المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

طرفٌ من خبر الآخرة










حاول أنْ يقرأ حتى ينام، لكنه ازداد يقظةً

أخذ يقلِبُ صفحات الكتاب، ثم توقف عند الصفحة رقم 64

فجأة، أصبح للصفحة أبعاد، وخطفته إلى أعماقها المحفوفة بالمغامرة

جيشٌ من الأسئلة يدب بقوة كأنه عرضٌ عسكري أقيم في ساحة رأسه

ودوامات الكتاب تبتلعه، وتغوص به إلى حيث يرى ما لا يُرى

السقوط كان طويلاً كحصة رياضياتٍ مملة

يقع على أرضٍ ناعمة يشرئب عشبُها مثل كهرمان الجسد

ينهضُ، يتحسس جسده ليطمئن، لكنه لا يجده. يمر بجواره بشرٌ فيناديهم، لكنهم يعبرون جسده..يخترقونه، ولا ينتبهون إليه

وعندما تقع فوق أرض النهايات، تصبح كائناً غير مرئي

هو الآن يرى ما لا يُرى

هذا إذاً طرفٌ من خبر الآخرة

حمل حقيبته ومضى في طريقِه ليتأمل أحوال العابرين

يسير على سجادٍ لا يحفل بأقدام الحرير

آدمُ الجديد يقف على تخومِ الغيب ويسير على أطراف ذاكرةٍ تخطيء أحياناً


عاش طوال عمره وهو يبحث عن إجابةٍ لسؤالٍ شديد البساطة: لماذا تكتبنا الضغينة في دفاترها؟

ربما يجد الآن إجابةً

وتبدأ الرؤية، كأنها سفينةٌ تبحر بين مناراتٍ شحيحة

رجلٌ يسأل المرأة التي أغمضت عينيها عما تفعله. يتجلى فَجره في مرآتِها، فتقول ببراءةٍ: أحاول تخيل العالم في حال غيابك

يصهلُ البحر في صدره

في المكتب الضيق، تحتضن مندوبة المبيعات موظف قسم المشتريات لتشاغب رخام قلبِه، فقال لها: أحس بها تقترب..سألته بفضول: ما هي؟ رد وطيف ابتسامةٍ يرتسم على وجهه: إنها المتاعب

هي الروحُ المنذورة للغفوة

على مائدةٍ لا يزورها النادل، تطلب صاحبة الجسد الحليبي من الرجل أن يصارحها برأيه، فيقول بصوته العميق: إنني مثل لاعبي البوكر..أحب أن أكون اللاعبَ الأخير

كان يؤمن بقانون الجاذبية، ويثق في أن هذه الثمرة الناضجة ستسقط في حِجره..ولو بعد حين

الفتاة الجامعية التي تكاد تلامس أستاذها وتدغدغه بغدائرها ونسائمها وهو يشرح لها الدرس، تقول له: أجنُ فيك وأنت تحاور ألغازي..فكر قليلاً ثم أعطني رأيك. أجابها: الخبز الطازج أشهى..بل الآن

يهطل زعفران دمه محاكياً أطياف الاشتعال

تتحدث المراهقة إلى مستشارها العاطفي في البرنامج الإذاعي قائلةً: حبيبي كلامه رقيقٌ مع النساء.. يرد قائلاً: عندما تحب كثيراتٍ، فإنك لا تحب سوى نفسك

قارورة البعد تشكل خلاصة القُرب
تسأل أخرى: رجلي قديسٌ، لكنه لا يتشبث بأفق العاطفة الملتهبة..يرد صوتٌ عبر الأثير: الحياة دون حبٍ باردةٌ مثل المعلبات أو المواد المحفوظة

لم نسمع يوماً عن حبٍ ينام في الثلاجة، في انتظار إسالة الثلج الذي يحيط به

في قاعة الاستقبال التي تتلألأ بالأضواء، يسأل الصديق القديم: هل تحبينه؟ تجيب السيدة التي ترتدي قفازين من الجلد الأسود، وهي تنظر إلى الثريا التي تتدلى كالجبال المذهبة: ما زلت معه..تشاغل بفنجان قهوته وهو يقول في ارتباكٍ: يبدو أننا جميعاً "معاً" في هذه العلاقة

الطريق ضيقةٌ، لكنها تكفي قلبين




في عيادته الشهيرة التي تكتظ بالمنتظرين، يحاول الأب إقناع ابنته بدراسة الطب النفسي، لكنها قالت له إنها ستفتتح مع صديقٍ لها مدرسة لتعليم الأطفال فن الرسم

اختارت أن تتعامل مع صغارٍ يريدون أن يصبحوا كباراً، على أن تتعامل مع كبارٍ قرروا أن يصبحوا صغاراً

والكاتب يمشط جدائل الريح ويصب النهر في قنينة، مفكراً في صورة جنرال تشيلي المقعد أوغستو بينوشيت، الذي سحق الآلاف من الجماجم، لكنه ظل يحظى حتى آخر العمر بحماية وولاء الذين ساروا خلفه في دربِ القتل غير الرحيم واختاروا الحبو غير المقدس نحو فتنة القتل

ها هو المتمردُ يضرب ماء البحر، يشق طريقا للآتين

أمام منزلٍ يقع أول الشارع، وجد رجلاً يطرق على باب في هلعٍ قائلاً: افتحي ..افتحي‏‏‏..ورائي وقعُ أقدامٍ مشبوهة على الأرصفة

يتناهى إلى سمعه صوت بكاءٍ في الداخل‏‏‏

والغرقى يجدون بهجتهم تحت الماء

المرأة التي تجمع حاجياتها بما في ذلك التنورة القديمة التي ذهبت موضتها، تلوم الرجل الذي جلس على حافة السرير منهاراً، وتخاطبه قائلةً: أنت تشبه روائياً انتهى من مصائر أبطاله وتبرأ من روايته

تتركه في عطرها وتمضي

والقلبُ لحية معتقلٍ لا يعرف تهمته

فتى يقف بالحذاء المُغَبَّر الذي أنهكه المشي فوق صخرة، ويطل من شقٍ في الجدار على المطَلقةِ الوحيدة وهي تنزع المنديل الذي تضعه على رأسها، قبل أن تعيد اكتشاف كنوزها

تتلعثم نبتته البرية في المشي الذي يطول، بعد أن سرق قدراً كافياً من الحنين ليهز به هزائمه ليلاً

على أريكةٍ خشبية قديمة في المتنزه يجلس عاشقان بعد أن توغلا بين الأشجار العارية التي باغتها الخريف. يحدق في الساعة التي تجمدت عقاربها منذ أول لقاءٍ معها، وهي تهز ساقها في توتر، ثم يبرمان اتفاقاً: الضرب ممنوعٌ، إلا إذا كانا يمارسان الحب

وعاشا في سلامٍ وسعادة بعد ذلك

مدير الشركة يصطدم بابتساماتٍ زائفة ونظراتٍ لزجة في البهو، فيشعر بأن الحاجة ليست أماً للاختراع.. بل للذل

هكذا في الصدارة، الأشياءُ التي لا تُذكر

وحده الرجل الذي يزوج قلبه للأفراح، يعرف كيف يسيلُ القمر الصيفي على السطح

تقول له الفتاة العابثة: لعينيكَ أطلي أظفاري..ولظهركَ أُطيلها

مرتعشٌ هذا الشوق كشهقة عانسٍ في عُرس

الدرسُ الأول الذي تلقاه من جارته المجرِبة: المرأة لا تحب الرجل الذي يتذكر ثوبها وينسى حياتها

جسم المرأة قيدٌ، لكن روحها فضاء

هكذا نبعثرُ ذهب المساء




اثنان يرميان أعضاءهما مثل النرد فوق السرير، قبل أن تنتهي الجولة الساخنة بقبلةٍ باردة على الجبين

كم نكتشف متأخرين أن الليل ومضةٌ

الأب الذي ينام قرير العين، ينسى أن يد الصبي التقطت مفاتيح السيارة..والمغامرة

سيذهب مع أصدقائه للتعلق بِسُترة الموت، وارتشاف كؤوس المسرة

سقفاً وراء سقفٍ، ينهار النهار

طاغيةٌ شقراء، تفرض بخناجر شهوتها حظر التجول وتعلن حالة الطواريء في شوارع الجسد

بحث الرجل عن منديلٍ أبيض ليعلن استسلامه، لكن القدر باغته والقبلات لم تمهله

برج الحمام يعلو هامة الهاوي الذي يراقب لوحة الطيور في سماءٍ تنعم بخفق الأجنحة. يتخيل كم سيكون رائعاً أن يدهش الكون ذات يومٍ بتحليق روحه

لكلٍ منا خلودَه المتواضع

البعيدُ يخط بيده رسالةً إلى القريبة: "ربما أجد الشجرة التي قطفنا منها وردةً ذات ليلة قد رحلت عن الطريق وشعرت بأن المكان ليس من مقامها

"ربما أجدها نالت تأشيرةً إلى الجنة لأنك لمستِها بيديك"

والرسالة أمنيةٌ..على مرمى حريق. وفي المدن القصية، نلبس أحياناً قميص الأمل تحت الجسد

قالت لصديقتها إنها مسافرةٌ..فقد حصلت أخيراً على تأشيرةٍ، لاختبار جسدها في قارّة بعيدة

تسربَ الزمنُ بين يديها..سارت فوق حقول الملح، وهدمت حصنها الجميل لتسقط في فخ اللحظات الزائفة

يسمع العدمُ رنة خلخالِها، والأرضُ عصفورةٌ تنزفُ


في الصباح الباكر، تصلب الأم ابنتها في زيها المدرسي الأزرق، وتقابل تأففها وتذمرها بالحزم اللازم، كي تعقص لها شعرها، بقسوة كفين مدربتين على جدل الضفائر

تشَدُ شَعْرَهَا بِشَرِيطَةٍ تمارس سلطتها على صفوف الذُرة

يوماً ما، سيتسلق أحدهم تلك الضفيرة، ليعتصر الضحكات القانية، فتقول له صاحبتها: مُد يدك، وازرع سيفك في الجُرحِ المراهق

لا أحد يمكنه وصف طَعمِ الفؤادِ في فم الأشواق

العابرُ يعزف على نايه الحزين لحناً يتردد كالصدى: علينا أن نحلم..كي نصبح واقعيين

والأحلام هدايا يجب أن نعرف قيمتها حين نستيقظ

فلا تؤجل حلم اليوم إلى الغد

دائماً، توجد أزرارُ أملٍ يتعين أن نضغط عليها لنطرد ظلام اليأس

الركاب يترجلون من الحافلة العامة، باحثين عن وسيلة نقلٍ أسرع لتقودهم إلى حيث المحطة الأخيرة. وفي غمرة اندفاعهم نسوا ملامح المحطة التي توقفوا فيها

في لحظةِ ما قبل الدفن، ندرك كم تعبنا لندرك الموت

الحارسُ الليلي يخبره بأنها ستمطر بعد قليل..الرذاذ يملأ عينيه، وحين يفركهما يكتشف أنه يجتاز الآن فاصل البنايات التي تحيط بالحي الذي يسكنه

في يده حقيبةٌ غامضة، تكاد تخلع كتفه

عالمه كما هو، لكن كتابه ذا الغلاف الأنيق مفتوحٌ على صفحتين سرق أحدهم سطورهما

رمى حقيبته في أقرب سلة مهملات..كانت مملوءةً بالشجن

تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة 5: تضليل الألم





هذه سيرةٌ ذاتية لروائية تواجه أشباحها بالكتابة

والنصلُ الذي يلمع في العتمة، يضيء لك وجه قاتلك

"دارية" هي الراوية الأولى للأديبة د. سحر الموجي..وكعادة الأعمال الروائية الأولى فإن بها أطيافاً لا تخطئها العين من السيرة الذاتية، اختلطت بأرض الخيال والندى

تقول د. سحر الموجي إنها لم تكن تفكر وهي تكتب هذه الرواية إلا في "سحر": "كنت أقتلُ أشباحاً لا أحبها وأعيد للحياة أشباحاً لهم أمكنةٌ في قلبي. لكن مع انتهاء النص كان التوازي مع تجارب العديد من النساء جلياً". وعن تجربتها الإبداعية تقول: "ألقي أشياءً وأستبقي أشياء، وأتعرف على نفسي. وكان لدي إدراكٌ دائم أن تكون قصتي هي قصة مليون سيدةٍ تعيش تحت الركام، تحت قشرة خارجية تتخيل أنها حقيقتها"

الكتابة عندها اكتشافٌ لمناطق الذات المعتمة، لكنها في الوقت نفسه ألمٌ مبرح لا يلبث أن يطالبك بدفع ثمن الاختلاف.. ثمن الوعي

ثمنٌ تقول الكاتبة والمذيعة والناشطة النسائية، وأستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، إنها "دفعته راضيةً بكامل الوجع. تركت ورائي نصف عمري الأول، وفي منتصف الثلاثينيات كنت طفلةً تتهجى أبجدية الأشياء. أستكمل عملي في الجامعة ودراستي للدكتوراه وتفحصي لتلك الذات التي بدأت تتكشف رويداً..وأنزف..وأخطو على تلك الدروب المتوازية المتقاطعة. وكانت رواية "دارية" هي تلك المساحة البيضاء التي نزفت دمي وملحي فوقها"

لابد هنا أن نوضح وجه الاختلاف بين السيرة الذاتية، ورواية السيرة الذاتية..فالنوع الأول يروي قصة حياة المرء التي يتذكرها، ولذلك تكون خاتمة لحياة شخصٍ معروف؛ لأن الشهرة والمعرفة المسبقة بصاحبها شرطٌ ضروري للإقبال على قراءتها

أما رواية السيرة الذاتية فعملٌ فني متخيل ينهض على أحداث ووقائع من حياة صاحبه مهما كان مغموراً وبغض النظر عن عمره. لكن هذا الاختلاف بين السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية لا ينفي أن بينهما تشابهاً بدهياً، مردّه أنهما يستندان إلى تذكّر خاصٍ لوقائع وشخوص من حياة الكاتب. وتلك هي المشكلة: أنهما معا يقعان في المنطقة التي تفصل بين الخيال والحقيقة

لكن ماذا عن "دارية"؟

إنها قصة امرأةٍ لها من اسمها نصيب. منحها أبوها هذا الاسم لأنه كان يريد ابنةً فاهمة ودارية. أعجبه الاسم الذي صادفه في الهند، لأنه يرمز إلى نهرين في آسيا الوسطى: "أمو داريا" و"سير داريا". كما أن داريا في اللغة الروسية تعني: هبة

تنقسم الرواية (الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، 1999) إلى أربعة فصول، الأول بعنوان: "في محارة الروح" ونتعرف فيه على دارية التي تبذل قصارى جهدها كي تضفي لمساتٍ دافئة وروحاً مبتهجة على منزلها البسيط..في حين يظهر "سيف" آخر -غير "سيف ماضي" زوج بطلة رواية د. أهداف سويف "في عين الشمس"- هو زوج دارية الذي يتسم بصفات الزوج النمطي الذي يستهزيء بجهود وطموح الزوجة الباحثة عن الحرية وعن كيفية تحقيق ذاتها

في أول سطرٍ من الرواية تضعنا الكاتبة على خط المواجهة: "تأزمت علاقة دارية وسيف. كان واضحاً منذ البداية أنه لا يوجد ما يربط بين هذا الرجل وتلك المرأة". ويتبين لنا أنه "لم تكن المواجهة من طبائع دارية. لا لشيء إلا لكونها لم تكن تعرف. لكن في سنوات زواجها الأولى من سيف لم تكن تعرف أنها لا تعرف"

لم يكن من السهل عليها "أن تدرك أنها عروسٌ ورقية مجوَّفة من الداخل، يملؤها هواء، تتطاير فيه لحظات حنينٍ مجهولة المصدر - غير محددة الهدف- تنتابها أحياناً عندما تختلي بنفسها في ظلام شقتها في ضاحية "15 مايو" في ليالي الصيف الحارة"

لقد قضت دارية السنوات الأولى من زواجها في حالة حبٍ مصحوبةٍ باعتذار دائم. كان سيف يحاسبها ويلومها على كل شيء وأي شيء، وكان يوجهها بالمنطق نفسه الذي يوجه به طفلة السنوات الأربع. يخبرها دائماً بأنها لا تفهم الحياة ولا تعرف كيف تتعامل مع الآخرين

"بلعت دارية غصة عدم الفهم ونامت"

الغريب أننا نواصل تضليل الألم بالغناء والرقص والحكايات القديمة، والضحكات الممزوجة بطعم السخرية

وفي ظل محاولة البطلة الانعتاق والتحرر، نجدها ترى في المنام حلماً غامضاً يتلخص في "جسد رجلٍ طويل نحيف. ملامحه مطموسة في رحم العتمة. منبعثة منها. وجهه ناحيتي. أدقق. له وجه حيوان. لماذا يخترقني نصل نظرته على البعد بهذا الشكل الوحشي؟ ماذا يريد مني؟"

لكن دارية تستيقظ على واقعها اليومي وانشغالها بعملها في المدرسة ورعاية طفليها أمينة وجاسر. هذه المسؤوليات المتراكمة لم تكن لتخفي عنها حقيقة جوهرية: بين مدِّ الروح وجَزْرِها ترقد محارةٌ وحيدة حُبلى بالأسرار

ووسط مشاهد خلافها الفكري مع زوجٍ ليس راضياً عن أفكارها وطموحاتها الثقافية وأصدقائها، ترجع دارية إلى مدينة الحلم، والرجل الذي بدأت تتشكل وتتحدد ملامحه: فتى أسمر جنوبي الملامح. الشعر متوسط الطول، متروك بلا تمشيط في شكلٍ تلقائي. "عندما أتأمل هذا الوجه عن قربٍ ينتابني إحساسٌ بألفةٍ قديمة". بل إننا نجده يلقى مباركة الأب في الحلم. ذلك الأب الذي نراه مثقفاً يحاول مساعدة ابنته على معرفة ذاتها وصقل شخصيتها

تتكرر أحلام لقاءاتها وحواراتها الدافئة مع الفتى الأسمر. ثم نقرأ حواراً عنيفاً بين دارية وسيف، قبل أن يطلبها بنبرةٍ حازمة في الغرفة. "ذهبت إليه بعد أن التفت حول نفسها. داخل محارة الروح، جلست تشاهد دارية، مصلوبة فوق مسامير الألم. تنزلق بطول جسدها خطوط دم الاغتراب، وتتخثر. تسقط المحارة في هوةٍ معتمة. ينقبض قلب دارية. ينسحب تجاه قلب المغناطيس. تنتظر لحظة الارتطام"

ولأن سيف حدد لها مساحتها وحجمها: "أنا عايز زوجة وبس"، تتمزق الأوتار المشدودة تحت وطأة الحصار المفروض عليها، فتتمرد. تقرر دارية مغادرة بيت الزوجية والانعتاق من قيود "السيف"؛ ليبدأ الفصل الثاني من الرواية ويحمل اسم "آلهة بيضاء"

وفي هذا الفصل يبدأ الصراع الداخلي بين المرأة الباحثة عن شخصيتها، والأم التي تشتاق إلى طفليها البعيدين عنها، قبل أن تقع عيناها على "قصيدة حب" لريتشارد بروتيغان:

"جميلٌ جداً
أن تستيقظ في الصباح
وحيداً تماماً
دون أن يكون عليك أن تقول لشخصٍ ما
إنك تحبه
في حين أنك لم تعد تحبه"

تنطلق دارية باحثةً عن كيانها وتستكشف قدراتها الإبداعية وتشق طريق الدراسة لنيل دبلوم النقد الفني. في بيت أبيها تتألق صورة الرجل الناضج الذي يأخذها في زيارة لمصر الإسلامية في الساعة الثالثة فجراً، ويحدثها: "عارفة يا دارية. كل يوم بيأكد لي أن مصر سِتّ شديدة. عَفِيَّة ووَلاّدة. رغم كل ظروفنا الصعبة كشعب، لازم تلاقي ناس بيجري في عروقهم دم عبد الله النديم وسعد زغلول وفؤاد حداد وفلاحين دنشواي وهدى شعراوي"

يواصل سيف ضغطه على دارية ويبتزها بالطفلين ورؤيتهما في "منزلهما" تحت إشرافه. يسيطر عليها شعور بالمهانة والإذلال عندما تدخل منزلها ضيفة ثقيلة. وحين يأتي سيف للقاء والدها في محاولةٍ للتصالح وفق شروطه، تخرج إليه لمواجهته في حوارٍ قاسٍ:

"أنا هأقولها لك قدام أبويا. أنت أعصابك اتحملت إنك تاخد جسمي بدون موافقتي. قبلت تنام مع جثة يا سيف
-وهو فيه اغتصاب في الجواز. أنا سألت شيخ..
-مين اللي نام معاك.. الشيخ والاّ أنا؟"
نقطة فراق جديدة

وكم ينظر الشوكُ بشماتةٍ إلى عنق الوردة المقطوعة

إن عدم الموافقة على الانزواء داخل سياج الزوج، وارتباط الزوج بنظرة خاصة عن المرأة أو الأم جعلا "دارية" تبدأ في الاندماج في نسقٍ آخر يحقق لها ارتعاشة الروح وخصوصية الذات، من خلال الحلم بحيث تبدو قادرة على الفعل والمغايرة. وهذا التنافر ينقلنا بالضرورة إلى المرحلة الأخيرة، من مراحل تشكل الذات بعيداً عن الآخر، والتي يمكن أن نسميها مرحلة الاكتمال. وقد جاءت هذه المرحلة في نسق الرواية تحت عنوان "مُهرة"، مما يشي بحرية الحركة دون وجود الفارس الذي يلجم هذه الحرية في إطار أعراف وتقاليد يرتضيها

و"مُهرة" هو الفصل الثالث من الرواية، وفيه تبدأ رحلة دارية لألمانيا في إطار بعثةٍ دراسية. وفي ألمانيا تحلم دارية بطفليها، وبالنوم مع سيف: "سيف راقدٌ على مرتبةٍ على الأرض. يدعوني، أنظر إليه..أقترب بنصف حماس، نخلع ملابسنا بطريقة آلية.."

وفي قاعة هامباخ، حيث يقام معرض للوحات التشكيلية، تلتقي أحمد نور الدين الفنان التشكيلي النوبي..إنه الوجه الأسمر الحلم القديم والمتكرر لدارية، التي تفاجأ في معرضه بلوحة "مُهرة"..هي ترى فيها ذاتها، والفنان يراها أخته وفاء التي مرت بظروف زيجةٍ مماثلة. وبوتيرةٍ متسارعة، تنمو العلاقة بين دارية ونور الذي يرسمها بنصف وجه لبؤة..ويقول لها شارحاً: "أنا بأرسم الحيوانات اللي بأشوفها في الناس اللي بأقابلهم"

وعلى خلفية بحيرةٍ بالقرب من جرمارسايم، أخذ يرسمها ويناقشها، قبل أن يجذبها من يدها داخل ماء البحيرة. "تضحك. تستغرب ارتعاشة جسدها عندما يداعبه الماء. تلفتت حولها. شعرت بكتفيه أسفلها. رفعها فوق سطح البحيرة. ثم قذف بها إلى الخلف. فتصرخ ضاحكةً وجسدها يرتطم بالماء


"نور، أنت مجنون بجد!"

وتتواصل طقوس ممارسة الحب

"تشق الماء من خلفه، ملقيةً ذراعيها حول خصره، ورأسها ملتصقٌ بسمرة جلد ظهره البُنِّي. تدس أنفها في خصلات شعره المبتل. تستنشق. يبقيان على هذا الوضع حتى تهدأ أنفاسهما تدريجياً. عندما يفك يديها من حوله، ويستدير يواجهها، ترى العينين السوداوين الصغيرتين نفسهما، تخترقانها وتغوصان في العمق. يقطر منهما الماء وصهيل العشق. ترفع وجهها إليه، وعيونهما مغمضةٌ

"ليذهبا

"وترتعش أشجار السرو على حافة استدارة البحيرة"

ثمة رغبات لا يمكن أن تتغير طبيعتها الهاجمة. شهواتٌ ترفض أن تكون شيئاً ألطف. وجوهٌ تعرف أنك لن تقدر على النظر إليها، مهما نظرت، سوى من فتحة الشبق الحارق

تتصاعد العلاقة مع نور، ثم ترجع دارية إلى مصر ليبدأ الفصل الرابع من الرواية. إنه فصل "سِخمِت" إلهة القوة والحرب وإلهة الخصب والنماء المصورة على هيئة لبؤةٍ متعطشة للدماء

يبدأ هذا الفصل بزيارة دارية لمدينة 15 مايو لزيارة طفليها وحضور حفل عيد ميلاد أحدهما وبعد عودتها تدخل في عالم الحلم، حيث تحمل طفلاً لنور وتفكر في زواجها منه. وفي اليقظة تذهب لزيارة نور على سطح منزل قديم، فترى اللوحة التي رسمها لها بوجه لبؤة وسماها "نفتيس حاملٌ في قصيدة"

وفي الحلم، تسيطر عليها المخاوف والهواجس: إنها عروسٌ بساقٍ محروقة

وها هي تبكي في صمتٍ، تنتظر نبياً ينقذ عالمها، وتتطلع إلى الطلاق من سيف المتعنت الذي يرسل لها إنذاراً بالطاعة. وأثناء زيارته لمصر، تذهب دارية في رحلةٍ مع نور إلى المنيا..ومن ضفاف بحيرة في ألمانيا، إلى ضفاف نهر النيل، تمتد جسور المحبة. وفي المنيا تُعمِّدُ نور بماء النيل وهي تتلو أسماء الآلهة الفرعونية القديمة: "أُعَمِّدك بالماء المقدس الإلهي وبقوة الحب الإلهي. بوجه أوزوريس ابن نوت وروح إيزيس وجوهر ماعت الكامن فيك"

مرة أخرى، نلتقي مع دقة وروعة تصوير مشهد ممارسة الحب داخل عشةٍ على النيل
إنه الاشتعال الذي لا يستأذن أحداً

"ركعت دارية أمامه. تلاقت عيونهما. مرَّ بفرشاة أنامله فوق جبهتها العريضة، عظام وجنتيها البارزتين، أنفها الدقيق وشفتيها المرتعشتين، كأنه يعيد خلق ملامحها. تغمض عينيها على رقة أصابعه، فينتقل صخب الحياة في العالم خارج العشة إلى المسافة الفاصلة بينهما. لا تفتأ تضيق حتى تتلاشى. تقف عقارب الزمن، ويرين هدوءٌ يتردد فيه صوت أنفاسهما وتتاليات ارتطام الماء الرفيق بطمي الحافة اللَّدن. تنظر إليه أسفلها. تلتحم عيونهما وشعرها البري ينسدل، فيحتوي وجهها الطفل. تتساقط بلورات الملح الشفافة من عينيها فوق شفتيه، فيبتلعها. تتسلل إلى أنفها رائحة عرقه الحميمة. تتكثف مع هدير الجسد. يعلو موجة مد العشق، ويعلو، ويلتحم العصفور بوهج الشمس، فيتطاير الزغب الأبيض
"ويشق نصل صرخة الروح قلب السكون، ونور يشد جسدها المنتفض إليها. يلملمها
"ينبعث صخب العالم مرة أخرى إلى الحياة. يعود الزمن إلى دورته، وروح دارية ترتج بنشيج التحقق المكتوم، والخوف من الفقد. تحيط رأس نور بذراعيها وتشده إليه، كأنها تريد استعادة وجوده الأول داخل رحمها، عندما ترفع وجهه إليها وتقَبِّله، لا تعرف إن كان طعم ملح وجهه على شفتيها عرقاً أم دموعاً. لا تسأل
"متداخلان. ناما بعمق البراءة الأولى"

ورسائل البرق، من يمزقها..قبل أن تصل الأرض؟

ومع أنها تهدي ديوانها "إلى نور، عتمة حلمي"، فإن الصراع يتصاعد بين نور ودارية التي تحاول اكتشافه..ثم يتبين لها موقفه: "أنا فنان. كائن حر". إن هذا الرجل الذي يقرض أظفاره دائماً يختار الفن ويهرب

و..فهمت دارية

إنها تنجح في امتحان دبلوم النقد الفني، لكنها تفكر في نور وتتصل به باستمرار: "كلما ظنت أنها قد استأصلت ورم العشق، تراه ينمو من جديد. ينتشر في خلاياها، بلا إذنٍ منها، ويستشري. ونور يتباعد. يمضي في طريقٍ مرسومٍ سلفاً. لا يحيد. "مشغول، مريض أو مسافر، سأذهب إليه"

غير أن الزيارة المفاجئة تنتهي بحوارٍ أخير بينهما:

" - أنا فعلاً بحبك يا دارية. علاقتنا لسه بتبتدي
- لكن أنت حاطط لها نهايتها مقدماً. نهاية كلاسيكية جداً. دارية دلوقت. مين كان قبلها. ومين جاي بعدها. صعب أني أقبل أكون مجرد حكاية من حكاياتك"

تلملم دارية بقايا الملح الذي يكوي جرحها ويطهره. وتحلم بوجودها قرب ضفةٍ، ثم تخترق غابةً، وتصعد فوق صخورٍ خشنة، وسرعان ما تكتشف جمال تكوينات صخور الجبل

تفتح عينيها ورائحة زمنٍ آخر تهدهدها

وفي السطور الأخيرة للرواية، تفتح زجاج النافذة، وتشم رائحة زهر الليمون ينفض من فوقه رمال الخماسين الصفراء..وعبق الياسمين الهندي، يتشكل حروفاً وكلمات
"أسحب من جانبي ورقة بيضاء، وقلماً، وأكتب"
ربما كان الحب هو أن تحرق قلبك في رماد عشق إنسانٍ ما.. قبل أن ترحل آكلاً عشبك

تابع القراءة

gravatar

أنور السادات ممثلاً (2): الهنكرة والمنكرة


أجاد أنور السادات مختلف الأدوار التي لعبها، حتى وإن بدت للبعض أدواراً متناقضة.

وقبل اندلاع ثورة يوليو تموز عام 1952، أدى دور الخائن حيث انضم إلى الحرس الحديدي وهو التنظيم السري الذي شكله الملك فاروق لتصفية خصومه وحمايته الشخصية. ولعب السادات دوراً من أفلام الجاسوسية مع الراقصة حكمت فهمي ضد الإنجليز لمصلحة الألمان، إذ حوكم في أكتوبر تشرين أول عام 1942، بسبب علاقته بالجاسوسين الألمانيين إبلر وساندي، وطُرِدَ من الجيش وسجن، إلى أن تمكن من الهرب والاختفاء. وعمل أثناء فترة "الهروب الكبير" في مهنٍ مختلفة، منها حمَّال وسائق، وكان يتخذ لنفسه في كل بلدةٍ ينزلها صفة وشكلا مختلفًا، وربما ساعده على النجاح هوايته القديمة للتمثيل.

ظل اسم أنور السادات بعيداً عن الأضواء حتى عاد إلى الظهور مرة أخرى عام 1946 في دور مختلف، عندما اتهم في قضية اغتيال أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد وأحد كبار المؤيدين لبريطانيا، فقفز اسمه إلى الصحف، وعلى إثرها قبض عليه ليقضي في سجن القلعة سنتين ونصف السنة، منها عام ونصف العام وحيداً في الزنزانة "54"، ثم حُكِمَ ببراءته عام 1948. وأثناء فترة حبسه هذه بدأ يمارس الكتابة الأدبية، خاصة الساخرة منها.

وقد عرف بخفة ظله وافتخر بها، وكثيراً ما كان يطلب منه أصدقاؤه أن يقلد لهم صوت قادة الجيش، ومشاهير الممثلين. وهو يذكر في كتابه "30 شهراً في السجن" أنه أصدر مع بعض رفاق السجن صحيفة "الهنكرة والمنكرة"، بل وقام مع بعض المساجين بعمل إذاعة داخل السجن، وقدم بنفسه فقرتين، وكان يكتب في لوحة إعلانات السجن برنامج اليوم، ومنه:

الساعة 6.00 حديث للأطفال للمربي الفاضل بابا أنور
الساعة 11.00 أغنية حديثة "للمجعراتي المتسول" أنور السادات
ومن أغانيه التي أوردها في كتابه (ص 57):
"أنا جيت لكم والله يا ولاد ... أنا أحبكم قوي قوي يا أولاد
أنا جيـت لكـم أنا جيت ... والاتهامـات آخـر لخابيط"

لم يجد السادات حرجاً أن يكتب هذا الكلام في مذكراته وكتبه، ومنها: "قصة الثورة كاملة"، و"صفحات مجهولة من الثورة"، و"يا ولدي هذا عمك جمال"، و"البحث عن الذات"... إلخ.

وبعد خروجه من السجن بفترةٍ، عمل صحفياً محترفاً في صحف دار "الهلال" و"المصور" ونشر مذكراته في السجن بها، كما نشر بعض القصص القصيرة، واستمر يعمل بتلك الدار في حين كان يحاول باستماتة شديدة العودة للجيش ثانية.

استعان بيوسف رشاد طبيب الملك الخاص، فأشار عليه بأن يلقي بنفسه على يد الملك ليقبلها أثناء صلاة الجمعة في مسجد الحسين، وفعل السادات وطلب الصفح فأجاب الملك بهزةٍ من رأسه، وفي العاشر من يناير كانون ثانٍ عام 1950 كان السادات في مكتب وزير الحربية محمد حيدر باشا الذي وبخه وانهال عليه بالسباب قائلاً: "أنت ولد مجرم..تاريخك أسود.. ولا داعي للكلام"! ثم دق الجرس ودخل كاتم الأسرار فقال له: "الولد ده ترجعه للجيش النهارده"!..وصدرت النشرة بعودة السادات إلى الجيش اعتباراً من الخامس عشر من يناير كانون ثانٍ عام 1950برتبة يوزباشي، لتستقيم الحياة للسادات ثانياً.

وفي شهادته، يروي السفير جمال الدين منصور ­أحد مؤسسي "الضباط الأحرار" أن السادات التقى الدكتور يوسف رشاد ­ قائد الحرس الحديدي­ بعد خروجه من السجن، وأحاطه الأخير برعايته وأعطاه مبلغ ألف جنيه ليساعده في تدبير أموره، وأصبح عضواً في الحرس الحديدي..وكان حسن التهامي وحسن فهمي عبد المجيد وخالد فوزي أعضاء معه، واشتركوا في الاعتداء بالقنابل والرشاشات على منزل زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا في جاردن سيتي تنفيذا لتعليمات الملك.

وعندما روى جمال الدين منصور ما يعرفه عن هذه المسألة أمام جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين، قال عبد الناصر في حدة: "أنا حأعرف إزاي اكشفه"!. وبعدها في أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة كشف عبد الناصر عن حقيقة انتماء السادات إلى الحرس الحديدي، وبذلك طواه تحت جناحه.

وهناك الوجه الآخر للقصة كما يرويها أنور السادات نفسه في كتاب "البحث عن الذات"، إذ يقول: بعد حريق القاهرة اتصلت بيوسف رشاد ­وكان صديقاً شخصياً للملك ويرأس جهاز المعلومات الخاص بالسراي، ووجدته يأخذ كل ما أقوله أمراً مسلماً، وإذن الطريق مفتوحٌ لتضليل الملك وتخديره. وكنت أقدم له معلومات خاطئة وعندما يعرض علي منشورات الضباط الأحرار كنت أوهمه بأنها من خيال ضابط معروف بحب التظاهر، وعندما كانت تصل إليه بعض الحقائق كنت أعمل على تصويرها بأنها أكاذيب ومبالغات.. وكنت أسعى للتعرف على أخبار الملك وخططه ونواياه..وعرفت بشعوره أنه لم يعد له مكان في مصر".

ثم ظهر السادات في دور الضابط الوطني، فانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، قبل أن ينجح في رسم ملامح دوره الجديد في ظل جمال عبد الناصر، وهو دور التابع الذي يوافق دائماً، فتمكن من البقاء في حين التهمت الثورة أبناءها واحداً بعد الآخر.

والغريب أن أحد أصدقاء السادات المقربين وهو د. محمود جامع يروي أن "السادات كان يكره ناصر لأنه اعتاد تهميشه ولم يعطه حقه في تولي المناصب القيادية حيث لم يدخله في التشكيلات الوزارية المتعاقبة واكتفى بتعيينه في مناصب ثانوية كوكيل لمجلس الأمة تحت رئاسة عبد اللطيف البغدادي الأقل عطاء وخبرة وموهبة من السادات. وقد قبل السادات المنصب على مضض وهادن عبد الناصر رافضاً الاصطدام به، وبخبثٍ شديد منح عبد الناصر توكيلاً شفهياً بالتصويت نيابة عنه حسب رؤيته وقراره قائلاً: "صوتي دايماً في جيبك يا ريس أنا موافق بلا قيد ولا شرط".

كان حلم الطالب أنور السادات أن يكون ممثلاً، لكنه لم يكن يعلم أنه سيقف يوماً على خشبة أهم مسرح في الشرق الأوسط ليثبت موهبته التمثيلية: رئاسة مصر.

وهكذا، أصبح السادات وعدسات المصورين صديقين لا يفترقان، ورسم الرجل لنفسه أكثر من شخصية ودور، فهو في بعض الأحيان كبير العائلة الذي يتحدث عن العيب وأخلاق القرية ويخاطب شعبه بقوله "يا ولاد"..فكلهم في رأيه أولاد. وكان يحب إجراء حواراتٍ خاصة من قريته ميت أبو الكوم، مع المذيعة التليفزيونية همت مصطفى فيحكي لها عن رحلته من القرية إلى السلطة وهو يخاطبها أكثر من مرة بقوله "يا همت يا بنتي" مع أنها كانت لا تقل عنه في العمر بأكثر من ثمانية أعوام.

وكان يرتدي الجلباب البلدي للفلاح المصري في ميت أبو الكوم ويجلس على المصطبة ليؤكد أنه فلاح ديمقراطي، ثم يخلعه ليرتدي زي القائد الأعلى للقوات المسلحة، وعندما يغضب تتغير ملامح وجهه ويتحدث صارخاً عن أن "الديمقراطية لها أنياب" ويتوعد خصومه بأن "يفرمهم".

وكان غضبه أشد ما يكون حين يخرج أحدهم على النص الذي رسمه هو، إذ يشعر بأن من قف أمامه في لحظات المواجهة شخصاً يتحدى دور البطولة الذي أسنده إلى نفسه، أو أنه يريد أن يسرق الأضواء منه..وعندها تجده يثور على خصمه صارخاً: "الزم مكانك"، وهنا يقوم بدور المستبد الطاغية؛ فعل هذا مع عبد المنعم أبو الفتوح نائب رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة آنذاك في واقعةٍ مشهورة، وتكرر الأمر مع حمدين صباحي الذي قاطع السادات في مدرج جامعة القاهرة.. حمدين كان يدافع برومانتيكية عن عبد الناصر.. رومانتيكية استفزت السادات وجعلته يصرخ في هستيرية مشهورة عنه: "عيب.. عيب". وفعل السادات مثل ذلك مع عمر التلمساني مرشد جماعة "الإخوان المسلمين"، ومع النائب كمال أحمد زعيم الشباب الناصري الذي مزق أوراق اتفاقية الصلح مع إسرائيل وهتف في وجه السادات "خيانة..إنها خيانة، ومن وافق عليها خائن".

وقبل أن يظهر أمام الكاميرات، كان السادات ـ كأي ممثلٍ عريق ـ يستوثق من كل شيء، بدءاً من الملابس وانتهاءً بالإضاءة والإكسسوارات.

في كتابه "خريف الغضب" صور محمد حسنين هيكل السادات بالشخص العاشق للكاميرات والتمثيل والمقامر بمصير البلد والذي يضع البلد رهناً للحظة متعة أمام الكاميرات وذلك في مشهد أشبه بالفيلم السينمائي وهو يزور القدس ويخطب في الكنيست ولا يشغل باله وتفكيره غير صورته أمام العالم.

ويصف هيكل هذا الجانب من شخصية السادات بقوله: "كانت مشكلة السادات أنه ابن عصر التليفزيون، لم يستطع مقاومة إغراء الإفراط في استغلاله، لقد كان أول فرعون في تاريخ مصر جاء إلى شعبه مسلحاً بكاميرا. وكان أيضاً أول فرعون يقتله شعبه...وعندما اختفى وجهه عن الظهور على شاشات التليفزيون بدا وكأن أحد عشر عاماً من حكمه قد تلاشت بلمسة على زر..إن السادات "الهارب" أصبح السادات "الحالم"، والسادات "الحالم" تحول إلى السادات "الممثل". ففي معظم حياته كان السادات يمثل دوراً في كل مرحلة وفي بعض المراحل كان يمثل عدداً من الأدوار في نفس الوقت. إنه لم يكف أبداً، ولم يخف على أي حال انبهاره بالتمثيل وغرامه به، وإن فضل دائماً أن يخفى الأسباب التي دفعته إلى انتحال شخصيات أخرى غير شخصيته الحقيقية".
لقد استفاد السادات من هذا الخلط، بين السينما ورئاسة الجمهورية. فوظف السادات موهبته في التمثيل في خدمة دهائه في السياسة، ووظف الاثنين معاً في خدمة طموحاته، غير أن الثمن كان باهظاً لأنه كلفه حياته.
لقد بدأ دور السادات على المسرح السياسي في السابع من أكتوبر تشرين أول عام 1970، عندما ألقى خطابه في مجلس الأمة بعد ترشيحه لمنصب الرئيس، فتعهد للمصريين بأن يلتزم بالناصرية عقيدة وسلوكاً: "لقد جئت إليكم على طريق عبد الناصر وأعتبر ترشيحكم لي بتولي رئاسة الجمهورية، هو توجيه بالسير على طريق عبد الناصر، وإذا أدت جماهير شعبنا رأيها في الاستفتاء العام "بنعم" فإنني سوف أعتبر ذلك أمراً بالسير على طريق جمال عبد الناصر، الذي أعلن أمامكم بشرف، أنني سأواصل السير فيه على أية حال، ومن أي موقع".

ثم أضاف قائلاًَ: "..لقد وضعت لتفكيري كله قاعدةً واحدة: هي أن أبدأ كل تصرفٍ بسؤال محدد هو: ماذا كان يطلب منا لو أنه كان ما زال بيننا، وكنت على ضوء معرفتي به، رفقة ثلاثين سنة، وزمالة نضال ومعركة وراء معركة، وفهم صديقٍ لصديق".لقد استغل السادات وفاة عبد الناصر وقدم نفسه في صورة الوريث المخلص لقائده الراحل، حيث قام بتقبيل يد وجبهة عبد الناصر وانخرط في بكاءٍ متواصل فسره البعض بأنه تعبير عن تقدير ورد لجميل الرجل الذي وضعه علي بعد خطوةٍ واحدة من مقعد الرئيس.
وفي واقعةٍ ثانية انحنى بشكلٍ درامي أمام تمثالٍ نصفي للرئيس جمال عبد الناصر وضِعَ في بهو مجلس الأمة المصري بعد وفاة الزعيم الراحل. وعلى الرغم من أنه لا انحناء إلا لله، فإن السادات حمل لاحقاً لقب الرئيس المؤمن، وهو الذي لا يرتاح ما لم يتناول قدحاً من الفودكا بعد كل وجبة غداء - طبقاً لرواية هيكل في "خريف الغضب"- معللاً ذلك بأنه يوسع شرايين القلب ويحسن أداء الدورة الدموية في الأطراف.

لكن ما ظل في ذاكرة ووعي الجيل الذي عاصر تلك الفترة، تلك الجملة التي رددها السادات: "لقد جئت إليكم على طريق جمال عبد الناصر". تلقفها على الفور الشعب المصري بالتعليق عليها وحولها إلى نكتةٍ سياسية، تقول: إنه جاء على طريق جمال عبد الناصر، لكن "بأستيكة"..للدلالة على أنه جاء ليمحو طريق عبد الناصر

وفي أول خطابٍ له بعد انتخابه رئيساً للجمهورية عاد مرة أخرى فأكد ما سبق وتعهد به، إذ قال: "لقد تلقيت أمركم وادعوا الله أن يكون أدائي للمهمة التي كلفتموني بها على نحو يرضاه شعبنا، وترضاه أمتنا، ويرضاه المثل الأعلى الذي وضعه القائد الخالد (عبد الناصر) وأعطاه كل شيء من الحياة إلى الموت".

لكن عهد السادات شهد هجوماً شرساً على سياسات ومباديء ورجال عبد الناصر الذين أجهز السادات على رموزهم في الخامس عشر من مايو أيار عام 1971، قبل أن يستخدم أسلوب الصدمات الذي يجمع بين التسويق والتشويق السينمائي، من طرد الخبراء السوفييت إلى زيارة القدس والدخول في مفاوضات كامب ديفيد. وعندما أراد بعض وزراء السادات أن يلعبوا دوراً حقيقياً وليس تمثيلياً في المفاوضات طردهم، فعل هذا مع محمد إبراهيم كامل -صديقه القديم- وإسماعيل فهمي.

"شغل سينما" كما يردد المصريون!

والسينما جزء من برنامج السادات اليومي، إذ كان يطلب كل مساء كشف أفلام السينما الجاهزة للعرض، وكانت هناك قاعة للعرض في كل بيتٍ من بيوته أو استراحة من استراحاته, وكانت الأفلام ترسل اليه حتي قبل عرضها على رقابة الأفلام؛ لأنه كان يعتبر السينما تسليته الأساسية. وعادة ما كان يلقي نظره على كشف الأفلام ثم يخط بالقلم إشارة إلى اثنين أو ثلاثة منها. وفي نحو الساعة العاشرة مساء يتوجه إلى قاعة العرض ومعه من يتصادف وجوده من أفراد أسرته أو من أصدقائه.

وفي لحظةٍ فقد فيها أعصابه، اعتقل السادات عدداً من أبرز الشخصيات السياسية والدينية والفكرية في مصر وزج بخصومه في السجون في الخامس من سبتمبر أيلول عام 1981، وهي الإجراءات التي أسمتها صحافة النفاق "ثورة 5 سبتمبر". وفي الأسبوع الأخير للسادات وزعت صحيفة "مايو" الناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، صورةً جانبية "بروفيل" للسادات وزع فيها المصور الضوء ليبدو السادات كما لو كان مرسوماً على جدران معبد من معابد الفراعنة.

لكن ما لم يتوقعه السادات، هو أن يكون مشهد النهاية مخالفاً لدور البطولة الذي يلعبه، فكان ما كان في العرض العسكري الذي أقيم في السادس من أكتوبر تشرين أول عام 1981.

مات السادات وهو يجرب البِزَّةُ العسكرية الجديدة. لم يكن الجديد فيها فقط هو لمسات بيت الأزياء الإنجليزي الذي اختار للرئيس قبل اغتياله بلحظاتٍ موديل الجيش الألماني.

الجديد تماماً كان عصا الماريشالية المصنوعة من الذهب.. وضعها السادات تحت إبطه، وأمسكها بأطراف أصابعه، قبل أن يرفعها من قبضة اليد اليمني ويشد قامته ليبدو مثل فرعون يحمل مفتاح الحياة.

هذه كانت صورته الأخيرة تقريباًً، قبل أن تظهر له صورته ممدداً وسط وتحت المقاعد بعد الاغتيال.

لم يكن السادات يتصور أن تنتهي حياته بكلمة "مش معقول" التي قالها في وجه الذين اغتالوه أثناء العرض العسكري المقام لإحياء ذكرى حرب أكتوبر تشرين أول عام 1973.

لكن من يزرع الصدمات يحصد المفاجآت..حتى لو كان ممثلاً بارعاً.
تابع القراءة

gravatar

أنور السادات ممثلاً (1): أمير الجزيرة




الجميع يعرف أن أنور السادات كان رئيساً لمصر..والبعض قرأ أن السادات عمل لفترة حمّالاً وسائقاً..وربما سمعت أن السادات عمل في بلاط صاحبة الجلالة "الصحافة"..لكن أشخاصاً قليلين للغاية عرفوا أو قرأوا أو حتى سمعوا أن السادات كان أديباً وقاصاً عشق الفن إلى حد التمثيل.

على أن القصة التي كتبها السادات وفيها عناصر القصة مكتملة، هي ذلك العمل الأدبي الذي كتبه بعنوان "ليلة خسرها الشيطان" ونشرتها له مجلة "أهل الفن" في 12 أبريل نيسان عام 1945 وهو بالمناسبة عام كثرت فيه كتابات السادات السياسية والأدبية.

وقد تكون الفكرة التي دارت حولها القصة غير جديدة، إلا أن أسلوبها ليس قديماً أو موغلاً في السرد والوعظ الممل من خلال الشرح أو التقرير. رأى السادات في فن القصة منذ وقتٍ مبكر فرصة للتعبير حتى أنه كتب عدة قصص قصيرة لا نعرف مصيرها الآن .. وربما يكون الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل هو الوحيد الذي يعرف مصير أعمال السادات الأدبية إذ قال في حوارٍ له في مجلة "روز اليوسف" الصادرة بتاريخ الأول من مايو أيار عام 1995 ما نصه: "ثم قابلت السادات في مقر الفرقة الأولى مشاة في رفح ..وقضيت يوماً كاملاً معه – إذ أصر على دعوتي للغداء. ويومها عرض عليّ كتاباته لأرى ما إذا كان يمكن نشرها في مجلة "آخر ساعة" التي كنت أرأس تحريرها في ذلك الوقت، وهي مجموعة من القصص القصيرة تملأ دفتراً كبيراً مكتوبة كلها بخطه. ثم قدم لي روايةً طويلة عنوانها "أمير الجزيرة" مازلت أحتفظ بها حتى الآن بعد حوالي 45 سنة".


ترى ..هل يكشف هيكل يوماً الوجه الآخر من "القاص" أنور السادات، لنعرف ما كتبه في روايته "أمير الجزيرة"؟ ربما

على أن ما نعرفه عن "أمير الجزيرة" التي لم تنشر بعد أن أحداثها تدور في إحدى الجزر حول أمير يعيش محاطاً بالأعداء بمن فيهم المستشارون الغادرون الذين عكفوا على تدبير المؤامرات ضد "الأمير" ولكنه كان أكثر سياسةً وبراعة منهم .. فقد كان مدركاً لما يدبرونه ضده فينجح في النهاية في إحباط المؤمرات ويتوج سلطاناً للجزيرة.

ولا أحد يدري هل كان السادات يكتب هذه الرواية وهو يستقريء مستقبله السياسي أم أن أحلامه كانت تتحول إلى كلمات أدبية في صورة رواية طويلة.
نجد أن أعلى درجات التعبير عن الذات لدى الرئيس السادات كانت تتجلى في حالة الخطابة المرتجلة ..فالخطابة عنده كانت الفرصة المواتية لطرح "ذات" السادات حجم تجاربه الواقعة. فرصة للتعبير عن الأديب الذي بداخله وتعريف جمهوره من المستمعين أو المشاهدين بهذا الأديب الذي يختفي خلف صورته كرئيس للجمهورية.


ومن ملامح خطاب السادات حبه لترديد التعبيرات الشعبية الصميمة مثل "الفرن" والقاعة و"المصطبة"، بل إن السادات اختار لنفسه "لزمة" النفس المتقطع والمسافات الصامتة، أو ما نعرف نحن في أحاديثه بلزمة "آه .. آ .. آ" التي يؤكد الكثيرون أنها لم تكن لعلةٍ أو لمرضٍ، وإنما هي أسلوبه الخاص في الحديث.

أما التمثيل فله مع السادات أكثر من حكاية..ففي كتابه "البحث عن الذات" يحكي لنا السادات تفاصيل أول مرةٍ دخل فيها السينما في حياته، فيقول له: "كان ذلك يوماً عصيباً..فقد شاهدت قطار سكة حديد قادماً من أقصى الشاشة ومندفعاً بسرعة مذهلةٍ نحوي..ماذا أفعل؟ أغمضت عيني ورجعت بجسدي إلى الوراء..ولكن صوت القطار ما زال يدور في أذني، ففيم الانتظار. قمت لتوي من مقعدي، وبسرعةٍ رحت أخترق الصفوف مهرولاً في طلب النجاة. ولفت نظري أن الناس كلها قابعةٌ في مقاعدها وكأن شيئاً لم يحدث. هذا شأنهم، قلت في نفسي..ولكن بمجرد أن بلغت نهاية الصف وعيناي قد تسمرتا على الشاشة لم أجد القطار.. وجدت بدلاً منه رجلاً وامرأة يتناولان الطعام في مقهى صغير، فاخترقت الصف مرة أخرى وعدت إلى مقعدي..أراقب أحداث الفيلم في هدوءٍ كما يفعل الآخرون".

كانت للتجربة مفعول السحر على السادات، حتى أنه يضيف قائلاً: "كم انبهرت ذلك اليوم بما رأيت..وكان من نتيجة انبهاري أن حجزت تذكرة الحفلة التالية من الساعة الثالثة إلى السادسة بعد الظهر..وتسمرت في مقعدي لأشاهد القطار العجيب مرةً أخرى".

وبعد ذلك بحوالي عشرين عاماً، وبالتحديد عشية ثورة 23 يوليو تموز عام 1952، كان السادات حريصاً على اصطحاب زوجته الثانية جيهان إلى السينما لمشاهدة فيلم أعجبه. وعندما عاد إلى المنزل حوالي الساعة الواحدة ليلاً، علم من حارس العقار أن جمال عبد الناصر ذهب يسأل عنه مرتين، فأسرع نحو قيادة الجيش بالعباسية، حيث كان كل شيء قد تم وسيطر الضباط الأحرار على مقاليد الأمور.

وبحكم حبه للخطابة والتمثيل، بدا طبيعياً أن نعرف أنه في السابعة والنصف من صباح يوم 23 يوليو 1952 كان البكباشي محمد أنور السادات يلقي البيان الأول للثورة عقب احتلال مبنى الإذاعة المصرية.

قيل الكثير حول رغبة أنور السادات في شبابه في دخول مجال التمثيل، لحد أن د. غالي شكري يقول في كتابه "الثورة المضادة في مصر" (بيروت، 1978): "لم يكن السادات يعشق السينما فقط..وإنما كان يتمنى أن يصبح من نجومها..ومنذ فجر شبابه وهو يحلم بالوقوف أمام كاميرات السينما".


ومع أنه لم يصبح ممثلاً، فإنه ظل أسيراً لهوايته، حتى عندما احترف السياسة، وهذا رأيٌ يجمع عليه الكثير من أنصاره وخصومه...بل وباعترافه الشخصي. حتى المراقبين الأجانب قد لاحظوا عليه ميله الفطري للتمثيل، فتصفه دورين كايز مراسلة إحدى شبكات التليفزيون الأمريكية، فتقول:"...إن موهبة السادات في التمثيل كانت موهبة فطرية، وكانت تقوده إلى نوعٍ من الأداء المأساوي- الكوميدي" ) عادل حمودة، "كيف يسخر المصريون من حكامهم"، القاهرة، 1992).

لكن الأهم من ذلك كله هو ما أورده السادات نفسه في مقالٍ نشرته جريدة "الجمهورية" بتاريخ 28 نوفمبر تشرين ثانٍ عام 1955 إذ قال: "منذ فجر شبابي وأنا أحس بميلٍ شديد للفن والفنانين وخاصةً التمثيل، ولي في هذا المجال قصصٌ كثيرة".

أبرز هذه القصص كما يرويها السادات أنه انضم إلى فرقة تمثيلية في مدرسة "رقي المعارف" الثانوية في أوائل سنة 1936، وذلك بعد أن أدى الامتحان أمام المشرف، وكان ممثلاً محترفاً. ويقول السادات إن هذا المشرف جاء بروايتين، إحداهما درامية والأخرى فكاهية، وإنه "أعطاني دورين أحدهما في الدراما وكان اسمي فيه "جيروم"، والآخر في الرواية الكوميدية وكنت أمثل فيها دور مأذون اسمه "الشيخ عزيز". وما زلت أحتفظ إلى اليوم "بالبروجرام" الذي طبع لهذه الحفلة وعليه صورتي كما ترى الآن في كافة "البروجرامات" التي تطبعها الفرق التمثيلية".

لكن قصة السادات مع التمثيل لم تنته عند هذا الحد، فقد قرأ ذات يومٍ إعلاناً تطلب فيه الفنانة أمينة محمد وجوهاً جديدة لفيلمها "تيتا وونج" الذي كانت تزمع تقديمه. ويكمل السادات قائلاً: "أذكر أنني توجهت إلى مقر الشركة في عمارةٍ بشارع إبراهيم باشا، حيث جاءت الفنانة أمينة محمد واستعرضتنا جيئةً وذهاباً، وكنا أكثر من عشرين شاباً، انتقت منا اثنين وطلبت من الباقين ان يرسلوا لها بصورتين إحداهما "فاس" والثانية "بروفيل"، ولم يكن هذا المطلب إلا زحولة".

لكن مجلة "فصول" الموجودة في دار الكتب تكشف جانباً آخر لم يتحدث عنه السادات، إذ تقول المجلة في عددها الصادر في أول مايو أيار عام 1935(بالمناسبة، أنتِجَ الفيلم بعد ذلك بعامين): "وصلتنا ردود عديدة اخترنا من بينها أصحاب الصور التي يراها القراء على هذه الصفحة وتحت كل صورةٍ مؤهلات صاحبها ومميزاته كما جاءت في خطابه. أنور السادات أفندي، كوبري القبة، شارع أبي وصيف رقم 4..ويقول في خطابه: "أنا شابٌ متقدم للبكالوريا هذا العام، طويل. وسطي رفيع جداً، وصدري مناسب، وسيقاني قوية مناسبة. لوني ليس كما في الصورة لأنني أغمق من الصورة قليلاً. والآن أصف لكم الجزء العملي: أنا متحكمٌ في صوتي بمعنى الكلمة، فتارةً تجدني أقلد صوت يوسف وهبي، وتارةً تجدني أقلد صوت أم كلثوم، وهذه خاصة أظنها نادرة".

ويواصل السادات وصف نفسه وفق ما نشرته مجلة "فصول"، فيقول: "لي أذنٌ موسيقية محضة وفي قوة أحكم بها على الموسيقى. لي ذوقٌ سليم في الحكم على إخراج الروايات وعلى مواضيعها. لي شعرٌ أسود ومجعد ولكنه خشن. وبقية أعضاء وجهي كما في الصورة المرسلة طيه"!
هكذا وصف السادات نفسه بالتفصيل على أمل ان يصبح ممثلاً وربما نجماً سينمائياً، لكن مجلة "روز اليوسف" نشرت خبر سقوط السادات أمام لجنة التحكيم في امتحان التمثيل.

وإذا كان الناقد والمؤرخ الفني حسن إمام عمر قد ذكر ذات مرةٍ أنه اشترك مع السادات في التمثيل في المدرسة، فإن هناك شاهداً آخر على تمثيلية نادرة كان بطلها السادات. هذا الشاهد هو الكاتب الصحفي أنيس منصور الذي روى مرتين ( الأولى في مجلة "أكتوبر" المصرية بتاريخ 19 يونيو حزيران عام 1994، والثانية في جريدة "الشرق الأوسط" التي تصدر في لندن بتاريخ 24 نوفمبر تشرين ثانٍ عام 2005) واقعة حوارٍ مسرحي كان السادات بطله، وقد تولى تصوير هذه "المسرحية" المصور التليفزيوني محمد جوهر. يقول أنيس منصور:
"سمعت من الرئيس السادات أنه كان يتمنى أن يكون فناناً، وعرفت من زملائه في الدراسة أنه كان ضمن فريق التمثيل في المدرسة، وسمعت من الرئيس السادات أيضاً أنه أخطأ الطريق إلى أمله، وهو أن يكون ممثلاً أو مطرباً، وقد سمعت السادات يغني وسمعته أيضاً يرتل القرآن الكريم، فلديه إحساسٌ بأن صوته جميل النبرات.

"وفي يوم جاء مذيع أميركي اسمه جورداش، وأجرى حواراً مع السادات وفجأة قال له: ما رأيك يا سيادة الرئيس لو أننا قمنا بتمثيلية معاً، أنا أقوم بدور السادات وأنت تقوم بدور مناحم بيغن، وأشار لي أن أقوم بدور ياسر عرفات وأن يكون هذا التمثيل مرتجلاً.

"وتكلم السادات بلسان بيغن مهاجماً السادات والعرب، ثم طلب أن يعود على نفسه وأن يرد على كل الذي قاله على لسان بيغن، وضحك السادات وإذا به يهاجم بيغن بعنف، ويؤكد لبيغن أن مثل هذا التفكير العتيق لن يحقق السلام بين إسرائيل والعرب؟!

ويضيف أنيس منصور قائلاً: "ويبدو أن قيامي بدور ياسر عرفات كان ضعيفاً، فقال المذيع: أنا سوف أقوم بدور عرفات على أن يتولى الرئيس السادات الرد على ما يقوله عرفات، وقال السادات كلاماً معناه أن عرفات موهوبٌ في إضاعة الفرص، وأن موهبته كما وصفها الدبلوماسي الشهير أبا أيبان: أنه لم يترك فرصة لإضاعة أية فرصة!

ويقول أنيس منصور: "ثم عاد الممثل أنور السادات يقوم بدور بيغن متوجهاً بالحديث والنقد اللاذع إلى عرفات. قال الممثل أنور السادات: اسمع يا "مستر" عرفات، إن عندنا أحزاباً كثيرة متشددة وهي لا تطيق أن تسمع اسمك وترى وجهك..وخيرٌ لكم أن تقبلوا أي شيء أحسن من اليأس التام في حل قضيتكم. وإذا كان الفلسطينيون قد اختاروك رئيساً لهم فلن يقبلوا ذلك طويلاً إذا كان السير وراءك لا يقدم ولا يؤخر..فأنا أقترح عليك حلولاً مؤقتة وبعد ذلك حلولاً جزئية، ثم تصفية تامة للحسابات الطويلة بيننا..ولكن حتى لا تدخل في صراعات لا معنى لها، نحن لا نوافق على قيام دولة فلسطينية مستقلة أبداً، ونحن لا نوافق على أن يكون في هذه الدولة جيشٌ من أي حجم..وإذا كانت لك رغبةٌ في أن تكون أكبر فادخل مع الأردن في اتحاد فيدرالي، وفي هذه الحالة لن نسمح مطلقاً بجيشٍ أردني يهددنا..وسوف نحارب هذه الفكرة إلى الأبد".
"وصرخ المذيع الأميركي جورادش: عظيم يا "مستر" بيغن عظيم..والآن نريد تعليقاً من الرئيس المصري أنور السادات. وفجأة اعتدل أنور السادات، وأشعل "البايب" وقال: بلاش كلام فارغ أنت وهو، تعالوا نجلس معاً ونتكلم ونتناقش ونتفاوض أملاً في الوصول اليوم أو غداً إلى حل..لا بد أن يكون حلاً..والحل هو السلام القائم على العدل..ولكن قبل تحقيق السلام لا بد من الحوار معاً..كفى انهض..وجعت دماغي!

"وباعتباري المتفرج الوحيد، أشهد أن السادات كان ممثلاً بارعاً!"

"وبعد نهاية التمثيلية المرتجلة قال لي جورداش: مصيبةٌ كبرى أن يحكمنا هؤلاء الناس الذين هم أقدر على التمثيل من الممثلين أنفسهم!

"ونقلت رأي جورداش إلى الرئيس فقال لي: هات ميكروفوناً وضعه أمام أي إنسان سوف يفتح فمه، فإن كان أمامه شخصٌ واحد فسوف يتحدث إليه، وإن كان أمامه عشرةٌ فسوف يحاورهم، وإن كانوا ألفاً فسوف يخطب فيهم.. هذا قدرنا!

وقدرنا نحن أيضاً.

ولنا أن نتساءل عن مصير هذا الشريط المسجل، وهل يمكن أن نشاهده يوماً، أو حتى نستمع إليه؟!

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator