المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (2): "ساكن قصادي"




من الفوز بمناقصة بناء جسم السد العالي عام 1957 إلى انتخابه عضواً في مجلس الأمة عن دائرة أبو المطامير في محافظة البحيرة في 9 يناير كانون ثانٍ 1969، وقعت أحداث ومحطات كثيرة في حياة عثمان أحمد عثمان

بعض هذه المحطات طريف، مثل عضويته الشرفية في النادي الأهلي في 8 يناير كانون ثانٍ 1966، ورئاسته لمجلس إدارة النادي الإسماعيلي - الذي قدم له خدمات لا تُحصى- في 2 يوليو تموز 1966، ثم رئاسته لنادي "المقاولون العرب" في أول ديسمبر كانون أول 1968 - وفي أغسطس آب 1977 أصبح رئيساً فخرياً للمقاولون العرب لمدى الحياة- كما أصبح رئيساً شرفياً لنادي الاتحاد الليبي في 26 فبراير شباط 1970





لكن كل هذا يبدو عادياً في حياة ومسيرة رجل مثل عثمان أحمد عثمان

وما يهمنا هنا هو علاقة الصداقة المتينة التي جمعت بينه وبين الرئيس المصري أنور السادات

وحكاية عثمان مع السادات تبدأ عندما كان الاثنان يسكنان متجاورين في منطقة الهرم قبل ثورة يوليو 1952، ومن ثم تعارفا وتوطدت العلاقة بينهما لتصبح في فترة من الفترات أشبه بالتوأمة. ويؤكد عثمان أنه كان بينه وبين السادات نوع من "التوافق النفسي"، فقد كانا جارين وبينهما "عشرة عمر"

يقول عثمان: "عندما أُعلِنَت أسماء وأعضاء مجلس قيادة الثورة لم أجد في الأسماء من أعرفه إلا محمد أنور السادات الذي عاش خلال مراحله الأولى فترة في الإسماعيلية، ثم رأيته في بورسعيد عقب العدوان الثلاثي عام 1956. وكنت قد حضرت من السعودية خصيصاً لكي تشارك شركتي في تعمير بورسعيد، وذهبت أزوره في بيته وفتح لي باب منزله بنفسه وهو يرتدي الجلباب. وكلفني ذات يومٍ بإدخال بعض التعديلات على منزله، وطلب أن نبني فيللا لابنته، ثم طلب بناء فيللا لكريمته الثانية. وتكررت الزيارات العائلية"




وعندما استدعاه السادات لكي يشغل منصب وزير التعمير، قال له: "عثمان أنا عاوزك وزير تعمير عشان أضمن إن كل حاجة تمشي مضبوط"

وهكذا اختير عثمان وزيراً للتعمير في حكومة د. عبد القادر حاتم في 28 أكتوبر تشرين أول 1973، ليظل في الوزارة لمدة ثلاث سنوات عاصر أثناءها ثلاث حكومات متعاقبة. فقد اختير وزيراً للإسكان والتعمير في حكومة د. عبد العزيز حجازي في 26 سبتمبر أيلول 1974، ثم احتفظ بالحقيبة الوزارية نفسها في حكومة ممدوح سالم في 16 إبريل نيسان 1975، إلى أن خرج من الوزارة في نوفمبر تشرين ثانٍ 1976

واللافت للانتباه أن عثمان كان ينتقد جميع أعضاء الحكومات الثلاث التي شارك فيها، حيث قال عنهم: إن عقولهم لم تستطع أن تطوع نفسها لكي تتعلم منه (ويقصد السادات)، سياسة الخط المستقيم التي بح صوته وهو يتحدث عنها. شتان ما بين هذا العملاق الذي لا يخاف إلا ربه ويثق في قدراته وبين هؤلاء الأقزام الذين يخافون من كل رجلٍ ناجح (يقصد نفسه) حتى ولو كانوا هم الذين سيجنون ثمار نجاحه

والسادات عند عثمان كان "حاجة ثانية".. فقد كان يقول عنه: "هو الإنسان الوحيد الذي عندما يرى أمراً لا أراه..لا أملك إلا ان أسلم برأيه"!



وبدا طبيعياً أن يرافق عثمان الرئيس السادات في زيارته الشهيرة للقدس في 19 نوفمبر تشرين ثانٍ 1977، والتي يؤكد عثمان أنها وراء استرداد مصر لسيناء. يقول عثمان: "وتحدد موعد زيارته لإسرائيل في نوفمبر عام 1977. وقلتُ له بتلقائية سأذهب معك يا سيادة الرئيس". ويؤيد ذلك ما قالته جيهان السادات قرينة الرئيس المصري لمحاورها أحمد منصور في حلقة برنامج "شاهد على العصر" التي عرضتها قناة الجزيرة الفضائية في 5 مارس آذار 2001: "والله هأقول لحضرتك، عثمان أحمد عثمان هو اللي قال له عايز آجي معاك، وكان قدامي الحديث"


أما اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن في 17 سبتمبر أيلول 1978، فهي في نظر "المعلم" عثمان حركة سياسية كبيرة وحركة بارعة من سياسي بارع

ولا بد من القول إنه عندما دخل عثمان الوزارة، تحول إلى رفيق السادات وشريكٍ له في عددٍ من القرارات الاقتصادية، حتى إن الكاتب الصحفي موسى صبري –رجل السادات المخلص- قال إن الموافقة على أي مشروعٍ اقتصادي كانت تمر من بين أصابع عثمان أحمد عثمان

وحين كان عثمان بعيداً عن الوزارة، لم يخل من مناصب أخرى، إذ شغل منصب أمين الحزب الوطني بالإسماعيلية في نوفمبر 1978، كما كان رئيساً للمجموعة البرلمانية بالإسماعيلية عام ‏1976


وفي مارس آذار 1979 أصبح عثمان نقيب المهندسين

وقيل إن الدولة ساندت عثمان في دخول نقابة المهندسين لإجهاض الصوت المعارض للسادات داخلها. وهكذا ظل عثمان نقيباً للمهندسين لسنواتٍ، وانتخب نقيباً لفترة ثانية عام 1983

ولعب عثمان دوراً في التقريب بين السادات و"الإخوان المسلمون" بحكم صداقة عثمان لهم


ويتعين أن نشير هنا إلى أن "المعلم" أفرد في سيرته الذاتية مكاناً لتفاصيل كثيرة عن علاقته بالإخوان المسلمين،‏ حيث كان حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها الأول هو في الوقت نفسه مدرس اللغة العربية والدين في مدرسة عثمان الإسماعيلية الابتدائية،‏ وكان البنا وقتها لم يزل في العشرينيات.‏ هكذا تفتحت عيناه على الرجل الذي قُدِرَ له أن يؤسس جماعة الإخوان المسلمين. ولعل هذه الصلة بين مدرس وتلميذه تركت أثرها في نفس الصبي، وآتت ثمارها فيما بعد ليرتبط بجماعة الإخوان المسلمين. كان البنا مدرساً للغة العربية والدين في مدرسة الإسماعيلية الإبتدائية، وكان خال عثمان هو الشيخ محمود حسين من علماء الدين في الإسماعيلية. وقدم شقيقه الشيخ محمد حسين إلى حسن البنا، وتأكدت أواصر الصداقة بين الشيخ حسن البنا وبين الشيخ محمد حسين خال عثمان. وكان حسن البنا يذهب كل يوم بعد صلاة العشاء إلى "مندرة" الشيخ محمد حسين ليبحثا في أمور الدين. وأصبحت الجلسة دائرة المنتدى الديني وحسن البنا يتصدر ذلك المنتدى. وتطورت جلسات المنتدى من "المندرة" لتصبح الإسماعيلية كلها منتدى



والثابت أن الجماعات الإسلامية في مصر بدأت تظهر بشكل فعال في عام 1972 بعد أن أفرج السادات بالإفراج عن قيادات الإخوان المسلمين بالمعتقلات، وقرر التحول عن التوجه الاشتراكي للدولة. وفي حوار أُجري معه بعنوان "النبوي إسماعيل وزير الداخلية الأسبق يكشف لأول مرة: اعتقالات سبتمبر ناقشتها لجنة رباعية.. "أنا والسادات ومبارك وأبو غزالة".. والسادات صاحب القرار"، سئل النبوي إسماعيل: "من أشار على السادات بخروج الجماعات من السجون؟" فرد قائلاً: "عثمان أحمد عثمان ومحمد عثمان إسماعيل الذي تولى محافظ أسيوط"



ويتوقف كثيرون عند اجتماعٍ شارك فيه رؤساء اللجان الدائمة بمجلس الشعب، في أعقاب المظاهرات التي اندلعت بالجامعات احتجاجاً على سياسة حكومة د. عزيز صدقي، وكان يتزعم الطلاب قوى اليسار والناصريين إذ كانت تسيطر على اتحاد الطلاب واللجنة الوطنية العليا بجامعة القاهرة

في هذا الاجتماع اقترح بعض الأعضاء، مثل عثمان أحمد عثمان ويوسف مكاوي ومحمد عثمان إسماعيل، إنشاء تنظيم للجماعات الإسلامية في الجامعات بهدف الرد على جماعات اليسار والاشتراكيين، وبادر بعض أعضاء اللجنة بالتبرع بالأموال اللازمة لإنشاء هذا التنظيم. وتم إنشاء تنظيم شباب الإسلام بجامعة القاهرة وجامعات أخرى، وحظي هذا التنظيم بمساندة صريحة من الأمن واستُخدِمَ لمواجهة وتصفية قوى اليساربدأ تنظيم شباب الإسلام بالقيام بالعديد من الأنشطة داخل الجامعة من معسكرات صيفية وتنظيم لرحلات الحج والعمرة وذلك بتمويل مباشر من الدولة


وعملت جماعة شباب الإسلام على تغيير بعض أنماط وأشكال الحياة الجامعية، مثل تغيير البرنامج الدراسي ودعوة الطلاب إلى الاشتراك في الأنشطة ودروس القرآن والحديث وفرضت وقف المحاضرات والأنشطة الأخرى في أوقات الصلاة، والفصل بين الجنسين في قاعات المحاضرات ومنعت إقامة الحفلات الموسيقية والراقصة وأي صور أخرى للهو داخل الجامعات


ومن هنا يمكن فهم دور عثمان في التقريب بين جماعة الإخوان المسلمين والسادات


ففي كتابه "ذكريات لا مذكرات" (دار الاعتصام، القاهرة، 1985) يقول المرشد العام للإخوان المسلمين عمر التلمساني: "وفى مرةٍ أخرى طلب منا السيد" عثمان أحمد عثمان" وقد كان وزيرا للإسكان حينذاك أن تلقاه مجموعة منا فذهبت مع الدكتور أحمد الملط والحاج حسني عبد الباقي والأستاذ صالح أبو رقيق وقابلناه فرأى أنه من الخير أن نقدم للسادات وجهة نظرنا في الإصلاح كتابة حتى يدرس الأمر في رويةٍ وعلى مهل فكتبنا له وجهة نظرنا في تسع صفحات فلوسكاب حملها اليه السيد "عثمان أحمد عثمان" ثم كانت لي مقابلات مع السيد محمد حسني مبارك وكان نائباً لرئيس الجمهورية في ذلك الحين لقيته في منزله في مصر الجديدة منفرداً مراراً . ومعي الأستاذ مصطفى مشهور مرات أخرى لبعض استفسارات عن بعض ما جاء بتلك الصفحات التسع" (ص 61)


الرئيس السادات قال من جهته في تصريحاتٍ مسجلة: "جمعية الإخوان المسلمين غير شرعية زي ما قلت للتلمساني لكن بروح العائلة قلت له روح سجل وخذ الإذن لكن من هنا لهناك خلي الدعوة ماشية بس لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة"


وعلى الرغم من أن هذا الظهور بدأ باتفاق الضوء الأخضر الشهير بين الإخوان المسلمين والرئيس السادات الذي حاول الاستفادة منهم في ضرب اليسار، وبالرغم من أن العثمَانين اللذين توسطا بالاتفاق عثمان أحمد عثمان ومحمد عثمان إسماعيل أبلغا الإخوان بأنه لا موافقة قانونية ولكن سماح بالعمل دون عقبات، فإن الحركة الإسلامية الشابة التي كانت بدأت تموج بها جامعات ومساجد مصر وقتها هي التي جعلت من هذا الضوء الأخضر جماعة حقيقية من لحم ودم، بعد أن كانت الجماعة القديمة قد اختفت أو أوشكت على الاختفاء

وأفرزت الجامعات المصرية في فترة الاحتضان الرسمي تلك، رموز الجيل الوسيط مثل عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وإبراهيم الزعفراني وحلمي الجزار، خاصة أبو الفتوح الذي يُنسب الفضل في ضم القسم الأكبر من هذه الحركة إلى الإخوان المسلمين التي ضخت الدماء في شرايين وعروق كانت قد جفت تماماً. ومع تقدم العمر وحكم الموت كان الوافدون الجدد قد أصبحوا كل جسم الحركة تقريباً

وحتى عام 1977 كانت الجماعات الإسلامية التي تساندها الدولة مالياً وأمنياً هي الطرف المسيطر على الجامعات المصرية، بعد أن تمكنت هذه الجماعات بمساعدة الأمن من منع أي نشاط للجماعات اليسارية داخل الجامعات، وجرى منع واستبعاد أعضاء تيار اليسار من الانضمام إلى اتحادات الطلاب، وذلك إما بالشطب أو الاعتقال أو التصادم المباشر

غير أن الطلاق وقع بين الدولة والجماعات الإسلامية في نهاية عام 1977 وتحديداً بعد زيارة الرئيس السادات للقدس ومحادثات السلام مع إسرائيل، لتبدأ تلك الجماعات رحلة المواجهة مع نظام الحكم، وعقد مؤتمرات وتوزيع نشرات ضد الحكومة والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية




وبعد اختطاف وزير الأوقاف السابق د. حسين الذهبي من منزله الكائن في منطقة حدائق حلوان جنوب القاهرة ، صباح يوم الأحد الثالث من يوليو تموز عام 1977، أصدرت جماعة المسلمين المعروفة إعلامياً باسم التكفير والهجرة بياناً تعلن فيه مسؤوليتها عن الحادث، وحددت مطالب عدة لكي تفرج عن الشيخ المختطف، وهي الإفراج فوراً عن أعضاء الجماعة المقبوض عليهم وكذلك المحكوم عليهم في قضايا سابقة، دفع مئتي ألف جنيه مصري كفدية، وأن تعتذر الصحافة المصرية عما نشرته من إساءات في حق الجماعة، وكذلك نشر كتاب شكري مصطفى "الخلافة" على حلقات في الصحف اليومية


ويقول د. محمد الذهبي نجل وزير الأوقاف السابق "برنامج "الجريمة السياسية: اغتيال الشيخ الذهبي ج 1"، قناة الجزيرة الفضائية، 10 مايو أيار 2007) ما يلي: "في بعض أصدقاء الوالد وزملاؤه يعني أفتكر منهم دكتور اسمه دكتور إبراهيم الخولي وكان في دكتور إبراهيم نجدة كان نائب رئيس جامعة الأزهر وأعتقد يمكن شيخ الأزهر نفسه في ذلك الوقت أعتقد كان الدكتور بيصار (ملاحظة: الإمام عبد الحليم محمود كان شيخاً للأزهر آنذاك، وخَلَفه في المنصب وزير الأوقاف الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار في عام 1979) أن هما راحوا يعني حسب ما أنا عرفت أن هما راحوا لعثمان أحمد عثمان لأنه كان برضه علاقته بالوالد كويسة أن هما عرضوا أن عثمان أحمد عثمان عرضوا أنه يدفع المبلغ المطلوب. فاللي فهمته أن رئيس الوزراء في ذلك الوقت قال لهم لا يعني دول شوية عيال وكده وإحنا كله ساعة ولا اثنين وهنمسكهم يعني"

وهذا يعني ببساطة أن البعض رأى في عثمان بنكاً يمكن أن يدفع فدية مالية لجماعة إسلامية اختطفت وزير الأوقاف السابق

من هنا، يرى من رصدوا تلك الفترة من عمر مصر أن عثمان ورفاقه أطلقوا قوى إسلامية لمواجهة تيار اليسار، فإذا بالوحش الذي صنعوه يخرج عن السيطرة

ولعل هذا الأمر يثير في الأذهان سؤالاً له وجاهته ومشروعيته: هل يصلح المقاول في عالم السياسة؟

دعونا نشير هنا إلى واقعة ذات دلالة


في عام ‏1961‏ طلب المهندس عثمان أحمد عثمان، رئيس مجلس إدارة شركة المقاولون العرب‏، التي كانت تقوم بالأعمال الإنشائية الخاصة ببناء جسم السد العالي‏، مقابلة المشير عبد الحكيم عامر الذي كان الإشراف على تنفيذ المشروع،‏ ضمن مهامه السياسية الكثيرة آنذاك‏،‏ ليعترض على اقتراح تقدم به وزير السد العالي‏، بتمديد الفترة اللازمة لتنفيذ المرحلة الأولى منه،‏ بحيث تنتهي عام ‏1966 ‏


وقال عثمان للمشير‏ إن العقبات التي تواجه التنفيذ يمكن التغلب عليها لو أن الدولة وفرت له ما يوازي نصف مليون جنيه من العملات الأجنبية ليشتري معدات متطورة للحفر والنقل، بما يؤدي إلى تسريع الإيقاع‏، وبذلك توفر الدولة أكثر من مئتي مليون جنيه‏، ستضيع في حالة التمديد‏‏


اقتنع المشير عامر برأي عثمان‏، واتصل بوزير الاقتصاد وطلب منه أن يصرف له العملات الصعبة التي يحتاجها، وقال له مداعباً‏:‏ "إيه رأيك نعينك وزيرا للسد العالي يا عثمان؟‏!‏"وقال عثمان‏:‏ "يا سيادة المشير،‏ أنا لا أنفعكم، ولا أنفع مصر إلا كمقاول"‏


ويقول الكاتب الصحفي صلاح عيسى في مقال له بعنوان "كلٌ مُيسر لما خلق له" (مجلة "الأهرام العربي"، 29 سبتمبر أيلول 2007) إنه "من سوء الحظ أن عثمان أحمد عثمان عدل عن هذا التقييم المنصف لنفسه،‏ وللآخرين فيما تلا ذلك من سنوات،‏ ولو أنه تمسك به،‏ لما ترك ما يتقنه،‏ إلى ما لا يعرف فيه، ولما خاض عباب السياسة،‏ وزيرا ونائباً لرئيس الوزراء وقطباً من أقطاب الحزب الحاكم،‏ ليصبح‏-‏ في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السادات‏-‏ أقرب الناس إلى قلبه،‏ وأكثرهم تأثيراً فيه،‏ وأقواهم نفوذاً في بلاطه،‏ على نحو استثار ضيق كثيرين ممن كانوا يحيطون بالرئيس،‏ كانوا يعتقدون‏-‏ عن حق‏-‏ أن تأثيره كان سلبياً،‏ وإن ما كان يقنعه به من آراء في السياسة العامة،‏ كان يفتقد للحصافة،‏ أو على الأقل يصدر عن رجل لا خبرة له بهذه الأمور،‏ ولا علم له بها،‏ فهو قد يكون مقاولاً عظيماً،‏ لكن تفكيره السياسي لم يكن يزيد على تفكير عوام الناس،‏ فضلاً عن هذا فقد كان نفوذ عثمان الكبير في بلاط السادات من الأمور التي أثارت الريب حول نزاهة الحكم،‏ حتى شاع مصطلح الدولة العثمانية على ألسنة الناس في تلك السنوات تعبيراً عن الشك في أن الصلة القوية بين الرجلين،‏ تخفي في ثناياها نوعاً من التربح من المال العام،‏ وهي كلها أقاويل،‏ لم تثبت بعد ذلك صحتها‏"



وبعد السد العالي، دخل عثمان مرحلة حائط الصواريخ بتكليف مباشر من الرئيس السادات


يقول عثمان "إن ميزانية المشروع كانت أربعين مليوناً.. وعندما كلفني بها الرئيس طلب مني إنجازها في شهرين فقط وحذرني من أن يضرب اليأس نفسي لأن الإسرائيليين لن يتركوني أنهي عملي.. ومع ذلك انتهى العمل في أقل من الزمن الذي كان محدداً سلفا.. ورغم كل الصعوبات التي واجهتنا التي كان أقلها ضربات الجيش الإسرائيلي التي أسقطت من كتيبة المقاولون العرب ما يقرب من خمسمئة شهيد"


وكانت إسرائيل تقصف هذا المشروع الضخم بإصرار، حتى إنها هدمت القواعد أكثر من خمس مرات بعد بنائها،‏ وفي كل مرة تعجن مواد البناء بدم القتلى، إلى أن بنيت دشم الطائرات وقواعد الصواريخ على امتداد الجبهة كلها



شهادة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين تلقي مزيداً من الضوء على صداقة الرجلين

"كنتُ قد كتبتُ خطاب السادات الذي كان سيلقي في السويس وقتها وبعد أن عدت من الإسماعيلية استمعت إلى السادات وهو يلقي خطابه ولم يغير حرفاً واحداً فيه ولم يقدم كلمة ولم يؤخر أخرى، ولكنه غيَّر شيئاً واحداً فقط، ففي الحديث عن مشاركة كل العمال من خلال كل شركات المقاولات في بناء حائط الصواريخ غيَّر الرئيس هذه الجملة وقصر الفضل فيها على ذكر شركة المقاولون العرب وعمال المقاولون العرب عثمان أحمد عثمان"


في تلك الفترة، احتاج السادات جهود عثمان كي يتخلص من رجال ونفوذ عبد الناصر، وقرَّبه إليه كي يساعده في تعمير مدنه المهجرة وبناء مدن جديدة، مثل مدينة العاشر من رمضان،‏ ومدينة السادات،‏ ومدينة الملك خالد،‏ ومدينة العبور،‏ ومدينة ‏15‏ مايو.‏ كما كان السادات في حاجة لعثمان كي يتولى توسعة قناة السويس بعد تطهيرها من الألغام، بهدف استثمارها كممر رئيسي للملاحة الدولية والعلاقة بين السادات وعثمان أحمد عثمان - نجم الانفتاح الكبير- يطول شرحها، لكنها وصلت في مرحلةٍ من المراحل إلى علاقة مصاهرة، بعد أن تزوج نجله محمود عثمان من جيهان ابنة السادات في 2 يناير كانون ثانٍ 1977

واستقر في ذهن الجميع أن عثمان هو رفيق السادات في رياضة المشي اليومية – كان السادات يمشي لمدة ساعتين يومياً- ومستشاره وصهره، وصديقه الذي لا يطيق فراقه،‏ فإذا اختفى من مجلسه سأل عنه بإلحاح وقلق،‏ شأن من يشعر بأن شيئاً منه ينقصه‏


ويرى الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل "إن أكبر إنجاز لعثمان كان في الطريقة التي وثَّق بها علاقته وصداقته بالسادات، حتى أصبح كل شيء في حياته الشخصية والسياسية"‏. أما موسى صبري فيذهب إلى القول بأن عثمان وصل إلى قلب الرئيس لأنه ابن بلد لا يتكلف الكلام المنمق،‏ بل يتحدث بتلقائية وبساطة ويبدي للرئيس آراءه بلا تكلف،‏ ومعنى ذلك أن عثمان كان يخاطب الجانب السطحي في شخصية السادات الذي لم تكن له طاقة على دراسة الأمور،‏ أو التعمق في التفاصيل


في هذه الأثناء، كبرت شركة "المقاولون العرب" وتضخمت، وتحولت إلى ما وصفه ديفيد هيرست مراسل صحيفة "غارديان" البريطانية إلى "شركة الوزراء"، إذ كان يعمل لدى عثمان في وقتٍ من الأوقات - حسب قول الجريدة البريطانية- 30 وزيراً ومستشاراً ومحافظاً ومسؤولاً، شغلوا مواقع حساسة


جاء ذلك في وقتٍ جمع فيه عثمان بين منصب عضو البرلمان ونائب رئيس الوزراء، وأصبح "إكسلانس"، كما سماه ذات مرةٍ توفيق عبد الحي، الذي اتهم بالتربح من بيع طيور جارحة ودواجن منتهية الصلاحية لمعدة المصريين


من جهته، رأى عثمان أنه يستفيد من خبراتٍ وكفاءاتٍ معينة ليس ذنبها أن أصحابها كانوا وزراء ومحافظين. والشيء المؤكد أن "المقاولون العرب" مع مجيء السادات للحكم وصدور القانون رقم 43 لسنة 1974، تحولت إلى شركة متغلغلة في مختلف المجالات الاقتصادية، من المقاولات إلى الاستثمارات والمنتجات الخشبية والعمل المصرفي والمواد الغذائية..إلخ


لقد خرج المارد من القمقم..ولم يعد بمقدور أحدٍ إعادة عقارب الساعة إلى الوراء
تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (1): المقاول والرئيس





لم تكن مجرد صداقاتٍ عادية، تلك التي جمعت بين رؤساء وزعماء مصر وبين آخرين في فترات مختلفة من تاريخ المحروسة

الغريب أن هذه الصداقات الغامضة نمت وازدادت تشابكاً لتصل في مراتٍ إلى علاقات مصاهرة، ولتصبح في مراتٍ أخرى مدخلاً إلى علاقاتٍ آثمة

وفي كل الأحوال، كانت مصر هي التي تدفع ثمن تلك الصداقات

إحدى هذه الصداقات تسببت بدرجةٍ أو بأخرى في هزيمةٍ عسكرية قاسية تشبه الجرح الغائر في ذاكرة المصريين
صداقةٌ أخرى، أسقطت ملكاً عن عرشه، وثالثة كانت وراء تورط الدولة في استشارات سياسية معيبة ومشروعات اقتصادية خاسرة

ومع ذلك، استمرت هذه العلاقات "المتينة" بين رؤساء وزعماء مصر وبين آخرين استفادوا من هذه الصداقات، ربما سياسياً أو اجتماعياً، أو اقتصادياً.. لكن الفاتورة الباهظة لهذه الصداقات كانت أغلى من أن نتجاهلها أو نمر عليها مرور الكرام

وربما كانت أجواء الصداقات الجديدة التي تشهدها الساحة السياسية والحزبية في مصر دافعاً لنا كي نفتح هذا الملف الشائك، ونشير بأصابعنا إلى هذه العلاقات: بداياتها، ظروف نموها، تأثيرها على الحياة العامة وصنع القرار السياسي أو الاقتصادي في مصر..والأهم من ذلك كله: حساب "الفاتورة" التي دفعتها مصر ثمناً لتلك الصداقات الغامضة
والمعنى هذه المرة ليس في بطن الشاعر..وإنما على ألسنة الناس

نبدأ بالرئيس المصري أنور السادات والمهندس عثمان أحمد عثمان



يقول عنه الشاعر نجيب سرور في أشهر قصائده الممنوعة:

"أشكول أحمد أشكول
عثمان أحمد عثمان
عثمان يعني التعبان
بالفصحى ومين ها يقول
والباطل فن وكار
وسياسة (...) أفك
ار"

إنه باختصار، أشهر "عثمان" في تاريخ مصر الحديث
حتى إن البعض تحدث متندراً عن "الدولة العثمانية" في عهد السادات
لعب أدواراً مختلفة، وحمل ألقاباً أكثر، وتنقل ما بين وظائف ومناصب أكثر وأكثر، ما بين المهندس،‏ وصبي الميكانيكي‏، والمعلم،‏ والمقاول، والوزير،‏ والأب الروحي‏، ورئيس النادي الإسماعيلي..وصهر الرئيس

ومن حكايته مع السد العالي وحائط الصواريخ، ودوره في الانفتاح الاقتصادي، وعلاقته بعددٍ من رموز الانفتاح ممن هربوا بأموالهم إلى الخارج، مروراً بمشروعات هضبة الأهرام وقبة مسجد الحسين والصالحية..تبدو الشهية مفتوحة لمعرفة أسرار هذا الرجل


بل إنه يكاد لا يوجد شخص وُضِعَت عنه كتبٌ ومؤلفات تتباين فيها الآراء بشأنه، مثل عثمان أحمد عثمان. فإذا كان قد أصدر في إبريل نيسان 1981 كتاباً يحمل عنوان "صفحات من تجربتي" يقع في 648 صفحة من الحجم المتوسط، فإن الكاتب الصحفي عبد الله إمام أصدر في المقابل كتاباً يحمل عنوان "تجربة عثمان: الرد على كتاب المهندس عثمان أحمد عثمان" وصدر عن دار الموقف العربي عام 1981 ويقع في 184 صفحة. وفي العام نفسه أصدر النائب المعروف د. محمود القاضي - الذي رحل عن دنيانا في 9 سبتمبر أيلول 1982- كتابه "البيوت الزجاجية: وجهاً لوجه مع عثمان أحمد عثمان" الصادر عن دار الموقف العربي. كما صدر كتابٌ آخر هو "عثمان..اللغز والأسطورة" للكاتب الصحفي طلعت رميح عن دار سينا للنشر عام 1987

والشاهد أن الفتى اليتيم عثمان أحمد عثمان قَطَعَ رحلةً مثيرة، من حارة عبد العزيز المتفرعة من شارع مكة بحي العرب في مدينة الإسماعيلية..إلى أن وصل إلى ما وصل إليه في قاهرة المعز


يقول عثمان المولود في ‏6‏ إبريل نيسان ‏1917‏ في مذكراته‏:‏ "رحل والدي وأنا في الثالثة وتركني بلا موارد مع ثلاثة أشقاء وشقيقتين‏.‏ أكبرنا لم يتجاوز الثانية عشرة وحسين الصغير لم يزل رضيعاً،‏ وعندما حاولوا إقناع والدتي بالزواج أجابت لن أسعد نفسي،‏ وأشقي أولادي‏..‏ كان والدي يمتلك محلاً للبقالة وبعد وفاته ترك محمد المدرسة ليدير المحل‏..‏ كان عندنا عنزة ننظر إليها كأحد أفراد العائلة اسمها عيدة وكانت توفر لنا بعض مصادر غذائنا‏..‏ كانت أمي التي تقوم بتربية الطيور وبيعها لتغطي التزاماتنا لا تقرأ ولا تكتب لكنها علمتنا الكثير" (عثمان أحمد عثمان، صفحات من تجربتي، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 1981)


نشأ عثمان في منزل مبني من الدبش والطين وسقفه "تعريشة"من الخشب وجريد النخيل..ليس فيه دولاب أو سرير..كان أفراد الأسرة يفترشون الأرض عندما يأكلون وعندما ينامون


وفي عام ‏1935 دخل كلية الهندسة بشهادة فقر، ‏إذ لم يكن يملك قيمة المصروفات المقررة وكانت أربعين جنيهاً. وأقام في شقة شقيقته المتزوجة من الشيخ علي حسب الله الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف. والشقة تقع تحت الربع بباب الخلق، وكان شقيقه إبراهيم عثمان الطالب أيضاً بكلية الهندسة يقيم في هذه الشقة. وشقيقته هذه هي والدة وزير الإسكان سابقاً صلاح حسب الله، والدكتور عبد المنعم حسب الله المدير التخصصي لشركة المقاولون العرب

قاوم عثمان الحقد على الأغنياء بترديده حكمة أمه‏: "غير‏..‏ومتحسدشي"‏، إذ كان يمشي من منزل شقيقته في باب الخلق إلى كلية الهندسة بالجيزة، حتى استطاعت شقيقته تدبير مبلغ مئة وعشرين قرشا كي يشترك في الترام لمدة ثلاثة أشهر. نظر عثمان إلى النقود وظل يفكر كيف يستفيد من هذا المبلغ لأكثر من ثلاثة أشهر حتى هداه تفكيره إلى شراء دراجة، فسأل عن ثمنها فوجده جنيهين، فعاد بالقطار إلى الإسماعيلية وقصد محل "عجلاتي" وطلب من صاحبه شراء دراجة قديمة متهالكة، فاشترى واحدة ثم جمع القطع الناقصة وأعاد إصلاحها ولم تكلفه سوى ستين قرشاً فقط. وظلت الدراجة مع عثمان أحمد عثمان خمس سنواتٍ كاملة هي مدة الدراسة في كلية الهندسة


في عام ‏1948 قرر الزواج عندما رصد‏ ثلاثين جنيها شهريا للإنفاق على بيت جديد، وكانت العروس سامية هي الشقيقة الثالثة لزوجتي شقيقيه إبراهيم وحسين بنات إسماعيل وهبي المحامي،‏ وفي الصباحية نهض من فراشه في الخامسة صباحاً ليذهب إلى عمله كالمعتاد


بدأ حياته العملية في مجال المقاولات ببناء جراج لطبيب يوناني مستعيراً أدوات البناء التي لا تخرج عن ستة عروق خشب ولوح وسقالة وكان مكسبه منها‏ ستة‏ جنيهات،‏ ومنها بدأت العجلة في الدوران. وكان أول تعامل له مع شركة عبود باشا عام 1947، وأدرج عبد القوي باشا اسم عثمان أحمد عثمان ضمن أسماء المقاولين المقيدين في مكتبه. وفي عام 1950 تولى عملية إنشاء مدرسة البنات الابتدائية بالإسماعيلية. وعندما أصبحت المدرسة جاهزة للتسليم قامت قوات الاحتلال البريطاني بالإسماعيلية بالسيطرة عليها عام 1951 بعد أن أعلنت حكومة مصطفى النحاس باشا إلغاء المعاهدة . امتد عمل عثمان خارج الإسماعيلية لبناء سور مصنع السماد بالسويس.‏ جرَّب حظه عام 1951 ‏في السعودية ليرسو عليه عطاء تنفيذ الكلية الحربية بالرياض،‏ وفيها عرف الملايين عبر مقاولة بلغت قيمتها 7.5 مليون ريال سعودي


لقد هبط المال على عثمان أحمد عثمان فجأة - على حد قوله- وبأكثر مما كان يتوقع، ليوقع بعدها باسمه بالخرسانة المسلحة على الرخام والصخر والأسمنت في الكويت والإمارات والعراق والأردن وليبيا ولبنان


وفي مصر، كانت له بصمته في بناء جسم السد العالي،‏ وبناء قواعد للصواريخ في جبهة قناة السويس أثناء حرب الاستنزاف،‏ إضافة إلى تعمير مدن القناة بعد حرب أكتوبر 1973، وشق طرق وترع، وإقامة مطارات وتشييد جسور وكباري علوية وأنفاق ودشم الطائرات،‏ ومصانع ومساجد ومستشفيات وبنوك ومؤسسات حكومية. وهو الذي أعاد بناء كفر عبده بالقرب من السويس في شهرين،‏ وشق في الجبل نفق الشهيد أحمد حمدي الذي تصدع فجأة بعد فترة من بنائه وتم "إسعافه" بعمليات إصلاحٍ عاجلة


ارتبط اسم عثمان‏ بزراعة الجبل خضرة للنادي الإسماعيلي،‏ وإقامة مستشفى المقاولين العرب فوق الجبل. وعملت شركاته على تشييد عددٍ كبير من المنشآت المهمة في دولٍ مختلفة، مثل ستاد أكرا بغانا، مطار الناضور بالمغرب، كلية الهندسة باليمن، مبنى وزارة المالية بالجزائر، وغيرها الكثير


لكن التحدي الأكبر الذي خاضه في مصر كان عنوانه:‏ السد العالي


فقد أُعلِنَ عن فتح الباب للشركات للتقدم بعطاءاتها للمشروع.. ولما تقدم عثمان لها طلبت الدولة من المقاولين بتشكيل اتحادات فيما بينهم كشرط للدخول في المناقصة، فتعاونت ‏11‏ شركة مقاولات مصرية في تكوين اتحاد لتنفيذ بناء السد العالي،‏ في الوقت الذي تقدمت فيه شركة عثمان وحدها لتنفيذ العمل المطروح، بعد أن تحايل على الشرط بالتحالف مع شركات كرواتية على الورق


وفي 12 يناير كانون ثانٍ عام 1961 أشرف وزير الري والسد العالي المهندس موسى عرفة على جلسة فتح مظاريف العطاء، ليتبين أن عطاء اتحاد المقاولين يبلغ 27 مليوناً، في حين كان عطاء عثمان أحمد عثمان 15 مليوناً فقط


يومها قال عثمان إن الفارق غير موجود تقريباً اللهم سوى أرباح كل شركة من الشركات الإحدى عشرة التي دخلت في الاتحاد، بحيث حددت كل شركة لنفسها مليون جنيه أرباحاً.. فإذا حذفت الأرباح تبين أن العطاء واحدٌ بينه وبينهم
‏لم يصدق المسؤولون أن هذا المقاول يمكن أن يقوم بالعمل وحده وبمبلغ يقل بمقدار 12 ‏ مليونا عن منافسيه، فقرروا أن تشترك معه شركة قطاع عام هي شركة مصر للأسمنت المسلح بنسبة ‏30% . رفض عثمان المبدأ وقرر بدلاً من أن تشترك معه شركة لا يعرف عنها شيئاً أن يتنازل عن ‏50%‏ من شركته للدولة، لكن الدولة رفضت هذا العرض، فرضخ في نهاية الأمر


وفي حين يقدم عثمان شركته على أنها الشركة التي تقف وراء بناء السد العالي، يؤكد سامي شرف سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات في كتابه"سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر: شهادة سامي شرف" (مكتبة مدبولي، 2006) أن"حجم الأعمال التي أوكلت لشركة "المقاولون العرب" في بناء السد العالي لم تتعد نسبة %12 بميزانية لم تتعد 40 مليون جنيه من جملة التكاليف التي بلغت 330 مليون جنيه. و"المقاولون العرب" قامت بأعمال حفر وهدم. ولم يشرف عثمان أحمد عثمان على أي عملية بل كان المشرفون هم أمين عمر وأحمد عوض

"مصر للأسمنت المسلح كان حجم أعمالها 60 مليون جنيه بنسبة 18 % وهو يعادل مرة ونصف حجم الأعمال الذي أنجزته "المقاولون العرب". وأهم الأعمال كالتبطين للأنفاق وبناء محطات الكهرباء والستارة الرئيسية للحقن قامت بها شركة مصر للأسمنت المسلح والهيئة العامة للسد العالي (ص 109)




على أنه بعد ستة أشهر من توليه بناء السد صدر قرار بتأميم الشركة بعد أن بلغت قيمتها الدفترية أربعة ملايين ونصف المليون جنيه. وهكذا، وبحلول عام 1961 تم تأميم شركته تأميماً نصفياً وأصبح هو رئيساً لمجلس إداراتها، ثم ما لبث أن أصبح التأميم كلياً في عام 1964، كما تغير اسمها من "الشركة الهندسية للصناعات والمقاولات العمومية" إلى "المقاولون العرب" - عثمان أحمد عثمان وشركاه.. وتمكن عثمان من أن يحتفظ بمنصبه فيها أيضاً كرئيس مجلس الإدارة، وتم تجديد رئاسته لمجلس الإدارة مرة أخرى في يوليو تموز 1968


وبذكائه الفطري، حافظ عثمان على توازنه وواصل أداء دوره، رافضا عرض الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود الحصول على الجنسية السعودية وأخذ ما يريد من أموال،‏ وتحمل نفقات معيشته مع أسرته في أي مكان في العالم


وكان عثمان قد ذهب إلى صديقه السادات قبل التأميم بأيام فلم يشأ الأخير أن يفاتحه بما سوف يصيبه باعتبار ذلك سراً ملكاً لعبد الناصر وحده‏..‏ ويسأله عثمان بعدها‏:‏ لماذا أمموني؟ وأنا لست من النوعيات التي ينطبق عليها مثل هذا القرار،‏ فلا أنا إقطاعي ولا رأسمالي ولا مستغل ولا محتكر ولا ذنب للاستعمار وما لدي من أموال كونت بها الشركة وحصلت عليها بعرقي من خارج مصر،‏ وأتيت بها لتستثمر لصالحها فيها،‏ ويجيبه السادات‏:‏ هذه أشياء سوف تنتهي وعليك بالصبر

‏وإذا ما كان عثمان قد نفذ حلم عبد الناصر في بناء السد وظل حتى النهاية مؤيدا له ومتعاونا معه،‏ فإنه من بعد رحيله أظهر نفوره من سياسته، حتى أخذ يشير إليه في كتابه "صفحات من تجربتي" بتعبير نظام الحكم بدلاً من ذكر اسمه الحقيقي. أثار الكتاب زوبعة إثر صدوره في إبريل نيسان 1981، لما جاء فيه من انتقادٍ لعبد الناصر، ما اضطر السادات إلى إصدار أوامر بتشكيل لجنة تقصي حقائق لما ورد في الكتاب الذي نوقش في مجلس الشعب


وفي 12 مايو أيار 1981 صدر النص الكامل للتحقيق في وقائع الكتاب. وجاء في النص أن "الكتاب لم يقصد التعريض بذمة عبد الناصر أو النيل من ثورة يوليو"..لكن عثمان يعترف بأنه غضب لتأميم عبد الناصر شركة "المقاولون العرب"، وقال في حديثٍ صحفي له "بأنني زعلت من عبد الناصر شوية بسبب حكاية التأميم"

غير أن الحقائق تشير إلى أن الاعتماد كان متبادلاً بين عثمان والسلطة في عهدي‏ عبد الناصر والسادات

فقد استفاد الاثنان من جهده وشركاته وعلاقاته، وكان هو يحفظ عن ظهر قلب وصية أمه في الصغر.. "اللي مالوش كبير يشتري له كبير"

وجد عثمان في كلٍ من الكبيرين هدفه وطريقه إلى مزيد من النجاح


ويمكن القول تجاوزاً إن جمال عبد الناصر هو الذي وضع حجر الأساس لدولة "المقاولون العرب" عندما أعطى الشركة امتيازاتٍ عدة وسمح لعثمان بممارسة نشاطه داخل مصر وخارجها من دون قيود. أما السادات فهو الذي أسبغ على هذه "الدولة" صفتها السياسية..وربما يعود ذلك إلى "الخلطة السرية" التي يمتلكها عثمان وجمعت بين ثقافة المهندس وشطارة المقاول

ولذا فسر البعض موقف عثمان بأنه لم يكن كراهية لعبد الناصر، بقدر ما كان ثمناً لموقعه المقرب من السادات

ويروي نائب رئيس تحرير جريدة "الجمهورية" عبد الوهاب عدس في مقال له تفاصيل مهمة حول علاقة عثمان أحمد عثمان بالرئيس عبد الناصر، فيقول: "قلت له (يقصد عثمان) كيف كانت علاقتك بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ذلك الوقت.. فقال لي عثمان أحمد عثمان: في أول زيارة لعبد الناصر للسد العالي وبعد انتهاء جولته.. وقف عبد الناصر يسأل: أين عثمان أحمد عثمان؟.. وكنت بجواره.. فقلت أنا يا ريس.. فاندهش عبد الناصر.. ورد علي قائلا: أنت عثمان.. اللي لابس أفرول.. وبتلف معانا طول النهار أنا كنت فاكر عثمان بكاتينه دهب وجالس في مكتبه في القاهرة.. وأضاف عثمان: أنا هنا يا ريس مقيم في هذه الخيمة إقامة كاملة وسط أبنائي العاملين، فقال عبد الناصر وهو يبتسم برافو عثمان.. وقبل أن يغادر عبد الناصر موقع السد العالي.. التفت لعثمان وقال له: مش عاوز حاجة يا عثمان.. فرد عثمان قبل أن يترك يد الرئيس.. أيوه يا ريس.. الجماعة اللي بيقيموا أصول المقاولون العرب تعبونا يا ريس.. فاتجه الرئيس عبد الناصر إلى المشير عبد الحكيم عامر وزير الحربية في ذلك الوقت والذي كان يرافقه وقال: ريحوا عثمان.. يا عبد الحكيم.. الراجل بيبني لنا السد العالي"


ويقول عثمان إنه بعد أن بنى فيلا لكل من كريمتي عبد الناصر بالأمر على قطعة أرض بمصر الجديدة، استدعته رئاسة الجمهورية وسألته عن التكاليف فرفض تقاضي أجر ورد أنها لم تتكلف شيئاً، فنهره ضابط الرئاسة ووبخه وقال له إنهم لا يريدون هدية من أحد ولابد من دفع ثمن بناء المنزلين
أصيب عثمان بحرجٍ بالغ وتضايق من هذا التقريع وتلك الإهانة، وقال إن البناء تكلف خمسة آلاف جنيه، بواقع ألفين وخمسمئة للفيلا، وهو مبلغ رمزي فقط حتى يتحاشى تطاول لسان ضابط الرئاسة بالرغم من أن الفاتورة الحقيقية هي مئة ألف جنيه، أي بواقع خمسين ألفاً لكل فيلا
ويضيف عثمان أنه مع ذلك، فقد فاصل ضابط الرئاسة لأنه استكثر الثمن الرمزي هذا، وطلب منه خفض المبلغ إلى ألف وخمسمئة جنيه لكل فيلا، فوافق على الفور وتم تسليمه شيكاً من الرئاسة بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه
غير أن هذا الكلام أثار ردود فعلٍ واسعة، وانتقاداتٍ حادة لرواية عثمان
وفي كتابه "سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر: شهادة سامي شرف" يقول المؤلف: "وعندما أصدر عثمان أحمد عثمان كتابه "تجربتي" وادعى فيه أن منزلي السيدتين هدى ومنى جمال عبد الناصر لم تُدفَع تكلفتهما الكاملة لأنهما بُنيا لابنتي رئيس الجمهورية السابق.. سارع الرئيس السادات بالتنصل مما جاء في كتاب صهره ورفيق مجلسه الدائم اتقاءً لرد الفعل الشعبي الذي كان قد بدأ يفصح عن نفسه في ذلك الوقت"

وبين زعيم رحل..ورئيس وصل، كان عثمان قادراً على أن يصطاد العصافير التي يريد على شجرة الحكم
تابع القراءة

gravatar

سرقات صيفية




وصلني سيلٌ من الرسائل الإلكترونية والاتصالات الهاتفية التي تنبهني إلى أن أحدهم نشر موضوعاً على امتداد الصفحة الثامنة من العدد الأسبوعي لجريدة "الدستور" المصرية، نقل فيه جزءاً كبيراً من تدوينتيّ عن "نساء المتعة" المنشورتين في سبتمبر أيلول 2008

وبعد التأكد من الأمر والتثبت من وجود تناص بين المنشور في الصحيفة ومدونتي في أكثر من موضع من دون إشارة إلى المصدر، وحرصاً على ودٍ قديم بيني وبين القائمين على هذه الصحيفة، أجريت اتصالات مع الزميلين إبراهيم عيسى رئيس تحرير "الدستور"، وإبراهيم منصور رئيس التحرير التنفيذي للجريدة


ربما كان من سوء حظ الصحفي المعني بالأمر أنهما صديقان قديمان قبل أن يكونا زميلي مهنة، وأنني كنت من المجموعة الأساسية التي ساهمت في التجربة المهمة لجريدة "الدستور" المستقلة في إصدارها الأول عام 1996، كما كانت لي كتابات متفرقة في الإصدار الثاني، بينها موضوع "رئيس لا يقرأ" الذي تجدون لعنوانه صورة أعلاه

وكم أحزنني أن يقع هذا الأمر لما فيه من تعدٍ على حقوق الملكية الفكرية والأدبية، ونقل لمادة خاصة بمدونتي "قبل الطوفان" من دون استئذان، إضافة إلى وضع الصحفي المذكور توقيعه على عمل نقل معظمه. وبقدر ما ضايقني هذا التصرف غير المهني، بقدر ما سعدت لاستجابة رئاسة التحرير في "الدستور" لشكواي وتأكيدها أنها، وبروحٍ من المسؤولية والالتزام المهني، ستتولى محاسبة المخطىء على هذا التجاوز الواضح والخطأ الفادح

وإذا كان هذا الأمر قد وقع لي، فإنه لم يكن الأول من نوعه بالنسبة لي أو للزملاء المدونين، الأمر الذي يطرح قضية مهمة وشائكة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية والأدبية للمدونين، خصوصاً من تكون لأعمالهم أو كتاباتهم قيمة تغري البعض في وسائل الإعلام بالسطو عليها مع إغفال المصدر وعدم استئذانه أصلاً، بل ووضع أسماء آخرين عليها

إن الأمر سهل، كما يقول رئيس تحرير مطبوعة أخرى، إذ إن بعض المنتسبين إلى عالم الصحافة يركضون إلى محركات البحث، ثم يقعون على مادة معينة، أو يقومون بعمل مونتاج يتضمن التعديل والإضافة، ويضيفون جملة هنا وقفشة هناك..ليخرج موضوع "جديد" يعرضونه على رؤسائهم الذين ينشرونه عادةً بحسن نية على صفحات صحفهم أو مجلاتهم
ما العمل إذاً؟

بطبيعة الحال، تبدو الأزمة في جزءٍ منها مرتبطة بالواقع المؤسف الذي نعيشه في مصر والعالم العربي، من فوضى غير خلاقة وانتهاك للحقوق على اختلاف أنواعها وأشكالها، دون خوفٍ من حسيب أو رقيب

يعلم كثيرون أن تدويناتي المنشورة في المدونة تشكل مادة أساسية لكتبٍ ومؤلفات نشرتها أو أنني في سبيلي إلى نشرها قريباً، الأمر الذي طرح في ذهني تساؤلات عن أفضل الطرق لحفظ حقي الأدبي من أي نقل أو اقتباس أو سرقة لهذه المادة، من دون إذن واضحٍ وموافقة صريحة مني

ولو كان الشخص الذي نقل هذه المادة عن مدونتي أورد المصدر لكان العتاب أقل، ولقلنا ساعتها إنه كان أميناً مع نفسه ومهنته..وأقول أقل، لأن العتاب يبقى ما دمنا نعتبر الصحفي إنساناً دؤوباً يبحث عن المعرفة ويتقصاها من هنا وهناك، لا أن يستسهل نقل مادةٍ مكتوبة مع إضافاتٍ ورتوش بسيطة، لذر الرماد في العيون.. دور الصحفي أن يبحث ويجود ويستزيد، لا أن ينقل مادةً من مصدرٍ معين، حتى مع ذكر هذا المصدر..وليس أدل على أن الرتوش التي أجريت على الموضوع لم تكن كافيةً لإخفاء ما جرى، أن كثيرين اكتشفوا بسرعةٍ وسهولة أن الموضوع منقولٌ بشكلٍ واضح من تدوينتين لي نشرتهما في هذه المدونة

وبالطبع فأنا أتكلم هنا عن روح مهنة الصحافة التي أخلصت لها طوال عمري، وليس عن التفاصيل القانونية التي تناولتها في غير موضعٍ هنا

على أي حال، حرصت على عدم نشر اسم الصحفي موضوع الواقعة، بل إنني حذفت اسمه من الصورة المنشورة للمقال المذكور، لأنني أكتفي وأحترم تعامل "الدستور" الداخلي مع محرريها، علماً بأن نشر صورة الموضوع نفسه هو تأكيد مني لقارئ المدونة على حدوث الواقعة ليس إلا
كلمة أخيرة
ربما حان الوقت للبحث عن وسيلةٍ فعالة ورادعة تحمي حقوق التدوين والمدونات من كل من هب ودب



* عنوان التدوينة مأخوذ عن فيلم للمخرج يسري نصر الله..مع الاعتذار

تابع القراءة

gravatar

الصورة..إن حكت (1): إثم اللون



الصورة:
أمريكي من أصل إفريقي يشربُ الماءَ من صنبورٍ يخص "الملونين"، بموجبِ سياسةِ الفصلِ العنصري في ولاية كارولينا الشمالية عام 1950

تصوير: إليوت إرويت

Photographer: Elliott Erwitt


الماءُ دوماً عَصيٌ على القراءة
وحين نكرهُ، تكونُ للماء ذاكرةُ الغدر، لا ذاكرة الارتواء
كيف ينبجسُ الماء وتُولَدُ الخضرة في مكانٍ ينضحُ بالكراهية؟
كيف تشربُ وتشربُ، ولا ترتوي
تشربُ ولا تشربُ.. كأن الماءَ داخلَك

نحن يا صاحبي نشربُ الماء نفسَه ونَطأُ الأرضَ نفسَها، لكنكَ لا تراني مِثلكَ، ربما لأنكَ أصبحت إلهَ نفسِك..فأنت كل شيء ولا شيء
وحين يعكرُ الماءَ جلادون متعاقبون، تدورُ رأسك بخمرِ الثورة
وكلمةُ الثورةِ إما أن تصبح إلهاماً أو يكون مصيرُها سلةُ المهملات

التاريخُ يُخرِج من داخلِنا بشراً لا نعرفُهم
والماءُ يحاصرُ ذاكرةَ مَن تشتعلُ الحرائقُ في أوردَتِهم منذ لحظةِ الميلاد

في تلك الأيامِ المغطاةِ بالصمت، كان العطشُ عاهتَنا المستديمة
لم يكن الماءُ قادراً على إزاحةِ الحزنِ عن الوجوه، ولا سدِ الثقوبِ العميقة في الروحِ المتصدعة
يقولُ لكَ "الآخر" بلهجةٍ آمرة: ستكونُ عبداً لسيدٍ، وإن كان ذليلاً
ثم يهوي بسوطِ الإكراه أو صوتِ العنصرية، حتى يختلطَ الكلامُ بالأنين

في المدارسِ التي رجموها ونبذوا طلبتها إلى منفى التقسيم العرقي، ثمة شهقةٌ تتسللُ في قصبةِ الروحِ النافرةِ من العصب
في الركنِ القصي من الحافلاتِ، كنا نصطادُ موتَنا المؤجل، ونداوي همومَنا بهمومِنا
دواؤنا دموعُنا..هي الماءُ الوحيدُ الصادقُ الذي نعرفه
صارَ البكاءُ علامةَ موتِنا ونحنُ أحياء
وحدَه الحزنُ كان يلفُ الناسَ بعباءتِه الفضفاضة

نرتشفُ ثلاثَ رشفات
مرة احتجاجاً على "إثم" اللون، ومرة تصالحاً مع كوابيسَ تدورُ في رؤوسِنا مثلَ ساقيةِ الخزي التي رُبِطنا إليها، ومرة حسرةً على أخٍ احتالت عليه الحماقةُ..فأطاعها

الماءُ الذي يخدعُ الأرضَ ويراوغُ الزهرة، يتسربُ الآن إلى حلقي الظامىء الذي غيبَت العنصريةُ عنه حاسةَ التذوق
كأن حواسَكَ لا تعرفُ بعضَها البعض.. حديقة حواسِك بلا ماء
وحدَها الحريةُ تروي العطش

أنا ابنُ الجنوبِ وموسيقى البلوز، أسافرُ بالماءِ حامِلاً ضلوعي باقَةَ جمرٍ تَتَمارى فِيَّ الأكُفُّ
سُعالي الحادُ صارَ نصلاً راحَ يحزُ رقبتي ليلاً، مثلَ طيورٍ تربكُ نعاسَ الأشجار
اللونان الأبيضُ والأسودُ سيدا المشهدِ والمكان
وأنت تدعوني: الملوَن
دعني أسألُك: هل الأبيضُ لون؟ هل الأسودُ لون؟ أم أن التقاءهما يصنعُ ذلك الخليط الخائف والخائب الذي نسميه الرمادي

إن شئتَ، سأحدثكَ قليلاً عن طائر الكاردينال، رمز الولاية، الذي يتباهى ذكوره بقناعٍ أسودَ على الوجهِ لاجتذابِ إناثه..وإن شئتَ، سأترككَ تفكرُ لم استغنى طائرُ الكاردينال عن اللونِ الأبيض في جسدِه البهي

لم أفهمْ يوماً، كيف يكون اللونُ خطيئة، ويصبحُ الأسودُ مرادفاً للجُرمِ والاستهجان: فاسدٌ، فاسقٌ، أثيمٌ، مرعبٌ، شرير
لماذا يخترعُ البعضُ عبادةَ البياض؟
"الأبيض" يريدُ أن يسودَ، لكن كيف تستأثرُ بالمكانِ ما دمتَ ستنتهي مدفوناً تحت أرضِه؟
تلك إذاً خرائبُ الأمكنة، التي تنمو فوقها المباني كنباتٍ وحشي
كلُ ضحيةٍ تمشي مع ظلالِها على تلك الطرقاتِ البعيدة، أو تنزوي بين جنباتِ بقع الظلمة التي تشبهُ الظلم
أما الخوفُ، فينامُ في العيونِ التي تعبت من الصلاةِ طمعاً في الطمأنينة

ها أنا أشربُ الماء، فالأرضُ يجب أن نشربَ منها، حتى تصيرَ منا
ها أنا أشربُ كي أحيا، لكن الذلَ مميت
والرجلُ في الحي الذي تفوحُ منه رائحةُ الفقر، يكدُ ويشقى ويمتصُ الهوانَ كإسفنجة، حتى يسقطَ في الحقل أو يتمددَ فوق سريرٍ باردٍ في الغرفةِ الرطبةِ مثل لوحِ الخشب
وفي الخارجِ، نارُ الحقيقةِ تضطرمُ

لا بد أنكَ تعرفُ أننا نصيرُ جميعاً لوناً واحداً حين نختفي خلفَ قناعِ الموت
والموتُ ليس كافياً للنسيان
ونحن أمواتٌ يَحيونَ بلا مقابِــرَ ولا تعاويذَ

أيها الجلادُ، كم يشبهُ صفيرُ الأغنيةِ التي تدندنُ بها، صفيرَ الريحِ خلفَ نوافذِ بيوتِنا المتداعيةِ التي هدَها التعبُ
الفرقُ الوحيد هو أنه ليس للخوفِ نوافذ. الخوفُ هو المخدِّرُ الذي يَسكنُ في تقويسة عينيك
أريدُ أن أنامَ، لأصبحَ في الأحلامِ حراً
ولكن حين ترفعُ جبلاً طوالَ الليل..كيف تسمي ذلك نوماً؟

وأنتَ..في أي هاويةٍ تنام؟

زهرةُ جسدي، أقطفُها كلَ صباح وألقيها في الشارعِ ليطأها مغرورون، ومُغرمون بوهمِ التفوقِ والهيمنة
في كلِ خطوةٍ أنفضُ عن صدري زهرةً مفتَّتة الأوراق ونُدْبة
كأني محبوسٌ في تلك الزاويةِ من الشهيقِ والزفير فقط، وأتحركُ في مساحةٍ لا تتجاوزُ بصمةَ يدي

في الليالي العاصفةِ قبعتي تطيرُ ببطء، تحييّ السماء، تحلّقُ في الريح باتجاه مدينة ولمنغتون
ربما رأسي العاريةُ تثيرُ إعجابَ الغيوم
لكنني في الوطنِ الجديدِ أجهشُ دوماً بالاغتراب
موقعي في مكانٍ ما، بين الوجودِ والعدم، أي ما بينَ وهمين

قبضةُ اللونِ كانت تجعلُ الرجلَ منا يقفزُ فوق حريته كأنها بركةُ ماءٍ يخافُ من الغرقِ فيها
كم يَسعُ الجسدُ البشريُ خوفاً لا حد له
هل تريدُ أن آخذكَ إلى/ على الماء؟
لعلكَ تدركُ يوماً أنه لا يُوجَدُ في أعماقِنا غير الماءِ، نُولَدُ من الماءِ، ونذهبُ إلى الماءِ، وحين يجفُ ماؤنا نموت


صنبورُ الماءِ واطىء في منتصفِ المسافةِ بين الأرضِ وقامتي.. حتى حين أشربُ تجبرُني على الانحناء!
هذا الماءُ المجروحُ يصيرُ في فمي بطعمِ الدمِ اللزجِ لأسلافٍ ماتوا تحتَ التعذيب وبُتِرَت أطرافهم كي لا يهربوا من جحيمِ الرق
دم، يترك أثرَه في الرملِ مثل أفعى علَمتَها غريزةُ البقاء أن تمحوَ بصمتَها على الأرض
كأن الطمأنينةَ زائرٌ على سفر


نساؤنا في المدينةِ الكبيرة، تشارلوت، تزوجهُن الفقرُ كرهاً وضاجعهن غصباً، فالسيدُ يطمعُ في بطونهن المدورةِ ذاتِ الثنياتِ الوفيرة، ويستهلكُ مثلَ المناديلِ الورقيةِ ذواتِ الفمِ الشهواني الغليظِ والابتسامةِ البُنيةِ البَرية

ذبابُك ينهشُ لحمي الطري، وأنا أحني رأسي للماء..وبياضِك الذي يستميتُ كي يبدو شاهقاً

النهارُ الحارُ يمارسُ سطوتَه في الخارجِ، والماءُ فضةٌ بلونِ الرماد
أُفرِغُ في جَوفي حممَ الأيامِ، لكنَ الماءَ فاترٌ، مثل نظرةِ شرطي لمن هم مثلي

القهرُ ذئبٌ، لا يقتله سوى صياد الوقتِ
يا إلهي: ما أعرفُ.. يُقوِضُ ما أريدُ

أيها الأخُ الضحية: كأن طينَك لم يفترْ منذ الحرقِ الأول. تدخلُ في احتجاجٍ، وتبدأ عصياناً.. ثم تعتصم، قبل أن يُخمِدَ الجلادُ نارَ غضبكَ
يبدو أننا كلما تألمنا أكثر طالبنا أكثر. الاحتجاجُ علامةٌ على أن الإنسانَ خرجَ للتو من قرارةِ جحيم
"القليلُ من الشفقة"، يقولُ أحدُهم
لكننا لا نستجدي الشفقة.. إنها أسوأُ إحساسٍ يشعرُ به فردٌ، يُلصِقون به صفةَ الجنسِ الأدنى مثل طابعٍ بريدي قديم

جرثومةُ العنصريةِ تتكاثرُ على الخارطةِ كالفطرياتِ.. من غرينزبورو إلى دورام، ومن فييتفيل إلى ونستون سيلم

هل قلتُ لكَ إنني قرأتُ يوماً أن الإنسانَ كائنٌ يفرزُ الكارثة؟
شخصياً، أعرفُ أن كلَ كائنٍ تسكنه عقدةُ التفوقِ هو نشيدٌ مُدمِر
كتبُ التاريخ والفلسفةِ التي تنامُ على أرففٍ متهالكةٍ في غرفتي المتواضعة، علَمتني أن كلَ شعبِ، في مرحلةٍ من مراحلِ تطورِه، يذهبُ به الظنُ إلى أنه شعبٌ مختار. عندئذ يعطي أفضلَ وأسوأ ما فيه

لعلك تظنُ أن ماءكَ ليس كأي ماء.. حسنٌ، ماؤك لا يشبهه أي ماء..فهو دمٌ ينز من خاصرتي التي طعنتَها بسكين حقوقي المهدرة
هل تريدُ أن تشربَ من "صنبورك" ماء بارداً؟
تفضل..هذا الماءُ وديعتي في زهرةِ فمكَ
لكن عليكَ أن تتذكرَ جيداً: ينتهي الحبُ بنقطةِ دمعٍ، وتبدأ الكراهيةُ بنقطةِ دمعٍ

تطالعُني بدهشةٍ وأنا أشربُ الماء.. لا تقلق، لن أشربَ أكثرَ من حاجتي وأوامرِكَ
تمتلىء زهرةُ الحريةُ بالماءِ الرقراق، حتى إنني رأيتُ بعضَه يلمعُ، ويسيلُ من زاويةِ فمي اليسرى
رويداً رويداً، سأشربُ، ليستحيلُ الألم أملاً..لن أذوبَ مثلَ قطعةِ سكر في فنجانِ قهوتِكَ الصباحية
لن أختفي..عساني يوماً أكونُ هنا في مركزِ الحياة

تسألُني، لماذا اعتبرُ كارولينا الشمالية وأخواتِها كعكةً عملاقةً مسمومة
إليكَ الإجابةُ: لأن التفرقةَ فيها وصلت إلى رشفةِ الماء
لأن في قلبِ أحدِنا لا تزالُ متوهّجةً جمرةُ الكراهية
لأن الألمَ سيخرجُ يوماً كما يفوحُ الحريقُ من فوهةِ مدخنة
تابع القراءة

gravatar

أبو غزالة..من "النجم الساطع" إلى "خريف الغضب" (5): رقصة واحدة تكفي






"تحلم راقصات أن تُكنَ أخوات الفجر
كي ترقصن في الأعجوبة المنسية بفعل مكر الأثواب البهية"
(إدمون غابيس، "غياب المكان"، "العتبة - الرمل" ( 1943 - 1988)، مطبوعات غاليمار، عام ١٩٩١)


في السياسة كما في عُلب الليل: رقصةٌ واحدة تكفي

وربما كانت هذه الرقصة، سبباً في تغيير وجه ووجهة السياسة الدولية في واحدة من أدق فترات الحرب الباردة

إنها رقصة صممها من أرادوا أن يحاربوا الاحتلال السوفيتي في أفغانستان، فصنعوا وحشاً آخر

والأكيد أن قرار دعم المقاتلين أو "المجاهدين" الأفغان من صناعة أنظمة عدة في المنطقة وخارجها، بتنسيق أمريكي، لكن أياً من هؤلاء لم يكن يتوقع المساهمة دون أن يدري في صناعة حركة طالبان الأفغانية، أو تنظيم القاعدة..وربما تمهيد الطريق إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001

والقصة التي بين أيدينا، استغرقت خمسة عشر عاماً من الكاتب جورج كريل - الذي توفي عام 2006- كي يجمع تفاصيلها ويوثقها في كتاب يقع في 550 صفحة

Crile, George. Charlie Wilson's War: The Extraordinary Story of How the Wildest Man in Congress and a Rogue CIA Agent Changed the History of Our Times, New York: Grove Press, 2003

والكتاب الذي بين أيدينا صدر عام 2003 فلم يعارضه أحد، وتحول إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، بدأ عرضه في 21 ديسمبر كانون أول 2007 من بطولة توم هانكس وجوليا روبرتس وفيليب سيمور هوفمان، ومن إخراج مايك نيكولز، كما تناولته قناة History في برنامج وثائقي مدته ساعتان في 22 ديسمبر كانون أول 2007، من دون أن يصدر تكذيب رسمي وموثق لتفاصيله حتى الساعة..الأمر الذي يدفعنا إلى اعتماد ما ورد فيه، بالرغم من غرابة ما تتضمنه تلك التفاصيل المذهلة التي جمعها صحفي بارز عمل طوال ثلاثين عاماً مع شبكة CBS وخاصة في برنامج 60 دقيقة


إنها قصة عضو كونغرس عابث من تكساس، يدعى تشارلي ويلسون، وكيف قاد سراً أكبر عملية في تاريخ الاستخبارات المركزية الأمريكية لدعم وتسليح المقاتلين الأفغان ضد الوجود العسكري السوفيتي في ثمانينيات القرن الماضي. وفي عام 1980 تمكن ويلسون بوصفه عضواً في لجنة الاعتمادات الفرعية بالكونغرس، من مضاعفة المبلغ المخصص لدعم المقاتلين الأفغان من خمسة ملايين دولار إلى عشرة ملايين دولار، ثم نجح في تأمين مبلغ 750 مليون دولار سنوياً لهؤلاء "المجاهدين" بحلول نهاية عقد الثمانينيات

ولعل السبب الرئيسي في موقف النائب الديمقراطي تشارلي ويلسون هو عداؤه الشديد للشيوعية، إلى جانب تأثير عشيقته جوان هيرينغ المنتمية إلى اليمين المحافظ، والتي حثته على مساندة المقاتلين الأفغان ضد الوجود العسكري السوفيتي، وساعدته،بوصفها قنصلاً فخرياً لكل من باكستان والمغرب، في أن يلتقي الرئيس الباكستاني الجنرال محمد ضياء الحق ويزور معسكرات اللاجئين الأفغان..لتبدأ العجلة في الدوران

في الفصل العاشر من كتاب جورج كريل "حرب تشارلي ويلسون"، تطل حكاية المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة
في هذا الفصل الذي يحمل عنواناً مثيراً هو "عضو الكونغرس يأخذ راقصته الشرقية إلى الجهاد"، يبدأ الكاتب في جمع خيوط الحكاية وكيف تلاقت مصائر أبطالها

والبداية من كيلغور، شرق تكساس، حيث كانت كارول شانون وهي بعد في السادسة من عمرها تهوى الرقص، ولكن كنيسة الأسرة كانت تعتبر الرقص رجساً من عمل الشيطان، وتنصح الأب بوصفه رب المنزل بطرد هذه الروح الشريرة من رؤوس أبنائه. ولما كان الأب لا يحفظ تعويذة فقد لجأ إلى الضرب

لم تعرف الصغيرة كارول سبباً لثورة أبيها وإعمال حزامه الجلدي في جسدها حتى يدميه، ولا سبب لكمه لها، وأحست بالارتباك لحظتها ولم تجد غير الهرولة إلى غرفتها وإغلاق الباب دون والدها والعودة للرقص على أنغام الموسيقى واستراق النظرات إلى المرآة ، في حين أخذت ضحكاتها تتعالى

بعد سنواتٍ انتصر فيها عنادها على سوط أبيها، وتزوجت كارول الفتاة بالسياسي الشاب الطموح جو شانون وسرعان ما رشح نفسه لمقعد في مجلس الشيوخ. غير أن عضو الكونغرس تشارلي ويلسون قرر مساندة صديق ينافس جو في الدائرة الانتخابية نفسها. وقبل أن يسقط جو من عليائه نتيجة فوز خصمه، قال جو لزوجته كارول: إن ويلسون هذا ليبرالي خطير، وسيتسبب يوماً في تدمير الولايات المتحدة..وأضاف قائلاً: إنه العدو

لكن كارول بدلاً من أن تمقت الرجل، أُعجِبَت به



ومع تدهور علاقتها بزوجها سعت لإرضائه وإغوائه، من خلال الالتحاق بدورة لتعلم الرقص الشرقي. وذات ليلةٍ، طلبت منه أن يغلق التلفاز، ثم أوقدت شموعاً وراحت ترقص له على ضوء الشموع. غير أنه بعد لحظاتٍ أطفأ الشموع وأعاد تشغيل جهاز التلفاز

لم تتخلَ كارول عن هواية الرقص، وكانت فتاة دالاس رائعة الجمال بشهادة فوزها بلقب ملكة البحار ثم ملكة التزلج وملكة النفط، وكانت في الثلاثين من عمرها، يميزها شعر أسود فاحم، وتثير إعجاب الرجال. خُيِلَ إلى كارول أنها عاشت حياة سابقة تحت اسم الملكة الفرعونية نفرتيتي، وكانت حين ترقص تطلق سراح روحها، وتنسى رعب الطفولة الذي عاشته


في عام 1978 دعتها فرقة فورت وورث السيمفونية لأداء رقصةٍ فردية في عرضٍ يحمل اسم "شمشون ودليلة"، وكان هذا سبباً في شهرتها ودخولها المجتمع الراقي. أحس زوجها بالهوان فتركها بعد أسبوع، لكنها في عُرف الرجل الآخر، النائب الذي ساهم في فوز خصم زوجها، بدت وكأنها حلم لا يُقاوَم من "ألف ليلة وليلة". أصبح الاثنان صديقين بعد أحد عروضها، وسرعان ما غرقا في بحر الشهوة إن لم يكن الحب. وعندما كان ويلسون يواجه اتهامات بتعاطي الكوكايين في حوض سباحةٍ في لاس فيغاس – وهي اتهامات أُسقِطَت لاحقاً- لم يكن يلجأ إلى عشيقته سيدة المجتمع الراقي جوان هيرينغ التي كان يُطلق عليها "ملكة تكساس"، وإنما إلى الراقصة كارول شانون


وبعد وصلة رقص خاصة أدتها له كارول، قال لها "والآن يا عزيزتي، إذا كنتِ جادة بالفعل بشأن هذا الرقص الشرقي، تعالي معي إلى القاهرة، وسأجعلكِ ترقصين لوزير الدفاع المصري نفسه". كانت الدعوة نصف جادة، ولكن بمضي الوقت بدأ النائب عن تكساس يسائل نفسه: إنها فكرة لا بأس بها..أن يجلب معه في جولته الخارجية المقبلة راقصته الشرقية الخاصة ..ولم لا؟


بعد شهرين من لقاء حميم جرى بينهما في منزله في العاصمة واشنطن والمطل على نهر بوتوماك ونصب لينكن التذكاري ومبنى الكابيتول والبيت الأبيض، شعرت كارول شانون بأنها تعيش قصة خرافية حين جلست إلى جواره في مقعد بالدرجة الأولى وهما يسافران في رحلة سترقص فيها أمام وزير الدفاع المصري المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة


تصف كارول شعورها قائلةً: كنتُ قد شاهدتُ المسلسل "ملكة ليوم واحد"
Queen for a Day
لكن ويلسون جعلني ملكة لثلاثة أسابيع. وعندما هبطت الطائرة في مطار إسرائيلي التقى عضو الكونغرس دبلوماسياً من السفارة الأمريكية كان يعرف السياسة المتبعة، واكتفى بتحية القادم ثم قدم إليه لفافة أوراق مالية هي عبارة عن المبالغ المالية المعتادة التي تقدم لرجال الكونغرس المسافرين، ثم تركه لأصدقائه الإسرائيليين، وأولهم زيفي رافياح

وكان ويلسون يختفي صباحاً مع زيفي، ويترك كارول مع سائق السفارة لزيارة المناطق المقدسة. وذات يوم عاد من رحلته المعتادة وهو يكاد يطير فرحاً ليحدثها عن صفقات سرية تتعلق بدبابات T-55 وصفقات سرية مع باكستان. تقول كارول في مذكراتها: لم أتحدث يوماً بهذا السر، قبل الآن، وكان ويلسون يبدو وكأنه منقذ العالم

سعى ويلسون مع شخصياتٍ معنية في مؤسسة الصناعات العسكرية الإسرائيلية إلى بحث مشروع تطوير هذا النوع من الدبابات، وأيضاً ملف الطائرة المقاتلة "لافي" Lavi فضلاً عما يمكن أن يوفره عضو الكونغرس، نيابة عن إسرائيل، للرئيس الباكستاني ضياء الحق، ما يمهد لسلسلة تفاهماتٍ سرية بين الجانبين. كما طالب ويلسون إسرائيل بالتفكير في سلاح يمكن أن يستخدمه الأفغان في إسقاط المروحيات العسكرية السوفيتية، على أن يتولى هو إقناع أعضاء الكونغرس بتمويل تصنيع هذا السلاح


كان ويلسون يخطو بذلك فوق أرض محرمة على أمثاله، إذ إنه ليس مسموحاً لأعضاء الكونغرس بتفويض قوى أجنبية بتصميم وتصنيع أسلحة، كما أنه لا يحق لهم التعهد بأن يمول البنتاغون مثل هذه المشروعات العسكرية، لكنه كان يريد ضم الإسرائيليين إلى الحرب الأفغانية ضد القوات السوفيتية، والتي تمولها سراً وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية
وقبيل مغادرته إسرائيل، قدم له الإسرائيليون تصميماً لسلاح بمواصفات مكتملة، وهو صاروخ متعدد القذائف، يمكن أن تحمله البغال على ظهورها، يحمل اسم حصان تشارلي Charlie Horse الأمر الذي أسعد تشارلي ويلسون وجعله يتعهد لهم بعرض فكرة التصميم على وكالة الاستخبارات الأمريكية


في 31 مارس آذار 1983، بدأ دور الراقصة يتبلور، لكنها هذه المرة كانت في قلب الحدث وطرفاً لاعباً فيه. في ذلك اليوم صعدت كارول قدميها على متن أغرب طائرة تجارية من نوعها، فالطائرة لم تكن تحمل علامة توضح هويتها ولا حتى رقماً مجهولاً عند الذيل. وفي تلك الطائرة المتجهة من القدس إلى القاهرة في رحلةٍ مكوكية تتم بمقتضى نصوص معاهدة كامب ديفيد، جمع ويلسون مجموعة غريبة تبدو غير متجانسة، تضم زيفي رافياح الذي كان ويلسون يشك دائماً في أنه عميل للموساد، وزوجة رافياح، والنجمة السينمائية الإسرائيلية غيلا ألماغور، وإلى جوارها كارول شانون، راقصة تكساس الحالمة


كان التباين بين المسافرين واضحاً بل وأقرب إلى موقف كوميدي في مسرحية هزلية، فهذه الفتاة من تكساس يعتريها حماس بريء لمهمة تجهل خفاياها، وعملاء تصطك أسنانهم من الخوف من بلد مجهول بالنسبة لهم يدخلونه لأول مرة وهم يعلمون أنهم ليسوا محل ترحيب، ويكاد الواحد منهم لا يصدق أنه على ظهر طائرة مجهولة الهوية. غير أن عضو الكونغرس كان مطمئناً وأردهم أن يقابلوا صديقهم المصري الكبير الذي سيوفر لهم الحماية، وسيكون شخصياً في استقبالهم على أرض المطاروبحسب الكتاب، فإن ذلك الصديق لم يكن سوى: المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة (ص 143)


ولكن كيف تعارف ويلسون وأبو غزالة؟


يقول الكتاب إن صلة التعارف بينهما كان دينيس نيل، رجل العلاقات وجماعات الضغط في واشنطن، الذي بدأ نشاطه في مصر عام 1980، والذي حث المشير على أن يقابل عضو الكونغرس الذي يملك علاقاتٍ واسعة ونفوذاَ كبيراً. وبالنص، يقول المؤلف جورج كريل: "لم يتطلب الأمر جهداً كبيراً، إذ تبين أن أبو غزاالة كان الرجل المناسب لويلسون: أحد أبطال حرب 1973، كارهٌ حقيقي للشيوعيين، مسلم يحتسي الخمر، محب للنساء، ويملك مخزوناً لا ينتهي من النكات العرقية من كل بلد في العالم. لقد رآه ويلسون شخصاً مرحاً للغاية، وكما فطن نيلن وتوقع فإن صداقة نمت بينهما"


وبعد أن تعمقت العلاقة بينهما، أضيف إلى تشارلي ويلسون لقب آخر: بطل المساعدات الخارجية لمصر..وإسرائيل
ويشير دينيس نيل إلى دور لوبي "جنرال ديناميكس" في تقديم تشارلي إلى مصر، على اعتبار أن طائرات اف-16 تعد محور المساعدات الخارجية لمصر، واف-16 يتم تصنيعها في تكساس. غير أن المكون الضروري الذي أضافه دينيس نيل إلى تلك الصورة هو وجه أبو غزالة المبتسم. وبمجرد أن تنبه ويلسون إلى أهمية هذا الأمر، حتى حرص على أن ينال أبو غزالة قسطاً عادلاً من أموال دافعي الضرائب في الولايات المتحدة. وكلما جاء أبو غزالة في زيارة إلى مكتب ويلسون، كان يحظى بمعاملة توازي ما يلقاه زيفي رافياح من معاملة خاصة، وهذا يعني الكثير (ص 144)


وكان أسلوب أبو غزالة في حشد واستمالة جماعات الضغط مماثلاً لما يفعله العميل الإسرائيلي زيفي رافياح، وحرص العاملون في مكتب ويلسون على الاستجابة لكل ما يطلبه أبو غزالة


وعندما كانت طائرة عضو الكونغرس تقترب من مدرج مطار القاهرة، كان قد رعى للتو صفقة تقضي بمنح مصر مساعدات خارجية تقدر قيمتها بمليار دولار. وكان أبو غزالة يدرك أهمية العرفان بهذه البادرة. وإذا كان هذا يتطلب فرش البساط الأحمر لعضو الكونغرس ومجموعة من الإسرائيليين ممن اصطحبهم ويلسون معه في رحلته لمصر، فليكن
وحين فُتِحَ باب الطائرة التي بلا علامة تدل على هويتها، فوجىء ركابها بفرقة موسيقية عسكرية تعزف لحن "زهرة تكساس صفراء اللون" The Yellow Rose of Texas . كان كبار الضباط المنتشرين فوق مدرج المطار، يؤدون التحية لويلسون كما لو كان هو أيضاً برتبة مشير


عاودت كارول أحلام نفرتيتي

وقالت كارول فيما بعد، وهي تستعيد تلك اللحظات: استقبلوني كملكة

وفي الفندق، سجل ويلسون الراقصة كارول تحت اسم السيدة ويلسون، هامساً لها بأنه مخالفٌ للقانون بأن يناما معاً في غرفة واحدة إن لم يكونا متزوجين. وفي سبيل بث الطمأنينة في نفوس الضيوف الإسرائيليين، وضع أبوغزالة حراساً مسلحين على أبواب غرفهم، وخيُلَ للنجمة غيلا أنها حبيسة وسجانها يقف على الباب، لكن كارول شانون كانت تعيش أحلى أيامها وقد أسعدتها كلمات المشير وهو يقول لها إنه يتطلع إلى مشاهدة رقصها في تلك الليلة

بدا إحضار ويلسون لراقصةٍ شرقية إلى مصر الأمر، مثل بيع الماء في حارة السقائين!

لكن كارول شانون كان تجهز لمفاجأة
في تلك الليلة، قررت كارول أن ترقص على طريقتها الخاصة


في البداية قالت للمشير: "لا تتنفس"، ثم أخرجت سيفاً من غمده وأخذت تهزه على بعد بوصات من وجه أبو غزالة. كان ذلك بعد أقل من عامين من حادث المنصة الذي اغتيل فيه السادات وآخرون في أكتوبر تشرين أول 1981، ما دفع حراس المشير إلى أن يهبوا واقفين من مقاعدهم، محاولين انتزاع السيف من يدها، لكن ويلسون أشار إليهم بأن يبقوا في أماكنهم قائلاً : "دعوها، إنه جزءٌ من الرقصة"، فيما كانت كارول بذراعيها المكشوفتين وبطنها العارية التي تتماوج تتجاوز كل المحظورات، وهي تحاصره بملابس الرقص، وتظهر لعينيه فقط، صدرها العارم وبطنها المترعة بالأحلام (ص 145)


ها هي امرأة تتجسد أمام ناظريه كوعدٍ مُلحٍّ وعابث..كلعنةٍ تارةً، أو لذة مرات
قطعة قطعة، كان يتخفف من أثقاله أمام عريها الأنيق
وبدا أبو غزالة – ولعب دوره في الفيلم اليهودي المغربي أهارون إيبالي- مأخوذاً لدرجة أنه لم يقلق حين حرَكت السيف من منطقة بالقرب من رأسه إلى أذنه، ثم صدره، فمنطقة الحزام، قبل أن تستقر عند موضعٍ حساسٍ في جسده


كانت هذه اللحظة المثيرة أشبه بإمضاء تركته راقصة تكساس، في ذروة رقصتها التي تُصيب بالدوار
وبالنسبة لها، كان لتلك الحركة معنى واحد، إذ تقول: "إنها اللحظة الوحيدة التي يكون لي فيها سلطة حقيقية على رجل"
لكن في تلك الليلة في القاهرة، فاق الأمر طاقة واحتمال الحراس الشخصيين للمشير، حين سحبت سيفها كما لو أنها ستغرسه مباشرة في صدر أبو غزالة. وقف رجال الحراسة على أطراف أصابعهم، ما زاد من حدة تأثير رقصتها، في حين ضحكت هي بجرأة أمام الرجل القوي الذي ترقص أمامه

ويقول المؤلف: "في لحظة، كانت تهدد رجولة المشير، وها هي تعيد الكَرة بضحكة تبدو كأنها دعوة"

أما كارول شانون - التي أدت دورها في الفيلم تريسي فيليبس- فتتذكر قائلة: "لقد بدأ يرغي ويزبد من عينيه"، وتضيف قائلةً: "لقد تعين على تشارلي أن يقول له: "لا تستطيع أن تلمسها". لقد احترم ذلك، لكنه أبلغني أنه يريدني أن أعود إلى مصر لأحل ضيفةً عليه"


وهنا يتعين أن نشير إلى أن الرقابة على المصنفات الفنية في مصر برئاسة علي أبو شادي، وافقت على عرض فيلم Charlie Wilson’s War بعد أن اكتفت بقص مشاهد الرقصة المثيرة للجدل التي قادت إلى صفقة لضخ مزيد من الأسلحة للمقاتلين الأفغان


وبينما انشغلت كارول والزوجان الإسرائيليان رافياح بركوب الجمال في الصحراء وزيارة منطقة الأهرامات، تضمنت الرحلة صفقاتٍ أكثر جدية


ففي وزارة الدفاع المصرية، أبلغ ويلسون المشير برغبته في تجاوز خجل وتردد وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ثم سأله إن كان يوجد في ترسانة الأسلحة المصرية سلاحٌ يمكن أن يحدث فرقاً بالنسبة للأفغان. ابتسم أبو غزالة وأبلغه بأنه لا داعي لأن يبحث أبعد من ذلك، إذ كانت ترسانة السلاح المصرية تحتفظ بأسلحة سوفيتية من فترة ما قبل تغيير السادات موقفه السياسي من موسكو في سبعينيات القرن الماضي، وكانت المصانع الحربية المصرية تصنع أسلحة ومعدات بترخيص سوفيتي. وكانت مصر تزود بالفعل الأفغان بأسلحةٍ عبر المخابرات الأمريكية، لكن المشير أبلغه بأنه لا قيود على ما يمكن أن يقدمه هو من أسلحة، سواء على مستوى الكمية أو التقدم (ص 146)


وبحكم الصداقة التي تجمع بينهما، طمأنه المشير بأنه لن توجد مشكلة في أن تقدم مصر تلك الأسلحة، من دون حاجة لتدخل أي شخص آخر. وأكد أنه لا حاجة لمحادثات على مستوى وزارة الخارجية، وأنه ما على تشارلي سوى توفير المال ليمنحه المشير كل شيء آخر لإسقاط الطائرات السوفيتية المقاتلة


لقد حقق تشارلي ويلسون كل ما يريده من هذه الرحلة، فقد أحضر جواسيس ونجمة سينما من إسرائيل إلى القاهرة، وفوَض الإسرائيليين لتصميم سلاح مضاد للطائرات لمصلحة الاستخبارات الأمريكية، وتفاوض بشأن صفقات سلاح سرية مع وزير الدفاع المصري، كما جعل كارول شانون تحقق حلمها لتعود إلى بلدها قائلةً إنها رقصت في القاهرة وفازت بقلب فرعون من هذا العصر


القصة تناولتها أكثر من صحيفة أمريكية، بينها "واشنطن بوست"، و"وول ستريت جورنال" التي قالت إن جهود إقناع مصر بإرسال سلاح سوفيتي إلى أفغانستان جاءت في إطار التمويه على قيام الغرب بمساعدة المجاهدين الأفغان، وادعاء أن هذا السلاح تمَّ الاستيلاء عليه من الجيش السوفيتي


أما صحيفة "لفكين ديلي نيوز" فقد نقلت تفاصيل أكثر عن الراقصة التي تعيش في شيكاغو، وتبلغ حالياً من العمر 60 عاماً، وهي أم مطلقة لفتاتين تمارسان الرقص الشرقي أيضاً




وفي لقاءٍ آخر، اجتمع دينيس نيل وأبو غزالة على هامش معرض باريس للطائرات مع تشارلي ويلسون الذي حضر إلى باريس برفقة عشيقته جوان هيرينغ، ذات الصلات الواسعة في الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط. وفي اللقاء بدا المشير ودوداً مع جوان، ولم يأتِ على ذكر الراقصة كارول شانون. وشدد أبو غزالة لصديقه ويلسون على أنه يملك السلاح الذي يحتاجه المقاتلون الأفغان، وطلب من عضو الكونغرس أن يحضر إلى القاهرة برفقة جوان هيرينغ ليرى بنفسه (ص 180)


ويتحدث الكتاب عن الصداقة الحميمة بين عضو الكونغرس والمشير، والتي لعبت دوراً مؤثراً في الحشد والتعبئة لدعم المقاتلين الأفغان ضد القوات السوفيتية ، إذ يقول ويلسون: "كنا توأمي روح في كل شيء.النساء والويسكي والمحادثة" (ص 310). وكان تشارلي قد اختار أبو غزالة ليكون إشبينه في حفل زفافه الذي كان مقرراً أن يقام في باكستان، لكن مشروع الزواج لم يكتمل


ويكرر المؤلف أن أبو غزالة كان يعاقر الخمر بكثرة (ص 311). ثم ينبه إلى أنه في الوقت الذي كان ويلسون يؤكد فيه أن أبو غزالة مستعد يملك أسلحة يمكن شراؤها قادرة على إسقاط الطائرات الحربية السوفيتية (ص 305)، كانت وزارة العدل الأمريكية تحقق في تهم بالفساد ترتبط بأعمال شركة شحن كان المشير قد أقامها لنقل البضائع التي توفرها المساعدات الخارجية الأمريكية للقاهرة


في غضون ذلك، سافر غست مع تشارلي إلى القاهرة لتفقد الأسلحة المعروضة، وكان المشير يحاول إقناعهما بأن أفضل سلاح للأفغان سيكون ZSU-23 الذي يمكن أن تحمله البغال، غير أن تجربة ميدانية في الصحراء أثبتت فشل هذا الاقتراح (ص 313).كما فشلت محاولة المشير بيع الاستخبارات الأمريكية شحنة تشمل 800 صاروخ سوفيتي محمول على الكتف ومضاد للطائرات، تعود إلى فترة حرب أكتوبر 1973 لأنها لم تكن بحالٍ جيدة أو تصلح للاستخدام


على أن الصورة تغيرت حين التقى غست أفراكوتوس وتشارلي ويلسون مع خبراء الهجمات المضادة، الذين عرضوا أسلحة تناسب المقاتلين الأفغان ومن ذلك صواريخ الكاتيوشا التي يصل مداها إلى عشرة كيلومترات، وألغام مصرية تم تطويرها لاحقاً بحيث يتم لصقها مغناطيسياً إلى الشاحنات السوفيتية في طريق سالانغ


ويقول المؤلف إن عميل الاستخبارات الأمريكية غست أفراكوتوس استفاد من الأموال التي تمكن تشارلي ويلسون من الحصول عليها لدعم المقاتلين الأفغان. وبحلول فبراير شباط 1985 فوَض أفراكوتوس الجانب المصري لإنشاء خط إنتاج لتصنيع الكاتيوشا – قبل أن تنتعش أسهم صواريخ ستينغر في الحرب الأفغانية ضد السوفيت اعتباراً من عام 1986- وقدم طلبية بالحصول على 700 قطعة منها بحلول نهاية العام


كما لعب أفراكوتوس دوراً في تفويض الاستخبارات الأمريكية لوزارة الدفاع المصرية لإقامة خط إنتاج لتصنيع الذخيرة اللازمة لبنادق إينفيلد Enfield وبذا تخلص من عبء التعامل مع ابتزاز السوق السوداء، وبدأ يتعامل بموجب اتفاق بين حكومتين وبسعر ثابت (ص 267)

وفي بلد يتسم بطبيعة جبلية وعرة، بدت البغال أنسب وسيلة بالنسبة إلى المقاتلين الأفغان كخطوط إمداد ونقل الأسلحة

ولذا اضطرت باكستان، إلى استيراد آلاف من الحمير والبغال بأسعارٍ باهظة من البرازيل ومصر في عام 1985 لدعم حرب "المجاهدين" ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان. ويقول الكتاب إن "شحنة واحدة في وقت مبكر من هذه المخلوقات البائسة تم شراؤها في البرازيل، لكنها نفقت بالكامل قبل وصولها إلى باكستان


في نهاية المطاف، استخدم "المجاهدون" البغال التي تم جلبها من ولاية تينيسي لنقل الإمدادات، وفي أروقة لانغلي (مقر وكالة الاستخبارات الأمريكية)، سرعان ما ترددت شائعات (أكدها في وقت لاحق أكدت جواسيس الوكالة) تفيد بأن "مقاتلين من أجل الحرية" كانوا يمارسون الجنس مع هذه الحيوانات"


استعان أفراكوتوس بوكلاء في جميع أنحاء العالم بحثاً عن أفضل صفقة من البغال. وعندما قدم المصريون واحدة من أولى الصفقات الرئيسية في هذا المجال، أصيب الباكستانيون بجنون الغيرة، وبدأت إسلام آباد تشكو من المخاطر الصحية بسبب نفوق عدد من البغال بعد وقت قصير من وصولها، وأصرت على شهادات صحية للدفعة التالية، مفترضةً أن ذلك سيدفع الاستخبارات الأمريكية إلى شرائها من أسواق باكستانية


إلا أن المسؤول المصري عن مبيعات السلاح، اللواء يحيى الجمل - أحد مساعدي أبو غزالة- كان يتطلع إلى إتمام الصفقة المقبلة التي تتضمن 2500 بغلاً بسعر 1300 دولار للبغل الواحد، تقدم قيمتها فور التسليم عداً ونقداً، ولذا أدار المسألة بحنكة


وقدمت مصر مع كل حمار وبغل بطاقة هوية وشهادة تطعيم، وكما لو أن هذا لم يكن كافياً للسخرية من الباكستانيين، أمر اللواء يحيى بتزويد كل حمار بقطعة من البلاستيك تحمل اسماً عربياً. ويضيف أفراكوتوس قائلاً: "بل إن يحيى أعطى كل بغل أو حمار جواز سفر"

وعندما وجد ويلسون ذات مرةٍ أن سياسة الهاتف ليست مناسبة في معالجة أزمة مستوى الجودة بالنسبة لمبيعات السلاح، دعا أبو غزالة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في منتجعٍ تحيط به غاباتُ الصنوبر شرق تكساس، وهو مكانٌ يقصده عادةً الكبار طلباً للراحة وركوب الخيل والصيد. كان المنتجع باهظ التكاليف، لكن ويلسون لم يهتم لذلك وجمع للمشير بعض تجار السلاح.. وكانوا قطعة من الغاتوه، ولم يشأ أن يترك الغاتوه دون تحلية، فدعا الراقصة كارول شانون التي نالت إعجاب المشير، وهمس في أذن ضيفه: هنا لا يسترق أحد السمع، ولا تُلتقط الصور، وأردف قائلاً: كلمة شرف

ولكن في مذكرات كارول وفي كتاب "حرب تشارلي ويلسون" صورة نادرة للمشير والابتسامة تملأ وجهه، وهو يتابع كارول وهي ترقص له في المنتجع


هكذا، تتكلم الصورة ويصمت الكلام

تابع القراءة

gravatar

أبو غزالة..من "النجم الساطع" إلى "خريف الغضب" (4): لوسي آرتين..والباشا







تتشابه قصة صعود وهبوط المشير عبد الحليم أبو غزالة في بعض جوانبها، مع قصة صعود وهبوط المشير عبد الحكيم عامر، وخاصةً ما أثير حول علاقاتهما النسائية المتشعبة

فقد تزوج عبد الحكيم عامر أكثر من مرة، غير أن زواجه من الفنانة برلنتي عبد الحميد كان الأشهر، وقد أثمر ولداً في إبريل نيسان ١٩٦٧، هو عمرو عبد الحكيم عامر

ولبرلنتي عبد الحميد كتاب بعنوان "المشير وأنا" صدر عام ١٩٩٣، كما أصدرت في عام 2002 كتاباً آخر بعنوان "الطريق إلى قدري...إلى عامر". ولعبد الحكيم عامر ثلاثة أبناء وأربع بنات آخرون من زوجته السابقة، وهي زينب عبد الوهاب

أما المشير أبو غزالة فقد تزوج مرة واحدة من أشجان أحمد صبري، ورُزِقَ بثلاثة أبناء هم هشام وطارق وأشرف، وثلاث بنات هن ليلى، وحنان، وإيمان. غير أن اسم أبو غزالة ارتبط بأكثر من امرأة، أشهرهن لوسي آرتين

وإذا كان أبو غزالة قد أصبح مساعداً لرئيس الجمهورية، وهو منصبٌ دون طموحاته أو دون ما توقعه له كثيرون، فإن عامر أصبح في عام ١٩٦٤ نائباً أول لرئيس الجمهورية، غير أن ما عطلَ رحلة صعوده هذه بل دمرها، ووضع نهاية لمستقبله وحياته هو حرب يونيو حزيران ١٩٦٧، حيث أعفي من جميع مناصبه وأحيل إلى التقاعد ووضع قيد الإقامة الجبرية في منزله. وتراوحت التفسيرات حول موته في 14 سبتمبر أيلول ١٩٦٧، غير أن الشائع من القول إنه انتحر، فيما ذهبت تفسيراتٌ أخرى إلى أنه مات مسموماً





وإذا كان المشير عامر قد انتحر- وربما نُحِرَ- بعد إلقاء القبض عليه، فإن المشير أبو غزالة ضرب حول نفسه طوقاً من الصمت منذ اعتزاله عام 1993


مصيران يتشابهان في تفاصيل عدة ومثيرة، ويلتقيان عند نقطة واحدة: النساء


وأشهر امرأة في ملف أبو غزالة هي لوسي آرتين


لقد بدت فضيحة لوسي آرتين أشبه بقنبلةٍ انفجرت في مستودع ذخيرة..ما إن وقع الانفجار الأول حتى توالت الانفجارات
ففي مطلع عام 1993، كان شتاء مصر ساخناً على غير العادة، بعد أن لفحته حرارة الحكايات والأقاويل التي ترددت حول فضيحة من العيار الثقيل


تلك القضية كانت وجبة دسمة على مائدة الحوار في شوارع مصر ومنازلها ومكاتبها، بعد أن شملت الفضيحة قائمة طويلة ممن وقعوا في شباك هذه المرأة


لم يكن المشير أبو غزالة وحده هو الذي وقع في شباكها.. كان هناك الرجلان الثاني والثالث في وزارة الداخلية بعد الوزير، اللواء حلمي الفقي واللواء فادي الحبشي.. إضافة إلى ثلاثة قضاة سهلوا لها كل شيء


كل هؤلاء أوقعتهم امرأة على أعتابها


وعندما ألقي القبض عليها مع قاضٍ شهير في حالة تلبس بإحدى الشقق في هليوبوليس بحي مصر الجديدة، لم تنكر علاقاتها بهذه الشخصيات الكبيرة لكنها كشفتهم وعرتهم أمام الرأي العام، وقالت في التحقيقات: "الرجال الكبار اتجننوا.. كلهم وقعوا في حبي.. دول بيعيشوا حالة مراهقة على كبر.. وبعدين أنا ذنبي إيه!"


وبالفعل، تحول الكبار إلى مراهقين على صدر السيدة الجميلة وتحت قدميها



ولوسي آرتين، صاحبة الفضيحة التي تُوصَف بأنها أخطر قضايا الفساد في مصر خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة، هي سيدة جميلة تنتمي للطائفة الأرمنية في مصر، وهي ابنة شقيقة الممثلة لبلبة وقريبة الممثلة الاستعراضية نيللي


كان الصحفي وائل الإبراشي أول من كشف على صفحات مجلة "روز اليوسف" فضيحة لوسي آرتين واتصالاتها مع كبار رجال الدولة للتأثير على حكم قضائي في نزاع عائلي بينها وبين زوجها. وفي ذلك الحين، نشر الإبراشي على جزأين نصوص مكالماتٍ هاتفية سجلتها جهة رقابية بين هؤلاء المسؤولين وبين لوسي آرتين، باعتبارها نموذجاً لعلاقات بعض رجال السلطة بسيدة تواجه مشكلات مع زوجها أحبت اختراق القضاء والمؤسسات السياسية والشرطة، فلجأت إلى كل هذا الكم من المسؤولين



صعق القراء بتفاصيل هذه الأحاديث المسجلة الهاتفية المحمومة وعبارات الغزل الملتهبة التي تداولها أبطال الفضيحة، وإن كانت الجمل المنشورة مبتورة والأحاديث مليئة بالنقاط، التي تدل على أن الكلمات يصعب نشرها لاعتباراتٍ أخلاقية

يقول الإبراشي: كانت لوسي تريد من يتوسط لها لدى القضاء، فقام أبو غزالة بهذه المهمة، واستغلت هي هذه العلاقة في فرض نفوذها لدى مسؤولين آخرين، مثل فادي الحبشي مدير المباحث الجنائية آنذاك الذي سمعها تتحدث هاتفياً لأبو غزالة، فأخذ يتقرب لها لأنه يرغب في أن يصبح وزيراً للداخلية، وكانت هذه أيضاً رغبة المرحوم حلمي الفقي مدير الأمن العام، أي أنها أخذت تستغل اسم أبو غزالة حتى في تحقيق طموحات الغير، مقابل أن يخدموها في نزاعها مع زوجها

ومن خلال المكالمات الهاتفية بين أبو غزالة ولوسي آرتين تبدو العلاقة الخاصة واضحة جداً، لكن حرصاً على اسمه استُبدِلَ في أوراق القضية بكلمة "الباشا". وكانت تطلبه في أي وقت وأمام الناس مستغلة ذلك في فرض نفوذها على تلك الأسماء المهمة

استُدعيَ الإبراشي ثلاث مرات لمباحث أمن الدولة بسبب نشره وثائق هذه القضية، وفي أحد الاستدعاءات صدر ضده حبس احتياطي، لكنه ألغي بعد تدخل بعض الشخصيات وكبار الصحفيين. وهو يقول إنه حذف التعبيرات الجنسية التي تضمنتها بعض مكالمات لوسي آرتين لفجاجتها، لكن لم يصل حديثها لهذا المستوى مع أبو غزالة الذي كان قليل الكلام. وفي إحدى المكالمات يخبرها المشير أنه سيتوسط لها مع أحمد تحسين شنن محافظ السويس الأسبق ليتحدث مع القاضي المقيم في هذه المحافظة

وشنن من مواليد 14 يوليو 1930 وقد ولد في حلوان. تخرج في الكلية الحربية عام 1952، وتدرج في وظائف القيادات العسكرية‏، ويعتبر أحد أبرز قادة القوات المسلحة في حرب أكتوبر 1973. عين شنن محافظاً للسويس في الفترة بين 10 يوليو تموز 1986 ومارس آذار 1990، حتى أصبح رئيس نادي المعادي اعتباراً من 1990
ولكن، لنبدأ حكاية لوسي آرتين من البداية

ففي عام 1984 تزوجت لوسي آرتين من برنانت هواجيم سرمحجيان. وبالرغم من أنهما بعد عام واحد أنجبا طفلتهما الأولى، فإن المشكلات وخاصة المادية منها كانت قد نشبت بينهما. وعندما جاءت الابنة الثانية في 1987 كانت الخلافات بين الزوجين قد وصلت إلى طريق مسدود.. وبدأت بينهما سلسلة من المحاضر والقضايا.. كانت لوسي تستغل فيها علاقتها بكبار رجال الدولة وخاصة المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة

أرادت أن تؤذي عائلة زوجها بأي طريقة. اتصلت بشخصيةٍ مهمة في رئاسة الجمهورية في ديسمبر كانون أول 1991، تبين لنا لاحقاً أنه الدكتور مصطفى الفقي الذي كان يشغل آنذاك منصب سكرتير الرئيس لشؤون المعلومات، وقدمت نفسها له باسم مستعار.. ثم كشفت عن اسمها الحقيقي وقالت إنها مصرية وليست أجنبية وإنها تعرف المشير أبو غزالة معرفة عائلية وإنه في مقام عمها.. وكان البلاغ الذي أرادت لوسي أن يصل إلى المسؤولين هو أن والد زوجها الثري متهربٌ من ضرائب استهلاك في حدود 35 مليون جنيه

عجزت لوسي أن تثبت تهرب حماها من ضرائب الاستهلاك، لكنها ألقت في طريقه بقضية أخرى، كان لدى والد زوجها مصنع دخان، فأحيت له قضية خاصة بقوانين سلعة الدخان. وبالرغم من أن القضية مضى عليها ثلاث سنوات، فإنه خسر الاستئناف ونفذ حكم السجن وظل فيه ثلاث سنوات حتى برأته محكمة النقض

كانت لوسي مصدراً للمتاعب لعائلة زوجها. ولما سافرت بجواز سفر يحمل صفة "آنسة" مع أنها متزوجة وقدمت أسرة زوجها شكوى لوزارة الداخلية.. لم تحقق الداخلية في الشكوى، لكن لوسي اتهمت زوجها في محضر رسمي بالسب والقذف في حقها عندما قال إنها سافرت، لأن هذا يوحي بأنها امرأة مستهترة تترك بيتها وأولادها طوال مدة ستة شهور
في 1987 رفعت لوسي ضد زوجها قضية نفقة لها ولطفلتيها الدعوى رقم 288 لسنة 87.. وحكم لها بنفقة شهرية 600 جنيه ولطفلتيها 500 جنيه.. وأصبح على الزوج أن يدفع 1100 جنيه شهرياً.. لكن الحكم لم يعجبها ورفضت استلام المبلغ ورفعت قضية جديدة.. ومن خلال علاقتها بالمسؤولين الكبار في وزارة الداخلية استخرجت أوراقاً من المباحث وضرائب الاستهلاك تثبت أن دخل زوجها 36 ألف جنيه شهرياً.. وضمت هذه الأوراق إلى ملف القضية رقم

9/89/91 مصر الجديدة
حكمت المحكمة برفع النفقة إلى 9100 جنيه شهرياً.. وبأثر رجعي من تاريخ رفع الدعوى الأولي وكان على الزوج إما أن يدفع وإما أن يدخل السجن.. لم يفعل هذه ولا تلك، لكنه اختار السفر إلى الخارج.. ذهب إلى أستراليا، فوصفته لوسي في الأوراق الرسمية بأنه هارب وممتنع عن تنفيذ حكم النفقة. بلغ متجمد النفقة 470 ألف جنيه لأن الزوج هارب ولا يدفع

قررت لوسي رفع دعوى رقم 109 لسنة 1992 على والد زوجها ليحل محله في دفع النفقة. وفي 16 فبراير 1992 حكمت المحكمة لصالحها، كان الحكم غيابياً فعارضه والد الزوج في شهر مايو أيار.. وقبل أن تحكم الدائرة الثالثة أحوال شخصية بمحكمة شمال القاهرة في الدعوى أرادت لوسي أن تستولي على عقار لزوجها في مصر الجديدة مقابل متجمد النفقة، لكنها فوجئت بشقيقة زوجها آليس قد سبقتها بطلب إلى الشهر العقاري لنقل ملكية العقار باسمها بعد أن قدمت عقداً ابتدائياً بالبيع موقعاً من شقيقها بتاريخ سابق على حكم النفقة

لجأت لوسي آرتين إلى الحيلة والخداع.. طلبت من موظفة في الشهر العقاري اسمها فاتن تضليل شقيقة زوجها، وساعدها أيضاً بعض الموظفين في مكتب البريد الذين عبثوا بإخطارات الشهر العقاري المرسلة إلى آليس حتى تضيع عليها المدة القانونية ولا تستكمل الإجراءات


ولأول مرة كان سوء الحظ يقف في طريق لوسي آرتين


فقد ظهرت آثار الثراء المفاجىء على موظفة الشهر العقاري وبدأت الرقابة الإدارية تتحرى عنها وتراقب تصرفاتها وبالطبع وضعت تليفونها تحت المراقبة.. كانت التحريات تبحث عن فاتن موظفة الشهر العقاري.. لكن القدر ألقى في طريقها بامرأة شابة وحسناء تتردد على مكتبها ومنزلها، وهي لوسي آرتين.. وضع تليفون لوسي تحت المراقبة.. وكانت المفاجأة التي تشبه الزلزال





وفي 16 مارس آذار عام 1993 كانت مقاعد مجلس الشعب المصري كاملة العدد استعداداً لسماع طلب الإحاطة الذي تقدم به النائب كمال خالد نائب دمياط


بدأ النائب كمال خالد كلامه بالقول إن "موضوع الطلب أولاً هو موجه للأستاذ الجليل عاطف صدقي رئيس مجلس الوزراء عن انتشار الفساد والرشوة واستغلال النفوذ وانعدام الرقابة الجادة والمخلصة وترك الحبل على الغارب لكبار المسؤولين في الدولة لينفلت الكثيرون منهم عن جادة الصواب، ويعيثون في الأرض فساداً وإفساداً لكل القيم والمعاني الأصلية في الشعب المصري.. لدرجة أن فاحت رائحة الفساد والرشوة والوساطة والمحسوبية واستغلال النفوذ وانتشرت الشائعات بين الشعب عن العديد من الوقائع والأحداث التي تؤكد هذا الانحراف الذي استشرى في ظل إهمالٍ جسيم وتسبب في زعزعة الثقة في نزاهة الحكم ويؤثر في الاستقرار والأمن، وهو الأمر الخطير الذي يتعين معه إحاطة الحكومة وعرضه في أقرب جلسة"


وهكذا استمع النواب لطلب إحاطة يكشف بوضوح عن العلاقة بين المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة و"حسناء بيانكي" الأرمنية لوسي آرتين والتي تبين أن العلاقة بين أبو غزالة ولوسي كانت أوثق مما ينبغي

وفي إحدى تلك المكالمات بين أبو غزالة ولوسي، والتي نشرت نصها لاحقاً جريدة "الأهالي"، يدور الحوار التالي:
- لوسي: أنت تعرف المشكلة بيني وبين زوجي وقد حصلت على حكم يلزم أباه بدفع النفقة.. لكنه استأنف الحكم وهو راجل واصل بفلوسه
- أبو غزالة: هي قضيتك قدام مين من القضاة؟
- لوسي: أمام قاضي الأحوال الشخصية!
- أبو غزالة: والقاضي ده بلده إيه؟
- لوسي: السويس
- أبو غزالة: طيب أنا أعرف اللواء تحسين شنن اللي كان محافظ السويس وحأكلمه يمكن يعرف حد على معرفة بالقاضي يكلمه ويطلب منه أن يراعي الله في قضيتك



بعد أيام تحدث أبو غزالة مع لوسي مرة ثانية قال لها:
"أنا كلمت صديقي تحسين المحافظ السابق، وقال لي إنه يعرف واحد اسمه مصطفى موظف كبير في محافظة السويس وبالمصادفة يسكن في بيته، وممكن تروحي تقابليه تكلميه عشان يكلم القاضي"
قابلت لوسي الموظف الكبير الذي قابلها بالقاضي..وفي أول لقاء قال لها: "اسمعي، أنا راجل مش مرتشي ولا أجامل أحد.. لكن تأكدي لو كان ليكي حق في هذه القضية حتاخديه مهما كان نفوذ خصمك"

كان هذا حكم أول لقاء ومنطقه.. بعد ذلك تعددت اللقاءات

وفي المحكمة قدم رئيس النيابة مذكرةً في قضية كفالة الأب من خمس صفحات جاء فيها أن الحكم بالزام والد الزوج بدفع النفقة باطل ومخالف للقانون، كما أن الأب لم يكن ممثلاً في الدعوى الأصلية وبالتالي لا يجوز إلزامه بالكفالة. وانتهت المذكرة بقبول الاستئناف وإلغاء الحكم، لكن حدثت تدخلاتٌ مريبة كانت نتيجتها سحب المذكرة من ملف القضية وإخفاؤها تماماً بعيداً عن سير الدعوى. تم تقديم مذكرة أخرى، لكن صورة المذكرة وصلت إلى والد الزوج الذي استخدمها من جانبه للتدليل على اختراق الدائرة القضائية

وفي جلسة مجلس الشعب المذكورة عرض النائب كمال خالد نص حواراتٍ هاتفية ساخنة بين مساعدي وزير الداخلية آنذاك وهما اللواءان حلمي الفقي وفادي الحبشي.. وتضمنت التسجيلات أحاديث عما يدور في غرف النوم وأنواع وألوان الملابس الداخلية وشكل الأوضاع الجنسية
في طلب إحاطته قال كمال خالد: "إنني لن أقول كلمة دون مستندات- ومستندات رسمية خمس محافظ مستندات ما فيش كلمة من غير دليل، خصوصاً كل ما يتعلق بالأعراض والمساس بالشرف".. كان كلام كمال خالد يدور حول لوسي آرتين والذين حولها.. أطلق عليها لقب "حسناء بيانكي" التي اكتسبت من صداقتها بكبار المسؤولين مكانة تفوق أي تصور وأصبحت موضع إجلال وانحناء كل من كانت تتصل بهم أو تستدعيهم أو تشرفهم بالزيارة سواء كان وزيراً أو غير ذلك من المناصب. وكانت لوسي آرتين- كما يقول كمال خالد- توزع الوعود بتعيين هذا أو ذاك وزيراً أو محافظاً، فوعدت مدير الأمن العام بمنصب وزير الداخلية أو محافظ على الأقل


ونعود إلى جلسة مجلس الشعب المصري في 16 مارس آذار عام 1993 التي ترددت فيها أسماء أشخاصٍ آخرين، بينهم المفتي آنذاك د. محمد سيد طنطاوي الذي أصبح شيخاً للأزهر

نقرأ في مضبطة المجلس ما يشير إلى ما يلي:
"العضو كمال خالد: السطوة والنفوذ ليس لهما حدود.. تفتقت الأذهان عن رفع دعوى كفالة، ستسمعون عجباً تفتقت الأذهان عن رفع دعوى كفالة ضد والد الزوج بعد أن تجمد مبلغ...
"صوت من بعض الأعضاء: على مهلك"
العضو كمال خالد: بالراحة ومتقولوليش استعجل.. حاضر.. تفتقت الأذهان عن رفع دعوى كفالة
رئيس المجلس: نحن في رمضان، وأرجو السيد العضو أن يحاسب في كلامه
العضو كمال خالد: اللهم إني صائم.. تفتقت الأذهان عن رفع دعوى كفالة ضد والد الزوج
"صوت من أحد السادة الأعضاء: أعراض الناس"
العضو كمال خالد: مش حقول أي كلمة يا إخوانا نابية والله أبداً، حاضر.. بعد أن تجمد مبلغ 470 ألف جنيه متجمد النفقة المحكوم بها للزوجة وابنتيها، واخترقت الدائرة التي أقيمت هذه الدعوى رقم 109 لسنة 1992 ملي مصر الجديدة، وقضت غيابياً بجلسة 16/2/1992 بإلزام والد الزوج بأداء النفقات المحكوم بها للمدعية وطفلتيها وهذه دائرة ثانية، عارض والد الزوج ورفضت المعارضة فوراً في شهر مايو سنة 1992 محكوم الرفض، مفيش شهرين استأنف بالاستئناف 1323/92 ملي مستأنف شمال القاهرة


وأرجو أن تتذكروا مستأنف الدائرة الثالثة كلي شمال القاهرة. تذكروها لأن المصيبة ليست في هذه القضية.. ولكن المصيبة اللي سيكون لمجلس الشعب شرف كشفها وإحاطة الأستاذ الجليل الدكتور رئيس مجلس الوزراء (عاطف صدقي) علماً بها، أرجو أن تتذكروا الدائرة 3 أحوال شخصية شمال القاهرة برئاسة رئيس المحكمة الموجود في السجن حالياً ولا داعي لذكر اسمه، فلقد قيل اسمه في كل الصحف، وأنا محرم عليّ أن أقوله في مجلس الشعب.. حاضر يا كمال بيه (يقصد كمال الشاذلي).. المقبوض عليه حالياً بعد ضبطه متلبساً مع فاتنة بيانكي.. في إحدى الشقق بهليوبوليس وهي شقة شقيقها اللي راجع من أميركا والذي سأوضح لكم كيف قام بتجنيدها لحساب جهات أجنبية يهمها أن تشعل النار في مصر
في هذه الدعوى قدمت النيابة مذكرة برأيها.. رئيس نيابة قاضي.. قدم مذكرة من خمس صفحات.. "آه" هذه المذكرة المختفية من ملف القضية يا إخواني
"وهنا لوح النائب كمال خالد بملفٍ به أوراق في يده"
أهي صورتها.. مذكرة من خمس صفحات يقول فيها "إيه الكلام الفارغ ده" راجل أب تحكموا عليه بكفالة ابنه، نفقة 9100 جنيه في الشهر، 470 ألف جنيه- ما بعرفش أقول الأرقام الكبيرة دي- باعتبار أنه كفيل.. ده الكفالة يا سادة وكل الزملاء المحامين، يعلمون أنها عقد تبرع والراجل قايل كده.. نذر من النذور.. وكان من الممكن أن يصبح كفيلاً لو جاء في المحكمة وقال: أتعهد وأكفل ابني بما عسى أن يحكم به.. وتبرع.. إنما راجل تقضي عليه حكماً غيابياً ولم يكن ممثلاً في الدعوى السابقة ولم يقر بكفالة، تلزموه أن يدفع نفقة 470 ألف جنيه، جبتوها منين دي؟ ده الشرع آهه بيقول كذا.. والقانون آهه بيقول كذا..والقضاء بيقول كذا

رئيس المجلس: إنك بهذا تكون قد دخلت في المحارم بسبب الفصل بين السلطات يا أستاذ كمال خالد
العضو كمال خالد: أبداً أبداً. إنني سأقدم المذكرة إليكم.. وانتهي إلى قبول الاستئناف شكلاً وإلغاء الحكم المستأنف.. هذه القضية مع الاختراق وهذه المذكرة الخمس صفحات بخط يده سحبت.. ولجأ المشير لاستخراج فتوى من المفتي قدمت للنيابة العامة.. مكتب النائب العام.. لتقدم مذكرة تقلب الآيات رأساً على عقب فتوى واثنتين وثلاث
رئيس المجلس: ما أساس هذه الواقعة يا أستاذ كمال؟ هل الكلام يقال مرسلاً هكذا؟
العضو كمال خالد: آه أقوال.. أقوال. الفتوى موجودة في الملف الآن.. وطلب الفتوى
رئيس المجلس: من الذي طلب الفتوى؟
العضو كمال خالد: طلب الفتوى موقع عليه من محمد فريد المحامي والذي لم يوقع عليه، والذي قالت له لوسي تفضل بالذهاب إلى فضيلة المفتي لإحضار الفتوى لأن المشير قام بالواجب.. ولا يستطيع أن يسلم الفتوى لأي شخصٍ إلا لك لأنها مكتوبة باسمك.. وهذه أقوال محمد فريد
رئيس المجلس: هل تعني أن المحامي هو الذي طلب الفتوى؟


العضو كمال خالد المحامي: لا.. المشير هو الذي طلب الفتوى باسم المحامي ووقع باسم المحامي، والمفتي أدلى بالفتوى التي تقلب الآيات ولا حول ولا قوة إلا بالله، لطفك يا رب.. لطفك وعطفك يا رب.. نبعد عن التحقيق والقضية وأتكلم عن لوسي صاحبة النفوذ، ولا أقول بفضل جمالها أو فتنتها أو إغرائها وإنما أقول بفضل علاقتها بالسادة الكبار.. تدخلت لدى المهندس الدكتور يوسف والي نائب رئيس مجلس الوزراء لحل مشكلة عويصة، نزاع مزمن علي أرض زراعية خاصة بكنيسة الأرمن، لم تجد الكنيسة واسطة أفضل من لوسي، وبالطبع تفضل الدكتور يوسف والي مشكوراً بحل المشكلة فوراً، أصلها لوسي حلالة العقد.. لوسي مخصص لها قطعة أرض في السويس وشمال سيناء، لوسي كان واحد كبير قوي قوي قوي يقول لها رجلك.. لأ، جزمتك.. يا هانم فوق دماغي.. عبارة لها مدلولها الكريم أو الذليل
لوسي آرتين حسناء بيانكي تركب سيارة ملاكي بثلاثة أرقام.. سيارة ملاكي بثلاثة أرقام في القاهرة.. وكلكم تعلمون يعني إيه رقم ملوكي.. لا تحصل على هذا إلا بتوقيع وموافقة شخصية من نائب وزير الداخلية"

والكلام واضح، فقد تدخل المشير لدى المفتي و"قام بالواجب" لاستصدار فتوى تصب في مصلحة لوسي آرتين


شهدت القضية قراراً من النائب العام بحظر النشر فيها، وهي القضية التي كانت في حينها تفتح شهية أي صحفي للكتابة عنها

وبدلاً من أن يضع قرار النائب العام بحظر النشر حداً للحديث عن القضية المثيرة، صنع منها قضية الموسم، ولفت إليها أنظار الملايين الذين عرفوا من تفاصيلها شفاهة أضعاف ما كانوا سيعرفونه لو كانت تحقيقات الجهات السيادية بالكامل قد نشرت في جميع صحف مصر بطولها وعرضها

كان الهدف من حظر النشر وقتها هو منع خروج تسجيلات تليفونية جرت بين كل هذه الأطراف إلى النور، وتظهر مدى استخدام لوسي آرتين أسلحتها الأنثوية واستعانتها بكل ما أوتيت من قوة وذكاء وأيضاً إغراء. ورغم انقضاء فترة طويلة على إغلاق ملف القضية، وبالرغم من قرار الحظر الذي صدر، فإن القضية المثيرة لا تزال حتى هذه اللحظة تحظى باهتمام الجميع، حتى إن الدكتور مصطفى الفقي اعترف مؤخراً بأنها كانت سبباً في خروجه من رئاسة الجمهورية بغير رجعة


ففي إحدى الأمسيات الرمضانية في نهاية سبتمبر أيلول 2007 تحدث رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري مصطفى الفقي - سكرتير الرئيس المصري للمعلومات سابقاً- لمحاوره محمود سعد في برنامج "البيت بيتك" قائلاً إن سبب دفعه إلى ترك منصبه هو تلقيه اتصالاً من سيدة كانت تتقدم بشكوى، وإن خطأه الوحيد هو أنه أخذ يستمع إلى شكواها دون أن يدري أن جهاتٍ أخرى تتابع الموضوع عن كثب وترصد المكالمة

وفي 26 يناير كانون ثانٍ 2008 كشف الفقي للكاتب الصحفي حمدي رزق في برنامج "القاهرة اليوم" عن اعتزامه كتابة مذكراته، التي قال إنها لن تهمل يوماً واحداً من حياته، وستتضمن فصلاً كاملاً عن علاقته بالرئيس مبارك، وتفاصيل فترة عمله في مكتب الرئيس كسكرتير للمعلومات طوال ٨ سنوات من أوائل ١٩٨٥ حتي ١٩٩٢، متضمناً ما أثير عن خروجه بسبب "مكالمات السيدة لوسي آرتين". وقال الفقي إنه مدفوع لكتابة تلك المذكرات بكل تجرد، للرد علي حملات "التشكيك والأكاذيب" التي عاني منها في الفترة الأخيرة

ثم عاد الفقي في لقائه بأعضاء نادي روتاري مصر الجديدة ليقول: "كان فصلي من الرئاسة بسبب قضية لوسي أرتين، أيوه كانت بتكلمني في التليفون، وكانت بتكلم المشير، لا أنكر، وهو خطأ إداري بحت، لكن ماكنشي فيه بيني وبينها حاجة" (جريدة البديل"، 24 يوليو تموز 2008)

كانت الفضيحة صارخة، وأجبرت أبو غزالة على الاستقالة والاختفاء. لقد شنقوه على أعمدة الصحف وعلقوه على قبة البرلمان، وتسلى الناس بحكايته مع الفستق واللب وقمر الدين في ليالي رمضان الممتدة حتى مطلع الفجر، ثم قام كل منهم ليتوضأ ويصلي وينتوي الصيام

أما هو، فقد كان وحيداً تأكله الأحزان، يبتلع سيفاً من نار، لا مفر أمامه إلا أن يأكل الزجاج أو يمشي عليه، بعد أن أصبحت أبواب النجاة مغلقةً ومختومةً بالشمع الأحمر

هكذا انكسرت الصورة الملونة التي كان عليها أبو غزالة قبل سنواتٍ قلائل ونفدت كمية الوقود في الصاروخ المندفع إلى فضاء المجد ومدار السلطة، ولم يعد يبقى منها في سنواته الأخيرة سوى رجل يكاد لا يظهر في المناسبات العامة سوى أثناء المشي في الجنازات والتعزية في المآتم التي يحضرها، وسرادقات التعزية التي يظهر فيها


كما عكف أبو غزالة على تأليف وترجمة الكتب العسكرية ومن أهم مؤلفاته "تاريخ فن الحرب" (أربعة أجزاء)، وهي عمل موسوعي رفيع المستوى، ودراسته التي حلل فيها حرب "درع وعاصفة الصحراء"، ومؤلفه عن "حرب الخليج الثانية والأمن القومي العربي"، و"استخدام الطرق الرياضية في الأعمال الحربية"، فضلاً عن كتابه "وانطلقت المدافع عند الظهيرة"، الذي يتحدث فيه عن دور المدفعية المصرية التاريخي في حرب أكتوبر 1973، بالإضافة إلى الترجمة الشهيرة للكتاب القيَم "الحرب وضد الحرب"، الذي يتحدث عن أسرار وعوامل البقاء في القرن الواحد والعشرين

ولأسبابٍ معقدة ومتشابكة انحسر نفوذ أبو غزالة وخسر الفقي والحبشي منصبيهما المرموقين.. لكن لوسي آرتين بقيت محتفظةً بنجوميتها كواحدة من حسناوات المجتمع وحفلات البيزنس وغيرها..وظلت تتصرف بتلقائيةٍ شديدة خاصةً بعد أن انتخبت عقب إسدال الستار على هذه الفضيحة لرئاسة نادي الأرمن في حي مصر الجديدة. كما أصبحت ضيفة صالونات المجتمع الراقي، وخاضت محاولات لتصبح ممثلة مستفيدة من الأضواء التي أحيطت بها واهتمام الصحف المصرية


ظلت قضية لوسي آرتين تمثل لغزاً، خصوصاً أن المشير رفض تماماً التعليق عليها، فيما عدا مرة واحدة عندما بدأت حملة تشهير ضده فى صحف ومجلات حكومية ..سأله أحدهم، فقال المشير: "اسأل الحاجة".. في إشارة إلى زوجته، وبما يعني أنها تثق به وأنه لا يمكن أن يتورط في هذه الفضيحة، وهو الرجل المعروف عنه انضباطه والتزامه

غير أن لوسي آرتين لم تكن المرأة الوحيدة التي أثارت الغبار في حياة المشير أبو غزالة

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator