المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

قانون محاكمة الوزراء (4): الانفجار




شهدت مصر دعوات متكررة إلى إصدار قانون جديد لمحاكمة الوزراء، خاصة أن مجلس الشعب لم يكن قادرًا على محاسبة الفاسدين منهم، بل إنه بدا في بعض الأحيان شريكـًا وداعمـًا لهم في سياساتهم وتصرفاتهم، ومتسترًا على فسادهم. إلا أن هذا المطلب لم يكن يلقى أي استجابة في ظل النظام السابق، الذي حرص على أن يحمي بعضه بعضـًا، "لارتباطهم جميعـًا بحلقة جهنمية لا يدخلها إلا فاسد يعرف لغة الفساد ويتقنها"[1].

إن صمت الحكومة والأجهزة المعنية عن فساد هذا الوزير أو ذاك، ومحاولة فرض ستار من التكتم والسرية حول قضايا وتهم تمس سمعة وعمل الشخصية العامة، ليس في مصلحة أحد، وإنما هو سكوت يدخل في باب التواطؤ - والمصيبة ألا تكون الحكومة تعرف أن السكوت عن الخطأ.. خطيئة- يؤدي إلى تفاقم الأمور وتزايد الشائعات وارتباك وتناقض الأقاويل، الأمر الذي يهز الثقة ويفقد المصداقية في كل شيء وأي شيء.

شيء جميل أن يقال إنه لا تستر على فساد، وهي نغمة سمعناها مرارًا وتكرارًا طوال عقود مضت، وإن أجهزة الدولة تحارب الفساد بكل صوره وأشكاله أيـًا كان مرتكبه وبغض النظر عن موقعه "فلا حماية لأحد من المساءلة، وسوف يطبق القانون على الجميع" وفق ما ذكره النائب العام السابق المستشار ماهر عبد الواحد. وإذا كنا نؤيد هذا، فإن الأهم من ذلك هو سرعة المساءلة وحسم القضايا، وإعداد الاتهامات لمحاكمات عادلة، والشفافية التامة في القضايا بعيدًا عن قيود حظر النشر التي تصب المزيد من الزيت فوق النار، وتؤدي إلى تطاير رذاذ الاتهامات وعلامات الاستفهام، لتسود الفوضى.

وإذا كان من رأي البعض الكشف الدقيق والشامل عن المراكز المالية للوزراء والمسؤولين وتحديد حجم نشاطهم وممتلكاتهم وأرصدتهم، فإن تقارير الجهات الإدارية المختلفة يمكن أن تشكل رقيبـًا واضحـًا ومحايدًا على أي مخالفات قد تقع أو أخطبوط فساد يتحرك في دوائر النفوذ[2].
 

وفي ظل غياب قانون محاكمة الوزراء، كان الإعلام - الخاص أو الحزبي- يحاول فضح فساد هذا الوزير أو ذاك، وأجهزة رقابية تقدم معلومات وأدلة على هذا الفساد، والنظام لا يرد والحكومة لا ترد، حتى يصاب الناس بالإحباط[3]. ونتيجة معادلة الحكومة التي تتألف بمنطق الشلة، غياب أو تغييب محاسبة الوزير وهو في السلطة. وربما هذا هو السبب في شعور عدد كبير من الوزراء بالرعب من مجرد التفكير في ترك المنصب المرموق؛ لأنه في رأيهم قد يكون بداية الطريق إلى المحاكمة مع رفع غطاء الحصانة المفترضة وسقوط شبكة الحماية
وإذا كان الدستور المصري قد حظر على الوزراء (في المادة 158 ) التعامل بالبيع أو الشراء أو الإيجار مع أموال الدولة فإنه لم يجرم تلك المعاملات.. ولكن التجريم أورده قانون العقوبات، في المادة 115، التي اعتبرت أن التربح من الوظيفة العامة جناية يمكن أن تصل فيها العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وهي عقوبة مغلظة كما يقول القانونيون. ويلاحظ فيها أن النص حرص على أن يشمل التجريم ليس التربح فقط، وإنما مجرد السعي إليه أو محاولة بلوغه، حتى وإن لم تنجح تلك المحاولة.

كما أنه نص على أن يشمل التجريم أيضـًا التربح للنفس أو للغير، كأن يكون تربح المسؤول من وظيفته لحساب أحد من أبنائه أو أقاربه، الأمر الذي يعني أن المشروع تبنى موقفـًا حازمـًا من مسألة استغلال نفوذ كبار المسؤولين. بالتالي فإن ما حدث من فساد أو تربح لصالح أولئك المسؤولين، لم يتم التسامح معه أو غض الطرف عنه بسبب وجود ثغرة في التشريع. وإنما المشكلة الحقيقية كانت في تجاهل تطبيق التشريع. وهو ما يسري على قانون "من أين لك هذا" القائم بالفعل والمعطل تقنينه فيما يتعلق بكبار المسؤولين[4].

ويتعين القول إن النص على تجريم التربح من الوظيفة في قانون العقوبات لا يعني أنه أصبح ممكنـًا محاسبة الوزراء على ما يقترفونه من تجاوزات في هذا الصدد، لسبب جوهري هو أن الوزراء محصنون ضد المحاكمة وهم في مناصبهم. بمعنى أن القانون لا يجيز محاكمتهم أمام المحاكم العادية بسبب تلك الحصانة. وفي الوقت ذاته ثمة استحالة عملية في محاكمتهم طبقـًا لقانون محاكمة الوزراء.



ومن المعلوم أن قانون محاكمة الوزراء عندما صدر عام 1958 كان يستجيب لنوعية معينة من الجرائم التي قد يرتكبها الوزراء حينذاك. غير أن العالم تغيَّر وأساليب الفساد والتربح أيضـًا. وفي أعقاب ثورة يناير، أحيل عدد من الوزراء إلى محكمة الجنايات، بينهم زهير جرانة وزير السياحة السابق، الذي اتُهِمَ في أكثر من قضية، بينها اتهامه ورجل الأعمال هشام الحاذق، بالتربح وإهدار المال العام، في شأن واقعة تخصيص جرانة لمساحة 5 ملايين متر مربع من الأراضي في العين السخنة لصالح رجل الأعمال الحاذق بسعر دولار واحد للمتر، وبالأمر المباشر بما يمثل مخالفة للقواعد القانونية المنظمة لتخصيص أراضي الدولة[5].



وأحيل وزير الإسكان السابق أحمد المغربي إلى المحاكمة بتهمة تخصيص عدد من أراضي هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لصالح شركة "بالم هيلز" للتعمير التي يساهم فيها[6]. ووجِهَت إلى أنس الفقي، وزير الإعلام السابق، ويوسف بطرس غالي، وزير المالية السابق، تهمة الموافقة على تخصيص 36 مليون جنيه من أموال الدولة للفقي، لإنفاقها على الدعاية لانتخابات مجلسي الشعب والشورى وإنجازات الحكومة والحزب الوطني[7].



أضف إلى ذلك، أحيل وزراء إلى محكمة الجنايات بتهم أخرى، كما هي الحال في قضية وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، الذي يواجه تهمـًا خطيرة مع مساعديه اللواءات عدلي فايد، مدير قطاع الأمن العام، وإسماعيل الشاعر، مدير أمن القاهرة، وحسن عبد الرحمن، رئيس جهاز مباحث أمن الدولة، وأحمد رمزي، مدير قطاع الأمن المركزي، السابقون، وعدد من الضباط، وأفراد الشرطة. وتتعلق تلك التهم بالاشتراك في قتل ما لا يقل عن 265 شخصـًا عمدًا، وإصابة أكثر من 4 آلاف آخرين، وطاعة الوزير الأسبق وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين[8].

دعونا نقرأ معـًا المادة رقم (5) في قانون محاكمة الوزراء عام 1958 والتي تحدد الأعمال التي تستوجب محاكمة الوزير. تقول المادة رقم (5) ما نصه:

"مع عدم الإخلال بالعقوبات المقررة في القوانين الأخرى يعاقب الوزراء بالعقوبات المنصوص عليها في هذا القانون إذا ارتكبوا في تأدية وظائفهم جريمة من الجرائم الآتية:

 (1) الخيانة العظمى. وتعتبر خيانة عظمى كل جريمة تمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجي أو الداخلي أو نظام الحكم الجمهوري ويكون منصوصـًا عليها في القوانين المصرية أو السورية ومحددًا لها في أي من هذه القوانين عقوبات الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت.

(2)  مخالفة الأحكام الأساسية التي يقوم عليها الدستور.

 (3) التصرف أو الفعل الذي من شأنه التأثير بالزيادة أو النقصان في أثمان البضائع أو العقارات أو أسعار أوراق الحكومة المالية أو الأوراق المالية المقيدة بالبورصة أو القابلة للتداول في الأسواق بقصد الحصول على فائدة شخصية أو للغير.

(4)  استغلال النفوذ ولو بطريق الإيهام للحصول على فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لغيره من أية سلطة عامة أو أية هيئة أو شركة أو مؤسسة.

(5)  المخالفة العمدية للقوانين أو اللوائح التي يترتب عليها ضياع حق من الحقوق المالية للدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة الأخرى.

 (6) العمل أو التصرف الذي يقصد منه التأثير في القضاة أو أية هيئة خولها القانون اختصاصها في القضاء أو الإفتاء في الشؤون القانونية.

 (7) التدخل في عملية الانتخاب أو الاستفتاء أو إجراءاتهما بقصد التأثير في نتيجة أي منهما سواء كان ذلك بإصدار أوامر أو تعليمات مخالفة للقانون إلى الموظفين المختصين أو باتخاذ تدابير غير مشروعة".

والآن، لا يرى كثيرون غضاضة في توسيع مفهوم التربح وتعارض المصالح بحيث يشمل أيضـًا المكاسب السياسية وليس المادية فحسب. وهنا يحذر أحدهم من أنه "حين يكون أحد رجال الأعمال رئيسـًا للجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب، وحين يكون رجال الأعمال هم رؤساء لجنة الصناعة، أو الضابط السابق رئيسـًا للجنة الأمن القومي وزميل له من رجال الشرطة رئيسـًا للجنة الشؤون العربية. وحين يكون صاحب شركة المقاولات رئيسـًا للجنة الإسكان، فتضارب المصالح يصبح صارخـًا في هذه الحالات"[9].

على أن قانون محاكمة الوزراء (لسنة 1958) أهمل موضوعـًا شديد الأهمية فيما يتصل بوظيفة الوزير، وهو موضوع الراتب والامتيازات والمخصصات التي يحصل عليها من يرتدي شارة الوزارة.

والمسألة هنا لا تتعلق بالراتب الذي يحصل عليه الوزير، وإنما بشبهة ملايين أخرى تتدفق على جيب الوزير عبر ما يسمى بالصناديق الخاصة، كما أشار ذات مرة د. حمدي عبدالعظيم، الرئيس السابق لأكاديمية السادات للعلوم الإدارية. وهي صناديق موجودة في كل وزارة، وكذلك في العديد من المؤسسات الأخرى كالجامعات وغيرها. وتضم ما يتم جمعه من أموال من الشركات والمؤسسات التابعة للوزارة (الممتلكات العامة)، بالإضافة إلى حصيلة الغرامات والرسوم التي تفرضها الوزارة على المتعاملين معها وخلافه. ويقدر دخل هذه الصناديق بالمليارات سنويـًا، ومن حق الوزير أن يحصل على نسبة 0,5% من دخل هذه الصناديق، وتدر عليه هذه النسبة ملايين الجنيهات التي تدخل جيبه بصورة قانونية[10]!

ويتعين هنا القول إنه حين ارتأت دول كثيرة أخرى - مثل ألمانيا حين عزلت وحاكمت مستشارها التاريخي هلموت كول، أو الولايات المتحدة حين حاكمت رئيسها بيل كلينتون لكذبه وحنثه اليمين بشأن علاقته مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي- أن تتصدى للفساد في صفوف الكبار، لم تشعر بخوف أو قلق أو رعب على سمعتها أو اسمها، ولم يقل أحد أن سمعة ألمانيا قد تأثرت بمحاكمة المستشار كول أو أن كرامة الولايات المتحدة قد أضيرت من جراء محاكمة مجلس الشيوخ الأمريكي لكلينتون؛ لأن الدول أكبر من الأشخاص.

وفي كل الأحوال، فإن العلانية والشفافية والمصارحة تجعل كل شيء معروفـًا بدون حساسيات أو حسابات معقدة، خاصة أن الأيام تكشف ما يدور في الكواليس، والمعلومات المتأخرة تزيد الأمور سوءًا، تماما مثل الاتهامات التي تأتي بعد فترة طويلة من التجميد في "فريزر" الحكومة!

وفي زمن مضى، قال رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الشعب سابقـًا المستشار محمد موسى إن الوزير إذا أخطأ لا بد من إحالته إلى المحاكمة فورًا، ولكن غالبـًا ما يتأخر الكشف عن وقائع وشبهات الفساد الوزاري إلى ما بعد ترك الوزير منصبه، وهو لم يعتبر ذلك تسترًا على الفساد. ومن الواضح أن هذا التبرير يصعب هضمه؛ إذ إن تأخير كشف وقائع الفساد يعد – شئنا أم أبينا- أو في أقل الأحوال سكوتـًا على استشراء هذا الفساد، الذي ينخر كالسوس في عظام الوطن.

نعم، لقد حان الوقت لتحديد أولويات العمل والبناء، حتى لا ننصرف عن المتون نحو الهوامش، ونبتعد عن المضمون في اتجاه الشكل، ونترك الشأن الوطني العام لصالح الضيق الخاص. فأما البناء فهو يتعلق ببناء المواطن وترسيخ مفهوم المواطنة، وقيم العمل والإنتاج والديمقراطية والنزاهة. وأما العمل، فهو يشمل مجموعة أسس وقوانين ننطلق منها بثقة ووعي نحو مصر المستقبل.

ومن المأمول أن يكون قانون محاكمة الوزراء حاضرًا في الأذهان، لسد فراغ تشريعي قائم، وصونـًا لحقوق الوطن ومصالح العامة.

 فلنراقب، ونحاسب، ونحاكم الوزراء والمسؤولين إن لزم الأمر، حتى يعرف كل وزير ومسؤول أهمية الرقابة والمحاسبة، ونضمن الشفافية والنزاهة في كل خطوة نخطوها وكل إجراء نتخذه. ويتعين أن نشير في هذا  السياق إلى أن غياب المحاسبة والمساءلة والعدالة كان من أبرز أسباب ثورة 25 يناير التي غيَّرت وجه مصر، وكشفت جرائم الوزراء ورجال الأعمال وقيادات الأمن.
حاسبوهم.. يرحمكم الله!


هوامش


[1] أسامة هيكل، لم يشبعوا.. ولم تنخفض كروشهم، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 26 فبراير 2011.
[2] ياسر ثابت، محاكمة كبار المسؤولين في الوقت الضائع، مصدر سابق.
[3] وائل عبد الفتاح، تمرد عشوائي، جريدة "الأخبار"، بيروت، 21 يونيو 2008.
[4] فهمي هويدي، النزاهة لا تستحضر بقانون، جريدة "الشروق"، القاهرة، 22 يوليو 2010.
[5] إحالة زهير جرانة للجنايات بتهمة التربح وإهدار المال العام، جريدة "الشروق"، القاهرة، 15 مارس 2011.
[6] محمود المملوك ومحمود سعد الدين، ننشر أمر إحالة "الأموال العامة" في قضية المغربي..الوزير السابق خصص أراضي "المجتمعات العمرانية" لصالح "بالم هيلز" التي يساهم فيها .. وتقاعس عن سحب أرض "أخبار اليوم" رغم مرور 9 سنوات على عدم استغلالها، جريدة "اليوم السابع"، القاهرة، 7 مارس 2011.
[7] النائب العام يحيل الفقي وغالي للمحاكمة الجنائية بتهمة الإضرار بالمال العام، جريدة "الشروق"، القاهرة، 23 مارس 2011.
[8] أحمد شلبي، إحالة "العادلي" و"الـ 4 الكبار" في "الداخلية" إلى "الجنايات" خلال ساعات بتهمة قتل المتظاهرين، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 23 مارس 2011.
[9] المصدر السابق.
[10] محمود خليل، وزراء في الجبس، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 23 نوفمبر 2008.

 
تابع القراءة

gravatar

قانون محاكمة الوزراء (3): الإجهاض



في 7 ديسمبر 2007، قدم النائب المستقل علاء عبد المنعم مشروع قانون لمحاكمة الوزراء ومن في حُكمهم إلى مجلس الشعب المصري.

تضمن مشروع القانون 14 مادة، تقترح تطبيق القانون على كل مسؤول يؤدي اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، وبينهم "رئيس الحكومة والوزراء والمحافظون ونوابهم وغيرهم"، حتى لو ترك ذلك المسؤول وظيفته، على أن تشمل الجرائم الست الواردة، أمن الدولة والتأثير في العدالة وجرائم المال العام واستغلال النفوذ ولو بطريق الإيهام للحصول على فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لغيره، من خلال تشكيل لجنة تحقيق من 3 قضاة بمحكمة النقض، يتم إبلاغها بالجرائم. وتختص هذه اللجنة دون غيرها بفحص البلاغات المقدمة مكتوبة وموقعة إلى النائب العام وحده ضد الوزراء وتتولى اللجنة بصفة سرية بحث مدى جدية البلاغ.

وتشكل المحكمة الخاصة من أقدم 4 قضاة من نواب رئيس محكمة النقض وعضوين منتخبين من مجلس الشعب وعضو بمجلس الشورى من المنتخبين أيضا، وتصدر الأحكام بأغلبية 5 من أعضائها على الأقل. وأشار مشروع القانون إلى أن الأحكام الصادرة من المحكمة المشكلة غير قابلة للطعن فيها، إلا بطريق النقض أمام إحدى الدوائر، التي تنظر النقض في أحكام محاكم الجنايات، وتجوز المعارضة فيه أمام المحكمة ذاتها، إذا صدر الحكم غيابيـًا، ويستوجب كل حكم يصدر بالإدانة، عزل المحكوم عليه من وظيفته دون إخلال بتوقيع العقوبات المقررة قانونـًا بالجريمة[1].

كما حدد مشروع القانون الجرائم التي يحاسب عليها المسؤولون وهي: الفساد والتربح واستغلال النفوذ سواء للنفس أو للغير، حتى عن طريق الإيهام[2].

ونص مشروع القانون على بعض الإجراءات التي تتخذ ضد الوزير المقدم ضده البلاغ، وهي القبض عليه أو حبسه احتياطيـًا أو التفتيش لشخصه أو لمسكنه أو منعه من السفر، وأوجبت المادة (7) منه على النائب العام إعلان الوزير بصورة من قرار الاتهام وقائمة أدلة الثبوت قبل بدء المحاكمة بعشرة أيام على الأقل وإعلان شهود الإثبات بالجلسة المحددة.

ونص مشروع القانون أيضـًا على أن يكون اتهام رئيس الجمهورية أو نائبه بالخيانة العظمى أو خرق الدستور أو بأي عمل يمس استقلال وسيادة البلاد بناء على طلب يقدم من نصف أعضاء مجلس الشعب إلى رئيس المجلس مشفوعـًا بأدلة تؤيد الاتهام وأن تكون إحالة رئيس الوزراء أو نوابه أو الوزراء أو نوابهم إلى التحقيق أو المحاكمة بناء على قرار من رئيس الجمهورية أو اقتراح من 5 أعضاء بمجلس الشعب وموافقة ثلثي أعضاء المجلس. وقال مشروع القانون: إذا صدر قرار الاتهام ضد رئيس الجمهورية يوقف عن مزاولة مهام عمله كرئيس للجمهورية حتى يبت في أمره على أن يقوم نائبه بعمله لمدة لا تتجاوز 60 يوما[3].



لم يجد مشروع القانون طريقه للمناقشة أو الدراسة، وفي نهاية دور الانعقاد البرلماني عام 2008 اشتكى علاء عبد المنعم إلى رئيس مجلس الشعب حينذاك فتحي سرور من تجاهل هذا القانون الذي يساعد على سد العجز في المنظومة التشريعية لمصر، وهو ما أيده حينها سرور، مقررًا إحالة مشروع القانون إلى مجلس الشورى ولجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب.

مرة ثانية، دار القانون المقترح في أروقة مجلسي الشعب والشورى، دون جدوى. وفي عام 2009، ناقشت اللجنة التشريعية بمجلس الشورى مشروع القانون، وقررت إرساله إلى وزارة العدل لاستطلاع رأيها حوله، إلا أن الوزارة لم ترد.

وبعد 3 سنوات من التجاهل، عاد قانون محاكمة الوزراء إلى الواجهة عام 2010.

غير أن النية بدت مبيتة للمماطلة والتسويف إن لم يكن وأد مشروع القانون في مهده، بطرق ملتوية لا تخفى على أحد.

دعونا هنا نتحدث بمزيد من التفصيل عما جرى تحت قبة مجلس الشعب بتاريخ 28 فبراير 2010.



في تلك الجلسة، بدأت لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب في مناقشة مشروع القانون، بعد أن قدم النائب المستقل علاء الدين عبد المنعم، طلبا موقعا عليه من 60 عضوا ينتمون إلى أحزاب المعارضة والمستقلين والإخوان المسلمين، يطالبون فيه بضرورة إحالة مشروع القانون إلى لجنة خاصة لمناقشته.

غير أن الحكومة أصرت على رفض مشروع قانون محاكمة الوزراء.

وقال المستشار عمر الشريف، مساعد وزير العدل لشؤون التشريع حينذاك، إن مشروع القانون غير دستوري؛ لأنه يخلق نوعـًا من التفرقة بين الأشخاص العاديين والمسؤولين التنفيذيين، خاصة أن المادة (40) من الدستور تنص على عدم التمييز بين الأفراد، لافتـًا إلى أن إجراءات الاتهام والتوقيف الواردة في مشروع القانون موجودة في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية. وأضاف الشريف: "لا يوجد ما يمنع من محاكمة الوزراء؛ لأنهم لا يتمتعون بحصانة برلمانية أو دبلوماسية كما حدث أيام أحمد نوح ـ وزير السياحة والطيران المدني في عهد السادات ـ الذي حوكم بقانون العقوبات".

ورد النائب علاء عبد المنعم، بأن حديث الحكومة عن عدم دستورية القانون غير صحيح، وقال: "المادتان 159 و160 من الدستور تنصان على ضرورة وجود قانون لمحاكمة الوزراء، وأن الدكتور فتحي سرور أكد عام 2007 أن هناك فراغـًا تشريعيـًا بسبب عدم وجود هذا القانون".



واختلف عبدالمنعم مع محمد جويلي، رئيس لجنة الاقتراحات والشكاوى حينذاك، الذي أصر على كتابة توصية يتم رفعها لـرئيس مجلس الشعب بأن يحال الاقتراح إلى مجلس الشورى، دون موافقة اللجنة؛ لأن الدستور يشترط موافقة مجلس الشورى على حد قوله ـ وقال علاء عبدالمنعم: نحن بذلك نعلق دورنا على مجلس الشورى رغم أننا أصل التشريع، وماذا سيفعل "الشورى" إذا كنا لم نناقشه أساسـًا بمعنى أن مناقشته هناك تتطلب مناقشته أولاً في لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب، وأضاف: "أنا عارف إن مشروع القانون لن يخرج إلى النور، لكن إحنا بنعمل اللي علينا حتى نرضي ضميرنا، والشورى وحده يتحمل المسؤولية التاريخية إذا عطله".

وقال جمال زهران إن هذا القانون يخلق "حساسية" عند الحكومة، ورفضه يعني أنه يتم تنصيب الوزراء في موقع "الألوهية"، وتابع: الحكومة بييجي لها "أرتيكاريا" عندما تطالب بمحاسبة الوزراء.. الكل لا بد أن يخضع للمساءلة خاصة أن نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية قال إنه لابد من خروج هذا القانون إلى النور لأن الوزراء يرتكبون جرائم بتأشيراتهم ويتحملها صغار الموظفين.

وأشار زهران إلى أن القانون ضروري لسد الفراغ التشريعي الموجود، وللحد من الجرائم التي ترتكب من قبل بعض الوزراء؛ لأن القانون سيكون رادعـًا ويجعل المسؤول يفكر ألف مرة، وتساءل: "إذا تقدمت باستجواب وثبتت اتهاماتي للوزير، فكيف تستطيع النيابة مباشرة مهامها؟!"، متهمـًا الحكومة بالتهرب من القانون وانتهاك الدستور.

ورد النائب أحمد أبو بركة على ما أثارته الحكومة حول إمكانية محاكمة الوزراء بقانوني العقوبات والإجراءات الجنائية، قائلا: هذه القوانين لا يجري تفعيلها على هذه الفئة ولا تكفي للردع، لافتـًا إلى أن المشروع يتفق مع الدستور الذي ينص على ضرورة وجود قانون لمحاكمة الوزراء.

واضطر رئيس لجنة الاقتراحات والشكاوى إلى إعلان الموافقة على القانون وقرر إرسال خطاب لـرئيس مجلس الشعب حينذاك يوصي بإحالته إلى مجلس الشورى وبسرعة الرد، وقال جويلي: الشعب كله يحتاج هذا القانون ويقف معكم[4]!

ثم ماذا؟

لاشيء: قبض ريح.

وهكذا كانت الأدراج مصير مشروع قانون محاكمة الوزراء، ولم يتمكن مؤيدوه سوى انتزاع موافقة لجنة الاقتراحات والشكاوى عليه فقط، لكنهم عجزوا عن طرحه للنقاش في لجنة الموضوع، وهي التشريعية، ولم يكن مستغربـًا في تلك الحال أن يتعامل مجلس الشورى مع إصدار هذا القانون بنفس أسلوب مجلس الشعب[5].


هوامش


[1] محمود محمد، سرور يحيل مشروع قانون لمحاكمة الوزراء إلى مجلس الشورى، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 18 نوفمبر 2008.
[2] محمود مسلم، لجنة برلمانية تناقش غدا قانون محاكمة الوزراء بعد 3 سنوات من التجاهل، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 27 فبراير 2010.
[3] محمد عبد القادر، "اقتراحات الشعب" توافق على مشروع قانون محاكمة الوزراء وتوصي بإحالته إلى "الشورى"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 1 مارس 2010.
[4] المصدر السابق.

[5] نور علي، هل أحمد عز أقوى من الدكتور سرور؟، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 27 مايو 2010.

تابع القراءة

gravatar

فتوات وأفندية.. في معرض أبوظبي









والكتاب الذي بين أيدينا يضم بين دفتيه جزءًا من السيرة المجهولة لمصر.
إنها حكايات عن الفتوات الذين ملأوا الدنيا صخبـًا، وكانوا رمزًا للسطوة والهيمنة على
 امتداد خارطة المحروسة، وقصص عن أشهر جرائم الأفندية، بدءًا من النصب
 والاحتيال وانتهاء بالقتل والتعدي على النفس والممتلكات.
إنها صورة بالألوان الطبيعية لمصر خلال خمسين عامـًا أو يزيد.

الأصدقاء الأعزاء

سأكون في انتظاركم في معرض أبوظبي الدولي للكتاب

 يوم السبت الموافق 19 مارس 2011، وذلك في تمام الساعة 4:30 مساء،

 لحضور حفل توقيع أحدث كتبي "فتوات وأفندية"،

علما أن الكتاب متوافر في المعرض منذ انطلاق دورته الحالية.

ولأن اللقاء هو زهرة الود التي تنمو، فإنه يسعدني أن ألتقيكم وأن نتبادل معاً أطراف

 الحديث في تلك الأمسية

تابع القراءة

gravatar

قانون محاكمة الوزراء (2): النكتة



شهدت مصر محاكمة وزراء سابقين في أكثر من مناسبة

ولعبت السياسة دورا في تلك المحاكمات، حيث لا يدوم حلفاء ولا يبقى أصدقاء

وفي هذا الإطار دارت قضية محاكمة وزراء 15 مايو 1971، أو من أطلق عليهم حينذاك تعبير "مراكز القوى" التي رأى الرئيس أنور السادات أنها تناصبه العداء وتخطط لإزاحته من منصبه الرئاسي.. شملت تلك القضية كُلاً من شعراوي جمعة نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية، وسامي شرف وزير شؤون رئاسة الجمهورية، ومحمد فائق وزير الإعلام، ومحمد سعد الدين زايد وزير الإسكان والمرافق، وحلمي محمد السعيد وزير الكهرباء، وعلي زين العابدين صالح وزير النقل، وعلي صبري نائب رئيس الجمهورية آنذاك.. وغيرهم 91 متهمـًا، بينهم وزراء معروفون في تلك القضية التي كانت تمثل ما وصفه الإعلام الموالي للرئيس السادات بأنها ذروة "ثورة التصحيح"، أو تصفية الخصوم من ذوي العيار الثقيل اعتبارًا من منتصف مايو 1971.

واجه الوزراء الذين حوكموا في تلك القضية تهمة الخيانة العظمى في جلسة 25 أغسطس 1971 بمحكمة الثورة. وطلب المدعي العام معاقبة المتهمين بموجب المواد (5) و(6) و(7) من القانون رقم (79) لسنة 1958 الخاص بمحاكمة الوزراء[1]. 

وفي 9 ديسمبر 1971، قضت محكمة الثورة بإعدام كل من علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف، وأمر السادات بتخفيف الحكم على الثلاثة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وقضت المحكمة أيضـًا بالأشغال الشاقة المؤبدة على الفريق أول محمد فوزي، وأمر السادات بتخفيف الحكم إلى الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة. كما صدرت أحكام أخرى، بينها الأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات على محمد فائق، والسجن لمدة خمس سنوات على محمد سعد الدين زايد. وأصدرت المحكمة 14 حكمـًا بالبراءة و15 حكمـًا بالحبس مع وقف التنفيذ على عدد آخر من المتهمين.



وما بين الحين والآخر، تطل على استحياء قضية فساد أو رائحة من روائح التورط لوزير سابق في مثل تلك القضايا، ولكن قد تحاط تلك القضايا بحالة من التكتم والسرية – وربما حظر النشر- وتسرب الأخبار أو تصدر بيانات النفي، مثلما حدث عندما تم رسميـًا في عام 2001 نفي التحقيق مع طلعت حماد وزير شؤون مجلس الوزراء والمتابعة سابقـًا، الذي قال بدوره إنه كان مستهدفـًا من قبل خصومه الذين أطلقوا "كل الشائعات الرخيصة" حوله، لكنه فضَّل الصمت واكتفى بالاستمرار في العمل. كان الخصوم - كما يقول حماد- يرددون أنه مرشح لمنصب رئيس الوزارة وتارة أخرى يقولون إنه سوف يصدر قرار بالإقالة، "وفي مرات أخرى لا يتورع هؤلاء في القول بأنني هربت من مصر وأشياء أخرى من هذا القبيل، وبالقطع هذه الشائعات تشغل البال، لكن الحقيقة التي أعرفها جيدًا أنني واثق من نفسي ومن تصرفاتي، ولا أظن أن أحدًا في إمكانه إلحاق الضرر بي؛ لأنني رجل قضاء قبل أن أكون في الوزارة‏"[2].

ومع ضبابية المواقف والاتهامات، يشعر كثيرون بالارتباك والغموض إزاء مثل تلك القضايا التي تمس وزراء ومسؤولين. إن القضايا والشبهات التي تحوم حول وزراء من هذا العهد أو ذاك، ليست في تقديرنا سوى قمة جبل الجليد التي تظهر فوق سطح الماء، في حين يختفي معظم الكتلة الجليدية بعيدا عن الأعين والأنظار، كأنه فخ!
                                                                                                      
وفي عام 2010 تجددت مسألة التحقيق مع الوزراء في مناصبهم، خاصة مع طلب النائب السابق طلعت السادات سماع أقوال زهير جرانة وزير السياحة حينذاك حول ظروف وملابسات موافقته لطلعت السادات على تأسيس شركة سياحية رغم الحظر، وهو ما يشكل جريمة استخدام النفوذ، لكن نيابة أمن الدولة اكتفت بمذكرة من جرانة فقط.



ثم تجددت مسألة التحقيق مع الوزراء بمناسبة تسليم الجهاز المركزي للمحاسبات خلال شهر أغسطس 2010 تقريرًا رسميـًا لنيابة الأموال العامة تضمن أن رئيس الوزراء حينذاك أحمد نظيف، ووزير الصحة حينذاك حاتم الجبلي، ووزير المالية في ذلك الوقت بطرس غالي، استخرجوا قرارات علاج مخالفة، لعلاج أغنياء في الخارج على نفقة الدولة أو لإجراء فحوصات طبية للاطمئنان على صحتهم.

تضمنت بعض قرارات العلاج عمليات تجميل، والعلاج الطبيعي والعلاج بالحمام المائي، بالإضافة إلى جلسات "مساج" والعلاج بالأوزون والأسنان، وأخيرا زرع العدسات. وقتها، قال رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، جودت الملط "إن قرارات العلاج على نفقة الدولة التي صدرت للعاملين بمجلس الوزراء، فساد كبير يقتضي المحاكمة"!

مثَّل تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات مفاجأة؛ لأنه لأول مرة تبادر جهة رقابية في الدولة بتقديم تقرير ينتقد وزراء في مناصبهم إلى النيابة العامة، ثم أعطى القاضي علي الهواري المحامي العام الأول لنيابة الأموال تعليماته لرؤساء النيابة الذين يتولون التحقيق في القضية بأن "استدعوا الوزراء إذا وجدتم حاجة لذلك"، ولم تكد الصحافة تنشر تعليمات الهواري حتى بادر وزير الصحة حينذاك بزيارة النائب العام لبحث القضية معه.

وبعد أيام قليلة سلم محسن شعلان وكيل أول وزارة الثقافة حينذاك مستندات للنيابة - في إطار اتهامه في قضية سرقة لوحة "زهرة الخشخاش"- قال إنها تثبت أن وزير الثقافة حينذاك فاروق حسني يعلم بأن جميع متاحف مصر معرضة للسرقة، ولم يحرك ساكنـًا، فهرع فاروق حسني إلى النائب العام شارحـًا له موقفه. ويبدو أن الشرح والعرض الشفهي لم يكن كافيـًا، فذهب حسني، الذي كان أقدم الوزراء في الحكومة، أو فضل الذهاب بدلاً من رفع الحصانة عنه، ومثل أمام نيابة شمال الجيزة ليكون أول وزير يمثل للتحقيق وهو في منصبه[3].


ومع تساقط الوزراء في فضائح فساد تمس سمعتهم وذمتهم المالية، وجد كثيرون أنفسهم عاجزين عن تصور طي الصفحة، من دون محاكمة عادلة وقصاص رادع لكل من تتم إدانته من هؤلاء الوزراء. وزاد الطين بلة، تجاهل الحكومات المتعاقبة لأحكام قضائية تمس وزراء، وفرضها الحماية على وزراء آخرين، مثل سيد مشعل وزير الإنتاج الحربي وعضو مجلس الشعب السابق، الذي قضت المحكمة بعدم أحقيته في الاحتفاظ بمقعده النيابي، لكن الوزير النائب احتفظ بمقعده على الرغم من أنف القانون. كما اتخذت حكومة عاطف عبيد موقفـًا غير مبرر من قضية أحمد العماوي وزير القوى العاملة سابقـًا في انتخابات مجلس الشورى.

إن احترام أحكام القضاء شيء ضروري واجب؛ لأنه يثبت أولاً وقبل أي شيء آخر أن الحكومة – أي حكومة- لا تخشى ولا تجد حرجـًا في كشف الفساد على الملأ، على اعتبار أن هذه الخطوة تؤكد شفافية السلطة وطهارة يد الحكومة ورموزها. ولعل تأخير إعلان الاتهامات أو كشف الحقائق في توقيتات معينة ووفق حسابات خاصة يؤدي إلى تحويل هذه المحاكمات - مع احترامنا للقضاء المصري الشامخ- إلى جزء من اللعبة السياسية. ونحن نعترض على دخول السياسة قاعات المحاكم؛ لأن المتهم هنا يحاكَم على ما هو موجه إليه، ويجب أن يتم ذلك بمجرد اكتشاف تورط الوزير أو المسؤول في شبهة فساد أو انحراف، بهدف الإسراع في البت في الاتهامات ومحاسبة من يثبت تقصيره أو إساءته استغلال منصبه.. بدلاً من انتظار التغيير الوزاري أو الإقالة أو المعاش، ثم نبدأ في إجراءات المحاكمة[4].
وعندما نصل إلى هذه النقطة، علينا أن نتذكر جوهر المسألة: قانون محاكمة الوزراء.. الغائب.
وبقدر ما نرى أن مثل هذا القانون يوفر الإطار القانوني لمكافحة الفساد في مصر، بقدر ما يتعين علينا مكافحة بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تشكل بيئة مواتية للفساد، ومنها ظواهر المحاباة، والاستمرار في المناصب لفترات طويلة، فضلا عن قضية تعارض المصالح، وغياب المعلومات الذي يحجب الحقيقة ويشيع مناخـًا من عدم الثقة. ويجوز أن نضيف إلى القائمة مسألة حماية المبلغين والشهود. إن وضع أطر قانونية جديدة تضمن الحماية الكاملة لهؤلاء وكذلك لأقاربهم وسائر الأشخاص وثيقي الصلة بهم، يزيد من فاعلية جهود محاسبة الوزراء والمسؤولين، وسيشجع المواطنين على التخلي عن خوفهم وحذرهم كي يكشفوا عن مواطن الفساد في السلطة. وعلى الرغم من وجود مواد متناثرة في القوانين المصرية تتحدث عن حماية الشهود والمبلغين، فإنها في الغالب الأعم لا تحقق لهم الحماية المنشودة[5].
إن غياب قانون محاكمة الوزراء - في ظل الدولة الرخوة التي كانت- دفع أحدهم إلى القول إن "التجريس قد يبدو حلاً، إذا لم نستطع محاكمة الوزراء، الذين تربحوا وأثروا من المال العام.. وقد يكون حلاً، إذا كنا لا نستطيع أن نتعامل، مع الذين باعوا مصر.. وقد يكون حلاً، لوزراء تحولوا إلى أباطرة.. وقد يكون التجريس حلاً، لأن الوزير يملك حصانة ضد المحاكمة، وبالتالي لا يوجد حل غير توقيع عقوبة اجتماعية.. ليس عن طريق ركوب الحمار بالمقلوب، ولكن عن طريق الفضائيات"[6]!
والحاصل أن قانون محاكمة الوزراء كان موجودا في مصر منذ عام 1958. غير أن "القانون النكتة الذي يحاكم الوزراء سقط بالسخرية، وبالانفصال السوري عن الوحدة مع مصر"[7]. ففي أعقاب قيام الوحدة بين مصر وسوريا، وافق الرئيس عبدالناصر على صدور القانون رقم (79) بتاريخ 22 يونيو 1958، يضم 25 مادة وتنطبق أحكامه على الإقليمين المصري والسوري. ونص القانون المذكور في مادته الأولى على أن تتولى "محاكمة الوزراء محكمة عليا تشكل من اثني عشر عضواً ستة منهم من أعضاء مجلس الأمة يختارون بطريق القرعة وستة من مستشاري محكمة النقض ومحكمة التمييز يختار ثلاثة منهم بطريق القرعة مجلس القضاء الأعلى في كل إقليم .ويختار بذات الطريقة عدد مساو من أعضاء مجلس الأمة والمستشارين بصفة احتياطية"[8].
ويقوم بوظيفة الادعاء أمام المحكمة ثلاثة من أعضاء مجلس الأمة (البرلمان) ينتخبهم المجلس بالاقتراع السري بأغلبية الأعضاء الذين يتكون منهم المجلس، وذلك بعد صدور قرار الاتهام، ويجوز أن يعاونه واحد أو أكثر من رجال النيابة العامة يندبه النائب العام بناء على طلب مجلس الأمة. وفي حالة صدور قرار الإحالة من رئيس الجمهورية، يقوم بتمثيل الادعاء أمام المحكمة النائب العام في الإقليم المصري أو النائب العام لدى محكمة التمييز في الإقليم السوري، حسب الأحوال (المادة 3).
وكانت إجراءات محاكمة الوزير بمقتضى هذا القانون تبدأ بقيام مجلس الأمة بمجرد تقديم اقتراح باتهام الوزير بتشكيل لجنة للتحقيق من خمسة من أعضائه يختار أربعة منهم بطريق الاقتراع السري وفي جلسة علنية. ويرشح رئيس المجلس عضوين من رجال القانون في المجلس لاختيار أحدهما بالطريقة ذاتها عضواً في هذه اللجنة. وتتولى لجنة التحقيق دراسة موضوع الاقتراح والتحقيق فيه (المادة 8).
وتعد لجنة التحقيق تقريرًا بنتيجة عملها وترفعه إلى رئيس مجلس الأمة خلال شهر من تاريخ تكليفها بحث الموضوع، ويجوز للمجلس أن يقرر تقصير هذا الميعاد  (المادة 9). ثم يحدد رئيس المجلس جلسة لمناقشة تقرير اللجنة خلال خمسة عشر يومـًا من تاريخ رفع التقرير إليه. ويصدر المجلس قراره في هذا الشأن وفقا لأحكام الدستور (المادة 10).
ويرسل رئيس مجلس الأمة إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى في كل من الإقليمين قرار الاتهام في اليوم التالي لصدوره لاختيار المستشارين لعضوية المحكمة العليا. وفي حالة صدور قرار الإحالة من رئيس الجمهورية، يرسله إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى في كل إقليم في اليوم التالي لصدوره ويرسل صورة من هذا القرار إلى رئيس مجلس الأمة في الوقت ذاته لاختيار أعضاء المحكمة العليا من أعضائه، على أن يتم إجراء القرعة وتشكيل المحكمة العليا في جميع الأحوال خلال عشرة أيام على الأكثر من تاريخ صدور قرار الاتهام أو الإحالة (المادة 11).
ويرسل رئيس مجلس الأمة إلى رئيس المحكمة العليا بعد ثلاثة أيام على الأكثر من تاريخ اختيار المستشارين أعضاء المحكمة العليا قرار الاتهام أو الإحالة مع صورة من محضر الجلسة التي صدر فيها والمداولات التي جرت بشأنه وتقرير لجنة التحقيق وجميع الأوراق والمستندات المؤيدة للاتهام وكذلك أسماء الأعضاء الذين انتخبهم المجلس ممثلين للاتهام أمام المحكمة. وفي حالة صدور قرار الإحالة من رئيس الجمهورية يرسل رئيس الجمهورية إلى رئيس المحكمة العليا بعد ثلاثة أيام على الأكثر من تاريخ اختيار المستشارين أعضاء المحكمة قرار إحالة الوزير إلى المحكمة، على أن يكون القرار مسببـًا مصحوبـًا بجميع الأوراق والمستندات المؤيدة للاتهام (المادة 12).
وتتولى النيابة العامة لدى محكمة النقض ومحكمة التمييز على حسب الأحوال إبلاغ المتهم صورة قرار الاتهام أو الإحالة وقائمة شهود الإثبات (المادة 13).
ويعين رئيس المحكمة العليا موعد انعقادها لنظر الدعوى، على أن يكون ذلك خلال ثلاثين يومـًا من تاريخ إبلاغ النيابة المتهم صورة من قرار الاتهام أو الإحالة وتقوم النيابة العامة بإبلاغ المتهم هذا الموعد وبالمكان الذي تنعقد فيه المحكمة قبل الموعد بثمانية أيام على الأقل، ويخطر رئيس المحكمة أعضاءها بالموعد المعين لانعقادها قبله بيومين على الأقل (المادة 14).
ووفق هذا القانون، فإن الحكم يصدر بالإدانة بأغلبية الثلثين ويكون الحكم نهائيـًا غير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن. على أنه يجوز إعادة النظر في الأحكام الصادرة بالإدانة بعد سنة على الأقل من صدور الحكم بناء على طلب النائب العام أو المحكوم عليه أو من يمثله قانونـًا أو أقاربه أو زوجته بعد وفاته (المادة 17).
وبعد أن انفضت الوحدة بين القطرين عام 1961 أوقف العمل بهذا القانون؛ لأنه قائم على أساس وحدة بين بلدين وبالتالي القضاء المختلط والادعاء المختلط، كما أنه لا يتوافق مع دستور ‏1971‏.
 ومنذ ذلك التاريخ لم يعد من الممكن أن يقدم أي وزير إلى المحاكمة إلا بعد خروجه من الوزارة، اللهم إلا إذا قرر رئيس الجمهورية أو مجلس الشعب ذلك.


وبلغ الأمر أنه عندما قيل لرئيس الوزراء سابقـًا أحمد نظيف في جريدة الحزب الحاكم السابق "الوطني اليوم" إن "الناس تسأل متى يظهر قانون محاكمة الوزراء"، رد نظيف بالإجابة التالية نصـًا "والله أنا لا أعلم ما هو قانون محاكمة الوزراء. وعندما أعرف أقول. وبعدين الوزير في الآخر هو شخص مثل أي شخص آخر في المجتمع يخضع للقوانين السائدة هو فرد في المجتمع بيخضع لكل شيء، لكن محاكمته كوزير موجود، في شكل المساءلة السياسية"[9]. وبالمثل سيكون من دواعي السخرية التعليق على الإضافة العبقرية لرئيس الوزراء الأسبق عندما قال بالنص: "هناك وزراء حوكموا بعد خروجهم من الوزارة، لكن قانون خاص لمحاكمة الوزارة أنا مش شايف له أي مبرر"!
ظلت الحال كذلك حتى عام 2007.


هوامش



[1] ياسر ثابت، محاكمة الوزراء بقانون منتهى الصلاحية، مصدر سابق.
[2] وزراء دفعوا ثمن يتردد أن‏!، مجلة "الأهرام العربي"، القاهرة، 10 يوليو 2004.
[3] صابر مشهور، أقدم وزير يفتتح موسم التحقيق مع الوزراء.. وغالي والجبلي على الطريق، جريدة "الشروق"، القاهرة، 3 سبتمبر 2010.
[4] ياسر ثابت، محاكمة المسؤولين في الوقت الضائع، جريدة "صوت الأمة"، 20 يونيو 2001، ص 7
[5] عبدالفتاح الجبالي، مرجع سابق، ص 70.
[6] محمد أمين، محاكمة الوزراء.. أم التجريس؟، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 20 يوليو 2010.
[7] عادل حمودة، أنا.. والجنزوري، أسرار معركة خفية في كواليس السياسة والصحافة، دار الفرسان، القاهرة، 2001.
[8] القانون 79.. قانون محاكمة الوزراء، القاهرة، 22 يونيو 1958.
[9] نظيف: والله لا أعلم ما هو قانون محاكمة الوزراء، جريدة "الفجر"، القاهرة، 14 أغسطس 2006.
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator