المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

أحاديث التليفون التي هزت مصر: 1



لم يكن يدور في خلد أي من الشخصيات السياسية أو الاجتماعية أو الفنية التي شاركت في صنع تاريخ مصر - بصورةٍ أو بأخرى- في أن مكالماتهم الهاتفية التي يجرونها ستدخل التاريخ من أوسع أبوابه..خاصةً أن هذه المكالمات غير العادية جاءت في الأغلب الأعم في ظروفٍ استثنائية وحملت مضموناً خطيراً.. أو إذا شئنا الدقة فإنه مضمونٌ أصبح من الخطورة بمكان نتيجة الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الفنية التي كانت تمر بها مصر في ذلك الوقت

لم تكن المكالمات الهاتفية التي اخترناها عاديةً بالمرة..وإنما كانت تمثل نقاطاً فاصلة في أحداثٍ مهمة ورئيسية في تاريخ مصر..بعد أن دخلت في نسيج هذه الأحداث وأصبحت عنصراً لا غنى عنه في فهم ما جرى وما كان..خاصةً أن الكثير من هذه المكالمات الهاتفية أدى إلى نتائج مؤثرة وغيرَّ في مسار الكثير من الأمور.. ألم نقل من البداية إنها كانت مكالمات لا تنسى

وإذا كان الحديث لم ينقطع خلال السنوات الأخيرة عن فضائح ومكالمات المشاهير المثيرة والساخنة..فإننا نستطيع القول باطمئنان وثقةٍ شديدة إن لدينا في تاريخ مصر الحديث العديد من المكالمات الأكثر أهمية وسخونة وتأثيراً من مجرد الأحاديث العاطفية بين الأميرة ديانا سبنسر وطليقها ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز وعشاقهما أو فضيحة "ووترغيت" للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون..والنماذج التالية خير دليل على ما نقول

نبدأ بما جرى على متن الطائرة التي أقلت الرئيس المصري حسني مبارك بعد فشل محاولة اغتياله في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في يونيو حزيران من عام ألفٍ وتسعمئة وخمسةٍ وتسعين..فقد أجرى مبارك اتصالين هاتفيين – كما يقول عادل حمودة في كتاب "لعبة السلطة في مصر" الذي حاور فيه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل- الأول مع رئيس الحكومة آنذاك الدكتور عاطف صدقي والثاني مع ابنه الأكبر علاء مبارك..كان علاء قد طلب من والده أن يتصل به عند وصوله إلى أديس أبابا..واتصل مبارك به من الطائرة..وكان رد علاء قبل أن يخبره الرئيس المصري بما جرى:

- الحمد لله على سلامتك يا بابا
ضحك الرئيس قائلاً: أنا راجع
- راجع إزاي؟
- يا بني كانت هناك محاولة فاشلة للاعتداء عليّ..الحمد لله
- ألف سلامة يا بابا
- يا علاء..اتصل بوالدتك تليفونياً قبل أن تذيع شبكات التليفزيون الخبر فتنزعج..قل لها الحمد لله مفيش حاجة خالص

وكانت سوزان مبارك قرينة الرئيس المصري تعالج آنذاك في إحدى مصحات تشيكوسلوفاكيا سابقاً..إذ كانت تشكو من آلامٍ في العمود الفقري..لكنها عادت فوراً إلى القاهرة وأجرت من الطائرة اتصالات أخرى قام بها أحد رجال مكتب الرئيس والدكتور أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري..وكان صفوت الشريف وزير الإعلام آنذاك ممن تلقوا بعض هذه الاتصالات. التقط القمر الصناعي الإسرائيلي الاتصال الأخير..وهو ما جعل الإذاعة الإسرائيلية تسبق الإعلام المصري في إذاعة النبأ بدقائق

ولاشك أن تنصت المخابرات الأمريكية على تليفون حسني مبارك في أثناء حادثة "أكيلي لاورو" قصة تستحق أن تُروى..ففي السابع من أكتوبر تشرين أول من عام ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسة وثمانين اختطف أربعة من مقاتلي جبهة التحرير الفلسطينية السفينة الإيطالية "أكيلي لاورو" غداة انطلاقها من ميناء الإسكندرية. وقد طلب الخاطفون من إسرائيل إطلاق سراح خمسين عنصراً من القوة 17. وفي اليوم التالي قتل الخاطفون راكباً أمريكياً مقعداً تبين أنه يهودي يدعى ليون كلينغهوفر. وفي التاسع من أكتوبر تشرين أول سلم الخاطفون أنفسهم للسلطات المصرية.. وتم الاتفاق على سفر الخاطفين وإنهاء الأزمة بهدوء

وحسب رواية الصحفي الأمريكي بوب وودوارد في كتابه "الحجاب: الحروب السرية للمخابرات الأمريكية" فإن الرئيس مبارك كان يكره نظام تأمين الاتصالات الذي أمدته به الولايات المتحدة..فقد كان جهاز التليفون مزوداً بزرٍ يتعين الضغط عليه في أثناء الحديث بحيث لا يستطيع الشخص الذي على الطرف الآخر أن يتكلم وهو يستقبل المكالمة..وكان ذلك يجعل من الصعب مقاطعة المتحدث الذي على الطرف الثاني. ولهذا كان مبارك يستخدم أجهزة التليفون العادية..وكانت هناك أوامر بتشديد وزيادة العمليات الأمريكية لجمع معلومات المخابرات في مصر خاصةً بواسطة وكالة الأمن القومي والأقمار الصناعية

وفي وقتٍ مبكرٍ من صباح يوم الخميس العاشر من أكتوبر تشرين أول من عام ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسة وثمانين تم التقاط مكالمة للرئيس مبارك..وخلال نصف ساعة كانت المعلومات قد وصلت إلى غرفة العمليات في البيت الأبيض في رسالة شفرية سرية للغاية..وكانت تسجيلاً قصيراً لمحادثة دارت بين مبارك ووزير خارجيته

كانت المعلومة العلنية أن فريق الخاطفين غادر مصر..لكن محادثة مبارك كانت تقول شيئاً آخر..إذ يقول وودوارد في كتابه: "كان التسجيل يحكي قصةً أخرى..ففي المحادثة التي تم التنصت عليها كان الرئيس يقول للوزير إن الخاطفين مازالوا في مصر.. وقال صائحاً إن جورج شولتز – وزير الخارجية الأمريكي- يكون مجنوناً إذا اعتقد أن مصر يمكن أن تسلم الخاطفين إلى الولايات المتحدة كما تطلب واشنطن..وقال الرئيس مبارك: إن مصر في النهاية بلدٌ عربي ولايمكن أن تدير ظهرها لأشقائها في منظمة التحرير الفلسطينية

أما المثير فهو ما يرويه عبد الله كمال في كتابه "التجسس على عصر مبارك" إذ يقول: "كانت آذان المتنصتين بكل ما معهم من أجهزة تكنولوجية عالية الدقة ذات حسٍ مرهف..وكان الصوت واضحاً..وكانت المعلومات ثمينةً..ففيها ذُكِرَت تفاصيلُ الرحلة السرية..والتقط الأمريكان رقم الطائرة ونوعها ومكان الإقلاع..وهكذا وصلت برقية إلى واشنطن تقول إن الطائرة تابعةٌ لشركة مصر للطيران وإن رقمها "بوينغ 737" وإنها سوف تقلع من مطار ألماظة الجوي
ويضيف وودوارد من جهته قائلاً إنه "في أثناء فترة ظهر اليوم نفسه قدمت وكالة الأمن القومي الأمريكي نصوص عشر مكالماتٍ تم التقاطها لمبارك وهو يناقش الخطة النهائية لنقل الخاطفين. وبالنسبة للكولونيل أوليفر نورث – بطل فضيحة "إيران كونترا"- والأدميرال جون بويندكستر – نائب مستشار الأمن القومي الأميركي- فإن الأمر بدا كما لو أنهما موجودان في مكتب الرئيس مبارك". وحسب الرواية نفسها فإن وكالة الأمن القومي قدمت للبيت الأبيض توقيت وصول الخاطفين الأربعة إلى الطائرة ورقم الرحلة الجوية ومسار الطائرة في رحلتها إلى الجزائر..حيث كان مقرراً أن تتسلمهم منظمة التحرير الفلسطينية
وكانت نتيجة عملية التنصت على تليفون الرئيس مبارك أن اعترضت طائرات "اف- 14" الأمريكية طائرة مصر للطيران رقم 2843 وأجبرتها على الهبوط في قاعدة سيغونيلا بصقلية بمن فيها من الخاطفين الأربعة مع محمد عباس "أبو العباس" الأمين العام للجبهة والذي كانت واشنطن وتل أبيب تعتقدان أنه العقل المدبر لخطة الخطف

وربما كانت مكالمات لوسي آرتين الشهيرة مع عددٍ من المسؤولين في مجالات السياسة والأمن والقضاء سبباً في فضيحة شهيرة أدت إلى الإطاحة بعدد كبير منهم وعزلهم من مناصبهم.. ففي السادس عشر من مارس آذار من العام ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين كانت مقاعد مجلس الشعب المصري كاملة العدد استعداداً لسماع الاستجواب الذي تقدم به النائب كمال خالد نائب دمياط عن الفساد الأخلاقي لكبار المسؤولين في الدولة

وهكذا استمع النواب إلى نص الحوار الهاتفي بين المشير محمد عبد الحليم أبوغزالة وزير الدفاع المصري وحسناء بيانكي الأرمنية لوسي آرتين – قريبة الفنانتين نيللي ولبلبة- والذي يقول فيه المشير إنه سيكلم محافظ السويس تحسين شنن بحثاً عن وساطة مع القاضي الذي ينظر في قضية النفقة المرفوعة منها ضد زوجها هاجوب آرتين

وفي الجلسة المذكورة عرض النائب كمال خالد نص حوارات هاتفية ساخنة بين مساعدي وزير الداخلية آنذاك وهما اللواءان حلمي الفقي وفادي الحبشي.. وتضمنت التسجيلات أحاديث عما يدور في غرف النوم وأنواع وألوان الملابس الداخلية وشكل الأوضاع الجنسية

وفي مجلة "روز اليوسف" –أيام عادل حمودة – نشر وائل الإبراشي على جزأين نص مكالمات لوسي آرتين مع كبار رجالات الدولة ليصعق القاريء بتفاصيل هذه الأحاديث المسجلة الهاتفية المحمومة وعبارات الغزل الملتهبة التي تداولها أبطال الفضيحة

وما يهمنا هنا هو أن نشير إلى أن تلك الفضيحة اكتشفت أولاً بطريق الصدفة المحضة..إذ كانت الرقابة الهاتفية موضوعة أساساً على شخص من الموظفين الحكوميين..لكن الرقابة وقعت على الصيد الثمين والتقطت الخيط سريعاً لتتضح أمامها فصولٌ مثيرة وغريبة للعلاقات المتعددة التي جمعت بين لوسي آرتين وعدد من الشخصيات المرموقة..بعد أن كانت مجرد سيدةٍ تطالب بحقوقها لدى مطلقها نجل صاحب المصنع

ولأسباب معقدة ومتشابكة انحسر نفوذ أبو غزالة وخسر الفقي والحبشي منصبيهما المرموقين.. لكن لوسي آرتين بقيت محتفظةً بنجوميتها كواحدة من حسناوات المجتمع وحفلات البيزنس وغيرها..وظلت تتصرف بتلقائيةٍ شديدة خاصةً بعد أن انتخبت عقب إسدال الستار على هذه الفضيحة لرئاسة نادي الأرمن في حي مصر الجديدة

ودخلت التسجيلات الهاتفية على خط الإدانة في قضايا عدة هزت المجتمع المصري طوال العقدين الأخيرين، وكان من أبطالها وكيل وزارة الزراعة يوسف عبدالرحمن ومستشارة البورصة الزراعية راندا الشامي المتهمان الرئيسيان في قضية إدخال مبيدات مسرطنة إلى البلاد والسماح بتداولها داخل مصر..كما أدينت راندا الشامي بالرشوة الجنسية في القضية

رئيس قطاع الأخبار السابق في التليفزيون المصري محمد الوكيل ظل يؤكد أثناء محاكمته التي بدأت في أواخر عام ألفين واثنين أنه لم يفكر يوما في تقاضي رشوة..غير أن الرقابة الإدارية كانت قد سجلت شريطا له ولغيره يكشف عن محادثات تليفونية أظهرت الوكيل وهو يستفسر عن قيمة المبالغ المالية المتفق عليها مع بعض ضيوف برنامج "صباح الخير يا مصر" مقابل ظهورهم في حلقاته ­خاصة من الأطباء ورجال الأعمال. وعلى سبيل المثال فإن مدير مستشفي منشية البكري­ صاحب البلاغ­ طلب منه الوكيل مبلغ عشرة آلاف جنيه مقابل استضافته في البرنامج الصباحي.. وهو ماحدا بالطبيب لتحرير بلاغ بذلك في هيئة الرقابة الإدارية

ويقضي الوكيل حاليا عقوبة السجن لمدة ثمانية عشر عاما مع الشغل في سجن مزرعة طرة..بعد إدانته في قضيتي تقاضي مبالغ مالية علي سبيل الرشوة مقابل الإخلال بواجبات وظيفته ولحيازته مواد مخدرة بمكتبه


أما كبيرة المذيعين في التليفزيون المصري أماني أبو خزيم فقد صدر حكم في الرابع عشر من مارس آذار من عام ألفين وسبعة بسجنها ثماني سنوات عن تهمة التربح وتلقي رشىً بالتواطؤ مع رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر عصمت أبو المعالي وتغريمها مئتين وثلاثة وسبعين ألفاً وخمسمئة جنيه..وكانت التسجيلات الصوتية للمحادثات الهاتفية ضمن أدلة الاتهام..


هناك أيضاً القضية التي أدين فيها محمد فودة السكرتير الصحفي السابق لوزير الثقافة ومحافظ الجيزة السابق المستشار ماهر الجندي الذي شغل موقع النائب العام سابقاً ومنصب المحامي العام لنيابة أمن الدولة..وقد صدر بحق الأخير في يونيو حزيران من عام ألفين واثنين حكم بالسجن لمدة سبع سنوات بتهمة الفساد وتلقي رشىً من رجال أعمال مقابل تسهيلات وتجاوزات علاوة على تلقيه رشى جنسية رصدتها مكالمات هاتفية مسجلة..ماهر الجندي تلقى أيضا رشى عينية في صورة هدايا ذهبية وبدل إيطالية وقمصان..بل وأكلات كباب وكفتة

لكن هذا لم يكن كل شيء في ملف المكالمات الهاتفية التي هزت مصر


تابع القراءة

gravatar

معجزات دينية للبيع







كم ذا بمصر من مضحكات


فجأةً تراجعت قائمة الأولويات في حياة كثيرين وانزوت المشكلات والأزمات في مطلع عام ألفين وسبعة..لتفسح المجال أمام الحكاية الجديدة: شجرة الكافور المباركة
تلك الشجرة الموجودة في موقف العاشر على طريق مصر ـ الإسماعيلية الصحراوي تمثل الآن صداعاً للبعض من سكان المنطقة ورجال الأمن.. بعد أن روّج البعض أن لفظ الجلالة واسم الرسول الكريم محفوران على لحائها

وبالرغم من تأكيد أكثر من لجنةٍ علمية أنها ليست شجرةً مباركة..فإن كثيراً من المواطنين واصلوا التكالب عليها والتدافع للتمسح بها.. ليصنعوا زحامهم الخاص الذي عرقل حركة المرور وتسبب في تلقي قسم النزهة أكثر من بلاغ لوقائع نشل وسرقات حدثت في موقع الشجرة

لم يتوقف كثيرون عند تقرير اللجنة العلمية برئاسة عميد زراعة عين شمس الدكتور عبد العزيز حسن أستاذ النبات بالكلية لفحص الشجرة..الذي أكد أن العبارات الموجودة عليها حفرها أحد الأشخاص منذ ستة أشهر..وأفرزت الشجرة مكان الحفر ما يسمى بـ "التكلسات" والتي صبغت العبارات المحفورة باللون البني مما أعطى انطباعاً بأنها طبيعية



هذا ليس بالأمر المهم..فالشجرة أصبحت بالفعل مزاراً دينياً رئيسياً في مصر تسمع فيه بوضوح صيحات تكبير الرجال وأصوات النساء وهن يجهشن في البكاء


ولا تسل:أين اختفى عقل مصر؟


كرة الثلج تكبر والحكومة عاجزة عن اتخاذ قرارٍ بسيط يغلق باب الفتنة الزائفة من عينة قطع الشجرة..عجزٌ يثير الريبة في رغبة ودوافع التلكؤ في مواجهة الخرافة التي تتغذى على الجهل والإهمال..والتواطؤ



وهكذا وجد المرتزقة مصدراً واسعاً للتربح..لدرجة أن أحدهم صورها وطبعها ووقف يبيع الصورة مقابل جنيهين


"معجزة"

هكذا يهتف باعة الأوهام في زمن الجهل..ليلتف حوله كثيرون من أتباع الخرافات..ليواصل أهل الحيل والألاعيب بيع "المعجزات" بمقابلٍ مادي ويطلبون منك أن تصدق الكذبة لأنها حسب رأيهم "إلهية" لا تقبل الرد ولا تحتمل النقاش


متلاعبون بالعقول ومتسترون بالدين يجدون طريقهم مفروشةً بأشخاصٍ مستعدين لتصديق أي شيء لتستمر اللعبة..من دون أن يسأل أحدهم نفسه عن الحقيقة أو يخضِعَ ما يراه للعلم والمنطق..وكأنهم يريدون أن يقولوا لنا إن هذه "الاكتشافات العظيمة" هي الطريق إلى الإيمان..في حين يتعين أن نؤمن أكثر بأن الدين ليس بحاجةٍ إلى شجرة كافور أو حجرٍ أصم أو حبة فاكهة أو خضراوات كي نعرف أن الله – عز وجل- موجودٌ في كل مكان وأنه – سبحانه وتعالى- هو خالق هذا الكون الذي يسيِّره كيف يشاء


إن هؤلاء الأشخاص يكذبون على أنفسهم حتى يصدقوا الخدعة ويبتلعوا أقراص الوهم ثم تجدهم يتولون مهمتهم "المقدسة" في نشر الضلالات والخرافات بين الناس..فالألوهية ليست في حاجةٍ إلى مثل هذه الاكتشافات التافهة وليست أيضاً في انتظار كشفٍ علمي كي نقول إن هذا الأمر ورد في القرآن..فالإسلام قائم والخالق موجود من دون أي "كرنفال" أو دعاية من نوعية العثور على لفظ الجلالة على شجرة كافور على طريق مصر ـ الإسماعيلية الصحراوي


وقبل نحو عقدين من الزمان انتشرت في الشوارع والميادين الرئيسية في مصر لوحةٌ ملونة كان الباعة يهتفون للترويج لها باعتبارها معجزة.. اللوحة كان مكتوباً تحتها أنها صورةٌ التقطها شخصٌ ما في إحدى غابات ألمانيا حيث تبدو الأشجار المتراصة وكأنها تشكل جملةَ "لا إله إلا الله"


جازت الخدعة على كثيرين وانتفخت معها جيوب الباعة ومن ورائهم أصحاب هذه الحيلة بعد أن نجحوا في خداع العديد من المواطنين الذين كانوا يقفون أمام هذه اللوحة بانبهارٍ ثم يمدون أيديهم في جيوبهم ليشتروا "المعجزة" بمبلغٍ لا يزيد على جنيه واحد.. ثم ينطلقون إلى أعمالهم ومنازلهم ويعلقونها كي يراها غيرهم ويردد مثلهم: "سبحان الله"


لكن اللعبة لم تستمر طويلاً


فقد ظهر الدكتور سيد الخضري أستاذ علم الأدوية ليؤكد أن الصورة المزعومة ليست سوى لوحة..مجرد لوحةٍ عادية رسمها بنفسه وصاغها بفرشاته وسجلها في الشهر العقاري في المنصورة في العاشر من سبتمبر أيلول عام ألف وتسعمئةٍ وسبعةٍ وثمانين..لكنه فوجيء بمن يستغل الفكرة بشكلٍ سيء ويغرر بالعامة من دون أي مراعاةٍ لحقوق الفنان الأدبية..فليس من المهم هذه الحقوق بقدر ما يهم المنتفعين جني مزيدٍ من الأرباح ولو كان ذلك عن طريق نشر الأكاذيب والضلالات وادعاء المعجزات والخوارق

الطريف أن هذا الفنان التشكيلي والأستاذ الجامعي الذي أبدع اللوحة تلقى تهديدات بالقتل في محاولةٍ لإسكاته..ربما لأنه قطع الطريق على من حاولوا استغلال اللوحة وبيعها على أنها صورة مأخوذة من إحدى غابات ألمانيا لتدلل على أن قدرة الخالق وصلت إلى قلب أوروبا..وربما أيضاً لأنه أيقظ الناس من سباتهم على حقيقة اللوحة التي يملك نسختها الأصلية للتدليل على صحة كلامه


وبين الفينة والأخرى يأتي أحدهم إلى صحيفةٍ ما ليعرض بضاعته وهو يبتسم بفخرٍ واعتزاز لأنه أتى بما لم يأتِ به الأوائل..ثم يقدم حبة فاكهة أو حجراً أو حتى قوقعة كتب عليها لفظ الجلالة أو ما شابه ذلك.. وطبيعي أن يسعد صاحب هذه "المعجزة" بنشر اسمه وربما صورته وبين يديه تلك "المعجزة" الجديدة. وفي النهاية تساهم بعض الصحف في الترويج لهذه الأشياء الغريبة عندما تنشرها على صفحاتها تحت عناوين من عينة "سبحان الله"


يأسف الإنسان أحياناً عندما يرى هذه الضلالات تنتشر وترسخ في أذهان الناس حتى تتحول إلى حقائق لا يجوز المساس بها أو الحديث عنها..مع أن العقل يرفض أن يكون الإيمان بالله عز وجل عن طريق كتابة على قشرة برتقالة أو نقشٍ محفور في حجر صلد أو من خلال حيوانٍ برأسين

حدث الأمر نفسه معي في عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين..عندما وجدت أمام مكتب الاستعلامات في المؤسسة الصحفية الكبرى التي كنت أعمل بها سيدةً في منتصف العقد الرابع..استوقفني موظف الاستعلامات ليبلغني بطلبها لقاء أحد الصحفيين لتكشف له عن ظاهرةٍ غريبة تمتلك الدليل عليها.. سألتها عن مطلبها فوجدتها تخرج من كيسٍ أسود اللون برتقالة حُفِرَ على قشرتها لفظ الجلالة..مدتها في اتجاهي وهي تقول بابتسامة عريضة: "انظر إلى هذه المعجزة الإلهية"


تأملت البرتقالة قليلاً ولاحظت أن الكتابة على قشرتها تبدو وكأنها تمت باليد لدرجة أنها حفرت مجرى واضحاً على القشرة..فاعتذرت لها بلباقةٍ بالرغم من إلحاحها الشديد..لكنني فوجئت على صفحات الجريدة بعد فترةٍ لا تزيد على أسبوع بصورة السيدة وهي تحمل البرتقالة وقد كُتِبَ تحتها كالعادة "سبحان الله" أو شيء من هذا القبيل


أذكر أن الأردن شهد في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي ضجةً كبيرة عندما سرت أخبار عن تيسٍ يدرُ اللبن..وأصبح هذا التيس "بَركةً" يتبرك بها كثيرون ممن يلتمسون عنده الشفاء..متناسين أن الشفاء من عند الله وحده عن طريق أسبابٍ محددة في مقدمتها الطبيب المعالج..لا التيس الحلوب


الواقعة نفسها تكررت في الكويت ودولٍ خليجية أخرى..وامتدت الظاهرة لتشمل الحديث عن كائنٍ غريب موضوع في صحنٍ من الماء يتكلم ويسهم في الشفاء


حدث هذا في مصر في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي بإحدى المحافظات الريفية..وجنى الرجل الذي زعم أنه عثر على هذا الكائن في الماء أرباحاً طائلة من عامة الناس وطالبي البركة والشفاء..ثم تأكد للجميع أن المسألة كلها أكذوبة وأنه مجرد حيوان مائي لا يتكلم ولا هم يحزنون


إننا غارقون حتى آذاننا في الخرافات


وبالرغم من أننا نعيش عصر الفضاء والإنترنت والهندسة الوراثية فإننا نواصل تصديق مثل هذه الحكايات الغريبة ونلوكها في مجالسنا مع بعض الإضافات والتوابل اللازمة على سبيل الإثارة والتشويق



وفي الألفية الثالثة هناك أشخاص يصرون على معالجة "الخضة" بالطاسة..والإمساك بالخشب منعاً للحسد..وكسر "القلة" بعد انصراف ضيف ثقيل الظل..وقرص العريس أو العروس في الركبة للحاق سريعاً بركب المتزوجين..ونجد من يخشى القطط السوداء اللون والكنس ليلاً وترك المقص مفتوحاً..ويرى أن رمي قشر الثوم أمام عتبة المنزل يجلب النكد..ويرفض غسل الملابس يوم الاثنين أو خلع الأسنان يوم الاثنين أو الأربعاء أو هز الأرجل وأنت جالس على طرف السرير لأن ذلك يجلب "الفقر"


خرافات وأساطير وأوهام تشدنا بقوة إلى تاريخ ما قبل الميلاد..في حين يبحث العالم عن مزيد من المنجزات العلمية والطبية التي تيسر نوعية الحياة على الأرض

لقد نحينا العلم جانباً وتركنا أنفسنا فريسةً للجهل المطبق الذي يلغي العقل..وتناسينا أن الدين يدعونا إلى طلب العلم وإعمال العقل والبعد عن البدع والخرافات والتطير من باب التشاؤم
والظاهرة تتعدى حدود المنطق أحياناً لأنها ترتدي في كثيرٍ من المناسبات مسوح الدين -أي دين- حتى تضمن الكثير من الأتباع والمصدقين..أما الهدف فقد يكون رغبةً من مدعي "المعجزة" في كسب المال أو الشهرة أو لفت الأنظار وتحويلها عن قضايا اجتماعية وسياسية مثارة في تلك الفترة
ولعل البعض قرأ أو عاصر الحكاية التي ترددت في عام 1968 أي بعد شهورٍ قلائل من هزيمة يونيو حزيران عام 1967 عن ظهور السيدة مريم العذراء في كنيسة الزيتون في القاهرة. لقد أدت هذه الحكاية الغريبة إلى اختلاط الحابل بالنابل..فمن قائلٍ إنها "معجزة" دينية..ومن مؤكدٍ أنها قصة مختلقة لصرف الأنظار عن الهزيمة وشغل الناس عن أحداث أكثر واقعيةً وإيلاماً في تلك الفترة الحساسة التي عاشتها مصر
لكن الشيء المؤكد أن الأوهام تصورُ لنا أشياء غريبة وتجعلنا نتخيل أحداثاً لا يصدقها العقل..فضلاً عن أن الحاجة إلى شغل الناس وإلهائهم هي أم الاختراع عند الحكومات والأنظمة غير الرشيدة على اختلاف جنسياتها وأزمانها

وعندما تكررت الحكاية في العاصمة الإيطالية روما وقيل إن البعض شاهد السيدة مريم العذراء وهي تبكي من خلال تمثالٍ ضخم بإحدى الكنائس..تبين من الفحوصات العلمية الدقيقة أن التمثال مصنوعٌ في بعض أجزائه من الشمع الذي بدأ في الذوبان من ناحية العينين حتى يخيل للرائي أنها دموعٌ..في حين أنها مجرد مادة شمعية تنصهر وتذوب فتظهر كقطرات الدموع

وعندما يجهل العامة حقائق العلم وتأكيدات الأطباء فإن الكثير مما يشاهدونه أو يتخيلونه يتحول إلى معجزةٍ في نظرهم مثل الحكايات التي تتردد عن ميلاد طفلٍ على شكل سمكة أو قرد أو يوجد لديه ذيل. وكل هذه الأشياء تعد تشوهات خلقية يفسر الطب جانباً منها ويعزوها إلى أسبابٍ متعلقة بالأدوية والعقاقير أو الأشعة التي تعرضت لها الأم أو تناولتها..أو لأسبابٍ وراثية وما إلى ذلك من تفسيرات مقبولةٍ بالعقل والمنطق

المصيبة أكبر من مجرد حكاية شجرة أو خرافة تظهر هنا أو هناك..إذ إن دراسة أعدها المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية تقول إن في مصر نحو ثلاثمئة ألف دجال منهم مئة ألف في القاهرة وحدها..وتضيف أن ثمانيةً وثلاثين في المئة من أهل الفن والرياضة والسياسيين يترددون على هؤلاء الدجالين..وهناك يخترق جاهلٌ حاجز عقولهم ومستوياتهم الاقتصادية ومؤهلاتهم التعليمية لتبدأ رحلة استغلال جيوبهم


تلك الجيوب أنفقت نحو عشرة مليارات جنيه في عام ألفين وثلاثة على الدجالين والمشعوذين..حسب دراسة المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية التي تشير إلى أن ما يصل إلى مئتين وأربع وسبعين خرافة تتحكم في سلوك المصريين


الغريب أن بعض كتب التراث بل ومؤلفات من يوصفون عادةً بالمؤرخين تزخر بمثل هذه "الخوارق" و"المعجزات" التي قد تتناقلها الألسن وتضيف إليها مرةً بعد أخرى.. فضلاً عن كون أساسها غير صحيح..إذ إنه إبان المرحلة العثمانية المملوكية - وهي أكثر الفترات انحطاطاً في تاريخ مصر- انتشرت البدع والخرافات على نحو كبير. والذي يقرأ تاريخ ابن إياس أو المقريزي أو حتى الجبرتي فيما بعد..سيجد أن الناس كانت تستنجد بالخرافات لتنجو من واقع مؤلم تنتشر فيه الأوبئة والمجاعات


وها هي دورة التاريخ تتكرر..وفي حين يتطلع الآخرون إلى الأمام ها نحن نرتد إلى الخلف في ظل حالة من البؤس والتراجع ليس لها مثيل..وفي أوقات الشدائد وأزمنة المحن وفترات الأزمات يلوذ الناس بالخرافات التي تتحول إلى وباء يتفشى ويعمي القلوب والأبصار

يا له من بؤسٍ روحي..ويا لنا من شعب "لُقطة" ضحكت من جهله.. الحكومات
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator