المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (14): يا ساتر..يا رب





كان مصرع أحمد حسنين باشا حادثا غامضاً إن لم يكن مريباً

وأثيرت شكوكٌ حول ما إذا كان حادث التصادم بين سيارته وشاحنة تابعة للقوات البريطانية مدبراً
لنعد إلى تلك الأيام لنستقريء أحداثها المثيرة
في مطلع فبراير شباط عام 1946 كانت الوزارة البريطانية يومئٍذ من حزب العمال بزعامة كليمنت أتلي، وكان وزير الخارجية إرنست بيفن

وعرف حسنين كيف يوجه صديقه عبد الفتاح عمرو سفير مصر في لندن إلى استغلال صداقته مع بيفن. وكان أن استدعت وزارة الخارجية البريطانية مايلز لامبسون من مصر، وهو ما أسعد الملك فاروق الذي كان يضمر عداء شديداً لهذا الرجل الذي أهانه بشدة وانتقص من سلطاته كملك في أزمة فبراير شباط 1942
وهكذا برَّ حسنين بوعده أو بقسمه وثأر لنفسه وللملك من مايلز لامبسون
غير أن حسنين لقي مصرعه بعذ ذلك بأسبوعين اثنين. وبدا موته مفاجأة مثيرة كما كانت حياته سلسلة من المفاجآت التي تحبس الأنفاس
وكان أمضى سهرة يوم الأحد 17 فبراير 1946 في مسكن مع بعض الأصدقاء ومنهم أم كلثوم، التي غنت لهم "سلوا قلبي" كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وتلحين رياض السنباطي. وحمل حسنين مقعداً صغيراً جلس فيه بين يدي أم كلثوم، وكان ينصت بكل جوارحه إلى تلك الأغنية المكتوبة في مدح الرسول الكريم
وامتدت السهرة حتى مطلع فجر يوم الاثنين
وفي يوم الثلاثاء 19 فبراير شباط كان حسنين مدعواً لتناول طعام الغداء عند أسرة صديقه الظاهر حسن المحامي في المطرية.. ولكن تراكم الأعمال أبقاه في مكتبه بقصر عابدين إلى الساعة الثالثة بعد الظهر.. ورأى حسنين أنه تأخر كثيراً عن الموعد فاعتذر هاتفياً لصاحب الدعوة، وقيل إنه اقترح تأجيل الدعوة إلى المساء، لتكون عشاء بدلاً من الغداء، لأنه يشعر ببعض التعب ويريد أخذ قسطٍ من الراحة

وهكذا عدَّل حسنين خط سيره في اللحظة الأخيرة، كأنما كان على موعدٍ مع الموت في الطريق المؤدية إلى بيته
استقل حسنين سيارته عائداً إلى داره في الدقي، وكانت السماء تمطر. وبينما كانت سيارته تجتاز كوبري قصر النيل في طريقها إلى الدقي، أقبلت سيارة لوري بريطانية من الجهة المضادة.. وانزلقت عجلات السيارة البريطانية بفعل المطر ولفت اللوري نصف لفة على الكوبري -الذي وضع الملك أحمد فؤاد حجر أساسه في 4 فبراير شباط 1931- وصدمت سيارة حسنين من الخلف صدمة شديدة
وسمع سائق السيارة صوت حسنين باشا الجالس في المقعد الخلفي وهو يقول: "يا ساتر.. يا ساتر يارب"
وتقهقرت سيارة اللوري إلى الخلف بعد أن ارتبك سائقها، ودار نصف دورة حول سيارة أحمد حسنين، ففوجئ بسيارة قادمة من الاتجاه الآخر، فعاد إلى الخلف مرة أخرى ليصدم سيارة أحمد حسنين مرة ثانية والتفت السائق خلفه فرأى أحمد حسنين وقد انحنى قليلاً في مكانه بالسيارة وبدأ الدم ينزف من أنفه. أوقف السائق السيارة ونزل منها يصيح ويطلب المساعدة. ومرت مصادفة في اللحظة نفسها سيارة وزير الزراعة أحمد عبد الغفار باشا صديق حسنين وزميله أيام الدراسة في أكسفورد
وأسرع أحمد عبد الغفار وحمل صديقه إلى مستشفى الانجلو أمريكان بالجزيرة، قريباً من مكان الحادث
ولكن حسنين كان أسلم الروح، فنقلوه إلى داره في الدقي
وطار الخبر إلى القصر
وأسرع فاروق ­وكان يرتدي بيجامة وفوقها (روب دي شامبر) وفي قدميه شبشب­ أسرع بملابسه هذه واستقل إحدى سياراته إلى دار حسنين في الدقي
بعد نحو ساعة، كان فاروق واقفاً أمام الجسد المسجى أمامه لحسنين.. رائده وأستاذه ومربيه ثم رئيس ديوانه..ثم قال: "مسكين يا حسنين"، وسأل ذلك عن مفاتيح مكتب حسنين، وتناولها ودخل غرفة المكتب وأغلق وراءه الباب. وكان فاروق يبحث عن أية مذكرات يكون حسنين قد كتبها، وعن عقد زواجه بأمه الملكة نازلي، وأية أوراق مهمة أخرى قد يكون تركها وراءه
ويقول كريم ثابت في مذكراته إنه ذهب إلى منزل حسنين فور علمه بالحادث، وجلس مع بعض مساعدي الفقيد الذين هرعوا إلى المنزل أيضاً. ثم دخل عليهم فاروق وكان بادي الانزعاج،ـ فغادر المساعدون تاركين لهما في الغرفة "فعزيته، فقاطعني بقوله: لقد جمعت بنفسي كل أوراقه الخصوصية هنا وفي عابدين قبل أن تمتد إليها يد!" (نهاية الملكية..مذكرات كريم ثابت: عشر سنوات مع فاروق : 1942 -1952، كريم ثابت، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 82)
وخرجت صحف مصر والصحف العالمية في اليوم التالي تحمل أخبار الحادث الذي راح ضحية له أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي

وكان عنوان مانشيت جريدة "الأهرام" هو: "من فجعات القدر: وفاة أحمد حسنين باشا في حادث تصادم" مع عنوان أصغر هو: "مصاب فادح"

وأفردت الصحيفة صفحتها الأولى بالكامل لسرد تفاصيل وقوع الحادث، مع الإشارة إلى منح اسم الفقيد الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي
وقالت بعض الصحف إنها تشك في أن الحادث قضاء وقدر
قالوا إن أحمد حسنين قُتل، وإن نهايته لم تكن مجرد مصادفة.. واتهم بعضهم الإنجليز بتدبير الحادث، وذلك تصفية لمواقف سياسية قام بها أحمد حسنين، لم تعجب الإنجليز، خاصة أثناء فترة الحرب العالمية الثانية.. لكن البعض الآخر اتهم الملك فاروق بأنه هو الذي دبر حادث مصرع أحمد حسنين رئيس ديوانه. وقالوا إن الملك فاروق لم ينس أبداً حقده وغضبه علي أحمد حسنين، الذي جعل نازلي تجبر ابنها الملك فاروق على زواجها منه
ودلل هؤلاء على ذلك بأن الملك فاروق بمجرد أن سمع خبر وفاة أحمد حسنين حتي أسرع إلى فيلا أحمد حسنين في الدقي، وحصل على مفاتيح مكتبه، ثم عاد إلى القصر وفي جيبه هذه المفاتيح، واستولى على بعض الأوراق والمستندات. وقال محمد زكي حسين ـ وزير الأوقاف ـ لجريدة "الأخبار": بعد حادث وفاة أحمد حسنين بسنوات ست، أنه كان أحد الشهود الذين رأوا الملك فاروق في فيلا أحمد حسنين يوم وفاته، وقال إنه كان يشغل وقتها وظيفة رئيس مجلس إدارة المجالس الحسبية في مصر، وقد حضر بصحبة رئيس مجلس حسبي مصر إلى فيلا حسنين لحصر تركته بعد وفاته، وأنه فوجئ بوصول الملك فاروق إلى الفيلا ودهش حين رآه يصعد درجة المنزل بسرعةٍ جنونية وفي أقل من لمح البصر، ثم اتجه في الحال إلى مكتب أحمد حسنين وأخذ يجري تفتيش المكتب، ولم يمكث طويلاً وسرعان ما غادر المنزل دون أن يلاحظ أنه قدم العزاء إلى أهل الفقيد
وأضاف قائلاً: "بعد أن غادر الملك المنزل بدأت بمساعدة رئيس مجلس حسبي مصر حصر التركة، واتجهنا إلى مكتب حسنين باشا الذي اعتدى عليه الملك بتفتيشه وبعثرة ما به من أوراق، مما زاد مهمتنا صعوبة، وهنا حضرت شقيقة حسنين باشا، وذكرت لنا أن الملك فاروق تناول من هذه الأوراق وثيقة زواج شقيقها من الملكة نازلي.. لكن شقيقة أحمد حسنين أرسلت إلى الجريدة تكذّب هذا الكلام، ما جعل الجريدة تعرض التكذيب على محمد زكي حسين الذي عاد ليؤكد الواقعة.. وقال بالنص: "لقد توجهت إلى منزل الفقيد أحمد حسنين باشا، ومعي رئيس مجلس حسبي مصر وعددٌ من الخبراء، وذلك بعد أن أخطرنا بوفاته في حادث تصادم، وقابلتني السيدة شقيقته وبادرتني بالقول إن الملك حضر إلى المنزل، وصعد إلى الطابق الأعلى ودخل غرفة الفقيد ومكتبه، وقالت إنها تستنتج أنه أخذ بعض الأوراق من مكتب الفقيد

فصعدت معها إلى الطابق الأعلى، ورأيت جميع أدراج المكتب مفتوحة، والأوراق مبعثرة فيها، ما يدل على أن أحداً اعتدى على المكتب وعبث بمحتوياته، فلما سألتها عما تظنه قد أخذ من هذه الأوراق أجابت بقولها إنها تظن أنه أخذ عقد زواج المرحوم شقيقها من الملكة نازلي!"

وقد نشرت جريدة "الأخبار" في أول ديسمبر كانون أول ١٩٥٢ تصريحاً لكريم ثابت المستشار الصحفي للملك فاروق قال فيه: الذي حدث أنه لما توفي أحمد حسنين أسرعت إلى بيته، وذهب إلى هناك الملك فاروق فوراً عندما بلغه الخبر، ودخل فاروق حجرة المرحوم أحمد حسنين الخاصة وفتح جميع أدراجها، وأخذ الأوراق وانصرف، وقال لي فاروق في
نفس اليوم إنه عثر في أدراج أحمد حسنين على وثيقة عقد زواجه بالملكة نازلي


وفي العدد نفسه، قال أنطون بوللي أقرب أفراد حاشية الملك فاروق: "في يوم وفاة أحمد حسنين كان فاروق متأثراً جداً، وما كاد يسمع بوفاته حتى صحبني معه إلى فراش الموت الذي كان راقداً عليه أحمد حسنين، وراح يبحث وينقب حتى أخذ أوراقا، كان مهتماً بألا تقع في يد أي إنسان، ولم يخبرني الملك عن هذه الأوراق بشيء. وأضاف بوللي قائلاً: أظن أن الملك فاروق كره أحمد حسنين باشا، لأنه شعر بعد وفاته أنه كان محتاجاً إليه، وأنه "لاص" بعد وفاته، وكان فاروق يتضايق من الشائعات عن علاقة الملكة نازلي بأحمد حسنين، لكنه في قرارة نفسه كان يعلم أنها علاقة شرعية، لكنه لم يجد عنده الشجاعة ليقول حقيقتها للناس!
"وعموماً فقد أخبرني فاروق أنه عثر على وثيقة زواج الملكة نازلي من أحمد حسنين، وأنه أعدمها حتي لا تقع في يد أي إنسان"
يومها قال فاروق لصديقه ومستشاره الصحفي كريم ثابت إن رئيس الديوان "تركنا وإحنا في عز الشغل"!
وبعد قليل، أنعم فاروق على اسم أحمد حسنين بالوشاح الأكبر من نيشان محمد علي. وفسر فاروق هذه الخطوة بأنها لكي تقام جنازة عسكرية لرائده ورئيس ديوانه
وفي تلك الليلة، سهر فاروق في "أوبرج الأهرام" مع كريم ثابت، وقال له أثناء السهرة: "لا بد أن هناك مأتماً آخر الليلة في الدقي"
وكانت نازلي منذ خلافها معه تقيم في الدار التي كانت لوالدها في حي الدقي


ثم أردف فاروق قائلاً: "من حسن الحظ أن كل شيء قد انتهى الآن"

ثم حدَّث مستشاره الصحفي عن الليلة التي طلبت فيها أمه الملكة نازلي منه الموافقة على زواجها من أحمد حسنين، وغضبه الشديد من هذه الفكرة. وكلَّمه كيف أنه في مرةٍ أخرى لم يستطع تحمل "ما يجري تحت سقف القصر الذي مات فيه والدي، فأصدرت أمري إلى الخدم بأن يلقوا بفرش حجرة أحمد حسنين في حديقة القصر"

واسترسل فاروق في الحديث عن طلاق أحمد حسنين من لطفية هانم "زوجته الشرعية بعدما ذاقت المر من علاقته بأمي"، قبل أن يفسر ما قام به في ذلك اليوم العصيب قائلاً: "ولذلك كان أول ما عملته اليوم بعد وفاته أن جمعت أوراقه الخصوصية بنفسي خوفاً من أن يكون فيها شيء يتصل بهذه الفضيحة، فيقع في يدٍ غريبة"

وبرر الملك فاروق لجليسه سبب إبقائه على أحمد حسنين طوال تلك الفترة بالقول: "ولكني كنتُ مضطراً إلى الاحتفاظ بحسنين..كان يعرفُ طبيعتي وأخلاقي..وكان يعرفُ سياستي وأسراري..وكان يعرفُ دخائلي وشؤوني الخاصة..وكنتُ في البداية محتاجاً إليه في عملي، ثم لم أعد في حاجةٍ إليه، ولكني كنتُ قد اعتدتُ العمل معه، وكان يريحني فظل في خدمتي بقوة الاستمرار، سيما أنه كان في عمله مطيعاً ومؤدباً" (ص 84)

الغريب أن جثمان أحمد حسنين قد دفن مرتين!

المرة الأولى بعد وفاته ودفن في مقبرة الأسرة "بقرافة المجاورين".. والمرة الثانية بعد وفاته بأربع سنوات، حين بنت له الحكومة مقبرة خاصة في الجزء الشمالي من مقبرة مملوكية -بالقرب من طريق صلاح سالم الآن- تكلفت ٢٢ ألف جنيه، وتم نقل رفات أحمد حسنين إليها، وأشرف على عملية النقل حيدر باشا وأحمد عبد الغفار باشا وعثمان المهدي باشا وطارق وهاشم ولدا أحمد حسنين وابن اخته محمد علي رمضان، وتولى القيام بنقل الرفات ١٥ جندياً من رجال البحرية الملكية وثلاثة ضباط، وقد صمم المقبرة الجديدة حسن فتحي أستاذ "عمارة الفقراء" الشهير..والذي لا يعرفه كثيرون هو أن المهندس حسن فتحي - أشهر مهندس مصري عرفه العالم منذ إيمحوتب- كان صهر أحمد حسنين باشا، إذ تزوج الأول لفترةٍ من عزيزة حسنين، شقيقة أحمد حسنين

وكانت الحكومة المصرية قد طالبت الحكومة البريطانية بتعويضٍ عن حادث مصرع أحمد حسنين، فأرسلت القيادة البريطانية ـ بعد سنتين من الحادث ـ شيكاً بمبلغ 12500 جنيه إلى القصر الملكي تعويضاً لأسرة الراحل أحمد حسنين.. الغريب أن مصر كانت قد دفعت نصف مليون جنيه قبل ذلك تعويضاً عن مصرع السردار الإنجليزي سير لي ستاك، فور وقوع الحادث


وفي يوميات محمد التابعي كتب يقول يوم وفاة حسنين: "مات أحمد حسنين كما مات سنيكا!
كانت الشائعات قد تواترت بأن الملك فاروق هو الذي قتل حسنين، خطر على بالي ما حدث لسنيكا على يد نيرون
ووجه الشبه بين نيرون وفاروق واضح، فكلاهما طاغية، أحدهما حرق روما، والآخر حرق القاهرة، أحدهما قتل أمه وأخاه، والآخر قتل عرض أمه وأخوته!.. أما وجه الشبه بين حسنين وسنيكا، فهو أن حسنين كان رائد فاروق، وسنيكا كان رائد نيرون، وقد اختلف الناس في أمر سنيكا كما اختلفوا في أمر حسنين.. فحتى الآن لم يصدر التاريخ حكمه في أحمد حسنين، وهل أعان فاروق على البغي والعدوان، أم أنه كان يحاول أن يروضه على العدل والدعة؟
بل إن التاريخ لم يصدر حكمه على سنيكا، وقد مضى على وفاته ١٨٩٠ عاماً، لقد كان سنيكا فيلسوفاً، وكانت حياته مليئة بالمآزق والأهوال، وكان حسنين عالماً وأديباً ورحالة، كانت حياته كلها مآزق وأهوال، وكلاهما كان يرتفع وينخفض، يفشل وينجح، ويغوص في قاع البحر، ثم ما يلبث أن يطفو فوق سطح الماء.. وكما كان لحسنين صلة شرعية بأم فاروق، كان لسنيكا مثل هذه الصلة بأم نيرون، وقد ظل سنيكا يعلم نيرون ويشير عليه إلى عام ٦٣، وطلب سنيكا من نيرون أن يعتزل الحياة العامة فلَّبى طلبه في عام ٦٥، أصدر نيرون أمراً سياسيا لسنيكا بأن ينتحر!
وتلقى سنيكا أمر الانتحار، وكان بين أهله وأصدقائه، والتفت لهم وقال له: إنه لا يستطيع أن يجازيهم على حسن صنيعهم بأكثر من أن يعتبروا ما حدث له على يد نيرون. وفي نوفمبر ١٩٤٥ أرسل أحمد حسنين إلى الملك فاروق استقالته من منصب رئيس الديوان، وقال في هذه الاستقالة: "لقد ضحيت بحياتي من أجلك، وكان أملي أن أجعل من وجودي إلى جانبك قوة أسخرها في خدمة بلادي، وكم يؤسفني أن أملي قد خاب".. وكانت هذه الاستقالة قبل وفاته بأربعة أشهر. وكذلك فاروق أصدر أمراً سامياً لحسنين بالبقاء في وظيفته، أي بالانتحار!. وهكذا مات حسنين كما مات سنيكا"

نهاية درامية لرجلٍ عاش حياة حافلة بالدراما

ويذهب البعض إلى القول بأن رحيل أحمد حسنين أربك فاروق كثيراً وطويلاً، فقد كان حسنين بالرغم من كل شيء أباً ومرشداً، وهنا انكشف فاروق وأصبح يتصرف بتخبط؛ نظراً لتضارب آراء مستشاريه، وعدم قدرته على ضبط الإيقاع بين الوفد والإنجليز والقصر


وبعد مصرع حسنين كتبت عنه الصحف والمجلات الأجنبية باهتمام قائلة إنه كان المستشار الأول للملك فاروق وإنه كان المستشار الذي تتلمذ فاروق على يده، ما أغضب الأخير لدرجة أن كريم ثابت يقول: "وامتعض فاروق من تلك الكتابات امتعاضاً شديداً، ورسم خطاً أحمر تحت كل عبارةٍ وردت فيها لفظة مستشار استنكارا لها، وقال لي يوماً معقباً عليها: "إن هؤلاء المغفلين – إشارة إلى أصحاب تلك الكتابات- يظنون أن حسنين كان هو الذي يعمل ويتصرف، ولا يعلمون أن حسنين لم يكن سوى آلة منفذة!" (نهاية الملكية..مذكرات كريم ثابت: عشر سنوات مع فاروق : 1942 -1952، ص 15)

وبعد وفاة حسنين ظل منصب رئيس الديوان شاغراً سنة كاملة، لا لأن فاروق لم يجد الرجل الذي يُعيَّنه فيه، وإنما لأنه أحب أن يظهر للملأ أنه يستطيع أن يستغني عن حسنين، بل يستطيع أن يصرف شؤون الدولة بدون رئيس ديوان. بل إن كريم ثابت ينقل عن فاروق قوله: "لم الاستعجال في تعيين رئيس للديوان.. ألستُ أنا الرئيس الفعلي للديوان وإن لم يعرف الناس ذلك!" (ص 16)

وبعد وفاة حسنين بأسبوعين أو ثلاثة أسابيع ذهب فاروق يزور أمه نازلي في قصرها الذي ورثته عن أبيها في الدقي، ودخل عليها في قاعة القصر الكبرى.. وتسمرت قدماه عند الباب
فقد رأى أمامه في صدر القاعة صورة لأحمد محمد حسنين بالحجم الطبيعي وقد جللت بالسواد
وأمام الصورة­ على الأرض­ جلست أمه الملكة نازلي وحولها سيدات حاشيتها وخادمات القصر وجميعهن متشحات بالسواد


وعلى جانبي القاعة الكبيرة جلس نحو عشرين شيخاً يتلون الأوراد ويدعون بالرحمة للراحل
توقف فاروق لحظة عند باب القاعة، وقد عقدت الدهشة لسانه، ثم مشى إلى حيث كانت أمه وقال لها وهو يشير بيده إلى الصورة وإلى السيدات والمشايخ، قبل أن يقول: "إيه ده كله؟! وعلشان إيه ده كله! مات.. خلاص مات.. فلزوم ده إيه؟!"
انتفضت نازلي واقفة على قدميها وانفجرت في ابنها قائلةً: "ده؟ ده اللي عملك راجل.. ده اللي حافظ لك على عرشك.. بكرة راح تشوف يجرى لك إيه.. بعد موت حسنين"

هز فاروق كتفيه ساخراً، وانصرف
وإن هي إلا أسابيع معدودة حتى غادرت نازلي مصر إلى أوروبا للعلاج والراحة كما زعمت
ولكنها غادرت مصر وفي نيتها ألا تعود.. وكان منها ما كان.. وكان كذلك ما كان من فاروق.. وكيف استهتر إلى أبعد حدود الاستهتار، إلى أن وقعت ثورة 23 يوليو تموز 1952

ولعله تذكر يومئذ وهو يوقع وثيقة تنازله عن العرش قول أمه: "بكره تشوف راح يجري لك إيه بعد موت حسنين"

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (13): الباشا يقفز من فوق السور



حينما ينحسر المد نعرف من كان يسبح عارياً

ولقد نجح أحمد حسنين في السباحة في بحر السياسة وإدارة لعبة القصور، من دون أن يغرق أو يجرفه التيار الهادر بعيداً عن مركز الحكم

تمكن حسنين من أن يجعل من الملكة نازلي رهن إشارة من إصبعه، حتى إنه طلَّقَ زوجتَه وأم أولاده فور عودتِه من الرحلة الملكية في ربوع أوروبا، وتفرغ للسيطرة على الملك والقصر من خلال حب الملكة نازلي له
وحين سُئِلَ حسنين عن سبب الطلاق، رد بالقول إنه لم يكن هناك من مفر من ذلك إزاء ما واجهته به لطفية هانم من الطعن والتجريح، فضلاً عن أنها أطلقت لسانها في كل مكانٍ بالطعن في الملك والملكة نازلي، فكان الطلاق هو الرد الوحيد، لأنه إذا احتمل مطاعنها فيه شخصياً فإنه لا يستطيع السكوت على ما يمس شخص الملك وأسرته. وكان أحمد حسنين يعتقد أن ناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا هو المسؤول عن إبلاغ زوجته، ما أثارها عندما عاد من رحلته إلى فيشي، في حين أن مراد باشا حين حضر إلى فيشي، أخذ يسأل أفراد الحاشية عن حقيقة الشائعات التي ملأت القاهرة عن العلاقة بين حسنين باشا والملكة نازلي (د. حسين حسني، "سنوات مع الملك فاروق..شهادة للحقيقة والتاريخ"، ص111)


المفارقة هنا أن طلاق أحمد حسنين باشا بدا مبرراً له كي يعود إلى الإقامة مؤقتاً في القصر الملكي إلى أن يجدَ مسكناً ملائماً. وعلى ذلك فإنه عند انتقال البلاط الملكي إلى الإسكندرية بعد حفلات تولية فاروق ملكاً، عاد أحمد حسنين باشا إلى جناحه بقصر المنتزه حيث كان يقيم منذ عودة الملك من إنجلترا بوصفه الرائد المشرف على شؤون دراسة الملك الشاب. إلا أن الهمسَ تردد والتساؤلات أثيرت بين جنباتِ القصر، في ظل إقامة حسنين بالقصر الكبير في المنتزه، بالرغم من وجود جناحٍ في ناحيةٍ أخرى من الحديقة كان مخصصاً لنزول رجال الحاشية الذين تقضي الضرورة مبيتهم بالقصر، علماً بأن حسنين باشا كانت قد زالت عنه صفة الرائد ولم يعد له سوى مركز الأمين الأول للملك. وما زاد الأمر تعقيداً هو أن أحمد حسنين كان يستقبل أصدقاءه وبينهم عددٌ من رجال الأحزاب المعارضة، الأمر الذي أثار استياءَ وتساؤلَ الحكومة وأنصارها

ولم تكن الملكة نازلي غائبة عن الصورة المعقدة

فقد دأبت نازلي على الخروج مع أحمد حسنين وارتياد الأماكن العامة. بل إن الكاتب الصحفي محمد التابعي اتصل في إحدى المرات بالسكرتير الخاص للملك فاروق وطلب منه أن ينصح أحمد حسنين بمراعاة الابتعاد عن الظهور في صحبة الملكة نازلي في الأماكن العامة التي يراهما فيها كثيرون، إذ شاهدهما يجلسان في سيارة في الشارع الصغير الواقع خلف مقهى "التريانون" يراقبان خلال النافذة المطلة على ذلك الشارع ما يُعرَضُ في ذلك المقهى من فقرات الترفيه من رقصٍ وغناء. وقال التابعي إن ذلك من شأنه أن يثير من اللغط ما يسييء إلى سمعة وكرامة الأسرة المالكة وهو ما يجب تفاديه على أية صورة. وأضاف التابعي أن ما دعاه إلى التنبيه إلى ذلك هو إخلاصه للملك، مشيراً إلى أنه
لم ير أن في استطاعته الاتصال بحسنين مباشرة في ذلك الشأن نظراً إلى ما فيه من إحراجٍ وحساسية. وطلب التابعي عدم ذكر اسمه نهائياً خوفاً من أن يكون سواه قد رآهما وأن يذيع الخبر فيتجه الظنُ إلى أنه هو مصدرُ إشاعته

وبطريقةٍ غير مباشرة، أثار السكرتير الخاص للملك فاروق الموضوع مع أحمد حسنين، فقال له إنه يبدو أن تردد بعض أصدقائه عليه في القصر من رجال المعارضة السياسيين قد أصبح يثيرُ التساؤلَ حول مدى مشاركة الملك في تلك اللقاءات، ونَصحَه بأن يجعل مثل تلك المقابلات في مكتبه الرسمي بالقصر تجنباً لإثارةِ قلق الحكومة. وأشار إلى أنه من الأفضل أن يسرع حسنين باشا باختيار مسكن له حتى يقطع أسباب القيل والقال. فما كان من أحمد حسنين إلا أن قال وابتسامةٌ ساخرة على وجهه إنه يعلم أن إقامته في القصر تسوء كثيرين ولكنه لن يشفي غليلهم وسيظل مقيماً بالقصر ليموتوا بغيظهم، فأدركَ محدثه من لهجته وابتسامته أنه يعنيه شخصياً بكلامه

إلا أن الأحداثَ أخذت منحىً آخر، بعد أن بدأ فاروق ينتبه إلى ما يدور حوله


وبعد أيام قلائل من المصارحة السابق ذكرها، فوجيء د. حسين حسني بالملك يقول له في نهاية مقابلته له: "صاحبك مستني إيه هنا، قل له يعزل بقى، وأنا عاوزك تبلغه أنه يخرج حالاً وتعرفني النتيجة في أقرب فرصة". وحينما ذكر له سكرتيره الخاص أنه ربما كانت ظروف حسنين الخاصة هي التي استوجبت عودته إلى الإقامة بالقصر، قال: إنه كان يقيم بصفته رائداً ولكن لا مبرر لذلك الآن، وعليه أن يدبر شؤونه ويترك القصر. وبدا أن فاروق يفضل أن يفعل حسنين ذلك - أي الخروج من القصر- من تلقاء نفسه، ولهذا كان يرى أن يتم نصحه بالخروج

وربما كانت العلاقة بين فاروق ورائده في وقت سابق هي السبب في حرص الملك الشاب على تجنب المواجهة مع حسنين وإثارة الموضوع بشكل مباشر


حاول د. حسين حسني إثارة الموضوع من جديد مع حسنين باشا، فرد عليه في غضبٍ قائلاً إنه يعلم أن هناك أشخاصاً يسوؤهم وجوده في القصر ولكنه لن يخضع لرغبتهم ولن يريح بالهم. وعندما سأله الملك عما جرى بينه وبين حسنين، اقترح د. حسني على فاروق إمهال أحمد حسنين تجنباً للإحراج، ولو اقتضى الأمر الانتظار إلى حين العودة إلى القاهرة في نهاية الصيف، لعله يرى في ذلك فرصةً للخروج محتفظاً بكرامته، فوافق الملك على هذا الاقتراح
لكن العاصفة كانت قد بدأت في التجمع منذرة بأزمة داخل القصر


ففي منزل عمر فتحي - الذي أصبح لاحقاً كبير ياوران الملك- أخذ فاروق يسير في إحدى الحجرات ذهاباً وإياباً بخطواتٍ عصبية وقد بدا على وجهه الغم والتجهم، ثم قال أمام عمر فتحي وحسين حسني: "لم أعد أستطيع الصبر، لقد أوشكت على الجنون وأطلب منكما مشاركتي في التفكير، ماذا أصنعُ مع الملكة نازلي وحسنين، هل أقتلهما؟..هل أرسلها إلى مستشفى المجانين؟.. أم هل أبعث به سفيراً إلى اليابان؟..لم أعد أطيق هذه الحالة". أخذ الاثنان يخففان عن فاروق وتهدئة خاطره، مبينين له ما في السلوك العنيف من مخاطر وإثارة للفضائح. وسعى الرجلان إلى نصح الملك الشاب بأن يحتفظ بالهدوء ويلجأ إلى الحكمة، لعله يمكن إيقاظ الملكة نازلي من غفوتها وإرشادها إلى ما تفرضه عليها واجباتها كأرملة لملك وأم لملك وأميرات، أو لعل حسنين من جانبه يصحو ضميره


بدا فاروق في تلك الليلة كأنه وحشٌ ثائر جريح وقد أُحكِمَت حوله أسوار القفص وهو لا يملك منها فكاكاً ولا حيلةً للهرب


كان الجرح غائراً في نفسه. لقد وجد نفسه شاهداً على علاقةٍ تجمع بين أمه التي كان يخصها بالحب والعطف بعد طول إبعاده عنها إلا لماماً، وأستاذه ومرشده الذي كان يوليه من الثقة والتقدير الكثير. وعلى الأرجح، فقد قوضت تلك العلاقة إيمانَه بالمُثل العليا ومبادىء الأخلاق، وأصيب بصدمةٍ خاب معها ظنه وضاع أمله



وفي صبيحة يوم تعيين الملك فاروق علي ماهر رئيساً للديوان الملكي، قال أحمد حسنين باشا لسكرتير الملك الخاص د. حسين حسني وقد بدت عليه أمارات المرارة الشديدة: "عملتها يا سي حسني..طيب ارتاح بقى خلاص؟!" وكان يقصد بذلك أن الأخير كان وراء تعيين علي ماهر في هذا المنصب الذي كان حسنين يتطلع إليه بكل قلبه

في غضون ذلك، كانت مسألة مكان إقامة أحمد حسنين تثير أزمة خطيرة

إذ لم يخرج أحمد حسنين باشا من القصر إلى مسكن خاص كما كان منتظراً قبل عودة الملك وعائلته من الإسكندرية، بل إنه طلب نقل أمتعته إلى قصر القبة ونزل هناك. وكانت الملكة نازلي من ناحيتها نزلت مع الأميرات في قصر أبيها في الدقي وأعلنت اعتزامها الإقامة الدائمة هناك. وعلى الرغم من أن الملك أمر بإجراء إصلاحات شاملة في القصر بمناسبة قرب زفافه، ما استدعى إخلاء الجناح الذي يقيم حسنين باشا، بل على الرغم من إبلاغه ذلك على لسان الملك فإن حسنين باشا لم يصدر منه ما يدل على قرب مغادرته القصر وظل يخرج ويدخل كما يشاء بل كان يحضر في وقتٍ متأخر من المساء. وسرعان ما أمر الملك بإغلاق أبواب القصر في الساعة العاشرة مساء وهو الموعد الذي قلما يعود فيه حسنين باشا. ودار همسٌ في القصر بعدها بأنه عندما فوجىء الملك بما علمه من أن الباشا حضر ليلاً، متأخراً، وتسوَّر أحد الأبواب ليستطيع الدخول، لم يطق صبراً وأمر بأن تجمع أمتعته في الحال وتنقل إلى جوار أحد أبواب الحرملك، بقصر عابدين، فوجد حسنين باشا في ذلك إهانةً بالغةً له على مرأى ومسمع من الخدم وصغار الحاشية، فاتخذ مسكناً له في مصر الجديدة واعتكف فيه زمناً بحجة المرض وامتنع خلال ذلك عن الذهاب إلى القصر


غير أن الملك رضخ للعبة لي الذراع التي مارسها مرشده في سن المراهقة

وبعد بضعة أسابيع من العزلة المعتمدة، زار الملك أحمد حسنين لترضيه وإقناعه بالعودة إلى عمله. وعلى الأرجح فإن الملكة نازلي لعبت دوراً في الضغط على ابنها فاروق، الذي بدا عاجزاً عن كبح جماح أمه أو إيجاد وسيلةٍ لاتقاء شر الفضيحة فيما لو اشتد الصراع بينهما
استأجر حسنين باشا بعد ذلك فيلا أنيقة في ميدان المساحة بالدقي، وهي التي ظل بها إلى حين وفاته. وبعد فترة من سكنى الفيلا، ذاع بين رجال القصر في حذرٍ شديد أن الملكة نازلي تزوجت من حسنين باشا بعقدٍ عرفي. ولعل ذلك كان الحل الوحيد الذي لم يرَ الملك بداً من التسليم به ليضع حداً للصراع النفسي الرهيب الذي كان يعانيه منذ أمدٍ طويل. وقيل إن فاروق نفسه هو الذي اقترح الزواج وأصر عليه بعد أن تعددت نزوات الملكة نازلي، ووجدت أخبار غرامياتها طريقها إلى الصحافة
ولاشك أن ما صنع هذه الصورة المهزوزة للملك هو خليطٌ من شخصية الملك فاروق التي لم تنضج على نارٍ هادئة، وانقياده ليصبح ألعوبةً في يد أحمد حسنين الذي نجح بدوره في السيطرة على الملكة نازلي عاطفياً، مستغلاً طيشها الذي دفعها إلى فعل ما يروق لها من دون رادع


ونقرأ الكثير عن هذا الأمر في كتاب "أحمد حسنين: أسرار السياسة والحب" للصحفي محمود صلاح (كتاب الهلال، عدد أغسطس 2005)، كما نطالع ما أورده محمد التابعي عن هذه العلاقة وتأثيرها علي الملك فاروق، إذ يقول:"تهدلت نازلي ملكة مصر وتهتكت في حب حسنين، ولم تخجل من أن تعلن حبها له أمام رجال القصر، ثم أمام ابنها الملك فاروق، ونسيت مقامها كملكةٍ وأرملة ملك وأم ملك ونسيت حرمة سنها وقد تجاوزت الأربعين
"وكانت الصدمة النفسية قاسية عنيفة على فاروق الذي كان يومئذٍ في الثامنة عشرة من عمره، وكان فاروق يحب أمه، ولم يكن يفوق حبه سوى احترامه لها كانت نازلي تناديه أمام الحاشية وأمامنا: فاروق!
"وكان هو يناديها دائماً: ماجستيه، أي صاحبة الجلالة
"وكان فاروق يخشاها ويتقي غضبها ويعمل لها حساباً"وكانت كلمتها عنده لا ترد

"وكثيراً ما سمعتها أثناء رحلتنا إلى سويسرا وفرنسا وانجلترا تنهاه أمامنا علناً عن قيادة سيارته بنفسه، أو تنهره وتطلب منه أن يترك سيارته ويركب معها في سيارتها، لأنها كانت تخاف عليه من تهوره في قيادة السيارات بسرعةٍ جنونية
"وكان فاروق دائماً يخضع ويطيعها ولا يرى غضاضة أو بأساً وهو الملك في أن ينزل على إرادتها مثل أي طفل صغير
"هكذا كان مقدار حب فاروق واحترامه لأمه نازلي
"ثم ها هي تتدلهُ وتنتهك في حب موظف من موظفي القصر ولا تخجل من أن تعلن أمام موظفي القصر أنها عاشقة ملهوفة على أحمد حسنين
"بل ولا تخجل من أن تصارحه هو ابنها الملك بأنها تحب هذا الموظف أحمد حسنين، وأنها قدمت نفسها له، لكنه يرفض، فتصرخ وتصيح أنها من لحم ودم، وتطلب من ابنها ان يزوجها من حسنين
"كانت صدمة قاسية لفاروق تهاوت المثل العليا التي كان يراها في أمه صاحبة الجلالة"


وربما يمكن القول إن هناك حدثين أثرا كثيراً في شخصية فاروق ونتج عنهما تحولات نوعية في سلوكه، وفي كلا الحدثين كان أحمد حسنين حاضراً بقوة. الحدث الأول سياسي، ونعني به أزمة 4 فبراير عام 1942 حين حاصرت الدبابات قصر عابدين وفرض الإنجليز عليه وزارة مصطفى النحاس بالقوة بعد تخييره بين التنازل عن العرش أو قبول الوزارة الوفدية. وهنا نصحه أحمد حسنين بالخضوع وقبول الأمر الواقع، ولكن فاروق شعر بانكسار شرعيته السياسية، إذ عامله المندوب السامي البريطاني السير مايلز لامبسون (اللورد كيلرن لاحقاً) معاملة طفلٍ شقي لا يستحق قطعة الحلوى بقدر ما يحتاج إلى علقةٍ ساخنة

وكان لامبسون يقول: "إن فاروق ولد جبان ويجب إخافته بين الحين والآخر"


والحدث الثاني الذي أدى إلى نقلة كبيرة في حياة الملك فاروق ذو طابع إنساني. فقد أحس فاروق بمهانة نتيجة طيش أمه الملكة نازلي، وإصرارها على إقامة علاقة مع رئيس ديوانه أحمد حسنين. علاقة غير شرعية هزت الملك، وإن كان قد جرى لاحقاً التغطية عليها بعقد زواجٍ عرفي

بعد هذين الحدثين أصيب فاروق بإحباطٍ ويأسٍ شديدين واستيقظ لديه حرمانه القديم، وراح يمارس تعويضاً في الانغماس في السهر والقمار والإسراف في الطعام حتى بدا بديناً مرهقاً في سنواته التالية، وقد أدى هذا السلوك إلى اضطراب علاقته بزوجته فريدة؛ فخانته مع ضابط إنجليزي، وكان هذا حدثاً ثالثاً يضاف إلى الحدثين السابقين اللذين أثرا في حياة فاروق وأدى إلى تحولات هائلة في سلوكه

وبعد أزمةٍ عنيفةٍ وضغوط سياسية من بريطانيا، تم تكليف حسن صبري باشا بتشكيل وزارةٍ ائتلافية في 28 يونيو حزيران 1940، فسعى إلى الحصول على موافقة فاروق على تعيين أحمد حسنين رئيساً للديوان الملكي، ليبعد بذلك شبح احتمال عودة علي ماهر إلى القصر

غير أن أهل القصر اكتشفوا متأخراً أنهم تخلصوا من ذئب، فجاء مكانه ثعلب

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (12): حكمة القرود






لفرط ما ادعّى أحمد حسنين التعقل، تعثّرت به نساءٌ من كل صنف ولون

كان أسلوبه بالغ التهذيب والأناقة، لكن له مفعول مدية تقطع جميع الأوردة وتستقر في قلوب الباحثات عن الحب
ولم تكن الملكة نازلي سوى أبرز قطعةٍ فنية في قائمة مقتنياته الثمينة

في كتابه "سنوات مع الملك فاروق..شهادة للحقيقة والتاريخ" يقول د. حسين حسني السكرتير الخاص للملك فاروق إنه في صباح اليوم التالي لوصول الملك الشاب إلى مصر وجد أحمد حسنين باشا مبتهجاً، وبادره بالقول "إنه حدثت في الليلة الماضية مفاجأة سارة لم يكن يتوقعها، فإن الملك دعاه في المساء إلى الطابق العلوي بقصر القبة وطلب منه أن ينتظر قليلاً في إحدى القاعات، ثم إذا به يعود ومعه والدته الملكة نازلي، فكانت مفاجأة اضطرب لها، ولكن الملكة قالت له إنها بعد كل الذي سمعته من ابنها من مبلغ عنايته به أثناء وجوده معه في إنجلترا حرصت على أن تلقاه لتعرب له شخصياً عن مدى تقديرها لكل ما بذله نحو فاروق ولتطلب منه أن يستمر في موالاته بالعناية والإرشاد، وأنها استبقته مدةً تبادله حديثاً كله عطفٌ ومودةٌ، وقد بات ليلته سعيداً متأثراً بما أبداه الملك الشاب من تقدير في الكلمات التي قدمه بها إلى والدته، حيث ذكر أنه رأى من أول واجباته أن يقدم لها الرجل الذي أحاطه بكل إخلاصٍ وعناية. كما أن الملكة أغدقت عليه كلمات الثناء والتقدير مما جعله يشعر ببالغ التأثر، فهنأته بما حدث ووجدت أن يكون ذلك باعثاً على اطمئنانه إزاء ما كان يخشاه من احتمالات تصرفات الأمير محمد علي رئيس مجلس الوصاية معه، فإنه سوف يجد من عطف الملكة الوالدة حليفاً ينصره عند اللزوم" (ص76)

ولما كان من شأن مهمة رائد الملك أن تظل قائمةً إلى حين تولي الملك سلطاته الدستورية –وقد نودي به ملكاً في 29 يوليو تموز 1937 بعد أن تم حساب عمره بالتقويم الهجري بناء على فتوى من الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر- فإن حسنين استمر في عمله في تلك الفترة، ولذلك كان يلازم القصر طوال النهار. وكان فاروق في هذه السن الصغيرة في حاجة إلى من يوجهه ويلهمه سداد الرأي وحُسن السياسة، وهذا ما انفرد به حسنين باشا

حرص أحمد حسنين على إضفاء طابع ديني على الملك الشاب، فقد أيد اقتراحاً بأن يتم الاحتفال بتولي فاروق سلطاته الدستورية في احتفال ديني‏،‏ الأمر الذي رفضته حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا ونظرت إليه على أنه محاولة لانتحال الملك صلاحيات دينية تزيد من سلطات القصر الأوتوقراطية. كما اقترح أحمد حسنين على فاروق أن يستهل عهده بأداء صلاة الجمعة في مساجد مختلفة، على أن يبدأ بأداء صلاة أول جمعة بعد وصوله في مسجد الرفاعي حيث دُفِنَ والده وجده لزيارة المقبرتين في أعقاب الصلاة. وقد تم ذلك في موكب حافلٍ على النسق التقليدي القديم، أي بمركبةٍ تجرها الخيل ويحفها فرسان الحرس الملكي. وكان لظهور موكب الملك على هذا النحو أثرٌ عميق في نفوس العامة، حتى أطلق الشعب على الملك الشاب لقب "الملك الصالح"
في المقابل، بدأ حسنين خطته وخطواته للوصول إلى قلب الملكة نازلي

وبعد انقضاء يوم الأربعين لوفاة الملك فؤاد، انتقلت الأسرة الملكية إلى الإسكندرية كعادتها سنوياً، إلا أنه طرأ في تلك السنة أمرٌ جديد لم يسبق حدوثه من قبل، وهو نزول حسنين في المبنى الرئيسي لقصر المنتزه، المعد لنزول أفراد الأسرة الملكية، على الرغم من وجود مبنى مستقل في احد أركان الحديقة لنزول من تُحتِمُ الظروف مبيته بالقصر من رجال الحاشية. وقيل في تعليل ذلك إن واجبات رائد الملك نحو القيام بمهمته على الوجه الأكمل لضمان انتظام الملك فاروق في دراسته وانتظام تنفيذ البرنامج الموضوع له، تقتضي وجود الرائد إلى جانبه في كل لحظة، ما يستدعي ملازمته له في الإقامة كما كانت الحال في إنجلترا

وبعد رحلةٍ إلى أقاليم الصعيد لمشاهدة آثار مصر الكبرى، رافقته فيها الملكة نازلي وشقيقاته الأميرات والحاشية التي تضم حسنين باشا، رُئي أن يقوم الملك الشاب برحلةٍ طويلةٍ إلى أوروبا لعل الرحلة تزيد في تجاربه ومعلوماته، خصوصاً أنه لم يكمل دراسته ولا يملك من خبرات الحياة الكثير


وتقرر مجدداً أن تصحبه أمه نازلي وشقيقاته فوزية وفايزة وفايقة وفتحية، وحاشية تضم الرائد حسنين باشا. وتحدد يوم 27 فبراير شباط 1937 للسفر من بورسعيد على ظهر الباخرة الإنجليزية "فايسروي أوف إنديا" RMS Viceroy of India باتجاه مرسيليا، ومنها إلى سويسرا لزيارة معالمها الكبرى في سان موريتز ثم جنيف وبرن وزيوريخ، على أن يكون السفر منها إلى إنجلترا رأساً ثم تكون العودة عن طريق فرنسا لزيارة باريس وفيشي، لملاءمة مياهها المعدنية لصحة الملكة نازلي

واندلعت الثورة في منزل أحمد محمد حسنين


فقد ترامت إلى سمع زوجته لطفية هانم إشاعات وأقاويل عما بين الملكة نازلي وأحمد حسنين. طلبت لطفية من حسنين أن تسافر معه في هذه الرحلة، فوعدها بعرض الأمر على فاروق. غير أنه عرض الأمر على نازلي التي رفضت طبعاً. وعاد حسنين وأبلغ زوجته أن الملك لا يوافق على سفرها؛ لأن الرحلة شبه رسمية ولا مكان فيها لزوجات الموظفين من رجال الحاشية.. لكن لطفية هانم ابنة الأميرة شويكار لم تقتنع بالأمر، وأخذت تسأل وتستقصي إلى أن علمت بأن زوجها لم يحدث فاروق في الموضوع، وإنما عرض الأمر على الملكة نازلي. زادت شكوك لطفية هانم، وعلا الصراخ والبكاء في منزل أحمد حسنين، وانفجر بركان غضب الزوجة


ويبدو أن حب أحمد حسنين للمجد تغلب على حبه لزوجته، ولذا فقد أراد لخطته النجاح حتى لو كان ثمن ذلك غضب الزوجة التي تعد حفيدة محمد علي. ولكي تنجح الخطة كان ضرورياً أن تبقى لطفية هانم خارج الصورة وبعيداً عن الرحلة، لضمان السيطرة على الملك فاروق عن طريق أمه الملكة نازلي


وبعد أيامٍ من انطلاق الرحلة، كان أحد رجال الحاشية يتنقل في سيره بين أركان السفينة على سبيل الرياضة، إلى أن ساقته قدماه إلى السطح الأعلى حيث توجد قوارب الإنقاذ، وإذا به يُفاجأ بحسنين باشا جالساً على إحدى الأرائك الخشبية وإلى جانبه الملكة نازلي في حالة استرخاء لا تكون إلا بين من رُفِعَت بينهم كل كلفة. انزعج رجل الحاشية لما رأى وعاد مسرعاً إلى غرفته. وفي صباح اليوم التالي دعاه حسنين باشا إلى غرفته ثم قال له: هل تعرف الحكمة التي يشير إليها تمثال القرود الثلاثة؟ تظاهر الرجل بعدم المعرفة، فقال له حسنين: إن التمثال يبدو فيه قردٌ وضع يديه على أذنيه أي أنه لا يسمع، والثاني وضع يديه على عينيه أي أنه لا يرى، والثالث وضع يده على فمه أي أنه لا يتكلم، والتمثال في جملته يتخذ رمزاً لما يجب أن يكون عليه رجل الحاشية من بطانة الملوك، فأرجو أن تعي ذلك. وانصرف الرجل وقد وعى تماماً ما سمعه وإن بقي يشعر بالدهشة لما سمع وأكثر دهشة لما رآه في الليلة السابقة! وذهب الرجل إلى د. حسين حسني ليستنجد برأيه ويشاركه ما يثقل كاهله من الفزع والصدمة


لقد كان أقرب شخصين إلى نفس فاروق، يتقاربان ويتآلفان عاطفياً من وراء ظهر الملك الشاب، ليصنعا جانباً من مأساته الشخصية

وفي سان موريتز، نزل أفراد الرحلة في فندق "سوفريتا" المطل على بحيرة. ولفت انتباه رجال الحاشية وقتذاك أنه في تخصيص الحجرات المحجوزة للأسرة المالكة والحاشية، كان جناح حسنين باشا يقع بين جناحي الملك فاروق والملكة نازلي بحيث إن حجرة نومه كانت ملاصقةً لحجرة الملك وحجرة الجلوس كانت ملاصقةً لجناح الملكة نازلي..ولكن يبدو أن حسنين أحس بما أثاره هذا الاختيار من تساؤلاتٍ، فلم يعد إلى اختيار مثل هذا الموقع في الفنادق الأخرى التي نزل بها المشاركون في الرحلة

على أن حسنين اضطر إلى التشدد مع نازلي حين سرت تعليقات بشأن إصرارها على ممارسة رياضة التزلج في سان موريتز بمساعدة رجال غرباء، وهي التي لم تمارس تلك الرياضة من قبل. كما أنها في المساء كانت حريصةً على الرقص، غالباً بمصاحبة حسنين وأحياناً برفقة سواه، وكان حسنين يبدي ضيقه بذلك ويحاول إقناعها بالاكتفاء بمراقبة الراقصين، لكنها كانت تنفذ إرادتها في أغلب الأحيان

وصلت أخبار نازلي إلى مصر، فاشتعل الموقف


ففي أعقاب وصول الرحلة الملكية إلى جنيف ونزول أفرادها في فندق يطل على بحيرة، ورد إلى حسنين باشا خطابٌ شديد اللهجة من الأمير محمد علي ينتقد فيه ما صدر من الملكة نازلي من تصرفاتٍ تُعَدُ خارجة عن التقاليد الشرقية، ونال حسنين باشا لومٌ قاسٍ بعد أن اتهمه الأمير محمد علي بالتهاون في الأمر. وعندما أطلع حسنين الملكة نازلي على فحوى الخطاب لم تعبأ بما جاء فيه، وصارحته بأنها لن تصنع سوى ما يروقها

وإزاء ذلك اعتكف أحمد حسنين في حجرته يومين، وأبلغ د. حسين حسني بأنه لا يرى أمامه سوى الاستقالة، ولكنه يخشى نتيجة ما قد يحدثه هذا القرار من ارتباك، خصوصاً أن الملك وأسرته موجودون بعيداً عن الوطن؛ ولذلك فهو في حيرةٍ من أمره وما زال يفكر فيما يحسن عمله. وانتهى إلى إرسال خطاب إلى الأمير محمد علي يعتذر فيه ويخفف من غضبه ومن شأن ما وصل إليه من أنباء، ويعد ببذل قصارى جهده في هذا الأمر


غير أن الملكة نازلي لم تقم وزناً لغضب الأمير، وظلت تخرج إلى الملاهي الليلية وفي صحبتها حسنين باشا، وواصلت عدم مبالاتها بالمواعيد المقررة للقيام بالرحلات التي جرى إعدادها لزيارة بعض المعالم هنا وهناك. وفي باريس، تكررت الحكاية نفسها، وغضب البعض من قرار نزول الملك فاروق وأمه الملكة نازلي وحاشيتهما الخاصة وحسنين باشا في فندق "ريتز" ونزول باقي الحاشية الرسمية في فندق آخر مجاور


والشاهد أن الملكة نازلي كانت أحد أسباب تصدع الملكية في مصر وسقوطها بعد ذلك، فهي لم تكن حريصة على عرش ابنها ومستقبله بقدر حرصها على الانطلاق، وتحقيق ما تصبو إليه، وأن تعيش حياتها بعيداً عن قيود القصور، وتعوض أيام القسوة والكبت والحرمان التي عاشتها في كنف زوجها الملك فؤاد


أما حسنين، فقد أشعل النار، وطحن البن، ثم وضعه على نار هادئة كأي بدوي يتقن لعبة الوقت


وها نحن نرى محمد التابعي - الذي كان الصحفي الوحيد الذي رافق تلك الرحلة الملكية في أوروبا- يصور حياتها عندما ذهبت إلى باريس في صحبة الملك الشاب، حيث بدأت تسير على هواها


يقول التابعي: "بدت على جلالتها أعراض التصابي، فقد انطلقت تزور صالونات التجميل وصبغ الشعر، وتجرب كل يومين تقريباً صبغة جديدة، ولوناً جديداً لشعرها: الذي بدأت تظهر فيه شعرات بيضاء!
ولاحظنا أن حسنين بدأ يقتصد إلى حد ما في (إخلاصه وتفانيه) في خدمة الملكة نازلي والسير في ركابها، وأصبحنا نراه بيننا أكثر من أي وقت مضى في الرحلة.. لماذا؟
هل كان يخشى افتضاح علاقته بالملكة الوالدة؟
وأن يسمع ابنها أو يلاحظ شيئاً مريباً على أمه ورائده الأمين؟
أم ترى حسنين قد رأى أن الوقت قد حان لكي ينتقل من الفصل الأول إلى الفصل الثاني، أي من إظهار الحب والتفاني إلى إظهار (التقل) والتحفظ والبرود؟
وهي السياسة التي كان حسنين يجيد تطبيقها كل الإجادة مع هذا الصنف من النساء؟
النساء اللاتي جاوزن مرحلة الشباب وأخذن في استقبال شمس المغيب؟
وفي الفصل الثاني فصل "التقل" التحفظ والبرود يزيد الوجد والشوق، ويشعل في صدر المرأة ناراً فوق نار!
نار تأكل ما بقي للمرأة من عزة وكبرياء
حتى إذا عاد إليها الرجل أسلمته قيادها في خضوع واستسلام
هذا هو الأرجح"


وبعد العودة إلى إنجلترا بمدة وجيزة، قالت الملكة نازلي إنها تجد مشقة في الذهاب إلى لندن والعودة منها وطلبت أن تقيم في لندن أثناء الرحلة؛ لأن المسافة كانت طويلة بين كنري هاوس ولندن وهي لا تكف عن السهر كل ليلة في أحد الفنادق الكبرى أو الملاهي الليلية وفي صحبتها حسنين باشا ووصيفة الشرف زينب هانم سعيد. اتجه الرأي إلى نزول نازلي في جناح بالمفوضية المصرية ورحب بذلك الوزير المفوض حافظ عفيفي باشا. وفي مساء يوم انتقالها إلى المفوضية فوجىء حسين حسني بطلبها أن يكون في صحبتها لدى الخروج مع وصيفة الشرف؛ بسبب غضبها على حسنين باشا الذي تباطأ في الاستعداد للخروج. وإذا كان حسنين باشا قد أقام في كنري هاوس، فإنه كان كثير الغياب ليكون في خدمة الملكة نازلي


وعندما وصل مراد محسن باشا ناظر الخاصة الملكية إلى فيشي على متن طائرة خاصة موفداً من الحكومة - بموافقة مجلس الوصاية- لمناقشة برنامج الاحتفال بتولي الملك سلطاته الدستورية، أخذ يستفسر من رجال الحاشية عن حقيقة ما تفيض به أركان مجتمع القاهرة من أحاديث عن ألسنة المصريين العائدين من أوروبا، عن علاقة غير عادية لاحظها كثيرون بين الملكة نازلي وحسنين، وأنهما يتلازمان في الملاهي الليلية وفي كل مكان. لم يستطع رجال الحاشية أن يكتموا عن مراد باشا ما يشعرون به من الضيق وخيبة الأمل إزاء ما جرى ويجري بين أم الملك ورائده، وطلبوا إليه أن يحاول - إن استطاع- أن يصلح الأمور ويوقف تيار الانهيار


غير أن هذا الرجاء أتى بعد فوات الأوان
وظل أحمد حسنين هو المستشار والأب البديل لفاروق، الذي عاش الكثير من التناقضات في حياته


ففي أثناء الرحلة الملكية، نمت مشاعر الحب بين فاروق وصافيناز - التي أصبحت فيما بعد الملكة فريدة- وووقعت بينهما الخلافات التي قد تقع عادةً بين متحابين في سن الشباب. وذات مرة نشب بينهما خلافٌ، وعندما دخل د. حسين حسني عليه وجد أحمد حسنين باشا يحاول تهدئة خاطره، فقال له: "لا تفكر ولا تشغل بالك، فالفتيات كثيرات، وعند عودتنا إلى مصر سوف نقدم لك بدلاً من فتاةٍ واحدةٍ عشر فتيات، بل عشرين فتاةٍ إن أردت..". هنا تدخل حسين حسني قائلاً: "ماذا تقول يا باشا..حرام عليك..لا تستمع يا مولانا إلى كلمة واحدة من هذا الكلام؛ فإن الفتاة التي تحبها تبادلك نفس الإخلاص وهي تتمتع بكل الصفات التي تستوجب الإعجاب والاحترام وتليق بملكة..". وعندما سمع الملك هذه الكلمات انفجر باكياً، فمال عليه حسنين يربت على كتفه ويرجوه أن يتمالك نفسه وقال لحسين حسني: يكفي ما قلته ويحسن الخروج الآن لتركه يستعيد هدوءه

وبعد قليل إذا بالملك يدعو حسين حسني للخروج معه قائلاً: "هيا لشراء هدية ل"فافيت": (وهو اسم التدليل لصافيناز)، وحرص على أن تكون الهدية غالية الثمن لا تقل عن قلادةٍ من الألماس


وفي الليلة التي سبقت عودة الملك من رحلته الطويلة إلى أوروبا عام 1937 تحدث فاروق مع كل د. حسين حسني وعلي رشيد بك بشأن مشكلة تعيين رئيس للديوان الملكي. ثم فاجأهما بالقول: "إن حسنين طبعاً يطمع في أن يقع عليه الاختيار ولكن ذلك لن يكون أبداً"


غير أن المنصب جاء إلى حسنين باشا بعد ذلك بسنواتٍ قلائل على طبقٍ من ذهب

تابع القراءة

gravatar

فوق حرير سحابة




لا نملكُ وقتاً فائضاً
فالرصاصةُ التي انطلقت نحو أعمارنا، توشكُ أن تصيبَ الهدف
لا نملكُ ترفَ إهدارِ الدقائق فوق جسرِ الحسرةِ على ماضٍ حافلٍ بالتمرد والعصيان
كل ما نملكُه الآن هو صدرٌ مليء بالأوسمةِ والجروح، وجسدٌ مطرزٌ بشظايا حروبٍ عبثيةٍ لا اسم لها
ليس لدينا سوى اليوم للحياة
فليكُن
لكنني على الأقل أعرفُ ملامحَ الوجوهِ المثقوبةِ بالأسى، وأحفظُ مواعيدَ صافرات القطاراتِ المحملة بالبضائع، وأرددُ أسماءَ القرى التي هربَ منها البؤس
لم أتلفع يوماً بطمأنينة الوهم، بل طحنتُ قمحَ الغربة، لأصنعَ خبز الذاكرة
لم أتصبب عرقاً.. فقط تصببتُ وطناً
لم يفترسني القادة والحكماء واللصوص..لأني ببساطةٍ لم أقدم نفسي لهم وجبةً ساخنة على طبق موشى بالتوابل
لم يفزعني الموت، ففي الحياة أمورٌ أشدُ رعباً وإيلاماً من الموت
وعندما كنتُ قارئاً فقط، كنتُ أؤمنُ بأن فعلَ القراءة يعني أنك تتركُ آخرين يجهدون من أجلك. إنه الشكلُ الأكثر لطفاً في درجاتِ الاستغلال. واليوم أؤمنُ بأن القارىء الجيد لا يقل أهمية عن الكاتب الجيد
فالقراءةُ الجادة هي الأرضُ التي تسطعُ حين تتلقفُ بذورَ المعرفة

إنها بوصلةٌ إلى فهم الذات، قبل أن تكونَ قنديلاً يهدي إلى فهم الآخر
والكتابة الواعية تحرضُ السيفَ على الزيف، والمطرقةَ على المنجل، والعاملَ البسيط على أحزانِه المعفاةِ من الضرائب
إنها الكتابة التي تبقى وتقاومُ صدأ الوقت لأنها تحترمُ العقول، لا تلك التي نستهلكها مثلَ مناديلَ ورقية، نُلقي بها فور استخدامها في سلة المهملات
وكاتبُ هذه السطور فتحَ حقائب التاريخ، حتى نفهم الحاضر، فدوائرُ الزمن حين تكتملُ تتشابه كأنها توائم سيامية
وتاريخُنا غبارٌ يعلو تمثالاً ذهبياً. وحين تنسى الاعتناء بالتمثال البراق يتغيرُ لونه يوماً بعد يوم حتى يصبحَ لونُه بلونِ الغبار
كتبتُ من مدنٍ لقنتني دروساً في الوحدة والاغتراب، وأصرت على أن تجعلَ من أفكاري ومشاعري كُرَّتها المفضلة للعب
تُهتُ وتوغلتُ في تيه مدنٍ تصنع لوحةً عبقريةً من التناقضات الفظة، حتى نَبَتَت أوردَتي في رُطوبةِ المنافي، وصرتُ أخشى السفر المليء بالصدماتِ والرضوض
لكنني أدركتُ مبكراً أنه كلما كتبنا بحروف الوعي، كلما أصبحت الأحلامُ أغنى، وكلما نقشنا جوهرةَ المعنى، كلما أصبح العالمُ أرحب وأغنى بالتفاصيل وأكثر اكتمالاً
والكتابة طرقاتٌ واثقةٌ على بابِ الحرية، وليست لصاً يهرب من باب الطوارىء، أو سهماً في سوق مالية خاسرة، أو صك إذعانٍ لسياسة الأبواب المواربة
وفي الكتابة يتدفقُ كل ما عرَفته سلالاتُ الرغبةِ من حنين حارق
ربما لهذا السبب فقط لا أودُ أن أموتَ دون أن أنهي ما أقرؤه، ولا أريدُ أن أترك خلفي صفحاتٍ بيضاء لم تتحول بعد إلى حقولٍ خضراء
كنتُ أتساءلُ دائماً: لماذا يلوذُ الكُتابُ بالصمتِ، حتى تستأسدَ الرداءة، وتسودَ التفاهة؟
لماذا نمنحُ عقولَنا لكلماتٍ مستهلكة وأفكارٍ متهالكة تخطُها أقلامُ ترتبكُ ارتباكَ أوراقِ الشجر حين يداهمُها الخريف؟
لماذا يبتكرُ الحمقى صوراً جديدة لحياةٍ زائفة، ثم يُصدقون الأكاذيبَ كالبلهاء؟
لماذا يتحلقُ العامةُ حول الذين يتعثرون في كلماتهم، ويعزفون لحن النشاز، لتلتهبَ الأكفُ بالتصفيقِ الحاد لهذه السيمفونية المعجزة / العاجزة؟
يبدو أن البعضَ تربى على الزعيق، والبعض الآخر على موتِ الصواب
وإذا كان التهافتُ وباءُ عصورِ الانحدار، فإن الأصواتَ الصادقة تنادي على الباحث عن الحق والحقيقة: فقط تلزمكَ قراءة متأنية لتشاهدَ نفسكَ من الداخل
إننا نكتبُ في مواجهةِ سلطةٍ تمارسُ علينا وصاية وتنصحُنا أن نُخرجَ أرواحنا لنزهةٍ في مواقيت مرسومة سلفاً، كمَن يُخرج كلباً، شريطة أن لا نسمح لها بأن تخربشَ الأفقَ بالنباح
ونحن نكتبُ في وجه أجهزة الأمن المسيلة للدموع، والسُلطة التي تريدُ أن تتحكمَ في الأرصادِ الجوية، وتلعبُ دورَ المُوِّجه حتى للطيور والغيوم، وتصادرُ الطائراتِ الورقية تحت ذريعة الأمنِ القومي
إنما نكتبُ لنوقظَ من السُباتِ من يكتفون باغتيابِ الحكام الطغاة في المقاهي ليلاً، والخضوع لرجالهم صباحاً
لقد قررتُ منذ زمن أن أقبضَ على كتفِ الوقتِ، حتى لا يعبثَ الآخرون بأحلامي المعاندة. وسعيتُ إلى تحريضِ الإسفلت حتى يتمردَ على قدره الأعمى لدقيقةٍ واحدةٍ كي يلهو مع الأطفال
لقنتُ أصدقائي كلمات جلال الدين الرومي "ابْدُ كما أنتَ، أو كُنْ كما تبدو"، وقرأتُ عليهم حكمة الحلاج "منْ لمْ يقف على إشاراتنا لمْ تُرشدْهُ عباراتُنا"، وعندما سألوني عن حكمتي الخاصة أجبتُ: نحن نتقنُ الفتكَ بروعتنا، لنتحسرَ عليها
وهكذا كتبتُ عن الأصدقاء الموشومين بغيابهم الأبدي
واحتفيتُ بالمرأة حين تكتبُ ولا تكتمُ، تبوحُ ولا تنوح
وبحثتُ عن الأماكن القصيةِ في الروح، وكشفتُ الأسرارَ الساذجة والأخطاء التي لا يمكن تداركُها، وفتحتُ الأبوابَ الموصدة دون أن يزعجني صريرُها المزعج
وتكلمتُ عن وطني: شوارعُه الطويلة التي تتوقُ إلى الغناء، شرفاتُ مقاهيه المقنطرة، أشجارُ تينِه المثقلة بالعصافير، سكانّه الذين يتآلفون مع الحزن كأنه أحدثُ نكتة
إن شعوبنا اليوم أرملة تجهدُ نفسها في سد ثقبٍ في إحدى النوافذ، وهي تحاولُ عبثاً إقناع نفسها وصغارها بأن العواءَ مصدرُه الريحُ وليس الذئاب
والمواطنُ أصبح لاعب شطرنج، يلعنُ تخاذلَ الوزير في حمايةِ الملك ويسخرُ من هشاشة البيادق، وهو نفسه جنديٌ مثقلٌ بذخيرةٍ فاسدة، تعصفُ به أولُ حركةٍ على رقعة يتناوبُ فيها الأبيض مع الأسود
وبعد
الطرقُ الواسعةُ إلى ما نريد، تَبدو مِن بعيد ممهدة، لكنها مِن قريبٍ مخيفة كأنها نارٌ تنامُ في حضن الريح

سلاحُنا الوحيد، مشروعٌ جليٌ للكتابة..فالكاتبُ بلا مشروع مثل عدَّاءٍ يبحث عن خط النهاية
ووسيلتُنا الأهم، صباحٌ جديد من الشغف، وحريرُ سحابةٍ نسيرُ فوقها بامتنان
ومع التكريم، أقولُ: شكراً.. أنا مدينٌ لكم جميعاً
تتصادمُ الأجراسُ في قلبي المنمق كباحةِ كنيسة، وأنا الذي يُقالُ إنني أبدو أصغر من سنّي، ربما لأنني لم أملك متّسعاً من الوقت كي أشيخ
الآن، بعضُ فُلِ أمي يضحكُ
وعيناي، مَنجمُ روحي، تختاران لي بحريةٍ أكبر ما أريدُ أن أراه
وحين يسألُني أحدُهم عمن أهديه الفوزَ، أقولُ من دون تردد: بلادي.. حقيقتنا الساحرة

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (11): راسبوتين من بولاق




كان أحمد حسنين باشا شخصية مثيرة للجدل، من المهد إلى اللحد
فهو ابن شيخ أزهري، وخريج أكسفورد
وهو ابن حي بولاق، الذي ذاق طعم القصور ودسائس أصحابها
قاد ولي العهد الذي أصبح ملكاً، مثلما قاد الملكة التي أصبحت عاشقة: راسبوتين مصري بامتياز

إنه المفتشُ بوزارة الداخلية إبان الحرب العالمية الأولى، والسكرتير بسفارة مصر في واشنطن، والأمين الثاني للملك فؤاد، الذي انتُدِبَ رائداً للأمير فاروق ولي العهد وأمير الصعيد، قبل أن يصبح الأمين الأول للملك، ثم رئيس الديوان الملكي اعتباراً من العام 1940

الرجل الذي أقام الوزارات وأسقطها، كان يرتدي مسوح البراءة حين يُسأل عن السياسة وكواليسها، زاعماً أنه لا يفقه في السياسة



إلا أنه كان يدير أمور البلاد بنفس مهارتِه كبطل مصر في الشيش، وينجو من أزمات الحكم بالطريقة نفسها التي نجا بها من الموت مرتين لدى محاولته قيادة طائرته الخاصة بمفرده من أوروبا إلى مصر، ويستكشف مواقف زعماء الأحزاب والسفراء القناصل، بأسلوبٍ يماثل واحتي العوينات وجبل أركنو في جوف الصحراء

وأحمد محمد مخلوف حسنين البولاقي –وهذا هو اسمه بالكامل- شخصية مصرية دخلت التاريخ من أبوابٍ عدة: باب الدبلوماسية، فقد كان الشخصية الثانية في الهيئة الدبلوماسية المصرية الأولى في واشنطن عام ‏1923،‏ وباب السياسة التي برز فيها بعد أن أصبح رئيساً للديوان الملكي عام ‏1940‏ وإلى أن لقي مصرعه في حادث سيارة غامض بعد ست سنوات من ذلك التاريخ

ولد أحمد حسنين‏ في 31 أكتوبر تشرين أول ‏1889‏ في بولاق ابناً لمحمد حسنين أحد مشايخ الأزهر‏،‏ وهو حفيد أحمد باشا مظهر حسنين آخر قادة البحرية المصرية. تلقى تعليمه أولاً في المدارس المصرية وبعد أن قضى عاماً في مدرسة الحقوق الخديوية قصد إنجلترا لإتمام تعليمه في أكسفورد - بعد أن ألحقه اللورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني بالجامعة- ليعود منها عام 1914‏ عشية قيام الحرب العالمية الأولى‏. وفي أثناء الحرب، تطوع حسنين في الجيش البريطاني - حيث ارتدى زي الضباط البريطانيين- ثم عُينَ سكرتيراً خاصاً للجنرال مكسويل قائد القوات البريطانية في مصر، إلى أن ترك هذا البلاد فنُقِل حسنين إلى وزارة الداخلية ليعمل تحت إمرة هورينلور كبير المفتشين الإنجليز بالوزارة‏ والمشرف على الأمن العام آنذاك

وتقول الوثائق السرية البريطانية إنه بحكم وظيفته تلك اصطحب عام‏ 1919‏ القوات العسكرية التي ذهبت إلى الصعيد لإخماد الثورة‏ والحركة الشعبية هناك،‏ واختير في العام التالي رئيساً للبعثة الرياضية المصرية في أولمبياد أنتويرب في بلجيكا‏،‏ فقد كان أحد أبطال لعبة الشيش‏،‏ ومنذئذ وحتى آخر نفس في حياته ظل مشمولاً برعاية الجالس على العرش‏،‏ سواء كان فؤاد الأول أو ابنه فاروق‏،‏ ما يمكن القول معه إن كان من أكثر الشخصيات تأثيراً في سياسات القصر
ومنذ البداية كان واضحاً أن نشأة الرجل حافلة بالمتناقضات‏..‏ الجد العسكري والأب الأزهري‏، التعلم في بولاق والتعلم في أكسفورد‏،‏ زاد منها ما نسج حول شخصه من أساطير بعد أن قام خلال الفترة الواقعة بين عامي ‏1921‏ و‏1923‏ برحلتين استكشافيتين في الصحراء الغربية‏، وكان عملاً فريداً بمقاييس العصر بالنسبة للأوروبيين ناهيك عن المصريين‏،‏ الأمر الذي استحق أن تُعنى به وسائل الإعلام المصرية والأجنبية. واحتفت الدولة بحسنين عندما أقامت له حفلاً كبيراً في دار الأوبرا مساء يوم الاثنين ‏19‏ نوفمبر تشرين ثانٍ 1923 حضره الملك فؤاد بنفسه‏،‏ وبعد أن ألقى أحمد حسنين محاضرةً طويلة عن رحلته دعمها بصور، أنعم عليه الملك بلقب البكوية

وانهالت على الرجل بعد ذلك الدعوات من الجمعيات العلمية في أوروبا وأمريكا فضلاً عن كبريات الصحف التي سعت إلى استكتابه‏،‏ وكان منها جريدة "تايمز" التي نشرت له في ‏3‏ يناير كانون ثانٍ ‏1924‏ مقالأ مطولاً وضعته تحت عنوان "في صحراء مجهولة‏..قطع ‏2200‏ ميل على ظهور الجمال..رحلة مملوءة بالمخاطر". كما نشرت مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" في عددها الصادر في سبتمبر أيلول 1924 أبرز نتائج رحلته المهمة في الصحراء، مصحوبة بخارطةٍ تفصيلية و47 صورة


وعن هذا الإنجاز، نال أحمد حسنين عام 1924 ميدالية ذهبية من الجمعية الملكية البريطانية، وهي أرفع وسام تمنحه الجمعية لمستكشفين، وقد نالها أشخاصٌ من عينة ديفيد ليفنغستون وغرترود بل وريتشارد بيرتون. وربما يسترعي الانتباه أن حسنين هو الشخص الوحيد غير الأوروبي الذي ينال تلك الميدالية منذ توزيعها عام 1831 وصولاً إلى يومنا هذا
وحاول أحد الأمريكيين استثمار رحلة حسنين بك إلى الولايات المتحدة، فاقترح عليه أن يدفع له عشرين ألف جنيه إذا وافق على أن يطوف في أنحاء البلاد ليلقي محاضرات في المسارح عما شاهده، على أن يرتدي زي شيخ بدوي، لكنه رفض قبول ذلك لأن مركزه يمنعه من الارتزاق بهذه الطريقة

وآثر الرجل أن ينصرف إلى تأليفٍ كتاب علمي حول رحلته‏،‏ وقد استعان في ذلك بمذكراته خلالها‏،‏ وبالصور التي التقطها والتي زادت عن التسعمئة‏،‏ وهو الكتاب الذي صدر بالفعل في العام 1925 بالعربية تحت عنوان "في صحراء ليبيا"‏،‏ وبالإنجليزية تحت عنوان ‏The Lost Oasis ،‏ وكان أحد الأبواب التي دخل منها حسنين التاريخ

والشاهد أن شخصية أحمد حسنين تعد من أكثر الشخصيات تأثيراً في الحياة السياسية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين


ومع ذلك، فإن محمد التابعي يقول في كتابه "من أسرار الساسة والسياسة: أحمد حسنين باشا: حياته الخاصة والعامة" الذي طبع عام 1959 وأعادت دار الشروق طبعه عام 2008، إن أحمد حسنين كان "يحب أن يعتقد الناس فيه الغباء بل "الهبل"! وأنه رجلٌ لا يُخشى شره! أو طرطور! أو ساعي بريد ينقل إليهم "الأوامر السامية" من جلالة الملك..أو "يرفع" آراءهم ونصائحهم إلى "السدة العلية الكريمة"..ومن غير أن يكون له هو رأي أو مشورة في الموضوع
"وصدقه بعضهم في أول الأمر. ثم اكتشفوا الحقيقة وعرفوه..وكرهوه!


"وآخرون عرفوا الحقيقة عندما عرفوه..فأحبوه! وغير هؤلاء وهؤلاء فريق من الساسة الذين "كشفهم" حسنين باشا أمام فاروق. وكشف عن ألاعيبهم ومناوراتهم وأطماعهم وأكاذيبهم"
لكن الأهم هو أن أحمد حسنين" لم يكن بطلاً..ولم يكن خائناً لبلاده..وإنما كان رجلاً ذا مطامع واسعة كثيراً ما أفلح في إخفائها وراء قناع من الزهد في المناصب..والجهل بالسياسة وأسرارها" (ص 27-28)

يقول صديقه حفني محمود إنه شاهد أحمد حسنين باشا وهو يقرأ كتاب "الأمير" لمؤلفه الفلورنسي نيقولا ميكيافيللي، الذي تعلم منه أحمد حسنين مبدأه الأهم: الغاية تبرر الوسيلة


كان الشاب النحيل القامة الوسيم الطلعة الأنيق الملبس، ساحراً في حديثه مع النساء. وقد استطاع أن يفتن ويخلب لب الفتاة لطفية ابنة الأميرة شويكار مطلقة الملك أحمد فؤاد. تزوج أحمد حسنين من لطفية – كريمة الوزير المفوض سيف الله يسري باشا- في عام 1926 وأصبح من أصهار الأسرة المالكة، وزوجاً لأخت الأميرة فوقية كريمة الملك فؤاد
وهكذا خطا حسنين خطوة مهمة على طريق السلطة والنفوذ



يقول حسنين للكاتب الصحفي محمد التابعي: "إن لطفية كريمة رقيقة حنون تستحق كل حب، وهي أم مثالية. ولقد أحببتها بعد الزواج كما لم أحب امرأةً أخرى" (ص 33)


أنجب حسنين من لطفية - التي كانت تصغره بستة عشر عاماً- ولدين هما هشام الذي أصبح ضابطاً بالجيش والثاني طارق الذي عمل بالتجارة، كما أنجب بنتين هما جيدة ونازلي


وفي كل خطواته كان أحمد حسنين يجري خلف طموحه، وكان يدرك أن ذلك يتطلب ما هو أكثر من مجرد قوام ممشوق ووجه وسيم وبنيان أنيق


وجاءت اللحظة الفارقة في حياة أحمد حسنين حين اختاره الملك أحمد فؤاد ليرافق – إلى جانب عزيز باشا المصري- ولي العهد فاروق في رحلة طلب العلم في إنجلترا

فقد أراد الملك أحمد فؤاد أن يلتحق ولي العهد بمدرسة ساند هيرست العسكرية التي يؤمها عادةً أبناء الأسر المالكة والعائلات الكبيرة في إنجلترا وخارجها. وفي البداية اتجه الرأي إلى اختيار حسنين "بك" آنذاك ولكن سرعان ما عدل عن اختياره حينما اعتذر حسنين بأن عليه التزاماتٍ مالية كبيرة لا بد له من الوفاء بها قبل سفره. ووقع اختيار الملك على عزيز المصري لما كان يعرفه عن نشأته العسكرية في معاهد تركيا وألمانيا، ولكن هذا الاختيار لم يلق قبولاً طيباً لدى الإنجليز الذين كانوا يعرضون منذ البداية ترشيح شخصية انجليزية وهو ما لم يوافق عليه الملك

ولتهدئة مخاوف الإنجليز، استقر الرأي على انتقاء شخصٍ يكون مقبولاً لديهم ليكون إلى جانب عزيز المصري. وهكذا عادت دائرة التفكير لتشير إلى أحمد حسنين، وطلب الملك من كبير الأمناء سعيد ذو الفقار باشا أن يدبر وسيلة مع أحد المصارف لتسوية ديون حسنين


وهنا يورد د. حسين حسني السكرتير الخاص للملك فاروق في كتابه "سنوات مع الملك فاروق..شهادة للحقيقة والتاريخ" (دار الشروق، القاهرة، 2001) معلومة على قدرٍ كبير من الأهمية، إذ يقول: "وأذكر أني أبديت دهشتي لذلك الطلب، مع أنه كان من الميسور بل من المنتظر أن يأمر الملك بأن تقوم الخاصة الملكية بالتسوية المطلوبة، فأجابني (ذو الفقار باشا): بأنه سبق للملك أن سدد ديون حسنين "بك" مرتين من قبل على شرط ألا يعود إلى ذلك مرة أخرى، ولهذا فإن الملك في هذه المرة أراد أن يلقنه درساً. على كل حال فقد نجح كبير الأمناء في ترتيب التسوية عن طريق بنك مصر على أساس توحيد الديون لديه بأن يتولى تسديدها عن حسنين "بك" ويستردها منه على أقساطٍ محددة في فترة معينة مع التأمين على حياته لطول تلك المدة، ولما كانت الأقساط تستنفد كل مرتبه تقريباً فقد تم التفاهم مع الحكومة على منحه "بدل تمثيل" بوصفه "رائد ولي العهد" بحيث تغطي قيمته قيمة الاقساط المطالب بها، وبذلك تم تعيين حسنين "بك" رائداً لولي العهد أي رئيساً للحاشية المرافقة للأمير" (ص 74)

وإذا كان الملك أحمد فؤاد قد اختار عزيز باشا المصري مربياً مساعداً ومرشداً عسكرياً لولي العهد، فإن أحمد حسنين نجح في استقطاب فاروق بعيداً عن عزيز المصري، وخاصة أن الأخير شخصية عسكرية صارمة، وفاروق كان في مرحلة المراهقة يحتاج إلى درجةٍ عالية من السماح والمرونة، وقد وجد ذلك في أحمد حسنين الذي قام بدور الأب لفاروق وملأ تلك المنطقة الخالية في نفسه، إذ حالت بروتوكولات الملك والطبيعة الشخصية المضطربة للأب والطريقة الجافة في التربية والرغبة المحمومة في إعداد الوريث دون إحساس فاروق بأبوة الملك فؤاد؛ فكان دائماً في احتياج لأب. وكان أحمد حسنين يتفهم هذا الاحتياج ويقوم به بذكاء شديد، مع الاحتفاظ لفاروق بمكانته الملكية. ويشهد كثيرون بأن حسنين هو الذي ساير فاروق - إن لم يكن أغواه- بارتياد أماكن السهر وزيَّنَ له حياة الليل، وفعل معه ذلك لاحقاً في مصر


ويبدو أن أحمد حسنين قرر أن يحوز ثقة فاروق بأي ثمن، خصوصاً أن والده الملك أحمد فؤاد كان يعاني من مرضه الأخير، ومن هنا أخذ يجاري نزوات ومغامرات ولي العهد المراهق، في حين كان عزيز المصري يسعى إلى إعداد فاروق للاضطلاع بمسؤولياته المقبلة عن طريق إلزامه بالانضباط والدراسة. وكان طبيعياً أن يصطدم الرجلان، ليعود عزيز المصري إلى البلاد تاركاً أحمد حسنين ينفرد بالأمير الشاب ويسيطر عليه. وإذا كان البعض يردد أن علي ماهر أفسد فاروق سياسياً، فإننا نطمئن إلى مقولة أن أحمد حسنين أكمل عليه وأفسده اجتماعياً..فهو الذي مهد له طريق اللهو والعبث وعدم الانضباط بالصورة التي أدت إلى سوء سمعة فاروق وإفساده الحياة السياسية في مصر


ويرى محمد حسنين هيكل الرأي نفسه في كتابه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الجزء الأول: الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية" (دار الشروق، القاهرة، 1996)، إذ يقول: "ولعل الخطأ الذي وقع فيه الملك فؤاد أن اختياره ل"عزيز المصري" كالمرافق الأول لابنه في إنجلترا، صحبه اختياره ل"أحمد محمد حسنين" أحد أمنائه لكي يكون المرافق الثاني لابنه. وكان هناك تناقضٌ شديد بين شخصية وفكر كل من الرجلين
"فأولهما كان يريد للأمير الشاب حياةً جادة صعبة، في حين كان الثاني من أنصار حياة سهلة ورخوة
"والحاصل أن وجود الرجلين في حياة الأمير الصبي أصابه بتناقضٍ عانى منه فيما بعد - وعانت مصر معه- عناءً شديداً" (ص 143)



مكث فاروق في إنجلترا بضعة شهور ليعود اضطرارياً قبل أن يكمل دراسته هناك، بعد وفاة والده الملك أحمد فؤاد في 26 إبريل نيسان 1936

هنا حانت الفرصة أمام أحمد حسنين. لقد كان في قصر كنري هاوس - الذي يقع في ضاحية كنغستون على مقربةٍ من لندن- في معية فاروق يوم الإعلان عن وفاة الملك فؤاد والمناداة بفاروق ملكاً على مصر. عاد حسنين في صحبة فاروق - الملك الشاب نصف الأمي- إلى مصر، وفي رأسه خطةٌ محكمة التفاصيل. كان هذا الداهية يعرف الكثير عن ظروف الملكة نازلي وعذابها وغيرة زوجها الملك فؤاد وتلهفها على الاستمتاع بحياةٍ حرة طليقة



ومن هنا عاد إلى القصر وهو يخطط لترويض هذه النمرة التي عاشت سبعة عشر عاماً في كنف زوجها القاسي الملك أحمد فؤاد، الذي كان يُحرِّم عليها مغادرة القصر ويضربها إذا خالفت أوامره. وبعد وفاته بأسابيع قليلة راحت تبحث عن حقها في الحياة والاستمتاع، فانطلقت بشراهة امرأةٍ محرومةٍ لتحطيم قيودها، ودأبت على السهر وهي لم تخلع بعد ثوب الحداد. تعددت علاقات نازلي في اتجاهاتٍ مختلفة وانفلت عيارها وشاعت أخبار غرامياتها، ما سبب حرجاً شديداً لفاروق، الذي تولى مُلك مصر تحت إشراف مجلس وصاية – يتألف من الأمير محمد علي توفيق، وعزيز عزت باشا، ومحمد شريف صبري باشا خال فاروق- حتى بلغ السن القانونية فأصبح ملكاً بلا مجلس وصاية عام 1937

أما أحمد حسنين فقد لعب معها وتلاعب بها. تركها تشدُه وتصدُه، تُعرضُ وتقبل، تروحُ وتعود..وهو هادىء لا يغضبُ ولا يثور، يمدُ لها في حبال الصبر مثل أي صياد ماهر

ألقى حسنين بالطُعم، وبقي يتفرج على السمكة وهي تحاول الإفلات

وبعد فترةٍ من المقاومة، استسلمت نازلي لصيادها وأسلمت له القياد، وبدأت تطارد أحمد حسنين وتحاسبه على كل خطوةٍ يخطوها وكل امرأة يلتقيها

ولكن، هل كان حسنين يحب نازلي؟

يرد التابعي في كتابه عن أحمد حسنين بالنفي، إذ يقول: "كلا. ولكنه كان حريصاً على استرضاء "ملكة مصر"..وأم ملك مصر..وصاحبة النفوذ الأعلى عند ابنها فاروق فقد كان فاروق يومئذٍ يحب أمه ويحترمها بل ويخشاها ويخشى غضبها ويعمل لها حساباً ولا يخالف لها أمراً..وكان حسنين يعرف هذا كله..ويدرك أن الذي يسيطر على نازلي يستطيع عن طريقها أن يسيطر في نفس الوقت على الملك فاروق" (ص 37)

وكانت الشرارة الأولى بين حسنين ونازلي.. في 6 مايو أيار 1936 : الليلة التي عاد فيها فاروق إلى مصر
تابع القراءة

gravatar

آخر رمية نرد






"الْجَمِيعُ أَدْرَكُوا أَنَّهُم جُزْءٌ مِنَ "التَّارِيخِ" مَا عَدَا المُتَوَفَّى
أَنَا الَّذِي لَمْ أَعْرِفْ بِالضَّبْطِ مَا الَّذِي يَحْدُثُ، حتى وَأَنَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ"
قَصِيدَةُ "المَوْتُ وَالشُّهْرَةُ"، أَلن غِنْسبِرغ (1997)



في ذلك النهار، كان الكونُ بلا ملامح
الشوارعُ التي تشبهُ صحراء مقصية من ذاكرة الأنهار، تهزأُ من الأسى الذي ينتظرُ الأحبة
المدينةُ سَطْحٌ والنهارُ غيبٌ، وواجهاتُ المباني تَحملُ بقعَ رطوبةٍ عالية كأنها جِراحُ ساكنيها
ذراعاه هما المنازلُ الآيلة للسقوط، وعيناه هما الأضواء الشاردة

يطلُ من الشُباكِ فيجدُ رباتِ البيوتِ المنهكَاتِ وهن يتشاجرن مع أزواجهن العابثين، والضابطَ المتقاعدَ وهو يهدمُ في ضِيقٍ عُشَ عصفورٍ نام على شرفته
البعضُ يخشى أن تُعطلَ العصافير نزهةَ الطائراتِ الحربية إلى القصف
الشابُ العاطل يجلسُ على حافةِ السرير الضيِّق، وراحتا يديه مبسوطتان على رُكبتيه، ينكِّسُ رأسُه وهو يُحدِّقُ إلى الأرض
الموتُ الحقيقي يسحقنا..وحده الموتُ المؤجلُ يُبكينا
امرأةٌ في الشرفة المجاورة تسقي أزهارها. ترفعُ ذراعيها لأعلى، يتسربُ الضوء تحت إبطيها، لتولَدَ طاقةُ نور..ويَنبُتَ الأقحوان
المراهقةُ تمسكُ بالرواية العاطفية، تحتسي النسكافيه، وتُبعثرُ ريشَها، ثم تهزُ ركبتيها المقدستين فوق مقعدٍ من خشبِ البامبو وهي ترفلُ في حريرِ الكسل

تتجملُ المدينة التي تعدّدت أسماؤها، حالها حال المدنِ الإلهية التي نتلو صفاتها، وهو منشغلٌ بالزرقة وهي في غُرفِ جنونِها
شمسٌ خفيفة تذوبُ كالسكر في ماء العيون، تربتُ أشعتها على أكتافِ المارةِ الصاخبين

في صفحةٍ داخليةٍ من صحيفتِه اليومية، يقرأ خبراً عن مصرع عددٍ من ركاب زوارق الموت الحالمين بأرضٍ جديدة
أية أوطانٍ تلك التي يدفعُ أبناؤها أعمارَّهم ثمناً للهروب منها




في بريدِه الإلكتروني نقرةٌ خفيفة على بابه: "اشتقتُ إليكَ"
في الأفراحِ والأتراحِ، لا يُمطِرُ سوى البكاء
يحدثُ أحياناً أن يغلبنا الشعورُ بالحزن، حين ننشدُ البهجة
نكونُ محاطين بأجواء أفراح الآخرين فتستدعي الذاكرةُ والمشاعرُ رغبة شديدة في البكاء، أو نعلقُ الحسرة بمشبكٍ على فستان السهرة
الأغاني التي تتطايرُ مثل ضحكة طائشة ليست سوى مفتتح للفرح وسطَ الآخرين .. أو الحزن في أمسياتِ الوحدة
دمعته واحدة وحيدة، فلماذا في يده ألفُ منديل؟
وهو برقٌ يتبعه الرّعد إذ يُقبل.. بطلٌ بلا سيرة، ولغزٌ بلا أسرار
يرفضُ أن يكون مِعصمُه بحجم القيد، ويأبى أن يصبحَ حقيبةً يَسهُلُ تفتيشُها
يضنُ بوقته على موهبتِه الثرّة، وينعمُ بحياتِه اليومية على حساب قريحتِه، ولم تسعفه الأيامُ بإصلاح ما فرّطَ فيه



رجالُ الأمنِ عند مدخل المؤسسةِ العملاقة، حادون مثل شوكِ السمك، لكنهم عميان يحرسون غرفَ الموتى
على بطاقته الممغنطة، تبرز حروفُ المهنة: جلاد
لكن القطيعَ غافله وسارَ وراءه، فألزمه ثوبَ النبوة الذي يخنقُ أيامه

في المكتبِ الذي تسبحُ فيه أضواء النيون الخافتة، تُحذِرُه عيونُهم من أي شيء قد يُفسِدُ تقطيبة الجباه.. إنها من لوازمِ النهار
زملاءُ العمل يثبتون له حقيقة غابت عن ذهنه لوهلةٍ: الإنسانُ خائنٌ منذ بدء الخليقة.. يخونُ الأقربين ويندم، ثم ينصرفُ إلى خيانة الأباعد
استعادَ مشهدَ صلاة الصديق الذي بُتِرت ذراعه في حادث سير..كان يُحرِكُ في صلاته ذراعه اليتيمة، فيما ذراعه الصناعية نائمةٌ على مقعدٍ مجاور، كأنها أرادت ألا تصلي


ينظرُ إلى الأمام، لأن "المتلفت لا يصل"
يسيرُ في الشوارع الممطرة الغارقة للآن بغيمة عطرها وبروق روحه
يتذكرُ: لا تمحو قبلة آثار قبلة أخرى..أحياناً، تثبِّتها أكثر
وهي تنسى: قبلة واحدة تكفي لإعلان حرب
المفارقة أننا نرى عيوبَ من نحبهم منذ البداية، لكننا نتعامى عنها أو نُوهِمُ أنفسنا بالقدرة على تغييرها لاحقاً

الفتاة التي تمنحُه فتحةٌ طويلةٌ في فستانها فرصة لسياحةٍ عابرة في فخذِها الممتلىء.. مترعةٌ بالشهوة ومثقلةٌ بثمار الله. تغطي وجهها نظارةٌ شمسية لإضفاء غموض غير حقيقي على شخصيتها المسطحة
جبهتها العريضة، وشعرُها السائلُ الموشحُ بحباتِ الماء، وحاجباها الخفيفان، وابتسامتُها التي تمنحُكَ خارطة لنهار كامل..تردِدُ مع ابن الفارض
دع عنك تعنيفي، وذُق طعـمَ الهـوى فــإذا عشـقـتَ، فبـعـد ذلـــك عَـنِّــفِ



ابتسامتُه المنصوبة على وجهِه فخٌ متيقظ، لاصطيادِ رعشة وجهها
اقتربَ ليلمسَ شعرها، لكن أصابعَه ذابت في الهواء وذهبت مُخلِفة عطرَها النافذ
لو أن قطرة حُلم حطّت على زئبق غيُومِها لَجُنت وجُنَ عِطِرها الذي لا يُعرَضُ أو يباعُ
امرأةٌ تخبيء تحت ثيابِها الكثيرَ من المفارقاتِ والأفراح..وخيبات الأمل
تتعلمُ انتقاءَ جواربها النايلون بعنايةٍ واختيارَ حمالاتِ صدرٍ بلونِ الفستق وسلالِ الرمان الجبلي
تبدو مستباحة كقطةٍ في موسم التزاوج
بشرتُها بياضٌ يُرتِبُ فوضى الألوان، قبل أن يخرجَ ليتنزهَ في أحراش الرغبة
عيناها تمارسان لغة التحريض: كُن مُنْفَلِتَ السَّهْم، لأكون عَصِيَّة الصَّيْدِ
شموعُها تطفيء الريح، وشجرُه لا ينام
استقتلَ كي ينامَ معها
أغرته بطُعم فنصبَ لها شبكة، ليصطادا بعضهَما البعض
في المنزل، ترقصُ بخفةٍ على خشب الأرضية الباركيه حتى استحالَ ماءً، فيما عقلُه مزدحمٌ بالأنبياءِ والملائكةِ والخاطئين والمرتدّين


بعدَ منتصفِ الليل لم يقلْ شيئاً..تولتْ يداه إنجاز المهمة
يداه تشتعلان حتى ينسى رجليه على نيران سريرٍ قرأ عليه كتاب "الإمتاع والمؤانسة"
يسقطان معاً، هو والشغفُ الهابط من الفردوس الوهمي ..حتى آخر رميةِ نرد
الجنسُ: بلقنةُ الأجساد
هذا الشاطرُ الفريد. شيخٌ بلا مريد.. ها هو يفتشُ عن اللذةِ بين شقوق غيمة
ومثلَ كل النساء بعد ممارسةِ الحب لحد الإشباع، بدت متوردة الوجهِ وغامضة
في الصباح، تحاصرُه أغطية السرير المتجعدة، أعقابُ السجائر المكسوة بأحمر الشفاه، زجاجاتُ الشرابِ نصف الفارغة، وبقايا الروائح في الغرفة
يتركُ لها بيتين من الشعر ويرحل
تَعلمَ منذ زمن طويلٍ حكمةً تقول إنك حين تهدي قلبك لامرأة فإنها قد تمضغه مع علكتها
تظلُّ في البهو دمعةٌ لم تتشربها السِّجادةُ الجديدة


المرأةُ الوحيدةُ تصنعُ الأبخرة على زجاجِ النافذة..ودقاتُ ساعةِ الحائط تقصي عنها بانتظام حلماً شفافاً مثل الزجاج، أملس مثل أسطح الأشياء
الوحدةُ .. قد تكون أحياناً منتهى الرومانسية
تعملُ طوالَ النهار، وتتسلقُ جدارَ الحزن في الليل
شيئان فحسب لا يمكن إخفاؤهما عن الآخرين هما: الإرهاقُ، والعُمر
تلمحُ قوامَها في المرآة: السُرةُ الأزلية مفتاحُ الكون
وهي: إبرةٌ تنتظرُ الخيط
عيناها تقولان لراكبِ المصعدِ وزميلِ المكتب: "تعالَ لزيارتي قبل أن تذبل الأزهار"
تحاولُ إنقاذ جزءٍ من الليل، لكنها لا تجد شيئاً سوى بصمةِ جسدِها فوق السرير
أيُّ حُلْمٍ يُعَذِّبُ هذي الوِسَادَةْ
تنتظرُ الليلَ، دون أن تفترشَ سريرَه مع أحد
تهاجمُها العُزلةُ مصحوبةً بصُداعٍ مؤلم في ليالٍ من الأرق، كعشبٍ ضارّ ينتظر جزَه في أية لحظة


فتاةُ الوحدة ارتمت الهالاتُ السوداءُ تحت عينيها بإهمال

ها هي تخططُ لمشاهدة مزيدٍ من العروض السينمائية هذا الشهر، ربما لتتمكنَ من الوصال مع أنوثتها التي تتسربُ مثل ماءٍ بين الأصابع
كانت الوحيدة التي تتحرقٌ شوقاً إلى قبلةٍ يطبعُها المخرجُ على شفتي البطلة، وتَقدُ في رأسِها قميصَ البطل من جميع الجهات
كم ودّت أن يشاهدَ معها عاشقٌ فيلماً رومانسياً، فقط لكي تحسَ بضغطِ يده الخفيف على يدِها حين يفترقُ الحبيبان
أصعبُ من الموت: المرأةُ التي أوهامها شُباكٌ، وقلبها أشراكٌ ويداها قيود

العجوزُ التي تملكُ قدماً زلت فانكسرت إلى الأبد، تتوزعُ التجاعيدُ على وجهها وجبينها بذكاء وأناقة لوحةٍ فنية
تلوكُ شيخوختَها الهرمة في عتمة الغرفة، وحين يصمت هاتفها تحدث نفسها قائلةً: "الآخرون يسقطون في الزمن، أما أنا فقد سقطتُ من الزمن"
تحت السرير ترقدُ طائرةٌ ورقية للحفيد

يزورُ في المستشفى مريضاً ينكمشُ كلما فتشوا عن وريده. يواسيه، لكن المريضَ يطالعُ أثر ثقبِ الإبرة على الجلد، ثم يردُ متذمراً: "ما الجدوى من آلامي؟ لستُ شاعراً حتى استثمرها أو أفخرَ بها"


في الخارج، يلاحظُ أن خطَ الدخان الأسود الممزوج بالأفق يشبهُ أرواحنا
وُجِدَت، في الماضي، يدٌ تقودُنا نحو الحياة ..هل ستوجدُ يوماً ما يدٌ تقودُنا إلى الموت؟
الشجرةُ التي لا يستبيّنُ نوعَها، على شيء من خضرةٍ وحياة رغم الجفاف
الأشجارُ التي نقصقصها مثل باقي أيامنا، تنمو حين نرويها بحكاياتِنا وقصصِنا المهمة والتافهة على حد سواء
فروعٌ تتمردُ وأخرى تنزوي في استكانة..وثالثة نطبعُ فوقها أسماءَ أحبتنا والذين "دوخونا"
وفي النهاية، تصبحُ تلك الغابة عنواناً للضياع الذي عشناه أو نتأهبُ له في أيامٍ لم تنبت بعد

يدوسُ عَلَى كرامةِ المَللِ..وَيبَدِّدُ ثَروةَ الأملِ فيِ إحدى حانَاتِ الحَيَاة
يعجُ المكانُ بالرجال البدناء والنساء الوحيدات. تحسُ في همهمتهم أنهم ضيوفٌ على الغبار
يلمحُ في ركنٍ قصي سيدة طويلة سمراء بصدرٍ عارم مهتز ووجهٍ يومضُ بالكبرياء. لا تتغنجُ قاصدة، لكنها أشياؤها تنفرطُ منها في كل اتجاه، تكادُ تسمعُ صدى رجعها
تنظرُ كلَّ حينٍ إلى ساعتها، كأنها ‏تنتظرُ موعداً تأخرَ أكثر من قدرتِها على الانتظار..والقلقُ شوكةٌ في عُنقِ الوقت

يختلسُ النظر إليها. تلحظُه، فتشدُ ثنيةَ التنورة إلى الأسفل، ثم تشعلُ سيجارة بين شفتيها ‏فيشتعلُ حريقٌ بين ساقيه

يكادُ جمالُها يرفعُكَ عن الأرضِ فلا تعرفُ متى يتذكرُ قانونُ الجاذبية إسحق نيوتن

الطاولاتُ التي ترث تنهداتِ الزبائن تَرجُمُ حيرتَه: كلُنا مشروعاتُ رغبةٍ لبعضنا البعض
أجملُ ما يمكنُ أن يحدثَ معك أن تلتقي امرأةً مجهولة فتحبُك وتشتهيها، ونقضاً لتخوّفك تجدُها مذهلة. الأجملُ ألا تلتقيها

يخرجُ حاملاً حسرةً تسجنُ الهواء
الليلُ يقتربُ، والسنترال يُغلقُ بابَه على آخر برقياتِ العزاء والبهجة، بعد أن غازلَ العاملون فيه الطالباتِ بتنوراتهن الضيقة وضفائرهن المتدلية، والعاملاتِ اللاتي تظهرُ حلماتهن الصلبة تحت روعة الثوبِ الخفيف، والزوجاتِ اللاتي تزوجهُن الفقرُ كرهاً، والمطلقاتِ بنظراتهن الحائرة، والباحثاتِ عن حبيب.. أي حبيب

الثرثرةُ لا تنتهي في المذياع.. صوتٌ يتحدثُ عن العدو..قد يكون هذا الصوتُ نفسه هو العدو


يسيرُ وهو يُغَالِبُ اللعناتِ المكتومةَ في طرقاتِ عبوره
يتحسسُ القطعَ المعدنية في جيبِه ويصطنعُ ابتسامةً عاجلة وهو يقتربُ من المحطة
القطارُ يترنحُ مثل سكير في آخر الليل.. كان للاهتزازِ الرتيبِ تأثيرٌ مُهدِّىء عليه
الراكبُ الأخير لا يفعلُ شيئاً سوى أن يطقطقَ أصابعه، كأنما يبحثُ عن نغمٍ شَرِيدٍ بين الأصابع
ينظرُ إليه في أسى قائلا بصوتٍ مبحوحٍ كأنه مارلون براندو في فيلم "العراب": هل لكَ أن تشتري عزلتي، أو أؤجركَ قلبي قبل أن ينام؟
السائقُ يصفرُ ويدندنُ بأغنية: حبيبتي لا تزال ضيقةً على جسدي، وألبستي أتلفتها الحروب

لا يأبهُ السائقُ لتلويحةِ يدٍ مودعةٍ من قطارٍ يأتي من الجهةِ المعاكسة.. كلُ ما يشغلُه هو الانتهاءُ من رحلتِه اليومية، قبل أن يرسو على دفء زوجتِه
بالقربِ من المحطةِ، عازفٌ يتسولُ بإيقاع يصعدُ سُلَّمَ الفرح. موسيقاه تنفذُ إلى الذاتِ واللذاتِ الشقية. ما من موسيقى حقيقية إلا تلك التي تجعلُنا نجسُ الزمن




على الكورنيش الذي رصفوه كي يتتلمذَ العشاقُ في مدرسةِ النجوم، يمشي الموجُ على أطرافِ أصابعه وتطفيء المنارةُ أنوارها خجلاً من عناقٍ مختلس
يعيشُ العشاقُ كل حكايةٍ بالسهد والغناء، حتى آخرها، كأنها المُنتهى، وحين تنتهي فجأة كعادتها، تنطلقُ الأفراسُ الجامحةُ باتجاه نبعٍ جديد
وحدَها المقاعدُ تحفظُ حجمَ الحنين في الأكفِ التي افترقت


تنبعثُ من البيوتِ أناتُ من تطاردُهم الكوابيس. الأصواتُ الغامضة للضحايا تَحرِمُ القتلة من النوم..توشوشهم مع حفيفِ الأغصان، وتُذكِرٌّهم بفداحةِ الذنب
أولُ الشارع عاهرةٌ ترتبُ جسدَها بثمن رخيص، ولا زبائن
تغمضُ السلطاتُ أعينَها عن بائعاتِ الهوى، مثلما يُغمضُ كلبُ الحراسةِ عينيه عن المارة، بعد أن يلتهمَ وجبتَه كاملة


صوتُ المؤذنِ يُلقي يدَ السكينة على جبهةِ المدينة التي تشربُ دمعَها
والسائرُ دوماً في الشوارع الغامضةِ تكنسُ الريح سؤالَه: لماذا نسيء الظنَ دوماً بالنهار حين يقفزُ من النوافذ؟
يُدرِكُ أخيراً أنه ليس نبياً، لكنه يحملُ روحَ الله

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator