألسنة الجيران، فلا يعود لها أو لأبيها وجه في القرية"

في محيط العائلة كانت الأمنية المستحيلة أن تصبح الفتاة ولدا..و"ترفع عمتي رقية كفيها نحو السماء تدعو الله أن يقلبني ولدا. أسمعها تقول: ربنا قادر على كل شيء..وترد عليها ستي الحاجة: من بقك لباب السما يا بنتي"

"كنت أتطلع نحو السماء بعينين أن يكون باب السماء مفتوحا وأن الدعوة سوف تنطلق من فم عمتي مباشرة إلى أذن الله، وأني سأصحو في الصباح لأجد الشق أو الفرج بين فخذي مسدودا وقد نبت مكانه العضو الذي عند أخي

"وفي الصباح كنت أختلس النظر إلى جسدي. لا أستطيع النظر بين ساقي أخشى أن تتسع المسافة بينهما أكثر من اللازم، لا أقوى على النظر إلى تلك المنطقة المحوطة بالخزي والخوف والخشية من قدرة الله"

وما بين الخالتين نعمات "المطلقة" وفهيمة "العانس"..يطل شبح الرجل الغائب أو الذي لا يأتي ليفرض نفسه على عالم وذكريات د. نوال السعداوي التي تقول: "لم أكن أعرف معنى كلمة مطلقة أو عانس. حين أسأل أمي تمط شفتيها وتقول: الاثنين أسخم من بعض!"

وفي سن الصبا تزداد المسافة اتساعا بين عالمي المرأة والرجل

"كنت أشد الحمالات من فوق كتفي، أكشف صدري وبطني للهواء والشمس. ترتفع يد خالتي نعمات في الهواء وتضربني، وصوتها يخرق أذني: عيب! وأصرخ: اشمعنى طلعت! يعود إلي صوتها مثل نعيق البوم: هو ولد وانتي بنت!
"كانت هذه العبارة تخرق أذني منذ ولدت، تدخل فمي في مياه البحر المالح.. "هو ولد وانتي بنت".. أخي يكشف صدره للهواء والشمس وأنا أخفي صدري..صدري عورة تستوجب الإخفاء. كلمة "عورة" تخرق أذني مثل المسمار

وتحت عنوان "حادث ختان" تتحدث د. نوال عن الداية أم محمد، وتجربتها المأساوية مع الخفاض أو الختان. تقول: "منذ طفولتي لم يلتئم الجرح العميق في جسدي. الجرح الأعمق في النّفس، الرّوح. لا أنسى ذلك اليوم صيف عام ألف وتسعمئة وسبعة وثلاثين، مرّ سبعة وخمسون عاما في ذاكرتي كأنّما الأمس. راقدة من تحتي بركة الدّم، توقّف النّزيف بعد أيّام، نظرت الدّاية بين فخذي وقالت: الجرح خلاص خفّ والحمد للّه.. الألم ظلّ كالدّمل غائرا في اللّحم، لم أنظر بنفسي لأعرف مكان الألم. لا أستطيع النّظر إلى جسدي العاري في المرآة أو هذه المنطقة المحرّمة المحفوفة بالإثم والعار"

وتظهر النزعة النسويّة وأيديولوجيّة المرأة أيضا في حديث الكاتبة عن الحمل السفّاح عندما تعرّضت لما حدث للخادمة شلبيّة.. وفي حديثها عن الحيض عندما أشارت إلى التّجربة التي مرّت بها وموقف محيطها العائلي منها

فحين تنطلق الأنوثة من محبسها تبرز أسئلة جديدة..إذ تقول: "في التاسعة من عمري رأيت النزيف الأحمر، يسمونه في العربية الفصحى "الحيض" أو "المحيض". فاجأني الأذى ذلك اليوم فتحت عيني في الصباح فوجدت سروالي غارقا في الدم. هل تسللت الداية في الليل وقطعت شيئا آخر من بين فخذي؟ عفريت من الجن أو شيطان من الشياطين، دخل من تحت عقب الباب ومزق غشاء العفة؟ خلقة الله في أجسام البنات هذا الغشاء يفرق البنت العذراء عن المرأة المتزوجة. الدليل الوحيد على حسن الأخلاق"

ثم تعود لتتحدث عن هذا القلق الذي يسكن عقلها ووعيها فتقول: "قطرة حمراء فوق ملاءة السرير البيضاء. من أين يأتى الدم في الطفولة؟ ولماذا يتكرر دون انقطاع؟ منذ التاسعة من عمري رأيت الدم في الفراش. تعودت رؤيته الشهر وراء الشهر، السنة وراء السنة حتى أدبرت طفولتي. لم تعد البقعة الحمراء فوق الملاءة تفزعني. أصبح غيابها هو المفزع. أفتح عيني كل صباح وأبحث عن البقعة الحمراء فوق الملاءة، في ملابسي، في ثنايا النسيج الأبيض أبحث عن قطرة واحدة حمراء"
"الحب الأول هو أول الأسرار في حياتي، لم يعرفه أحد من الإنس أو الجن". غير أن نوال كانت على وشك أن تتزوج ابن عمها الحاج عفيفي لولا شراسة الفتاة التي جعلت العريس يتبخر في الجو ويذوب مع سحب الصيف الرقيقة. وحين أتى العريس الجديد "عبد المقصود أفندي" بدأت معاناة من نوع جديد. "لم تشترك طنط نعمات ذلك اليوم في ضرب السجادة، كان لها دور آخر مع عمتي رقية. قبضت علي الاثنتان داخل الحمام. واحدة أمسكت يدي الاثنتين. الثانية فرشت "الحلاوة" فوق ذراعي كما تفرش لفحة الأنتوفلوجستين، ثم راحت تنزع الشعر عن الجلد. صراخي كان يرتفع من وراء باب الحمام أرفسهما بقدمي وركبتي. جاءت ستي الحاجة وربتت على كتفي: كله لمصلحتك يا عين أمك"

في بيت جدها طاهر تقترب مكرهة من حافة الرغبة. تقول: "طنط دولت تضع ساقا فوق ساق. تسألني من طرف أنفها عن اسمي واسم مدرستي. خالي ممدوح يفتح حقيبتي دون إذن، ينظر فيها ويقول بصوت كالفصيح: "البنات دائما يخبوا حاجات حلوة في شنطهم". أشد منه الحقيبة. أخشى أن يأخذ منها مفكرتي السرية. يشدها مني ويجري إلى غرفته. أجري وراءه أشدها منه. في غرفته يحاول أن يقبلني، أدفعه بعيدا بذراعي القويتين. عظامي القوية تنقذني منه"

تتكرر المواجهة مع الرغبة في ظروف ومواقف مختلفة..والنساء لا يهملن تفصيلة واحدة يتمكن من تذكرها.. لأن كل التفاصيل لها علاقة بإحساسهن بطبيعة "ما حدث"..ما بين قرصات مجهولة في الفخذ وسط الزحام، ودس أحدهم إصبعه الصلب في ظهرها "أو ذلك الشيء الآخر الذي يتصلب بين فخذيه يدسه في جنبي أو في الإلية وأنا واقفة مصلوبة بين الأجساد، يداي مرفوعتان قابضتان على عمود علوي في سقف الترام أو القطار أو الأتوبيس"

الفتاة التي تتذكر العلاقة الحميمة بين أبويها - وكان والدها من علماء كلية دار العلوم.. وهو الشيخ سيد السعداوي- لا تنسى التفاصيل التي تنساب مثل جدول عذب

"في الفرندة كنت أراهما (أبي وأمي) جالسين معا يرشفان عصير البرتقال أو الليمون ويسكران .. تنطلق ضحكتيهما في أنحاء البيت إلى حد القهقهة العالية .. قد يلعبان معا الكوتشينة أو الطاولة أو الشطرنج ..تضحك أمي وتلقي بشعرها الذهبي الناعم خلف عنقها الرخامي "فاكر يا سيد لما المرحوم بابا قالك نجوزك فهيمة بدل زينب .. قلت له يا زينب يا بلاش" .. تضحك أمي وتكركر..إلى أن تقول نوال: "هنا يبلغ العشق ذروته فينهض أبي ومعه أمي يختفيان داخل غرفة نومهما ..من وراء الباب المغلق أسمع الهمسات مع طقطقات السرير النحاسي مع القهقهات والشهقات والزفرات كالنشيج والضحك في آن واحد "

تجارب نوال مع أزواجها الثلاثة - أحمد حلمي وشريف حتاتة وبينهما زوج خلعت نفسها وأجهضت طفلها منه - داست عليها كأنها كاسحة ألغام

إنها تلقي بجمل وعبارات من عينة "كنت قد تزوجت للمرة الأولى تحت اسم الحب الكبير. قصة طويلة بدأت وأنا في العشرين من العمر فتاة عذراء، وانتهت وأنا في السادسة والعشرين زوجة عذراء تحولت إلى أم عذراء ثم تحررت بالطلاق"

وفي موضع آخر تقول: "ثم دخلت كلية الطب. أصبحت أفصل بين الحلم والواقع، بين الوهم والحقيقة، وقعت في حب حقيقي وتزوجت زواجا حقيقيا على سنة الله والرسول، وحملت وولدت وأصبحت أما حقيقية غير عذراء وغير طاهرة، كان هناك شيء غير طاهر يحدث لي في الليل، شيء لا يبعث على اللذة بل الألم والإثم، كان زوجي الأول رجلا مكتمل الرجولة"

كانت نوال تشعر بلذة الحرمان من الأكل أو الجنس في قمة لحظات الحب..حتى الحب الذي جمعها بزوجها أحمد الذي تعرفت عليه في كلية الطب

الزوج الأول عند نوال كان هو الحب الثاني واستمرت قصة حبهما ست سنوات هي عمر زواجهما الذي أدركوا بعد انتهائه بالطلاق في خريف عام ألف وتسعمئة وسبعة وخمسين "أن الزواج يفسد الحوار بين الرجل والمرأة، يفسد الصداقة والحب يدمر الأشياء يسحقها مثل وابور الطحين، يعيدها إلى ما كانت عليه في العصور القديمة زمن العبودية "

في بعض الأحيان تختلط الصور وتتشابه الأسماء في ذهن الكاتبة.. "ذاكرتي مثل جبل الثلج تحت الماء، لا أكاد أعرف الزوج الأول من الثاني، كلاهما كان يحب فخذ الدجاجة المحمرة"..لكنها تعود فترسم خطا وحدودا فاصلة بين زوجيها الأول والثاني
تقول: "حملت في الزواج الأول وأنجبت طفلة جميلة. كانت ابنة الحب وليس الزواج. لم أكن أومن إلا بالحب. تصورت أن الزواج بدون حب ينتج عنه أطفال مشوهون. أتحسس بطني وأنا جالسة وراء المكتب. في أحشائي حمل غير مقدس. جنين مصنوع من الكذب. نطقت كلمة أحبك لرجل لا أحبه. يقاسمني الفراش تحت اسم الزواج. بشرته بيضاء، وجهه سمين ممتليء مثل أمه وأنا أحب الوجوه النحيفة الرشيقة. قامته قصيرة، جسمه مربع مكتنز باللحم وأنا أحب القامة الطويلة الممشوقة. يداه صغيرتان بيضاوتان ناعمتان خجولتان أصابعهما قصيرة مضمومة، وأنا أحب اليد الكبيرة الشجاعة المفتوحة"

وهي تسوق أسبابها للخلاف مع زوجها الثاني الذي كان رجل قانون.."كان هو يشاركني السرير. لا شيء يفسد الحياة الزوجية إلا السرير المشترك. والحمام المشترك. انتهاكات يومية للحياة الخاصة"
وتكرر الكاتبة انتقاد مواصفاته الجسدية بطريقة لافتة للنظر..لتقع عينا القاريء على جمل وعبارات من عينة "قامته مربعة قصيرة. قدماه صغيرتان بيضاويتان. يرتدى منامة حريرية بيضاء. وجهه أبيض بلون المنامة. عيناه صغيرتان غائرتان فى اللحم كعيني أمه"..و"كنت واقفة أمامه. قامتي أطول من قامته. قدماي كبيرتان أكبر من قدميه. سمراوتان محروقتان بالشمس. وهو واقف أمامي يمط عنقه شامخا بأنفه"..و"كان واقفا أمامي يمط عنقه القصير الممتليء باللحم" إنها تطرح على نفسها السؤال الأصعب وربما الأكثر غرابة: "متى تزوجت هذا الرجل؟!"
في لحظة المواجهة والصدام تقول نوال السعداوي إنها هددت زوجها الثاني بمشرط الجراحة.. "تجمدت أمام المرآة وأنا أنظر إلى وجهي. ثم أكمل جسمي الاستدارة وأصبحت أواجهه وجها لوجه، وعينا لعين. ماذا رأى في عيني؟! رأيته يتراجع إلى الوراء دون أن يستدير حتى التصق ظهره بالحائط. أصبح جزءا من الحائط بغير حراك. وجهه بلون الحائط الأبيض. شفتاه بيضاوتان منفرجتان دون أن ينطق. تصورت أنه مات وهو واقف قبل أن أقترب منه"
"لم أعد في حاجة إلى المشرط. نطقت عبارة واحدة من كلمتين بصوت أبي الميت: أنا خلعتك"
ماذا عن زوجها الثالث د. شريف حتاتة؟..تبدو د. نوال أكثر رضى عن هذه الزيجة من غيرها بالرغم من إشارتها إلى أنها كادت تقع في حب ثائر من تشيلي يدعى روبرت عرفته على شاطيء بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل..ومسؤول سابق في الأمم المتحدة التقته على متن طائرة..لولا ما تصفه ب"الوفاء الكلابي" بين الزوجين
"أرمقه بشيء من الحسد. منذ تزوجنا عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين وهو ينام بسهولة. يضع رأسه فوق الوسادة وينام في نصف ثانية. ضوء خافت يسقط فوق الجدار من خلال شقوق النافذة. نسمة خفيفة تحرك النتيجة المعلقة، التاريخ يشير إلى العام الجديد ألفين، يبدو الرقم غريبا، يفتح شريف عينيه، يرمق الرقم بدهشة، يا خبر بقينا في سنة ألفين كده بسرعة؟ أطفو فوق السرير كأنما أعوم فوق الزمان والمكان"
وكم تطفو فوق السطح من ذكريات..نعيش لنرويها..وتعيش هي لترسم ملامحنا المستعارة

تابع القراءة

gravatar

حبر اليقين








KAM إلى
التي
تتساءل عن عالم التدوين والمدونين: عيونك ترانا..ونحن نشم عطرك
.......................


في عالم التدوين نرى الحقيقة.. وحين نخرج إلى الشارع أو نجلس في مكاتب العمل نلتقي أشخاصا افتراضيين

في الحياة "الافتراضية" التي نعيشها في روتيننا اليومي نغسل وجوهنا فلا نتعرف على أنفسنا إلا بصعوبة بالغة

فقد أرهقنا القناع الذي نرتديه والصمت الذي يتلبسنا حين نكون أحوج ما نكون إلى الكلام

ونحن قد نصمت أحيانا فيفلت منا الحب أو تضيع صرخة الاحتجاج.. يا للغباء المُبتكر‏‏‏‏

من الذي وضع مزلاجا على عيوننا: نحن أم خوفنا من هؤلاء "الافتراضيين" الذين يلتهموننا كذئاب جائعة..نحن أم هؤلاء الحمقى الذين خدعونا فمنحناهم ما لا يستحقون: محبتنا
في يومنا الاعتيادي نسكر أمام البحر وخلف بسمةٍ نبكي..لا يهمنا سوى أن تبقى الصور الزائفة في ألبومنا العائلي: ابتسامة عريضة لا محل لها من الإعراب


في حياتنا التي نحسبها حقيقية نخفي عن أنفسنا أسرار الزيف الذي يحيط بنا كموجة عالية ونحدق في صندوق الشحوب‏‏‏.. ونحاول أن ننسى كم أهدرنا من الوقت لاختلاس قبلة مع أحمق عابر..وكم سكبنا كؤوسا في فراغ الوهم..وكم ضحكنا على نكتة سخيفة حتى لا نحرج أحدا..وكم كممنا أفواهنا وشربنا كبرياءنا كالعلقم حين اشتهى نحل الكون رحيقنا


الصورة تختلف حين نخلو إلى مدوناتنا ونلتقي من نصادق في عالم التدوين


والطيور على أشكالها تقع..تلك حكمة الكون التي تتكرر بدقة


هكذا تصبح الكلمات بوصلة..منارة مضيئة في بحر هائج ليولد منها أصدقاؤنا الحقيقيون الذين يشاركوننا نزع أشواك الصبَّار

أصدقاء ندخرهم لأي أيام وآلام محتملة..نصنع منهم شفاعتنا ومحبتنا وثقتنا في أنهم سيكونون معنا حين نحتاجهم إذا الحزن يمَّمَ وجهَهُ إلينا

صدق وخير..في زمن لا ينتصر فيه الخير إلا في المسلسلات التليفزيونية

الآن نكتشف إساءات من خلطوا في أذهاننا بين اللذة والألم..من خنقوا كلماتنا وقهروا مشاعرنا وألبسوها ثياب السجن ورموا بها خلف قضبان الزنازين التي تسمى مجازا: منازلنا ومكاتب عملنا

حروفنا مرآة تجسد أرواحنا..مثلما تبدو حروقنا وانكساراتنا التي نخفيها مثل مؤدية مسرحية تقف داخل غرفتها في الكواليس لتراقب وجهها وتعدّل في تعابيره حتى تقنع الجمهور بتفوقها .. في التمثيل


هناك فرق إذا بين بصر الحياة..وبين بصيرة التدوين


هناك تهب روحك لهزيمة..وهنا تخدش بأظفارك وجه الحقيقة

هناك نتعايش على حساب أعصابنا مع من يتبادلون الشاي والقهوة والصور الجماعية.. لكنهم يخفون في حقائب اليد وجيوب السترة خناجر مدببة اسمها الغدر والخيانة..إلا من رحم ربي


هنا نقيم لأنفسنا وأصدقائنا أبجدية من الضوء الذي يهدي ولا يصيبنا بالعمى المؤقت


هناك نكتشف متأخرا أننا عشنا حياة تراكمت في غفلة منا..ترتمي على جوانبها تذكارات لأشخاص كانوا يتسلون ويقتلون الوقت بنا

هنا نكون طبيعيين وحقيقيين وصادقين.. لا نخجل من ضعفنا.. ولا نتحرج من أسرارنا

هنا نخلع عن أنفسنا ملامحنا الجاهزة كالمعلبات وثيابنا التي نختبئ داخلها في ساعات النهار

نصبح عراة..نعم..لكننا الآن فقط حقيقيون وصادقون

والكتابة أنثى الفطرة.. إن أحبت بصدق ونالت حقها من الاحترام لا تعرف الخيانة طريقا إليها..وتتجنب المشي في سراديب الوهم والغواية

التدوين نافذة نطل منها على الآخرين لعلنا نرى أنفسنا بشكل أفضل

وعلى وجه مدوناتنا تظهر ملامحنا التي حاول الآخرون طمسها..وتنتهي لعبة التواطؤ التي مارسناها طويلا يتساءل البعض: لكننا لا نراكم

متى كانت الرؤية هي اليقين؟

الكلمات هي الحبر الوحيد ليقيننا..هي الريشة التي تطير فتتحول إلى فراشة ملونة وحين تهبط على قلوبنا لا تحتاج مظلة..فهي تعرف بالضبط مرفأ الخفقة التي يهتز لها كياننا وتجتاحنا بطوفان نرفع له راية الاستسلام ونغمض عيوننا ونبتسم في خدر لذيذ

في التدوين نحكي ونبوح ونتطهر.. وتمتد لنا أيدي الصادقين لتمسح على وجوهنا برفق وحنو

أجمل ما في محبة المدونين أنها لا تطلب ثمنا..لا ترغب في أسمائنا وأجسادنا ولا تلهث وراء شهرتنا أو جيوبنا.. هم فقط يحبوننا

كلماتهم تعانقنا وتقدم لنا دعوة مفتوحة للبكاء على قمر أكتافهم وقتما نريد

وعندما تعانق كلماتنا فضاء التدوين تولد مجرات وأفلاك جديدة..ونصبح أكثر عافية وعنفوانا..تظللنا سماء صافية نحني ظهورنا في تواضع حتى لا نخالط زرقتها

كأن كلماتنا جسور من المحبة تفتح عيوننا وعقولنا على هدية ثمينة: الوعي

وعندما ندون بحبر القلب ونصطاد فراشات المعنى نشعر بالسعادة‏‏‏‏‏‏‏ لأن السنونو اختارنا‏‏‏‏‏‏‏ وبنى عشّاً فوق شبّا‏كنا


الآن نتخلص من حصان خشبي اسمه: أقنعة الحياة..الآن تحطم الأسماك حوض الزينة وتخرج عن صمتها بفضل نقرات خفيفة فوق لوحة الحروف

الآن فقط نملك حياة تكفي لقراءة الكتب التي تنتظرنا.. ومعرفة الناس الذين يحبوننا بصدق

تدوينة بعد أخرى..نرفعُ بحذرٍ طرْفَ الرصيفِ القديم‏‏‏ كي نطمئن على أحلامنا المخبأة ونطعم عصافير الثلج من مناقيرها فتات قلوبنا

أخيرا تصبح لنا قلوب

تابع القراءة

gravatar

ثرثرة العوامات..المكان بطلا







عالم العوامات التي تنام على ضفاف نهر النيل يخلط بين التاريخ وعلم الاجتماع..وبينهما ترقد السياسة


أسرار كثيرة تحملها قلاع السهر التي ترتمي في أحضان النهر الخالد.. بداية من العوامة رقم سبعة وسبعين أشهر العوامات في الوقت الحاضر والتي تمتلكها سيدة تدعى إخلاص حلمي وتستضيف فيها القطط..وانتهاء بالعوامة رقم عشرين في نهاية كوبري إمبابة والتي كانت ملكا للفنان صلاح السعدني

وكم شهدت العوامات من أسرار تحول معها المكان إلى بطل والأشخاص إلى كومبارس


فعوامة الراقصة بديعة مصابني كانت تقع أمام فندق شيراتون القاهرة في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي..وكان يجتمع فيها صفوة أهل الفن في ذلك الحين مثل محمد عبد المطلب، وتحية كاريوكا، وسامية جمال، وأسمهان، وفريد الأطرش في بدايته، بالإضافة إلى عدد كبير من السياسيين لدرجة أنه كان يقال وقتها إن الحكومة تتشكل في عوامة بديعة مصابني. كما كان الصحفيون يلتقطون أخبار الفنانات والراقصات من هناك


والراقصات كن يعتبرن العوامات بيتهن الثاني الذي يؤدين فيه وصلاتهن الراقصة..ومن أشهر هؤلاء الراقصات ملكة العوامات حكمت فهمي

كانت حكمت فهمي تغني وترقص في نادي (كيت كات) في القاهرة لجنود القوات البريطانية.. وتعود لتنام في عوامتها على شاطيء النيل في إحدى مناطق الزمالك.. وبدأت نشاطها التجسسي بمدّ الجاسوس الألماني يوهان إبلر بالمعلومات التي تحصل عليها من الضباط الإنجليز ليرسلها بدوره إلى الجنرال روميل الذي كان يقاتل الإنجليز عند العلمين. وكانت الجاسوسة حكمت فهمي تتخير من كبار الضباط عدداً من الذين يميلون إلى الثرثرة بعد تجرع كؤوس الخمر وتدعوهم لتكملة السهرة عندها في العوامة.. وكان معظم الضباط الذين على صلة بالجاسوسة الراقصة على قناعة تامة بأن حكمت فهمي -التي أطلقوا عليها"جاسوسة روميل"- مخلصة بل متحمسة للجيش البريطاني الثامن في حربه ضد الألمان

وفي عوامة جاسوسة روميل سقط الجاسوسان الألمانيان يوهان إبلر وهنريتش غيرد ساندستيت
فقد عاش هذان الجاسوسان في عوامة حكمت فهمي..ودأبا على السهر ليلا في الكيت كات والعودة مخمورين قرب الصباح إلى العوامة التي اتخذا منها محطة للإرسال يتصلان عن طريقها بقيادة المخابرات الألمانية

وداخل هذه العوامة أيضا بدأ تعاون أنور السادات مع هذين الجاسوسين في إصلاح وتشغيل أجهزة الإرسال التي تصل عوامة حكمت فهمي بمركز المخابرات الألمانية في الصحراء الغربية. ويشير السادات في كتابه "صفحات مجهولة" وليونارد موزلي في "القط والفئران" وعبد المغني سعيد في "أسرار السياسة المصرية في ربع قرن".. إلى تفاصيل غريبة عن الحياة التي كان يعيشها إبلر وساندستيت ويحاولان بها تقليد أساطير شهريار..مع اختلاف واضح هو أن وليمة الجاسوسين كل ليلة كانت من بنات الهوى
لكن وكر التجسس انكشف أمره بعد أن أبلغت غانية فرنسية تدعى إيفيت عن إبلر - وكان معروفا في مصر باسم "حسين جعفر"- الذي أعطاها ببذخ عشرين جنيهاً أسترلينياً أجرا عن ليلتها وتخلى عن حذره أمامها..فوشت به إلى أجهزة المخابرات. وكانت النتيجة أن ألقي القبض على إبلر وساندستيت وحكمت فهمي..والسادات وزميله حسن عزت اللذين طردا من الجيش في الثامن من أكتوبر تشرين أول عام ألف وتسعمئة واثنين وأربعين وجرى ترحيلهما إلى سجن الأجانب ثم إلى معتقل قرب مدينة المنيا
كما جرى تصوير العديد من الأفلام على ظهر العوامات..إذ تم تصوير فيلم "أيام وليالي" بطولة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ على ظهر عوامة كان يمتلكها حسين باشا شكري. وأدى الفنان أحمد زكي مشهدا من فيلم "أيام السادات" للمخرج محمد خان على ظهر عوامة موجودة حاليا على طريق إمبابة- الكيت كات..وعلى ظهر العوامة رقم سبعة وأربعين صور الفنان الكوميدي محمد هنيدي مشهدا من فيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" للمخرج سعيد حامد.. كما صور الفنان عادل إمام مشهدا من فيلم "السفارة في العمارة" إخراج عمرو عرفة على ظهر العوامة رقم اثنين وخمسين..وصورت المطربة غادة رجب أغنية عاطفية على ظهر العوامة نفسها

وفي "العوامة 70" قدم المخرج خيري بشارة بأسلوب يجمع بين التوثيق والصنعة السينمائية قصة مجتمع بأكمله..يعاني بطلاه أحمد زكي وتيسير فهمي مشكلات بالجملة وكأنهما يمثلان جيل السبعينيات الذي ظل يراوح مكانه لظروف أغلبها خارج إرادته

لكل عوامة شخصيتها ولونها وشبابها أو كهولتها.. ووجوه آدمية تتراءى في نوافذها..هكذا يقول الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي كان من أبرز عشاق العوامات. وكان يقيم في الدور الثاني من عوامة حسين دياب باشا وعاش فيها لمدة خمسة وعشرين عاما أنجب فيها ابنته الكبرى..وكتب "ثرثرة فوق النيل" و"أولاد حارتنا" و"اللص والكلاب" و"السمان والخريف"..قبل أن يودع حياة العوامات إثر حادث غرق طفلة من شرفة إحداها




وفي الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ تطلب زنوبة من عشيقها السيد أحمد أن يجعلها تقيم في عوامة راسية على ضفاف النيل تحت كوبري الزمالك..في هذا الجزء نرى كيف دأب السيد أحمد على القيام برحلات متكررة إلى العوامة الخاصة للقاء معشوقته الشابة..وداخل عوامة رجب القاضي أحد أبطال "ثرثرة فوق النيل" ارتكبت كل الموبقات وغزا دخان الحشيش أجواء الغرف.. وامتزجت روائح العطورالنسائية بروائح أشجار الأكاسيا والجازورينا والكافور التي تمتد على طول الشاطيء..في هذه العوامة انكشف المستور وعمت حالة من الغيبوبة والانحلال والهروب من الواقع الذي كانت تعيشه مصر آنذاك.. صراع يجمع بين المرارة والإحباط والسخرية..شارك فيه عادل أدهم وعماد حمدي وأحمد رمزي وصلاح نظمي وسهير رمزي وميرفت أمين وماجدة الخطيب ونعمت مختار

وبالمناسبة فإن حافظ إبراهيم قد سمي باسم "شاعر النيل" لأنه ولد في عوامة على النيل حوالي عام ألف وثمانمئة واثنين وسبعين

تاريخ المشاهير من الأدباء والفنانين مع العوامات انتهى في منتصف ستينيات القرن العشرين بقرار من وزير الداخلية المصري سابقا زكريا محيي الدين..فقد كان البكباشي زكريا محيي الدين يمارس رياضة التجديف في النيل كل جمعة وكانت العوامات تضيق مجرى النيل فأصدر قراراً في عام ألف وتسعمئة وستة وستين بنقل جميع العوامات من الزمالك والعجوزة إلى منطقة إمبابة

وسرعان ما تقرر نقل خمس وستين عوامة من شاطئ العجوزة إلى إمبابة وإعدام سبع وثلاثين عوامة أخرى..ومع مرور الزمن لم يتبق من خمسمئة عوامة سوى ثلاث وعشرين.. فقط تسع عوامات منها مرخصة
الفرمان الوزاري لم ينل استحسان الأثرياء والباشوات الذين رفضوا الانتقال إلى المنطقة التي اعتبروها شعبية فاضطروا إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة أو تركها لمصيرها القاتم ..مثل عوامة المطرب فريد الأطرش التي كانت تتألف من طابقين على الطراز العربي واعتبرت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين والفنانات..وعلى ظهرها لحن أجمل أغنياته خاصة أغنية "حبيب العمر". وقد توقع البعض أن تتحول هذه العوامة إلى متحف لكن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها بعد وفاته..حتى أنهم امتنعوا عن تسديد الرسوم المطلوبة عليها لأجهزة الدولة فتحولت إلى كهف مهجور مما اضطر شرطة المسطحات المائية إلى سحبها من الماء نهائياً وتفكيكها وبيعها خردة عام ألف وتسعمئة واثنين وثمانين
وامتلك الفنان محمد الكحلاوي في أربعينيات القرن الماضي عوامة اعتاد أن يسهر فيها مع جمع من الفنانين والصحفيين والأصدقاء.. وفي بعض الأحيان كان ضيوفها من المغنين والراقصات. وكان ذلك قبل أن يصبح الكحلاوي "مداح النبي". وفي عوامة الكحلاوي وسهراتها خرج مشروعا فيلميه "كابتن مصر" و"أحكام العرب"

وكانت العوامة رقم خمسة وسبعين ملكا للفنان نجيب الريحاني لكنها غرقت بعد أن رفض الورثة إصلاحها..أما العوامة رقم ستة وستين فكانت تملكها الفنانة منيرة المهدية..وقد اشتهرت هذه العوامة بأنها كانت مقصد كبار المسؤولين ورؤساء الحكومات في عهود مضت. وقد قالت في تصريحات لها قبل وفاتها: "لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد ولكن أحداً لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي"
وتقول منيرة المهدية في مذكراتها إن رئيس الوزراء آنذاك حسين رشدي باشا - الذي شكل أربع وزارات متعاقبة بدءا من الخامس من أبريل نيسان عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر وانتهاء بتاريخ التاسع عشر من مايو أيار عام ألف وتسعمئة وتسعة عشر- كان يجتمع مع وزرائه في العوامة ويتخذون القرارات الخاصة بشؤون البلاد.."وكان يقول لي رشدي باشا "أنا لما بأحضر هنا بالي بيروق"..وقال لمنيرة المهدية "إنك تستطيعين الحصول على الاستقلال لمصر" بأغنية من أغنياتها..ويقال إنه على أنغام أغنية "يا حبيبي تعالى بالعجل" كان الوزراء والساسة يناقشون تطورات الوضع في مصر المحروسة
وبلغ عشق منيرة المهدية لعوامتها أنها في عام ألف وتسعمئة وثلاثة وستين باعت فيلتها بمنطقة مصر الجديدة بمبلغ ستة آلاف جنيه وسيارتها وجاءت لتعيش في العوامة..لكنها تركت الماء وعادت إلى البر مرة أخرى بعد أن غرقت عوامة جيرانها

وقضى الملك فاروق سهرات صاخبة مع عشرات الحسناوات على ظهر إحدى العوامات..بل إن إسماعيل صدقي رئيس الوزراء الداهية الذي أبطل دستور عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين كانت له حكاية وهو في سن الأربعين مع العوامات..ففي عام ألف وتسعمئة وخمسة عشر قدم صدقي ـ وكان وقتها وزيرا للأوقاف ـ استقالته نتيجة فضيحة أخلاقية..حيث وصلت إلى الشرطة بلاغات تفيد بأن العوامات على النيل وخاصة عوامة وزير الأوقاف يحدث بها ما يشين ..فاقتحم رجال الشرطة العوامة ليجدوه في وضع مريب مع فتاة شابة كانت ابنة أحد زملائه الوزراء والتي انتحرت بالسم بعد إطلاق سراحها من القسم..ووصل الموضوع إلى السلطان حسين الذي استدعى صدقي وعنفه ليستقيل الأخير نتيجة هذه الفضيحة

هنا يرن في آذاننا تعريف نجيب محفوظ للعوامات بأنها " الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة"
ولم تغب العوامة والحال على ما نقول عن ذهن شاعر العامية المصرية أحمد فؤاد نجم إذ يقول في قصيدته "جيفارا مات" التي لحنها وغناها الشيخ إمام عيسى: "يا بتوع نضال آخر زمن ف العوامات.. ما رأيكم دام عزكم.. جيفارا مات"
الأضواء المتلألئة من العوامات الرابضة على صفحة مياه النيل تتحدى الظلام المحيط بها..وتحكي عن قصص لا تنتهي ومغامرات تفوق حدود الخيال لأبطال هذا العالم الخاص. والملف الذي فتحته قصة سقوط ما أطلقت عليه أجهزة الأمن المصرية اسم التنظيم المتهم بازدراء الأديان بعد مداهمة حفل لعدد من الشباب على ظهر العوامة " ناريمان كوين" -التي تملكها عارضة أزياء معتزلة- أكثر إثارة وغموضا مما اعتقده كثيرون

ففي هذه العوامة التي تستقر أمام فندق "ماريوت" في حي الزمالك ظهر في مايو أيار من عام ألفين شاب ألماني تصنفه مباحث الآداب على أنه واحد من تنظيم "عبدة الشيطان".. ثم جاء مايو أيار من عام ألفين وواحد ليشهد إعلان أجهزة الأمن أنها ضبطت تنظيما لمتهمين بالمثلية دأب أفراده على اللقاء في هذه العوامة كل يوم خميس..غير أنه جرى لاحقا تبرئة ساحة كثير من هؤلاء المتهمين
عوامات النيل تتبع ثماني جهات مختلفة: إدارة الملاحة..الوحدة المحلية بالجيزة..إدارة حماية النيل..شرطة المسطحات المائية..وزارة الري..أملاك الدولة..الصرف الصحي..وزارة السياحة

وهكذا تفرق دمها بين القبائل





يتعين أن نشير إلى أن هناك نوعين من العوامات: نوع ثابت لا يتحرك من مكانه.. وهو عادة يكون من الخشب مكون من طابقين ومهيأ للسكن تماما..النوع الثاني من العوامات يحتوي على محرك ينتقل بها من مكان إلى مكان.. وكان أصحاب مثل هذا النوع من العوامات يتجهون بها إلى الشواطئ خلال فصل الصيف خاصة مصيف رأس البر..وكان هذا النوع يعرف باسم "الدهبية"

العوامات التي كانت مسرح غناء شريفة فاضل وألحان فريد الأطرش ونكات نجيب الريحاني..طالتها الآن يد العشوائيات أو امتلكها خليجيون مثل سعيد فارس أمين مدينة جدة السابق لتصبح غامضة ومحاطة بالسرية والكتمان..في حين لجأ البعض إلى تأجيرها على طريقة البنسيون أو منحها لطالبي السهرات الخاصة بعيدا عن العيون الفضولية والمتطفلة.. لتبدأ في تلك الليالي حكايات أخرى عن السرقة والشذوذ والقتل

هنا فقط يتذكر الجميع - من رجال الشرطة إلى عامة الناس- أن العوامات مازالت تطفو على سطح نهر النيل وترسو بكل ما تحمله من أسرار وحكايات مذهلة تتحدى الزمن..والشائعات
تابع القراءة

gravatar

في قارب الجسد









الأماكن ليست جغرافيا..الأماكن تاريخ

وحين تكون في مكان ما فإن ذاكرتك تحفظه وتستدعيه وفقاً للتجربة التي عشتها والأشخاص الذين اقتسموا معك تلك الوقائع والانفعالات

والذاكرة تلتحف أحياناً باللحظة المدفونة تحت جلودنا وتتغطى بالوميض فتمسي معانقتها معانقةً لقطعة من الليل موشومة بالنار

وللجسد أيضاً ذاكرة
المفارقة أن ارتباط الذاكرة بالجسد يصل إلى حد أن الشخص الذي يتم بتر أحد أطرافه يظل عقله مقتنعاً بوجود هذا العضو المبتور حتى إن العقل قد يبعث رسائل لتحريكه فيكتشف غيابه


كلنا ذلك الجسد..كلنا ذلك الصمت الذي يتكلم لغة خاصة


نتخيل الجسد تمثالا من الأسرار المطبقة والحواس التي فقدت ذاكرتها لحظة مولدها

لكن الجسد يتذكر.. لا تنسى أعضاؤه لحظة ألم أو شهقة رغبة أو ارتعاشة سببها الارتباك
يختزن جسمنا القصص والتجارب..يدرك الفارق بين لمسة حانية وأخرى جانية تنسل إلى عالمنا وتتلصص داخلنا بغير استئذان.. ويعرف المسافة بين عين ملؤها الشوق ونظرة خبيثة تريد أن تقتحم وتلتهم وتجلد بسياط لا حد لقسوتها

والمرأة لا تنسى أبداً يداً قاسية هيأتها للمذلة

وقد تتوقف وأنت تتصفح المدونات عند شجون نساء يستدعين من الذاكرة الجريحة قصصاً تركت ندوباً لا تمحى عن أياد عابثة امتدت إلى أجسادهن الطرية لتهتك تلك البراءة وتسرق الثمار

تقرأ عن الطبيب الذي يقبض بيد من جمر على ثدي صبية قيد الفحص الطبي -والثديان مراهقان تحت شجرة لوز مزهرة- فتشعر الصبية بالمهانة وتكره رمز أنوثتها.. وتطالع قصة تلك الفتاة التي تقول عن أب ذئب ـ وما أصعب أن تعيش مع ذئب تحت سقف واحدـ إنه هتك عرضها ثلاث مرات على مدى عشر سنوات. في المرة الأولى أمسكها الأب الثمل "بفظاظة وشد جسدي نحوه ممسكاً بي بإحكام، وأخذ يقبل فمي ويضغط عليه مداعباً بلسانه، وطعم لعابه الكريه..أشعر بالغثيان من هذا الوصف"..وفي مرة ثانية كرر محاولة تقبيل الابنة بالقوة وهي تعد له القهوة في المطبخ.. قبل أن يجرؤ في المرة الثالثة على ما هو أكثر دناءة..إذ تقول الفتاة وهي تتذكر تلك اللحظات العصيبة: "لمس نهدي آتياً من الخلف. شبهت ردة فعلي آنذاك بصعقة كهربائية..أشعر الآن برغبة في أن أقتلع نهدي لأتخلص من هذا الاشمئزاز"

مدونة ثالثة تعرضت على امتداد سنوات لاعتداء أبشع اقترفه أحد أفراد العائلة..قتلها مجرم من أهل البيت فأدمنت المهدئات ومضادات الاكتئاب وقررت ألا تنجب أطفالاً تأتي بهم "إلى هذه الحياة الحقيرة".. وحاولت مراراً الانتحار كما خضعت لعلاج نفسي. وضع كارثي تقول عنه: "سأعيش هكذا دوماً في السر، هاربة إلى أبد الآبدين..أحسست بالذنب وقتها وما زلت أفعل في قرارة نفسي مع أنني كنت طفلة وهو المعتدي البالغ"

انظروا حجم الأذى الذي لحق بذاكرة الجسد..وتأملوا


وفي بحر اللذة قد يغفو الجسد بين عبارة لامعة وجرعة من العرق الحار ..فلا ينسى..وكيف ينسى وليل الرغبة ارتقاء إلى الهاوية؟


وكيف تنسى الأصابع كيف دارت يوماً في فلك خصر يلتف حوله شال من الغواية ليحكي عن بساتين مشتهاة ومساءات الفل والياسمين


اللمسات التي تبحث عن بوابة للشوق تبدو كأنها خيال الضرير..ترى ما لا نراه وتشاغب في النور بعد استئذان العتمة

وحين نلمس الحبيب نركض في هاوية النسيان

لا شيء أجمل من أصابعك وهي تحط بمهارة على أحد مطارات امرأتك..لا شيء أشهى من أناملها وهي تدسها في المسافة الفاصلة بينكما. ساعتها تطفيء المصابيح لتصبحا مصدر الضياء في الكون

واليد التي تتوعد الخصوم بقبضة تلوح في الهواء أو إشارة بذيئة بالأصابع.. ترق وتصبح نهراً من حنان إن هي ضمت حبيباً أو خليلة.. حينها تنبت في اليد أصابع إضافية تشد المدائح إلى الحبيبة.. ونحتاج أكثَرَ مِنْ جَسَد لنظللها مثل شجرة الحور ونظل ممتدين حولها كما الأسرار

واليد يضعف تأثيرها..ما دامت اليد الأخرى غائبة

والجسد يجتر دائماً اللحظات المرتبكة..من لمسة لا يطمئن إلى براءتها وضغطة على الذراع من شخص توهمنا أننا يمكن أن نثق به..لكن حواسنا وأجسادنا تحفظ أيضا رحلة استكشاف جسد الجنس الآخر في غفلة من عيون الأهل على طريقة أغنية فيروز


فايق لما راحوا


أهالينا مشوار

تركونا وراحوا

وقالوا ولاد صغار

ودارت فينا الدار
ونحنا ولاد صغار




والأذن التي تصغي إلى كلمات الحب كأنها حلزون صغير تحفظ تاريخ النزوات المرسومة على جدار القلب..مثلما تذكر لفظاً نابياً وكلمة جارحة بعد أن يدور الكون دورة كاملة حول نفسه


والذين أنصتوا لعاصفة الرغبات الكامنة استثنتهم ريح الوجد من رحمتها


الصوت الهامس في الأذن يخترق مفازات الدهشة والأحلام.. يصب جمر العشق في الحنايا لظى.. يكتوي بالحرمان من قرب من نهوى

حالة فريدة يلخصها صلاح جاهين في إحدى رباعياته المدهشة


صوتك يا بنت الإيه كأنه بدن

يرقص يزيح الهم يمحي الشجن

يا حلوتي وبدنك كأنه كلام

كلام فلاسفة سكروا نسيوا الزمن

عجبي

والأذن التي تعشق قبل العين أحياناً ترسم الصور التي تداعب المخيلة..من هنا كانت وسيلة المبدعين للتعبير عن مغارات خفية في النفس البشرية..من رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست إلى "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارثيا ماركيز إلى "المسيح يصلب من جديد" لنيقوس كازانتزاكيس.. ومن رواية "المتنصتون" التي فتح فيها الروائي أحمد والي عيون وآذان القراء باللغة العربية على أسرار مدهشة في عالم أصوات الرغبة.. إلى رواية جمال الغيطاني "وقائع حارة الزعفراني" التي تكاد تكون رواية حول الأصوات..مرورا برواية محمد البساطي "أصوات الليل" ورواية الميلودي شغموم "خميل المضاجع"

والعين التي تراقب بشغف وتغازل في نزق وتؤنب في حدة.. لها نصيب من الأسرار والذكريات ..وفي كل حال تملك ما تحكي عنه في صمت بليغ..فالنظرات التي اصطادتنا على غفلة منا تحلم بمزاوجة البنفسج والقرنفل.. والمشهد الذي صدمنا يظل حكاية مفزعة تخرج لنا من صناديق الثياب المنسية وقبور الماضي الذي نتوهم أننا دفناه

والعين عدسة تحفظ أسماء العاشقين ومكائد الحاسدين وحيل المتآمرين.. ولا تنسى المحاجر التي هزمها القهر..مثلما تحفظ العينان النظارات الطبيَّة الموبوءة بالقراءة

العين وحدها مرآة الروح التي تفضح حال صاحبها وتشي بأشواقه وأفراحه مثلما تقول لنا إن كان يسير الآن على سجادة الأحزان
‏‏
وما أدراك ما ذاكرة الرائحة؟ ‏‏
‏‏
تلك التي تراها في فيلم "عطر امرأة" الذي منح آل باتشينو جائزة الأوسكار الوحيدة في خزانته مثلما تلاحقك عبر صفحات روايات "العطر" لباتريك زوسكند و"رائحة البرتقال" لمحمود الورداني و"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم التي وصفها يحيى حقي يوماً بجملة "هذا الأدب المقرف"

من عطر من نحب الذي نتوهم أنه ملتصق بثيابنا وحواسنا.. إلى ألفة الرائحة المشتهاة التي نتقاسمها مع أحبتنا لنجعل الدنيا نافورةً من الريش الأبيض وسريراً من الملاءات النظيفة..وصولا إلى رائحة البيوت القديمة والكتب الخارجة لتوها من المطابع.. والذاكرة تشم رائحة الخبز الطازج الذي يوقظ الجوع داخلنا..ورائحة المطر التي تغسل أوراق الشجر وبقايا الأحزان المطوية


للشفاه ذاكرة حادة..فالمرأة تتذكر القبلة الأولى بامتنان أو شعور بالغثيان قد يرافقها طوال سنوات عمرها.. إلى أن يأتي من يملك المحبة والدربة والصبر حتى يفك الرموز المستعصية لحادثة تضرب بجذورها في الأعماق


ونحن لا ننسى أبداً تلك الشفاه الممتلئة والأفعوانية التي احتوتنا أو احتويناها لتتمطى أمامنا كأنها الأفق الذي يغلفنا مثل موسيقى.. لحظتها يغمرنا الماء على علو دوامة غامضة..ونمشي على حواف البحر ما بين مد وجذر من الملاطفات والتمتمات والقبلات

الفم المجنون يتذكر الشبق والجوع.. في كلتا الحالتين يتحول اللسان إلى تنين يدور كصبي تائه في الموالد
حتى ظهورنا التي تقوست وانحنت في مواجهة السنوات العابرة بسرعة البرق لا تنسى ذلك الطفل الذي يعود كعادته من المدرسة وهو يحمل على ظهره حقيبة مثقلة بالكتب..وفي وجهه عينان مثقلتان تلعنان المكان الذي يجبره على حمل ما ينوء به وزنه وعمره الغض

ذاكرة الكيان الذي يرتدينا ونرتديه دوماً طازجة..تلملم قصاصات العمر التي تناقلتها ممرات الرتابة وتسرد الوقائع بصيغة المضارع لنستعيد الماضي كاملاً في كل ثانية..ومع كل إحساس نعيشه
والجسد يا أحبائي قارب غارق لا محالة في نهر الوقت
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator