المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

الإدارة العاجزة (2): استراتيجية محمد هنيدي






الشلل الذي أصاب أطراف الأجهزة والمؤسسات وأثرَّ في وظائفها الحيوية، يعود في القسم الأكبر منه إلى تحالفٍ سري بين الإهمال والفساد

والفساد والإهمال من أبناء العمومة..وبينهما صلة رحم

في 3 فبراير شباط 2006، غرقت العبّارة "السلام 98" في البحر الأحمر الذي ابتلعت مياهه 1034 إنساناً، معظمهم من المصريين العاملين في السعودية وباقي دول الخليج، ممن كانوا عائدين إلى عائلاتهم بعد أشهر أو سنوات من الغربة. وفي تقرير بعد الكارثة لإحدى الشركات المتخصصة فى أعمال الرقابة وتشغيل السفن ذكرت "إن السفينة المنكوبة والتي شيدت قبل قرابة 36 عاماً هي "في خريف عمرها" وإن معايير السلامة المطبقة في الاتحاد الأوروبي لا تنطبق عليها، ما جعلها ممنوعة من الملاحة في البحار الأوروبية ". واستمراراً لسياسات عدم المبالاة، فإنه تبين في أعقاب الكارثة أن هناك أكثر من 100 سفينة مصرية تعمل على الخطوط الملاحية المصرية لا تستوفي اشتراطات السلامة ولا توجد رقابة أو تفتيش فني دقيق عليها من أجهزة الدولة


المفارقة أن هذه العبَّارة الغارقة تحديداً سبق لها التعرض لثلاث حوادث من قبل، كان آخرها في 17 أكتوبر تشرين أول 2005 بعد اصطدامها بسفينة تجارية قبرصية، عندما كانت تُقِل معتمرين عائدين من جدة وعلى متنها 1446 راكباً

وإذا كان الخبراء يشددون على أن السفينة التي يمر على تشييدها 25 عاماً يجب أن تحال على التقاعد، فإن الأسئلة تتراقص أمام أعيننا حول سبب استمرار "السلام 98" في الخدمة مع أن عمرها وقت غرقها كان يبلغ 35 عاماً، خلاف أنه أضيفت إليها ثلاثة طوابق مخالفة لمعايير السلامة. من الواضح أن نفوذ مالك العبّارة الغارقة ممدوح إسماعيل عضو مجلس الشورى ورئيس شركة السلام للنقل البحري، كان وراء استمرارها في نقل الركاب المصريين غير القادرين على تحمل كلفة النقل جواً وأغلبهم من عمال المقاولات الفقراء

الصمت الذي ران على الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك مجلس الشورى الذي ينتمي إليه مالك العبَّارة كان نوعاً من الفساد البليغ

وبعد مرور أربعين يوماً على غرق العبَارة، وبعد هروب مالكها إلى خارج البلاد، قرر مجلس الشورى برئاسة صفوت الشريف، رفع الحصانة عن ممدوح إسماعيل.. وقال المجلس وقتها إن قراره جاء: "حتى يتسنى للنيابة العامة سؤاله والتحقيق معه في مسؤوليته عن الحادث"

بعدها بخمسة أيام كاملة، تقرر أخيراً منع ممدوح إسماعيل من السفر وإدراج اسمه على قوائم ترقب الوصول

غير أن إسماعيل خرج..ولم يعد

ومن وجوه الإدارة العاجزة قبح التبرير، فاختلاق الأعذار يزيد من اختلال الموازين


فقد كشف زلزال 12 أكتوبر تشرين أول عام 1992 - الذي أودى بحياة 541 شخصاً إلى جانب إصابة 6522 آخرين- حجم الفساد الذي ينخر في جسم الإدارات الهندسية بالأحياء والمحليات. لقد أدى الزلزال المذكور إلى انهيار 398 منزلاً بعضها حديث التأسيس مثل عمارة الموت في مصر الجديدة، في حين أصبح 8 آلاف منزل غير صالحة للسكن في كل من القاهرة والجيزة والقليوبية والفيوم

غير أن محافظ القاهرة محمد عمر عبدالآخر خرج غاضباً ومدافعاً عن الإدارات الهندسية بأن رواتب العاملين فيها ضعيفة ولا تتناسب مع المهمة التي يؤدونها والمسؤولية التي تقع على عاتقهم. وكان أن تمت زيادة رواتب هؤلاء المهندسين زيادة ضخمة بدعوى أن ذلك سوف يغلق أبواب الفساد، غير أن الواقع يقول إن ذلك زادها اتساعاً، فالذمم الخربة ظلت صاحبة اليد العليا في عددٍ من تلك الإدارات

ومكافأة الفساد لم تكن يوماً سوى إطعام ديناصور لا يعرف معنى الشبع

بل إن كارثة زلزال 1992 تنطوي على ما هو أخطر: غياب الشفافية وإخفاء الحقائق، حتى عن رئيس الدولة نفسه
ففي حديث للرئيس حسني مبارك لجريدة "الأخبار" في 30 أكتوبر تشرين أول 1992، قال مبارك الذي كان قد بدأ للتو زيارة للصين، قبل أن يقطع الزيارة عائداً إلى مصر: "وعدت إلى مقر إقامتي، مرهقاً، ومتعبا للغاية، وقبل أن أستسلم للنوم تلقيت مكالمة تليفونية من صديق مقيم في الخارج وأبلغني بالزلزال الذي حدث في مصر، اتصلت بالدكتور عاطف صدقي في الفور، فأكد لي الخبر وتحدث عن سقوط عمارة، بالاضافة إلى بعض التشققات في العديد من المنازل ووصف الزلزال بأنه قوي الحقيقة"

ولنا هنا ملاحظتان، فقد علم مبارك بالزلزال من صديق مقيم في الخارج وليس من رئيس حكومته أو الأجهزة المعنية، الأمر الذي يشير إلى خلل وتقصير واضحين في إبلاغ الحقائق لرئيس الدولة نفسه. والأمر الثاني هو تقليل رئيس الحكومة من حجم الخسائر في الأرواح والأضرار المادية. فما جرى في زلزال أكتوبر 1992 وأودى بحياة مئات الأشخاص وقدرت خسائره بنحو 1.5 مليار جنيه، لا يمكن تلخيصه في سقوط مبنى وحدوث تشققات في عدد من المنازل

في الحديث الصحفي نفسه يقول مبارك: "وتعددت الاتصالات التليفونية مع القاهرة حتى الساعة الرابعة صباحاً. وقتها اتخذت قراراً بضرورة قطع الرحلة والعودة بأسرع وقت إلى القاهرة. وعندما أبلغت رئيس الوزراء بقراري هذا حاول أن يطمئني أن الزلزال توقف والمعلومات الأولية لديه تفيد سقوط عمارة واحدة، وبالتالي فإنه ينصحني بالبقاء في بكين وعدم قطع الرحلة، ورفضت الاقتراح على الفور"

ثم يضيف مبارك قائلاً إنه فور عودته إلى مصر: "عقدت اجتماعاً لمجلس الوزراء لأتابع معهم آخر المعلومات، وآخر التطورات ونتأكد من سلامة الإجراءات التي اتخذت لمواجهة الكارثة. كانت المعلومات الجديدة تختلف عن تلك التي بلغتني من قبل، وتم اتخاذ المزيد من القرارات والعديد من الإجراءات التي تتناسب مع الحدث والذي لم نواجهه من قبل"
نضع أكثر من خط تحت عبارة "كانت المعلومات الجديدة تختلف عن تلك التي بلغتني من قبل"..ونصمت تاركين الباقي لذكاء القارىء

وعندما تدفقت المعونات والمساعدات العربية والدولية على مصر في أعقاب الزلزال، ظهرت بعض تلك السلع والمواد الغذائية في الأسواق، مع أن بعضها كان مكتوباً عليه عبارة "هدية لشعب مصر". واختفت البطاطين التي جاءت إلى مصر على شكل هبات، لتظهر ذات ليلةٍ في حفلٍ موسيقي رعته وزارة الثقافة تحت سفح الهرم، إذ تم توزيعها على كبار الحضور ومعظمهم من الأجانب بعد أن اشتد عليهم البرد

وتحتفظ الذاكرة بفحوى مقالة للكاتب الصحفي مصطفى أمين في عموده الصحفي "فكرة" في جريدة "الأخبار" بعد أيام من وقوع زلزال 1992، إذ حكى بأسلوبٍ ساخر ينكأ الجراح، كيف أن حاكم دولة تبرع بمساعداتٍ مالية بقيمة عشرة آلاف دولار لكل متضرر من كارثة وقعت في بلد مجاور، فاستدعى رئيس الوزراء في ذلك البلد الوزير المختص وقال له إن حاكم الدولة الشقيقة تبرع لكل متضرر بمبلغ ثمانية آلاف دولار، وبدوره أبلغ الوزير المذكور كبير مساعديه أن حاكم الدولة الشقيقة تبرع لكل متضرر بمبلغ خمسة آلاف دولار..وهكذا استمرت كرة الفساد تتدحرج، إلى أن ذهب موظف حكومي إلى منزل أحد المتضررين من الكارثة ليزف إليه البشرى: "الحاكم الفلاني يهديك السلام"

والحديث عن فضائح توزيع شقق الزلزال على غير مستحقيها، قد يحتاج مجلدات

الإهمال الذي يتراكم حتى يصبح عصياً على الحل، يزيد من الوضع سوءاً

وفي دارسة أعدها الباحث محمد عياد سليمان جامعة بني سويف تحت عنوان "إدارة أخطار النقل في هيئة سكك حديد مصر" نقرأ أن مزلقانات السكة الحديد تأتي في مقدمة أسباب ارتفاع معدلات حوادث القطارات بنسبة 40% حتى إنه يطلق على معظمها مزلقانات الموت..ويبلغ عددها نحو 1264 مزلقان سكة حديد. وتبين الإحصاءات أن سوء حالة معظم تلك المزلقانات السبب الرئيسي وراء ارتفاع معدل حوادث القطارات . وتكشف نتائج تحليل الحوادث على خطوط السكة الحديد في الفترة من يناير كانون ثانٍ 2001 إلى الأول من مايو أيار 2006 عن وقوع 59 حادثة بمعدل 7.10 حادثة سنوياً راح ضحيتها أكثر من 6 آلاف

المشكلة معروفة، غير أن الإهمال يغمض عينه عنها ويتذرع بنقص التمويل، وخسائر خدمات النقل، في حين كانت هذه الخدمات والمرافق تحقق أرباحاً قبل أن ينهشها الفساد ويعشش فيها الإهمال الحكومي المعروف

وفي صباح 21 أغسطس آب 2006 اصطدم القطار رقم 808 القادم من المنصورة إلى القاهرة بالقطار رقم 344 الذي كان يتقدمه على الخط نفسه في اتجاه القاهرة قبل محطة قليوب، وأسفر الحادث عن مقتل 56 شخصاً وإصابة 143من الركاب، إضافة إلى خسائر مادية وأضرار في القطارين قدرت بحوالي 1.5 مليون جنيه

المثير للسخرية هو أن بعض المسؤولين الحكوميين أطلقوا في أعقاب الحادث تصريحات تتحدث عن خطط للاستعانة بخبرات أجنبية، وكأن المشكلة في أداة المرافق هم جنسية المصريين وليست سياسات الفساد والإهمال والعربات المتهالكة والأبواب والشبابيك المنزوعة والمسروقة ووسائل الاتصال المنعدمة بين محطات القطارات


وفي كارثة قطار الصعيد المنكوب التي وقعت في 20 فبراير شباط 2002، اكتشفنا كم كانت الحكومة طالباً فاشلاً ومهملاً، مثلما عرفنا أن الحكومة تفتقد أبسط مقومات إدارة الكوارث، التي تعد الآن علماً قائماً بذاته، تُدَرسُ أصوله ومناهجه في معاهد وكليات إدارة الأعمال في أنحاء العالم

فقد أديرت كارثة قطار الصعيد بأسلوبٍ أثار موجة من الغضب والاستياء على المستوى الشعبي، بدايةً من قرار رئيس هيئة السكة الحديد المهندس أحمد الشريف - الذي جرى لاحقاً عزله من منصبه- صرف مكافأة لسائق القطار قدرها 200 جنيه ولمساعده 100 جنيه، بدعوى نجاحهما في إنقاذ الجرار الذي يبلغ ثمنه مليوني جنيه، وفصله العربات السليمة عن المحترقة، ولشجاعته في استكمال الرحلة حتى النهاية باقتدار!

مكافأة مريبة لسائق القطار منصور يوسف القمص، الذي قال في التحقيقات إنه علم بالحريق من مساعده بعد أن تخطى قرية كفر عمار، فقام مع طاقم القطار بفصل العربات السبع المشتعلة، وأكمل المسير حتى بني سويف وأبلغ عن الحادث


لم ينتظر رئيس هيئة السكة الحديد انتهاء التحقيقات حتى تتكشف الحقائق وتفرغ اللجنة الفنية من حسم الموقف، وسارع إلى إعلان هذه المكافأة المالية على سبيل التغطية وتبرئة ساحة الهيئة، فإذا كان السائق بريئاً فإن الهيئة والحال هذه بريئة، أما الجناة الحقيقيون فقد يكونون الضحايا!



نعم الضحايا، فقد سارع رئيس الوزراء المصري د. عاطف عبيد إلى الإعلان من موقع الكارثة أن سبب احتراق عربات القطار السبع هو موقد غاز كان بحوزة أحد الركاب، في حين بدا النائب العام ماهر عبدالواحد في البرنامج التليفزيوني نفسه -"أخبار الناس"- أكثر تأنياً في إطلاق الأحكام، مشيراً إلى أن انفجار موقد الغاز يعني ببساطة صوت انفجار وآثاراً واضحة على سقف القطار، وهو ما لم يكن مثبتاً بالأدلة وشهادة الشهود حتى تلك اللحظة

تقرير اللجنة الفنية للتحقيق في أسباب الكارثة - الذي تأخر إعلانه مرة تلو الأخرى من دون سببٍ واضح- بدا هو الآخر في مأزقٍ شديد

فلو أن التقرير أيد نظرية موقد الغاز ومسؤوليته عن الكارثة، لكان ذلك مدعاةً للتساؤل عن كيفية وقوع الحادث. ولو أنه ألقى باللوم على عيوب في التوصيلات الكهربائية، لأصبح من حق أسر الضحايا والمصابين المطالبة بتعويضات. ولو تحددت المسؤولية بشكلٍ أوضح في عدم وجود أجهزة إنذار أو وسائل إطفاء، وتزاحم شديد داخل عربات القطار وإغلاق النوافذ بقضبان حديدية وعدم وجود مقابض لفتح الأبواب المغلقة، لأصبحت التهمة جاهزة في حق هيئة السكة الحديد وأجهزة الأمن التي لم تقم بالدور المطلوب منها عبر رجالها في مثل هذه القطارات من أجل إنقاذ الركاب أو التقليل من عدد الضحايا والمصابين لحظة اشتعال النار في القطار

على أي حال، فقد أعلن النائب العام بعد أكثر من شهر من وقوع الكارثة أن اللجنة المُشكَلة من أساتذة كلية الهندسة والمركز القومي للبحوث والأدلة الجنائية والدفاع المدني انتهت إلى أن سبب الحريق مصدرٌ حراري سريع ذو لهبٍ مكشوف في وجود مواد سريعة الاشتعال، وأنه قد يكون موقد كيروسين

غير أنه من حقنا التوقف عند عبارة أوردها النائب العام في مؤتمر صحفي عقده في 23 مارس آذار 2002، إذ قال إنه لم يكن يوجد أي جهاز إطفاء في القطار

لا أمن إذاً.. ولا أمان!

وإذا كان حجم الخسائر المادية الناجمة عن الكارثة يقدر بمليون و631 ألف جنيه، فإننا نتساءل ببراءة: كم جهاز إطفاء ووسيلة تأمين للركاب كان بوسعنا شراؤه بهذا المبلغ الذي أهدره الجناة في حادثٍ بهذا الحجم وتلك المأساوية

على أننا لا بد أن نشير أيضاً إلى أن القطار كان يقل 3818 راكباً منهم 769 راكباً استقلوه من المحطة الرئيسية كما ركبه 3049 مخالفاً، والأكيد أن هذا الاكتظاظ ساعد في زيادة حجم الكارثة



وزير النقل د. إبراهيم الدميري سعى في أعقاب الكارثة إلى امتصاص الهجوم على وزارته والدفاع عن سياساته في أعقاب احتراق قطار الصعيد بركابه ومعظمهم من البسطاء الذين كانوا عائدين إلى قراهم ونجوعهم لقضاء إجازة عيد الأضحى مع أسرهم، قبل أن يقع الحادث المأساوي عند مدينة العياط بالجيزة. فقد جاء الدميري من كندا وهو عاقد العزم على عقد مؤتمر صحفي، غير أن وزير التنمية المحلية د. مصطفى عبدالقادر كان حسب ما تردد في انتظاره على سلم الطائرة، ليطلب منه الخروج من المطار من بابٍ جانبي، قبل أن يتم إلغاء المؤتمر الصحفي

ولا يُعقلُ أن تكون الاستماتة في الدفاع والتبرير هي النموذج الأمثل لإدارة الكوارث

وأثناء نظر محكمة الجنايات لقضية حادث قطار الصعيد ومحاكمة 11 موظفاً في هيئة السكة الحديد وّجهت لهم النيابة العامة وقتها تهم الإهمال والإخلال بواجبات وظائفهم ما أدى إلى زيادة حجم الكارثة، طلبت المحكمة سماع شهادة وزير النقل د. إبراهيم الدميري، فأدلى بشهادة مثيرة حول الحادث

قال الدميري في شهادته إنه عرف بالكارثة وهو في كندا حيث تلقى اتصالاً هاتفياً من مدير مكتبه يوم 20 فبراير 2002 أخبره فيه باحتراق القطار المتجه إلى الصعيد، وإنه عقب تلقيه هذا الاتصال من مدير مكتبه اتصل على الفور بمكتب رئيس الوزراء فأبلغه مدير المكتب بأن رئيس الوزراء موجود في موقع الحادث، وعندما سأل عن الحادث هاله عدد الضحايا الذين ماتوا في هذا الحادث


أضاف الوزير في شهادته والتي أدلى بها في 26 يونيو حزيران عام 2002 أنه عقب ذلك قرر على الفور العودة إلى أرض الوطن ليقدم استقالته دون إبداء أية أسباب. وقال إنه تحدث مع رئيس الوزراء بعد أن عاد إلى مكتبه من موقع الحادث وأبلغه برغبته في تقديم استقالته، لكن رئيس الوزراء وفقاً لشهادة د. الدميري أكد له أنه لا ذنب له في وقوع الكارثة ويجب عليه عدم التفكير في هذا


وفي حوارٍ أجرته معه مجلة "الشباب" في الأول من يونيو حزيران 2004 تحت عنوان "الوزير الذي أطاح به القطار"، كرر د. الدميري الكلام نفسه، قائلاً: "وخلال مشاركتي في مؤتمر لوزراء للنقل والطيران العالمي في شيكاغو لدراسة المعايير والضوابط لزيادة أمان الطائرات فوجئت بوقوع حادث حريق قطار الصعيد فاتصلت بالدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء لسؤاله عن عدد الضحايا، وعندما علمت بالرقم صدمت، فرد عليَّ رئيس الوزراء: ما ذنبك فيما حدث؟"

لا أحد يعرف كيف يحق لرئيس الوزراء د. عاطف عبيد تبرئة ساحة وزير النقل أو ساحته هو شخصياً، من دماء نحو 361 شخصاً - حسب التقديرات الرسمية- راحوا ضحية هذه الجريمة مكتملة الأركان

في شهادته أيضاً، أوضح الدميري أنه بعدما عاد إلى القاهرة اتجه إلى مجلس الوزراء وأودع استقالته وأن رئيس الوزراء شكره، وظل الوزير أسبوعاً لم يذق فيه طعم النوم لأنه أحس بأن ركاب القطار راحوا ضحايا


وقال الدميري في شهادته: كان لابد أن أرحل لتهدئة الرأي العام.. استقالتي لا تعد هروباً ولكنها كانت من واقع إنساني. وفي نهاية كلامه، أكد الوزير أن المسؤول عن الحادث هو الذي أعطى القطار التصريح بالخروج دون توافر وسائل الأمان


القضاء المصري أصدر حكماً شهيراً في هذه القضية، حيث برأت المحكمة جميع المتهمين الأحد عشر في هذه القضية. ولم تكتف المحكمة بذلك فحسب، بل ألقت بالمسؤولية على عاتق هيئة السكة الحديد وأسلوب إدارتها وشرطة النقل والمواصلات، وبرأت المتهمين الذين يعدون من صغار الموظفين بالهيئة، والذين كانوا ما بين رئيس قطار، ومُلاحِظ، وعامل وردية

براءةٌ، جعلت الناس يتساءلون: ولكن، أين الجاني؟ ولماذا لم ينل جزاء جريمته التي أودت بحياة هذا العدد الضخم من الركاب


المستشار سعد عبدالواحد رئيس محكمة جنايات الجيزة التي برأت المتهمين الأحد عشر، انتقد رئيس الوزراء المصري د. عاطف عبيد الذي قال إنه أخذ يصرح ويدلي بتصريحاته منذ وقوع الحادث عن السبب. وانتقد رئيس المحكمة أيضاً في حديث لجريدة "الشرق الأوسط" الصادرة في لندن بتاريخ 1 أكتوبر تشرين أول 2002 الإعلام المصري الذي قال إنه أصدر أحكاماً قبل أن يقول القضاء كلمته. ووصف رئيس محكمة جنايات الجيزة تقرير اللجان الفنية "بالميوعة"، إذ لم يقطع وبنسبة عالية أي سببٍ من الأسباب الثلاثة التي ذكرها لوقوع الكارثة، وتضمن فقط الإشارة إلى أن موقد الكيروسين قد يكون السبب بنسبة 75 %، وترك نسبة 25% مفتوحة لأي سببٍ آخر للحادث


الرئيس حسني مبارك وَّجه كلمة إلى الشعب المصري صباح يوم عيد الأضحى، عزّى فيها أسر الضحايا في الحادث، وشدد فيها على ضرورة إجراء تحقيقات شاملة ومحاسبة المقصرين. مبارك قال في كلمته: "إننا لن نسمح بأي محاولة لإخفاء الحقيقة، أو التغطية على أي جانب مما حدث؛ لأن الخطب جلل والحادث خطير والفجيعة فادحة". وأضاف مبارك قائلاً: "إن أرواح المواطنين أغلى علينا من أنفسنا وليس لدينا أهم من الحفاظ على أرواح المواطنين وسلامتهم في أية بقعة كانوا من أرض الكنانة، لذلك طلبنا من الجهات المختصة أن تجري تحقيقاً شاملاً بحيث تتحدد المسؤولية بكل وضوح، وتتم محاسبة كل من يثبت أنه مقصر في أداء واجيه، أو تراخى في توفير السلامة للمواطنين في حِلهم وترحالهم"

غير أن المؤسف حقاً، أن الوضع في السكة الحديد وباقي وسائل النقل والمواصلات المملوكة للدولة، بقي على ما هو عليه من سوء وتدهور

الطريف أن عيد عبدالقادر الذي تولى منصب رئيس هيئة السكة الحديد في أعقاب الكارثة، نفى أن يكون للإهمال أي دور في وقوع الكارثة، مؤكداً أن جميع عربات القطار تخضع للصيانة الدورية قبل مغادرتها المحطة

الإعلام المرئي - وبتحديد أكثر، التليفزيون الرسمي- عالج الكارثة آنذاك بأسلوب غريب مريب، باستثناء برنامج "أخبار الناس" بجهدٍ مميز من مقدمة البرنامج رولا خرسا –وهي بالمناسبة زوجة عبداللطيف المناوي الذي أصبح مدير قطاع الأخبار في التليفزيون المصري- فقد انتقلت إلى موقع الحادث وتجولت في عربات القطار المنكوب التي تفوح منها رائحة الموت والجثث المتفحمة، وتحدثت إلى كبار الوزراء والمسؤولين عن تلك الكارثة



أما أهل مبنى ماسبيرو، لا فضت أفواههم، فقد أداروا الأزمة على طريقة "همّام في أمستردام"



فقد تم عرض الفيلم في سهرة اليوم الثاني لعيد الأضحى، الذي ضحى فيه تحالف الإهمال والفساد بالمئات من ركاب القطار المنكوب، ليتأكد لنا أن الحكومة قررت تبني استراتيجية الضحك والقفشات التي يطلقها الكوميديان محمد هنيدي لإنقاذها من ورطتها، بعد أن كانت تستعين فيما مضى بالنجم الكوميدي عادل إمام ومسرحيته "شاهد ما شافش حاجة" كلما تعرضت لمأزق أو نزلت بنا كارثة

ومن رحم المأساة تندر المصريون على قرار تكليف وزير الكهرباء ثم الصناعة د. علي الصعيدي الإشراف على وزارة النقل، إذ سرت نكتة مريرة بأن اختيار "الصعيدي" للإشراف على الوزارة جاء لتهدئة غضب الصعايدة

وفي حادث قطار الصعيد، أخطأت الحكومة مرة تلو الأخرى في إدارة الكارثة، تارةً بتحميل الركاب مسؤولية الحريق، وتارةً ثانية بالاكتفاء بنقل قياداتٍ أمنية في شرطة السكة الحديد ضمن حركة تنقلات محدودة في قيادات الشرطة؛ لأن ذلك لا يعني سوى نقل المقصرين إلى جهة أخرى يواصلون فيها ممارسة هوايتهم المفضلة: الإهمال.. حتى إذا كان ذلك على حساب البشر وأرواحهم

الجميع رفضوا الاعتراف بغياب الأمن والأمان في قطارات هيئة السكة الحديد، وحمَّلوا الركاب مسؤولية احتراقهم داخل قطار الصعيد المنكوب، وتناسوا أن هناك دراسات وبحوثاً تتحدث عن أهمية التخطيط لمواجهة الأزمات واحتواء الكوارث وإدارتها بأسلوبٍ علمي سليم، علاوةً على التحرك لمنع وقوعها أصلاً. وربما يتجاهل بعض أصحاب الحل والعقد في بلادنا أهمية علاج الجذور قبل الظواهر، وإنشاء نظامٍ كفء للرصد والتحليل يتوقع مَواطِن الخطر والأزمات لمعالجتها مبكراً بأسلوب وقائي قبل وقوعها، مع وضع خطط وسيناريوهات مختلفة، وإنشاء غرف ووحدات لإدارة الأزمات

إن الذين أداروا الكوارث التي هزت مصر في العقود الأخيرة أغفلوا هذا كله، فمارسوا حياتهم بشكلٍ طبيعي، ولم يعكر صفو يومهم شيء له صلة بتلك الكوارث، وعادوا في نهاية كل ليلةٍ إلى منازلهم وناموا في فراشهم الوثير وسط أهلهم وأحبتهم، من دون أن تزعجهم صور جثث الضحايا ولا أنين المصابين ونحيب أهلهم ودعاء ذويهم على الظالمين والمتسببين في تلك الحوادث

فلا نامت أعين الجبناء

تابع القراءة

gravatar

الإدارة العاجزة (1): خراب شرحه يطول







ليس أقسى على المصري من الكوارث التي تقع عليه كالصاعقة، من الإدارة الهزيلة والهزلية لتلك الأزمات على يدي حكوماته الرشيدة

والشاهد أن الكوارث تحلُّ تباعاً بمصر، التي يكادُ شعبها لا يفيق من واحدة حتى يصحو على أخرى لا تقل فداحةً عما سبقها. ومن كارثةٍ إلى كارثة، لم يعد للمصري وقتٌ لأي شيء آخر. ولأن المواطن بدأ يعتاد على الكوارث فقد أخذ يتوقع الأسوأ دائماً ويهيئ نفسه لها، لدرجة أنه يعتبر اليوم الذي يمر من دون كوارث يوماً مشهوداً
وهكذا بات على المصري أن يعيش باستمرار في انتظار كارثةٍ جديدة، تؤدي مواقف المسؤولين منها إلى وضع أكثر مأساوية يرش مزيداً من الملح على الجراح. فالجهات المسؤولة في مصر لا تقر عادة بخطئها ولا تتم محاسبة المسؤولين في تلك الجهات، بل سرعان ما تتهرب من المسؤولية وتلقي باللوم على الضحايا أو المجهول، أو تدفع بعدم الاختصاص، مثلما فعلت هيئة السلامة البحرية تعليقاً على تساؤلاتٍ بشأن التقصير في إنقاذ غرقى العبارة "السلام 98"!
إنه التنكيت والتبكيت في أبشع صوره
ففي الوقت الذي يحتاج فيه المواطن أن يشعر بالأمان وأن يرى ضوءاً في الأفق، فإن الإدارة العاجزة هنا وهناك لا تمنحه سوى القلق وتملأ الدنيا ظلاماً أمامه، والظلام حين يطغى يعم الجميع بلا استثناء

الأمثلة كثيرة على سوء الإدارة، ومن أحدثها رد فعل محافظ القليوبية المستشار عدلي حسين في أعقاب الكشف عن إعدام الخنازير في القليوبية بواسطة مواد كيماوية حارقة وباستخدام الجير الحي. إذ جرى تجميع الخنازير من منطقة الزرائب في الخصوص ونقلها إلى المدفن الصحي في أبي زعبل، حيث ألقيت في حفرة كبيرة لتصب عليها مادة من مخلفات مصانع "الشبة" تُسمى "الكيك"، وسط صرخات الخنازير إثر احتراقها بالمادة الكاوية، إذ تغطى بمادة الجير الحي قبل أن تردم

هذا الإعدام الجماعي للخنازير وصفه علماء الدين بأنه لا يتفق وتعاليم الإسلام، كما وَّجه إليه عددٌ من الأطباء البيطريين انتقادات حادة، إذ قال نقيب الأطباء البيطريين د. مصطفى عبدالعزيز، "إن أسلوب الإعدام بالإلقاء في حفر مكسوة بالجير الحي يفتقد الأسلوب العلمي، وهو نوع من وأد الحيوان، وهذه الأساليب غير الرحيمة في قتل الحيوانات تسىء إلى سمعة مصر في الخارج، وتثير الرأي العام"

غير أن المستشار عدلي حسين كان له رأيٌ آخر
وبدلاً من أن يقر بالخطأ الذي وقع، أو يقدم استقالته من منصبه كما يفعل أي مسؤول يحترم منصبه، فقد أطلق النار على الجميع
وَّجه المحافظ الهُمام انتقادات حادة إلى علماء الدين، الذين أدانوا إعدام الخنازير بهذه الطريقة، وقال: "إذا كانوا قالوا ذلك فما رأي فضيلتهم فى قطع اليد والرجم وقطع الرأس بالسيف كما يحدث في السعودية، وما رأيهم فى أشياء أخرى كثيرة تقرها الشريعة الإسلامية"، وتابع موجهاً حديثه لعلماء الدين: "ولا إنتوا درستوا شريعة أخرى؟" (المصري اليوم، 20 مايو 2009). والأدهى من ذلك أنه انتقد الصحيفة المذكورة بسبب كشفها طرق إعدام الخنازير في محافظته وقال في بيان تلاه أمام المجلس الشعبي المحلي للمحافظة: إنه مستعد أن يتحمل من جيبه الخاص تكلفة العلاج النفسي لمن أصابهم الاكتئاب بسبب إعدام الخنازير، مشيراً إلى أن علاجهم سيكون في الخانكة، ويعني بذلك مستشفى الخانكة للأمراض النفسية والعقلية

لم نسمع في السلطة صوتاً عاقلاً رشيداً يطالب المستشار بتقديم استقالته أو يأمره بالصمت، وهو أضعف الإيمان

آلةٌ توقفت تروسها، لتصبح غير قادرةٍ على الدوران
هذه هي حالُ أجهزة الدولة ومؤسساتها المختطفة

ولعل ما نحياه الآن هو تجسيدٌ لحالةٍ هائلةٍ من التخبط. وعلى سبيل المثال، بعد أن صرح رئيس مجلس الشعب د. فتحي سرور بأن حريق مجلس الشورى في 19 أغسطس آب 2008 لا يعني ضياع ملفاته نظراً لحفظها على ميكروفيلم، عاد بعد أيام قليلة ليعدل عن تصريحه قائلاً إن الوثائق لم تحترق أصلاً!
وكيف خرج هذا التصريح من د. سرور قبل أن تتم إجراءات المعاينة الجنائية الكاملة، ويتضح أن كثيراً من الوثائق التاريخية والنيابية المهمة قد التهمها الحريق!
تصريحٌ كهذا جاء لغياب الشفافية في التعامل مع المجتمع؛ لأن البعض يتصور أن النقد شماتة تقلل من هيبة الكرسي




مجلس الشورى بكل قيمته التاريخية والنيابية والأثرية (المبنى مسجل ضمن الآثار الإسلامية بقرار رئيس الوزراء رقم 910 لسنة 1987 وخاضع لقانون حماية الآثار وتتم عليه أعمال الصيانة والترميم)، كيف يتحول إلى رماد من دون استخدام وسائل إطفاء تليق بدولة محترمة؟ كيف نستخدم خراطيم مياه بهذا الأسلوب البدائي وبهذا الغباء، وكأنه حريق بمبنى سكني عادي، كيف يكون المبنى غير مؤمّن؟
الأغرب أن يظهر مسؤول حكومي ويقول إنه من الممكن أن "عقب سيجارة" سقط من يد أحد الموظفين في المجلس هو ما أدى إلى اندلاع الحريق. كيف والتدخين ممنوع داخل المبنى؟


في 6 سبتمبر أيلول 2008 وقعت كارثة انهيار صخرة المقطم على سكان الدويقة العشوائية، وانهارت صخور يصل وزنها إلى ‏أربعة‏ آلاف طن، لتؤدي إلى مقتل العشرات وإصابة وتشريد المئات
بدا المسؤولون في حالة صدمة وأصيبت الأجهزة المعنية بالشلل، على الرغم من أن حادث الدويقة لم يكن الأول في سلسلة انهيارات بعض صخور المقطم على بعض سكان المنطقة‏، فقد سبق وأنذر الجبل بغضبه هؤلاء عندما سقطت صخوره فوق عزبة الزبالين عام‏ 1993‏
وزير الداخلية حبيب العادلي أخفق بدوره في معالجة آثار كارثة الدويقة، وتعامل رجاله بصلف وعجرفة وعنف مع الأهالي المنكوبين. لقد فشل جهاز الدفاع المدني في إنقاذ الأحياء تحت الأنقاض، وعجز عن انتشال جثث الضحايا. ولم يكن أمام الدولة سوى اللجوء إلى الجيش ومعدات شركة المقاولون العرب، الأمر الذي أبرز الفشل الذريع للأجهزة المدنية في القيام بدورها

محافظ‏ القاهرة د. عبدالعظيم وزير قال لجريدة "الأهرام" (14 سبتمبر 2008):‏ القـدر سبقنا بخطوة‏!
وبالحرف الواحد قال محافظ القاهرة مبرراً الكارثة: "‏للأسف أيام وزير الإسكان السابق الدكتور محمد سليمان،‏ كان يتم تجنيب واستبعاد المحافظة عن تسليم هذه المساكن،‏ بسبب الخلاف بينه وبين المحافظ السابق الدكتور عبدالرحيم شحاتة،‏ حتى عندما جئت محافظاً للقاهرة كنت أجلس مثل بقية الضيوف،‏ ولكن وزير الإسكان الحالي أبلغني قبل أسبوع من الكارثة أنه سيتم تسليم الشقق الجاهزة حالياً لتقوم المحافظة بتوزيعها وقال إنه سيسلمني أربعة‏ آلاف شقة خلال الشهور القليلة المقبلة"
كلام المحافظ يجعلنا نظن أن الضحايا كانوا في عجلةٍ من أمرهم، ولو أنهم صبروا قليلاً ولم يندفعوا إلى الموت، لكانوا الآن آمنين في شقق جديدة
من جهته، أعلن نائب محافظ القاهرة للمنطقة الشرقية د. مختار الحملاوي على صفحات مجلة "روزاليوسف" أن الأهالي وقعوا أمام النيابة عن تحملهم مسؤولية الإقامة في هذه المباني، وأن المحافظة حاولت أن تقنعهم بالخروج، لكنهم أصروا، وقال إن خمسة من ضحايا الكارثة من بين الموقعين
هكذا ببساطة صارت المحافظة بريئة من دم الضحايا
أما القناتان الرئيسيتان في التليفزيون المصري الأولى والثانية، فقد استقبلتا حادث انهيار صخور المقطم على سكان منطقة الدويقة، بطريقة غريبة تقترب من التجاهل والتهميش، فلم تقطع القناتان إرسالهما لإذاعة الخبر أو رصد الكارثة، واكتفتا بنشره علي شريط الأخبار، وهو ما أرجعه بعض العاملين في التليفزيون إلى حجز الإعلانات، والخسائر المادية التي يمكن أن تلحق بالقناتين في حال قطع البرامج والمسلسلات لإذاعة مثل هذا الخبر
من جانبها أكدت سوزان حسن، رئيسة التليفزيون آنذاك، أن تغطية التليفزيون للحادث كانت جيدة، وقالت: القناتان الأولى والثانية ليستا قنوات أخبار، والخدمة الإخبارية يتم تقديمها في قناة النيل للأخبار وبرنامج "البيت بيتك" وشريط الأخبار، وأضافت: "مش لازم نقطع الإرسال وننكد ع الناس لمجرد تقديم خدمة إخبارية، وكمان ما كنش فيه جديد على مدار اليوم يستدعي قطع الإرسال، ومش معنى إن فيه حادثة في مكان يبقى البلد كله يعيش في الواقعة من خلال القناتين الأولى والثانية، لأن شكل الإعلام اتغير وأصبح لكل قناة اختصاصها، وهذا الجزء من اختصاص قناة النيل للأخبار"


فتأملوا!

ترى، كيف سيكون رد فعلك إن كنت من أهالي المنطقة المنكوبة، وسمعت أحداً يقول إن افتقاد غالبية سكان الدويقة ثقافة استخدام الحمامات، يعد أهم أسباب هذا الانهيار الصخري!
هذه النتيجة استخلصها مصدر مسؤول بوزارة الإسكان، قال لجريدة "المصري اليوم" في 3 أكتوبر تشرين أول 2008 إن "السلوكيات الخاطئة وسوء التعامل مع دورات المياه بين الكثير من مواطني المنطقة المنكوبة، تسبب في (تلف مواسير الصرف الصحي)، ما أثر سلباً على الهضبة"
وإذا كانت منطقة الدويقة عشوائية، فإن حركة المجتمع أصبحت كلها عشوائية وقابلة للانهيار في أي لحظة
هنا، تبدو مصر في انتظار "غودو" الذي لن يأتي أبداً

لقد كشف حادث المقطم عن تبلد أجهزة الدولة، وأكد ذلك اختطاف 11 سائحاً و8 من المصريين على الحدود المصرية السودانية الليبية في 19 سبتمبر أيلول 2008. فالأجهزة في الحالتين لم تبذل جهداً حقيقياً لتدارك الحادثين، بالرغم من أنهما مسا الأمان الشخصي للمواطن وأثرا بشكل كبير على الاقتصاد القومي

الطامة الكبرى لم تكن عدم القدرة فقط على التعامل مع الحادثين، بل إن الدولة عجزت حتى عن استيعاب نتائجهما. ففي حالة اختطاف السائحين، قالت السلطات إنها ترفض التفاوض مع إرهابيين، ثم عادت لتبشر الناس بأن الجناة مجرمون من المرتزقة وليسوا إرهابيين، وكأن هذا يغير من واقع الكارثة شيئاً

وزير الخارجية أحمد أبو الغيط وبعد ثلاثة أيام من واقعة الخطف، وقف في مؤتمر صحفي في الولايات المتحدة مع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، وقال رداً على أسئلة الصحفيين عن أزمة الرهائن، إن السياح بخير وإن الأزمة انتهت بسلام

لكن هذا كان فضيحة بكل المقاييس


وبعد عشرة أيام من الاحتجاز، نفى الرهائن صحة النهاية السعيدة التي أعلنها وزير الدفاع المصري المشير محمد حسن طنطاوي ودخل بها على الرئيس حسني مبارك على الهواء مباشرة وهو يفتتح مشروعات في محافظة كفر الشيخ..وسط تصفيق الحاضرين
لقد دار الحوار التالي بين المشير طنطاوي والرئيس مبارك
"طنطاوي: الرهائن وصلوا يا فندم
مبارك: ومسكتوا اللي خطفوهم!؟
طنطاوي: المختطفين نصهم ماتوا ونصهم في الطريق"


غير أن الرهائن قدموا رواية أخرى، قائلين إنهم لم يشهدوا أي إطلاق نار، وإن الخاطفين قرروا الاحتفاظ بثلاث سيارات رباعية الدفع تملكها الشركة السياحية التي كانت تُقِلهم، قبل أن يسمحوا للرهائن بالرحيل بالسيارة المتبقية ويعيدوا لهم جهازاً لتحديد موقعهم بالأقمار الاصطناعية

والشاهد أن الأجهزة والهيئات والمؤسسات الرسمية لا يعنيها أن تملك آلية لإدارة الأزمات أو حلها، إذ تسيطرُ على كل مسؤول غريزةُ البقاء في موقعه فقط، حتى لا يطاح به، وتتملكُ كل صاحب سلطة أو نفوذ عقيدة التحايل والتبرير بهدف تجاوز الأزمة أملاً في تهدأ النفوس وينسى المنكوبون وتسقط الأحداث من الذاكرة الجماعية. لا أحد يعنيه أن يحل همَّاً عاماً. كل مسؤول مهتم بما يعنيه فقط، وهو ما يجعل الجميع عاجزين عن حل أي أزمة تلحق بالبلد

وفي ظل انشغال كل بهمه الشخصي علينا أن نتوقع المزيد من الكوارث، المزيد من العبَّارات التي تغرق، المزيد من القطارات التي تحترق، المزيد من المباني التي تنهار، المزيد من الأموال التي تُهرَّب، والمزيد من المباني الأثرية التي تحترق
والأخطر من ذلك أن الفشل في إدارة الأزمات والكوارث، والتصرف بطريقة تنطوي على الاستخفاف أو التقليل من شأن ما جرى، يصيب المواطنين بالإحباط ويزيد من الاحتقان نتيجة الشعور بالظلم الاجتماعي، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام التنفيس عن الغضب بالعنف أو الاحتجاج غير المسؤول، لتكبر كرة الثلج من دون داعٍ يُذكر


إن انكفاء أجهزة الدولة وعجزها عن إدارة الأزمات، دفع إلى الاستعانة بالقوات المسلحة لحل أزمة طوابير الخبز التي تفاقمت في شهري مارس وإبريل 2008 حتى سقط فيها ضحايا بلا ثمن. وهي ليست الأزمة الوحيدة التي تدخل العسكر لحلها، فالقائمة طويلة، لعل أطرفها تدخل الجيش لحل مشكلة السحابة السوداء، حيث تم تشكيل العديد من اللجان والاجتماعات لحلها، ولم تشهد الأزمة انفراجة إلا بعد أن أنشأ الجيش مصنعين لتدوير قش الأرز بمحافظة الدقهلية


بلاءٌ تكرر كثيراً في العقود الأخيرة، يصب الزيت على النار


وهذا خرابٌ شرحه يطول

تابع القراءة

gravatar

سيرة الضوء






تتمنّى ساعةُ القلبِ لو تُخْطِئُ التوقيتَ مرةً واحدةً
فالقلبُ له أسرارٌ صغيرةٌ ساذجة؛ يكرهُ أن يعرفَها غيره
فهو يَخفقُ
ويَخفقُ
ويَخفقُ
ثم يُخفِقُ
وأنا وُلِدتُ بين نَهرَينِ مِن دَمعٍ وَدم، في أحد أيام متشابهة لم يبقَ منها إلا الرماد
مشيتُ على المِسكِ حتى جرحتُ مائـي
ورحتُ أعتني بحدائقِ الكتابةِ التي تنمو على شفتيّ
أرشُ العطرَ والوقارَ على نعشٍ وحيدٍ وزنابق كثيرة
أتنزَّهُ مع الخيالِ الذي يتمددُ على أريكةِ الكون
أنكِرُ الإرهاقَ واليأس، فلا أحسُ بقاطرةِ الزمن تتقدم
لا أميلُ إلى حاضرٍ غارقٍ في عَرَقِ الفوضى، ولا يُذهلني إلا ما يتقدمُني
فقد خسرنا الحاضرَ والماضي، والسأمُ هو استسلامُ ذلك الثور الذي كان يجيشُ في العروق
هكذا أبدو جسداً غالباً ما يرحلُ عنه صاحبُه
وعلى الرغم من أنني أتكتمُه، ففي وجهي يتجلى حنيني وحبّي الخبيء
ينتشرُ غيابُها ممتزجاً بروحي المسافرة بحثاً عنها
أكتبُ لها: غيابُكِ فراغٌ يُعرّي النظراتِ من أي معنى
سأظلُ في أثركِ كسحابٍ عاشق، فما تمكّن من النّفس لن يفنى إلاّ بالموت
متى يحبُ الرجل؟

يحبُ حين يعترفُ لحبيبته: حياتي حريرٌ أبيض يستلقي مثل ندفِ الثلج فوق حقلِكِ
وهو يعشقُ حين يضبطُ نفسه وحيداً، وقد استسلمَ لرائحةِ المرأة التي يحبُها
ويذوبُ شوقاً حين يمشطُ شعرها المبعثر على أشجارِ روحِه
يحبُ الرجلُ حين يفكرُ داخلَ غرفته في حبيبته، قبل أن يلثمَ صدرَ أكثر الغيماتِ امتلاء.. وينام
لكل عاشقٍ امرأتُه التي يُتوِّجُها على عرش قلبه، حتى وإن رآها الآخرون عادية
إنها المرأةُ التي إن أطلت على شرفةِ روحِه، أصبح جاهزاً للإبحار وتطايرَ منه عبقُ الفرح وزينت أنجمُ العشق سماءه
يكفي كل عاشق أن تعرفَ حبيبتُه سرَ الهوى، حتى وإن خانه الصمتُ وراوغته الكلمات
ها أنا أمسحُ جسدَها بمُخَيلتي، فتُحركُ خصلةَ شَعرِها إلى حيث تجتمعُ الجهاتُ في جهةٍ واحدة
ولكن، كَيْفَ لِي أَنْ أَفْتَرِعَ مُخَيّلَةُ الصباح في الأمسياتِ الوحيدة؟
النعاسُ، مغامرةٌ كئيبةٌ لكلِ المساءات
والبشرُ ينامون يومياً بجرأةٍ، نتيجة الجهل بالخطر الذي ينتظرُهم حين يستيقظون

المحاقُ يذهبُ بي عميقاً في بحرِ الجنون
الغبشُ يتهادى ويطمسُ لوحةً في الجدار
هل هذه خطواتُ الليل وهو يَكبُر؟
الوسادةُ لا تحتفظُ بطبْعةِ رأسي عليها، فأتمنى ميتةً هادئة كفراشةٍ تعبرُ ليلاً
ميتة سريعة وحاسمة تشبهُ النقطةَ، وليسَ الفاصلة
حمامُ الصباح بماءٍ بارد أسمعُ تكسرَ قطراتِه على ظهري، كأنه يغسلُ روحي بماء الغيب
أحلقُ، بشفرةٍ قديمة، ذقنَ الريح، فأخدشُ الهواءَ الذي يتنهد
أسوي فراشي جيداً، وأكررُ إغلاقَ الباب مُتجنباً لمسَ المقبض، شأن رفاق الوسواس القهري، ثم أخرجُ إلى الشارع الذي تحيطُ به نباتاتٌ مستوردةٌ من بلادٍ تعرفُ بيئتُها الألوان
أقطعُ صفحةً جديدة من تقويم العام، وأقرأ فيها حكمةَ اليوم: إذا كنتَ في غير بلدِكَ فلا تنسَ نصيبَكَ من الذل
غريبُ الدارِ ليسَ له صديق.. جميعُ سؤالِه: كيف الطريق؟
المُنحَدَرَاتُ أرهقتها الشمسُ، وأشِعّةُ الشمسِ شرائحُ سِحْريّةٌ للبحر وحُوريّاتِه
النهارُ يَطاردُ العَصَافِير التي أرهقها التحليق
والقلقُ يعصفُ بالأفكار والجمل من منتصفها، فتنشطر وتتناسل..ونتبعثر
أسيرُ في الشارع مغمضَ العينين أستجلي طريقي بيدٍ مسهدةٍ، كعصا أعمى تطرقُ الأرضَ باحثةً عن إنسان
أتعثرُ، مثل أي رجلٍ خانه الوردُ والأصدقاء: في كلِ مُنعَطفٍ شركٌ وكمين
شرطي المرور ينبهني: دماؤك التي تسيلُ، عمَ تفتشُ في هذه الأرض؟
وحده الرصيفُ يتسكعُ في الطرقِ بلا ضجر
أتبعُ مظاهرةً للعشاق ترفعُ لافتة تقولُ كلماتُها: نعم للشعر الطويل..لا للعصافير
تختلطُ المظاهرةُ بجَنَازة، فأندهش: كلنا نتبعُ النعش، فمن الذي مات؟
ألمحُ في المتنزه العام أرجوحةً، تستريحُ من غرباء استنزفوا ليلها


صنعَ الإنسانُ الأرجوحة، حتى يستمتعَ بالفضاء الذي خلقه الله
لكن المرءَ لم يكن يتخيلُ ساعتها كم سيتأرجحُ في الهواء كثيراً وطويلاً، في حين تدفعُه الأيدي الحنونة تارة، والعابثة تارةً أخرى
هذا قد يفسرُ لماذا يضحكُ البعضُ ويصرخُ البعض الآخر، في أرجوحةٍ مُعلَقةٍ بين الأرض والسماء
يقطعُ الطريقَ زُمْرَةٌ من السُّيّاحِ، مُفْرِطونَ في أناقتِهم، باتجاه مركز تسوقٍ فخمٍ يفقأ أعينَ فقراءِ الأحياء التي أوجعتها كثرةُ العويل
بائعُ الوردِ العجوز يقارنُ وسط سعالِه بين بشرةِ العابراتِ ولونِ باقةِ الياسمين
ماسحُ الأحذية يُحركُ فرشاته بمهارة عازف فوق حذاءٍ مثقوب، ويتوه في شَعرِ فتاةٍ تبتسمُ من بعيد
تسيلُ من عيني شوارع قديمة، فأرى
الفتى الذي كان يحلمُ بأن يصبحَ رائدَ فضاء، رمى الحلمَ في سلةِ المهملات، بعد أن امتَلَكَ أكثرَ من ألفِ فضائيّةٍ في حجرة نومه
مندوبُ المبيعاتِ الذي يرتادُ حلباتِ المصارعةِ، للتأكّدِ من أنه الألَمُ الذي يفوق احتمالَ البشرِ



فتاةٌ تنظر بولهٍ إلى المغني فوق خشبة المسرح..نظراتٌ تدلُ على أن الفتى الذي يرافقُها إلى الحفل لا يعني لها شيئاً، وأنه مجردُ بديلٍ ناقصٍ لمثالِها الأعلى الحقيقي
تلاميذ يتصارعون في حلقات، وتلميذاتٌ يطلين الشفاه بوهْمِ نداوةِ الليل، ويتراكضن بصدورٍ شبيهةٍ بأغنيةِ الوفرة والحصاد السخي، حتى يَعبُرن بابَ المدرسةِ قبل جرسِ طابور الصباح
امرأةٌ تخافُ على خَدِها من كفِ زوجها، وحارسٌ صارَ الفقرُ حية تلدغُ أيامَه بانتظام
عاشقٌ يُقبِّل المرأةَ التي تتركُ له بابَ أحلامِها موارباً، والقبلة شجرةٌ يشعلُها عاشقان كي يستدفئا بها إلى الأبد
وأبله، يضاجعُ وسادةً في فندق، نامَ فوقها عشاقٌ قبله
شابةٌ تضع قرطاً أهداه لها حبيبُها وتناجي نفسها: سأجعلُه سعيداً في شحمةِ أذني
وشيخٌ متجهمٌ يحذرُ الفتية: المرأةُ بئر. إنها حفرةٌ وخندق، وخنجرٌ حادُ النصل يقطعُ عنقَ الرجل
ممرضةٌ تفتَّحُ الأزرارَ والأسرارَ إلى نهدِها بعد بضع أغنيات..تلبسُ جنونَها حين تخلعُ مئزرَها الأبيض، وتنتشي في رقصةٍ ثملة، على إيقاعٍ يُنضِجُ الثمرَ حتى يوقعه


عانسٌ تستدرُ في الليلِ شفقةَ السقف، وتنتظر عاشقاً يعتلي جبلَها المُدَّور ويحرثُ أرضها الرطبة قبل أن يسكُبَ فيها فضتَه
زوجةٌ اقتصرَ دورُها على مسحِ بقايا رَجُلِها بين فخذيها آخر الليل، علَّها تربطُه كما يربطُ الكحولُ شاربَه
أتذكرُ المرأةَ التي تخلعُ، في مكانٍ ما، تعابيرَ وجهها، لتُقبلني على الخَدِ مُوَّدِعةً
كم تقتلُنا السذاجة؟

الصورُ التي التقطتها لي اختفت وبهتت ألوانها. حتى حفنة الضوءِ تسربت من الكادر
تقتربُ مني في الصورة، فتلتقطُ الغريزةُ مفتاحَها الذي أسقطته الذاكرة
تكوي جسدَي بلمعان نظراتِها ومَيلِها عليَّ بفستانها الربيعيّ في دلالٍ يمنحُني طيبَ الراحِ والريحان
حُسنُها يسرقُني من نفسي فأراودُها، وفي المراودةِ فيوضُ لذةٍ ومتاهات وينابيعُ طيوف
أعرِضُ وهي تُعرِضُ، قبل أن تذوبَ في زحامي، وألمحَ آخرتَها في عينيها
لا بد أن الرجلَ الذي يحتضنُها الآن لا يرى رائحتي التي تضيء دروبَ الجسد
بعضُ النساء يتلهفن على الاستسلام لأنهن يفترضن منذ الصبا أنه ستأتي لحظةٌ ما سيكونُ من المستحيل عليهن فيها الدفاعُ عن أنفسهن
والمرأة لغزٌ حتى في ذروة الإفصاح
والنساء احتكرن الحنان كي نتكىء عليه حين نشعرُ بضعفِنا أو تجرفنا القسوة
تقترحُ آنا لقاء جديداً في لندن، بعد عشر سنواتٍ على آخر لقاء بيننا
قد يحدثُ هذا، وإن كنتُ أرى أنه عندما نلتقي بشخصٍ لم نره منذ سنوات، من الأفضل أن يجلسَ الواحدُ منا قبالة الآخر، وألا نقولَ شيئاً طوال ساعات، من أجل أن يتذوقَ الوجومُ من خلال هذا الصمت ذاته ويستلذها
أشتاقُ لكل عاداتي السيئة القديمة
خطاياي نادرةٌ، بعضُها غير مرئية، لكنني اقترفتُ كلَ الجرائم، حتى جريمة الأبوة
لِمَ آتي دائماً بعد فواتِ الأوان؟ كلُ الذين أحببتُهم على مدى خمسةٍ وأربعين عاماً كنتُ متأخراً في لقائهم، فلم تمهلني الحياةُ سوى بضع لحظاتٍ لا تكفي سوى لوداعهم
لماذا تصبُ كل البحار في البحر الميت؟
مثل حصانٍ منسي، أنا في وحدتي بلدٌ مزدحم


كلُ تلك الأجسادِ التي اعتليتُها يوماً، اعتلتني إلى الأبد
في المنزلِ، تُعَلِّقُ الشرفاتُ أحزَانَهَا على صدرِي
وفي المكتبِ، ترشفُني فناجين قهوةٍ فاحمة السواد
وبينهما، أتعرى لأغطيَ أشجارَ الطريق حتى لا تصيرَ يوماً خشباً للنعوش
أؤججُ نارَ الحقيقةِ حولي، وأعصرُ نبيذي كي تشربَه المدينة
أوصي الأصدقاء: أحلامُكم تستلقي على كتفِ جبلٍ شاهق..فلا أقل من أن تكونوا أنتم قمة هذا الجبل
من ذا الذي يحتاجُ مصباحاً سحرياً ما دام ينامُ على وسادة الأحلام
أحلامُنا هي أيامُنا التي نعيشها بالألوان الطبيعية
في نادي جبل علي، يتأملني مازن وعيناه فضاءاتٌ سحيقة. نظرتُه تخفي قدراً من الإعجابِ المشوبِ بالإشفاق
لم نأبه كثيراً للحشدِ المأخوذ بسقوط تشيلسي أمام برشلونة بقذيفة أنيستا في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم
في عينيه، كنتُ الدهشةَ التي تفوقُ المقدرة..وفي عينيَّ، كان قمرَ المودةِ الذي يضيء بالطمأنينة
عقربُ ساعتنا يَلسعُ الأمنيات، ونحن نركض في متاهات الدقائق..نضحكُ من القلب، ونشتهي مطراً بلونِ العشق



نتحدثُ عن الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث وكتابها "أكثر من طريقة لائقة للغرق"، وأقرأ عليه قصيدة كمال الدين ابن النبيه التي يقولُ فيها:
إن الذي للغرام أرشدني..... أضلني عن طريق سلوانه
أحدثُه عن خيبةِ الرجل الذي يتغزلُ في أجمل ما في المرأة، لينالَ في نهايةِ الأمرِ أقبحَ ما فيها


أحكي له عن آخر ضوءٍ على الدرب قبل انطفاء الحياة، والسماء التي يكادُ يلمسُها الرعاةُ في قمم الجبال، والقلوب التي تفرُ من التمادي في الهوى
أتجنبُ حكاياتِ دمي المُمتَحن وكيف يصبحُ العُمرُ فيضاً من القهر، مع الذين بكوا على كتفي:
إيلين عند قبرِ زوجِها على أطراف كارديف، تبكي رجلاً افترسه الفصامُ حتى انتحر
لولا، ابنة قائد الأمن السابق وهي تبكي حبَها الضائع لزميل دراسةٍ رفضَ أهلُها تزويجَها له
عُدي الكاتب وهو ينهارُ كجبل، بعد أن اغتالَ أهلُ الدَمِ أطوار بهجت، التي سقطت وحول عنقِها سلسلةٌ ذهبية تتدلى منها خارطةُ العراق
أبي وهو يبكي أمي التي رحلت مثل برقٍ خاطف
..............
ما رسمَ الحنينُ تطويه أتربةُ الدروب
تابع القراءة

gravatar

البحث عن وزير (4): تشابه أسماء




في عهد فاروق، دخل الوزارة قوادون وجلساء سوء

ووصل إلى الوزارة أشخاصٌ أهم مؤهلاتهم أنهم يملكون القدرة على إضحاك الملك
هنا يبرز اسم كريم ثابت، المستشار الصحفي للملك
ولا بد أن نوضح أنه في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، أصبحت سمعة القصر السيئة حديث القاصي والداني، وتوالت الفضائح المخزية وارتبط اسم القصر ورجاله بقضايا توريد أسلحة فاسدة وخراب ذمم وصفقات مالية مشبوهة، وبلغ الأمر ذروته باقتراب أجهزة التحقيق القضائي من أبواب القصر لتعقب الذين حامت حولهم شبهات التورط في هذه المخازي
وأصبح الإعلام يتحدث بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة عن شخصياتٍ بعينها تلعب أدواراً غير مريحة في القصر، وظهرت أسماءٌ لشخصياتٍ قامت بأدوار البطولة في ما يجري أمثال كريم ثابت المستشار الصحفي للبلاط، وإلياس أندراوس المستشار الاقتصادي للخاصة الملكية، وإدمون جهلان مسؤول التوريدات للقصر، وأنطون بوللي مدير الشؤون الخصوصية، وكفاتش مدرب الكلاب الملكية، وجارو الحلاق الملكي، وغيرهم ممن عرف الناس بأمر تورطهم في أمور غير كريمة كان للقصر دور فيها (د. عبد الوهاب بكر، البلاط الملكي ودوره في الحياة السياسية المصرية من إسماعيل إلى فاروق، دار الشروق، القاهرة، 2008)

يدلل الكاتب أحمد بهاء الدين على حظوة كريم ثابت لدى الملك بالحكاية التالية:

كان إبراهيم عبد الهادي بعد خروجه من رياسة الديوان يروي كثيراً من الصغائر التي كانت تسيء إليه، والتي تدل على نوع حياة الملك ومدى اهتمامه بمستشاريه، من ذلك أنه دخل على الملك مرة ليعرض عليه بعض الأوراق، فوجده جالساً مع كريم ثابت يتبادلان رواية النكات البذيئة باللغة الفرنسية ويضحكان في عربدة، ولما رأى الملك رئيس الديوان قال لكريم: "قول النكتة تاني بالعربي علشان الباشا ما يعرفش فرنساوي"
فرد كريم ثابت: "ولا عربي كمان"
وضج الاثنان بالضحك الشديد ورئيس الديوان واقف والأوراق في يده..لا يدري ماذا يصنع؟!

بل إن الملكة فريدة تقول عن كريم ثابت ما هو أكثر
"بلغ تأثيره على الملك لدرجة أنه أصبح يلازمه ويجالسه في سهراته وجولاته، وأصبح له نفوذ كبير على الملك، وأصبح فاروق كقطعة الشطرنج في يد كريم ثابت..وشارك في نسج شباكه حول الملك عن طريق تقديم النساء، مما جعل له حظوة ونفوذاً وتأثيراً، لذلك أنعم عليه فاروق برتبة البكوية ثم الباشوية ثم وزيراً للدولة في آخر عهد (وزارة حسين سري)"


ذات يوم التقى إلياس أندراوس المستشار الاقتصادي للملك فاروق مع القطب الوفدي فؤاد سراج الدين بعد أن قال له إنه قادم في مسألة مهمة. استوضح فؤاد سراج الدين عن تلك المسألة المهمة، فقال له إلياس أندراوس ببساطة:
إذا كنتم عاوزين تقعدوا عشرين سنة في الحكم تاخدوا كريم ثابت وزيراً
ورد فؤاد باشا سراج الدين وسط دهشته وذهوله:
أنت يا باشا مجنون؟!
وكان رد إلياس أندراوس عليه هو قوله:
"كريم ثابت مصري وصحفي درجة أولى، والمهم أنه عند الملك فرخة بكشك"
كان مصدر الرواية السابقة هو صلاح الشاهد في مذكراته (ذكرياتى في عهدين، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1977)
، الذي يضيف قائلاً: كان كريم ثابت شخصية غامضة تحوط بها الأساطير، ولا مراء أنه لعب دوراً خلال الفترة من 1946 إلى 1952 في تاريخ مصر، وكانت دسائس القصر تحدق بكريم ثابت، وكان يتغلب عليها فيعود منتصراً


ويشير وكيل الديوان الملكي حسن باشا يوسف في مذكراته (القصر ودوره في السياسة المصرية (1922-1952)، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، القاهرة، 1982) إلى أنه عندما تم تكليف علي ماهر باشا تشكيل الوزارة في يناير كانون ثانٍ 1952 اتصل به إلياس أندراوس قائلاً إن الملك يسره أن يُعين كريم ثابت وزيراً في وزارته
واعتذر علي ماهر عن عدم تنفيذ طلب الملك، ولكن حسين سري باشا وافق على الطلب الخاص بتعيين كريم ثابت عند تشكيل وزارته في 2 يوليو تموز 1952


وصباح 22 يوليو تموز 1952 عندما قرر الملك فاروق تكليف أحمد نجيب الهلالي تشكيل الوزارة، كان أول شرط للهلالي للموافقة على ذلك التكليف هو إخراج كريم ثابت من الإذاعة (وكان مستشاراً لها) وألا يدخل الوزارة

وفي حكومة نجيب الهلالي، أذيعت مراسم تأليف الوزارة، وأُبلِغَ الوزراء الجدد أن موعد حلف اليمين بعد ظهر اليوم التالي. وذهب الوزراء مع رئيسهم إلى قصر عابدين، وقيل للوزراء الجدد في القصر إن وزير الصحة قد سبقهم إلى الحضور بالملابس الرسمية. وكان الوزراء يعلمون أن د. إبراهيم شوقي قد اعتذر لنجيب الهلالي في الليلة السابقة عن عدم قبول منصب وزير الصحة، فاضطر رئيس الحكومة المكلف إلى أن يعهد إلى راضي أبو يوسف وزير الشؤون الاجتماعية بوزارة الصحة بالإنابة.. لكن الوزراء فوجئوا داخل القصر بخبرٍ أذهلهم: كان وزير الصحة الجديد الذي سبقهم إلى القصر لحلف اليمين الدستورية هو د. أحمد النقيب، أحد محاسيب الملك فاروق..فتأخر موعد حلف اليمين
واجتمع نجيب الهلالي بحافظ عفيفي أكثر من ساعة، وصمم الأول على عدم قبول د. النقيب وزيراً للصحة، ثم دُعي نجيب الهلالي لمقابلة الملك، ليدور الحوار التالي:


فاروق: لقد طلبت من النقيب أن يحضر ويرتدي الردنجوت، وهنأته بالوزارة، وجاء خصيصاً من الإسكندرية إلى القاهرة لذلك..ومعنى هذا أنك ستكسفه أمام الناس كلها. ولهذا فأنا أريد أن تأخذه وزيراً..ولو ثلاثة أيام
الهلالي: إني آسف أن أقول لجلالتك إنني لا أستطيع أن يكون النقيب وزيراً، ولقد قلت هذا للدكتور حافظ عفيفي
فاروق: قال لي حافظ هذا..ولكنني ظننت أن "ليه خاطر عندك"
الهلالي: يا مولانا..خاطرك على العين والرأس، ولو كانت المسألة تتعلق بشخصي فإنني على استعداد لأن أضحي، ولكن المسألة كما قلت تتعلق بصميم سياسة الوزارة
فاروق: إن المسألة لم تصل إلى هذا الحد، ولكني أعرف أنه لا يرضيك أن يخجل أحد رجالي أمام الخدم وهو مرتدٍ بدلة الردنجوت
الهلالي: أعرف أن هذه "كسفة"، ولكني أعتقد أنه إذا كان النقيب يحب مولانا فإنه سيتحمل هذه "الكسفة"
وإزاء إصرار الهلالي، مرت أزمة وزير الصحة بسلام


وفي مشاورات تشكيل وزارة نجيب الهلالي وقعت سلسلة أحداثٍ طريفة وغريبة، فقد اقترح حافظ عفيفي اسم القائمقام إسماعيل شيرين زوج الأميرة فوزية وزيراً للحربية، لكن نجيب الهلالي رفض هذا الاقتراح. وبدأ البحث عن وزراء للأشغال والزراعة والصحة..ووزير مسيحي. قيل لنجيب الهلالي إن يوسف سعد المفتش بوزارة الأشغال خير من يصلح لوزارة الأشغال، فاتصل به هاتفياً وعرض عليه الاشتراك في الوزارة فوافق..ثم عاد البحث عن وزير مسيحي ثانٍ، فاقترح الصحفي علي حمدي الجمال - وكان موجوداً في منزل نجيب الهلالي- اسم مريت غالي، فاتصل به رئيس الوزراء، وطلب غالي إمهاله بعض الوقت..وبعد ساعةٍ أبلغ رئيس الوزراء قبوله المنصب الوزاري


وبدأ البحث عن وزير الزراعة، وكان المرشح لهذا المنصب محمد سعيد لطفي، لكن تبين أنه في الخارج، فعرضت أسماء كثيرة لم يقبلها نجيب الهلالي. والطريف أنهم أحضروا "الدليل المصري" للبحث عن اسم يصلح وزيراً للزراعة. وقفز اسم حسين كامل الشيشيني، وطُلِبَ من رجال "البوليس المخصوص" أن يعثروا عليه


وللاعتبارات الوطنية دورها في تشكيل عددٍ من وزارات مصر


ففي 2 يناير 1924 اكتسح حزب الوفد الانتخابات العامة. وأثناء تشكيل الوزارة اعترض الملك فؤاد على تعيين اثنين من الأقباط وزيرين في وزارة تضم في مجملها -بمن في ذلك رئيس الوزارة- عشرة أعضاء. واحتج الملك فؤاد بأن الشارع المصري قد لا يرضى عن هذا التعيين، فقال سعد زغلول: أنا زعيم الأمة وأعرف نبض الشارع المصري. وأصر سعد زغلول على رأيه، ليتولى مرقص حنا بك وزارة الأشغال العمومية، ويتولى واصف بطرس غالي أفندي وزارة الخارجية (لمعي المطيعي، موسوعة نساء ورجال من مصر، دار الشروق، القاهرة، 2003)


ويقول د. محمد حسين هيكل باشا (مذكرات في السياسة المصرية، ج1، دار المعارف، القاهرة، 1977، ص 180) إنه "..في اليوم الذي تألفت الوزارة فيه فتح كثيرون عيونهم واسعة من شدة الدهشة. لقد لف الناس منذ عشرات السنين، وفي عهد الإنجليز أنفسهم أن يكون في الوزارة قبطي واحد، أما سعد فقد أخذ في وزارته اثنين من الأقباط". واستمرت تلك الوزارة في الفترة بين 28 يناير كانون ثانٍ 1924 و24 نوفمبر تشرين ثانٍ 1924


ولم يكن الإنجليز بعيدين عن اختيار رؤساء الحكومات، ولعل أبرز مثل على ذلك هو حادث قصر عابدين الشهير في 4 فبراير 1942 عندما حاصرت الدبابات البريطانية القصر وأجبر السير مايلز لامبسون السفير البريطاني في مصر الملك الشاب فاروق على تعيين مصطفي النحاس باشا زعيم حزب الوفد رئيساً للوزراء بعد أن هدده بخلعه من عرشه. وفي أعقاب تصريح 28 فبراير 1922 - الذي اعتبره البعض أساساً لاستقلال مصر، ورآه سعد زغلول "أكبر نكبة على البلاد"- استشار الإنجليز عدلي يكن فيمن يشكل الوزارة، فقال قوله المشهور: "عدلي هو ثروت، وثروت هو عدلي"


وقد كان!


وهكذا شكَّل عبد الخالق ثروت وزارته في اليوم التالي للتصريح لتدوم هذه الحكومة في الفترة بين أول مارس آذار 1922 و29 نوفمبر تشرين ثانٍ 1922، وهي الوزارة التي عمدت إلى التنكيل بقيادات ورموز حزب الوفد، فألقي القبض على حمد الباسل ومرقص حنا وواصف غالي وعلوي الجزار وويصا واصف ومراد الشريعي وجورجي خياط في يوليو تموز 1922، وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام في 14 أغسطس آب 1922


الأغرب أنه في إبريل نيسان 1927 شهدت مصر موجة من اضطهاد الوفديين والوطنيين ولاح في الأفق احتمال حل مجلس النواب وإلغاء الحياة البرلمانية، فرأى زعيم الوفد سعد باشا زغلول ترشيح عبد الخالق ثروت لرئاسة الوزارة. وافق ثروت على تشكيل الوزارة، بعد أن رشحه لها زعيم الأمة آنذاك، وأخذ ثروت يتقرب من الوفد، وشكَّل وزارة (25 إبريل 1927- 16 مارس 1928) ضم إليها عدداً من الأحرار الدستوريين وعدداً من المنتمين إلى الوفد


وأثناء تشكيل حكومة الوفد في يناير كانون ثانٍ 1950، فوجىء إبراهيم فرج بزعيم الوفد مصطفى النحاس يقول له: "هات الردنجوت وتعال يا إبراهيم"، وإذا بالنحاس يختاره وزيراً للشؤون البلدية والقروية في حكومة النحاس باشا السابعة (12 يناير 1950- 27 يناير 1952)
وبهذا رد النحاس باشا على موقف الملك فاروق من الوفدي العتيد إبراهيم فرج الذي كان شديد الولاء على طول الخط لبلدياته مصطفى النحاس (سمنود، محافظة الغربية)
وكان فاروق قد رفض الموافقة على القرار الذي نشرته صحيفة "المصري" في 6 أكتوبر تشرين أول 1943 بشأن تعيين إبراهيم فرج مدير المستخدمين في وزارة الداخلية قاضياً في المحاكم المختلطة ضمن حرة تنقلات وترقيات واسعة


على أن الوزارة في مصر كانت تعاني من مشكلات تتعلق أحياناً بشخص رئيس الوزراء. فعلى سبيل المثال، ومع أواخر صيف 1951، كان زعيم الوفد مصطفى النحاس باشا غائباً في عالم خاص به وصفه السفير البريطاني السير رالف ستيفنسون يوم 15 يونيو حزيران 1951 في خطاب إلى هربرت موريسون وزير الخارجية البريطانية قائلاً:
"إن النحاس (باشا) لا يقوم بأي عمل على الإطلاق، ويبدو من كل ما أسمعه أنه يقضي معظم يومه في الحمام، فقد أُصيب بمرض النظافة، ويضَيع ساعات في العناية ببدنه، والواقع أن برنامجه كما بلغني من أقرب الناس إليه أنه منذ استيقاظه وحتى الساعة الحادية عشرة والنصف موجود في غرفة النوم أو في الحمام، وقُرب الثانية عشرة ظهراً يخرج ليجري مقابلة أو مقابلتين أو يقرأ بنفسه ـ أو يسمع ورقة أو ورقتين تُتْلى عليه، ثم يعود إلى جناحه يختفي فيه من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الساعة السابعة مساءً، حين يظهر في صالون بيته ويتناول عشاءه ثم يأوي إلى فراشه في الساعة التاسعة"


ويضيف السير رالف ستيفنسون بعد ذلك قائلاً: "لقد جاءني أحد أصدقاء أسرته وهو توفيق مفرج (رجل أعمال ثري من أصل لبناني)، وخلال حديثه معي وجدته حريصاً أن يفضي إليّ بأن النحاس (باشا) أبلغه بأنه لم يعد يهمه أن تخرج القوات البريطانية من مصر. ويضيف مفرج قائلاً "إن ذلك هو أيضا رأي زينب هانم (زينب الوكيل زوجة النحاس)"!
في تلك الأيام كانت وساوس النحاس الصحية قد بلغت أشدها، حتى إنه عندما كان يضطر إلى الخروج من بيته لمناسبة لا يستطيع أن يتخلف عنها، كان يتبعه باستمرار سكرتير (وأحياناً ضابط من حراسته الخاصة) ـ يحمل زجاجة كولونيا لكي يغسل بها الباشا يديه (محمد حسنين هيكل، سقوط نظام!: لماذا كانت ثورة يوليو 1952 لازمة؟، دار الشروق، القاهرة، 2003، ص 333)

غير أن النحاس -وكان قد تخطى آنذاك السبعين من عمره- ظل زعيماً للوفد ورئيساً للوزارة


ويشير علي أمين في كتابه "هكذا تحكم مصر!" (القاهرة، 1951) إلى أن النحاس أدخل في وزارته السابعة (يناير 1950) كلاً من محمود أبو الفتح، وسليمان غنام، ومصطفى نصرت، وأحمد حمزة، ثم يس أحمد باشا، نكاية في مكرم عبيد باشا، صديقه التاريخي وخصمه اللدود لاحقاً
وعندما قرأ النحاس أسماء الوزراء الذين اختارهم أثناء اجتماعٍ ضم هؤلاء المرشحين، اعترض محمد الوكيل على اختياره وزيراً للاقتصاد، وقال: إنني أطالب بوزارة التجارة، فأنا تاجر وأبي كان تاجراً!
فقال النحاس: ولكن غنام وزير تجارة
فقال الوكيل: انقلوا غنام من التجارة إلى التموين أو إلى الاقتصاد!
لكن غنام اعترض، وحدث هرجٌ ومرجٌ، إلى أن تدخل فؤاد سراج الدين المرشح وزيراً للداخلية للتوفيق بين الجانبين، بحيث يبقى الوكيل وزيراً للاقتصاد وغنام وزيراً للتجارة
وأثناء تشكيل الوزارة أخذ النحاس باشا يعتصر ذاكرته بحثاً عن مرشح لوزارة التموين، ثم قال: هناك مستشار كويس اسمه فرحات، أنا فاكر شكله بس ناسي اسمه الكامل..فرحات اللي كان قاضي في الإسكندرية وله حُكم عظيم في قضايا المظاهرات
فقال عبد الفتاح الطويل باشا: مرسي فرحات!
فرد النحاس: تمام، مرسي فرحات. روح اطلبه يا فؤاد (سراج الدين) في التليفون واعرض عليه الوزارة
واتصل فؤاد سراج الدين بمرسي فرحات وعرض عليه وزارة التموين، وقبلها الأخير، فطلب منه الحضور إلى قصر القبة لحلف اليمين قبل العاشرة مساء
وفي الموعد المحدد لمح النحاس باشا شخصاً غريباً لا يعرفه، فسأل:
من هذا؟
فقيل له:
مرسي فرحات وزير التموين!
فقال النحاس: أبداً..مش هو! ده واحد تاني!
فقيل للنحاس: ولكنك كتبت اسمه في المرسوم ولم يبق إلا دقائق لتتشرفوا بلقاء الملك
واستسلم النحاس للأمر الواقع. وعند خروج الوزراء في أعقاب مقابلة الملك، صاح النحاس باشا في الوزراء:
افتكرته..افتكرته. اسمه قطب فرحات، موش مرسي فرحات
غير أن هذا التذكر جاء بعد فوات الأوان. وبقي قطب فرحات بك مستشاراً، ومرسي فرحات وزيراً


لم تكن تلك حالة استثنائية، فقد تولى البعض الوزارة بسبب تشابه الأسماء أو اختلاطها على من يختارون المرشحين للوزارة


فقد جرى تعيين عبد المجيد عبد الحق وزير دولة في حكومة النحاس الأخيرة، ولعبد المجيد عبد الحق شقيق أكثر شهرة نال الوزارة قبله وعمل وزيراً للشؤون الاجتماعية وللأوقاف والتموين. وحين دخل عبد المجيد عبد الحق قيل أيضاً إن المقصود كان هو عبد الحميد عبد الحق وقد أخطأ السكرتير أو مدير المكتب وطلب عبد المجيد عبد الحق بدلاً من عبد الحميد (وكلاهما ينتميان إلى عائلة شهيرة من مركز أبو قرقاص في محافظة المنيا). الرواية تبدو جائزة لأن عبد الحميد كان أكثر شهرة، وكان صديقاً لأهل الفن والصحافة إلى درجة أن الموسيقار محمد عبد الوهاب غنى له أغنية ألفت خصيصاً لمساندته في الانتخابات البرلمانية وكان مرشحاً عن دائرة السيدة زينب في منتصف الأربعينيات على الرغم من مقاطعة الوفد لهذه الانتخابات. وكانت أغنية عبد الوهاب تقول: "يا أهل الحي.. يا أهل الدائرة.. يا مجاورين السيدة نظرة "حلفتكم بالست الطاهرة" لتجاوبوا وتقولوا الحق.. تنتخبوا مين؟ عبد الحق"
ويشكك البعض في قصة عبد المجيد عبد الحق رغم حدوثها بناء استناداً إلى أن أخاه عبد الحميد كان قد عمل وزيراً في وزارة إبراهيم عبد الهادي عام 1949، وهكذا كانت عودته إلى الوزارة مع الوفد 1950 مستبعدة بعض الشيء


وفي مارس آذار 1968 كان د. إسماعيل غانم الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة عين شمس وعميد الكلية مرشحاً للوزارة، وحدث أن سكرتارية الرئيس جمال عبد الناصر اتصلت بالدكتور حافظ غانم وكان أستاذاً هو الآخر في كلية الحقوق في جامعة عين شمس أيضاً، وهكذا جاء د.حافظ غانم وزيراً للسياحة في وزارة الرئيس عبد الناصر الأخيرة، وقادت المصادفة إلى ما هو أكثر من هذا، فقد أقيل د. محمد حلمي مراد فجأة من منصب وزير التربية والتعليم، وهكذا أصبح محمد حافظ غانم وزيراً للتربية والتعليم. لكن الفرصة لم تضع من د. إسماعيل غانم بل بالعكس سعت إليه مرتين ودخل الوزارة وخرج منها، ثم عاد ودخلها في حالة من الحالات القليلة في عهد الثورة. ففي 15 مايو أيار 1971 وقع الاختيار على إسماعيل غانم ليكون وزيراً للثقافة في وزارة د. محمد فوزي، وكان د.حافظ غانم لا يزال وزيراً للتربية والتعليم، في حين كان إسماعيل غانم قد تولى بعد العمادة منصب وكيل جامعة عين شمس. وقد بقى الغانمان معاً في مجلس الوزراء منذ مايو أيار 1971 وحتى سبتمبر أيلول 1971، حيث خرج الأحدث وهو د.إسماعيل غانم


ومن حسن حظ الأخير أنه تولى عند خروجه مباشرة منصب مدير جامعة عين شمس، ثم عاد إلى دخول الوزارة مرة ثانية بعد عامين ونصف العام عند تشكيل وزارة الرئيس السادات الثانية في إبريل نيسان 1974 كوزير للتعليم والبحث العلمى، وكان أول قانوني يتولى وزارة البحث العلمي (على نحو ما فعل د. مفيد شهاب لاحقاً) واستمر إسماعيل غانم في الفترة بين 26 إبريل 1974 و15 إبريل 1975 وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي في وزارة الرئيس السادات الثانية ووزارة د. عبد العزيز حجازي الذي كان عميداً لتجارة عين شمس قبل أن يختار وزيراً للخزانة، في الوقت نفسه الذي كان إسماعيل غانم عميدا ًللحقوق في عين شمس ومرشحاً فيه لدخول الوزارة في مارس آذار 1968


ومن الطريف أن د. محمد حافظ غانم كان قد ترك الوزارة بعد إسماعيل غانم بأقل من ثلاثة أشهر حين شكل د. عزيز صدقي وزارته في يناير كانون ثانٍ 1972، وبقي د.حافظ غانم في مناصب رفيعة القدر في الاتحاد الاشتراكي وصلت إلى أن تولى منصب الأمين العام للجنة المركزية، ثم اختير نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للتعليم العالي في وزارة ممدوح سالم في الفترة بين 16 إبريل 1975 و18 مارس 1976 ليخلف صاحب اللقب نفسه في وزارة التعليم العالي، وإن كان يحظى بحكم أقدميته بمنصب نائب رئيس الوزراء، وكأنه "أي حافظ غانم" نال الوزارة بدلاً منه في 1968 وخلفه فيها عند خروجه منها لآخر مرة في 1975، وهكذا فإن هناك غانماً تولى وزارتي البحث العلمي والثقافة بالإضافة إلى التعليم العالي وهو أستاذ القانون الخاص د. إسماعيل غانم، وهناك غانم آخر تولى وزارة التربية والتعليم قبل أن يتولى التعليم العالي، وهو أستاذ القانون الدولي د. محمد حافظ غانم، وكلاهما دخل الوزارة وخرج منها وعاد إليها، وكلاهما أستاذ في حقوق عين شمس، لكن صاحب المصادفة نال حظاً أكثر من المرشح الأصلي

ويروي د. جلال أمين (ماذا علمتني الحياة؟، دار الشروق، القاهرة، 2007) الحكاية بطريقةٍ ساخرة قائلاً: "وقد تناقل الناس بعد ذلك قصة طريفة أعتقد أنها صحيحة، وهي أن عبد الناصر أثناء اختياره للوزراء الجدد عبّر عن رغبته في أن يدخل الوزارة "غانم بتاع الحقوق"، دون أن يلتفت إلى أن في كلية الحقوق غانمين وليس غانماً واحداً، العميد والوكيل. وأغلب الظن أنه كان يقصد إسماعيل غانم، فهو، وليس الدكتور حافظ غانم، المعروف بميوله الاشتراكية وباستقلاله في الرأي. ولكن لسببٍ ما عرضت الوزارة على الوكيل دون العميد"


وفي عهد السادات، رشح محيي الدين عبداللطيف وزيرا للنقل في وزارة السادات الأولى في مارس آذار 1973 لكنه بدلاً من أن يتم استدعاؤه استدعي شقيقه الحسيني عبد اللطيف وعين وزيراً للنقل. كان الحسيني عبد اللطيف من المهندسين العسكريين المميزين أما محيي الدين عبد اللطيف فعُوِضَ عن هذا واختير محافظاً للقليوبية (نوفمبر تشرين ثانٍ 1974 – نوفمبر تشرين ثانٍ 1976)، ثم عُيِنَ نائباً لوزير المواصلات، وبقي في هذا المنصب الرفيع فترة طويلة، فلما طال العهد بسليمان متولي في المنصب الوزاري آثر محيي الدين عبد اللطيف الاستقالة من منصب نائب الوزير واحتفظ برئاسة لجنة النقل والمواصلات في مجلس الشعب


وليس لأحدٍ بعد هذا أن يستغرب المصدر الذي استقى منه كاتب السيناريو وحيد حامد شخصية بطل فيلمه "معالي الوزير" (2002، إخراج سمير سيف) الذي لعب دوره أحمد زكي


وفي الوزارة، كما في الحياة، ينطبق المثل العامي القائل: "قيراط حظ.. ولا فدان شطارة"

تابع القراءة

gravatar

البحث عن وزير (3): رفاق السلاح



كان أحد أحلام الرئيس جمال عبد الناصر هو اختيار امرأة لشغل منصب وزيرة
يقول الكاتب الصحفي مصطفى أمين: "في عام 1960 قلت للرئيس جمال عبد الناصر إنني أرى أن مجلس الأمة يحترم العضوتين وأن الوقت ملائم لكي نعين وزيرة وبهذا تكون مصر هي أول دولة عربية تعين وزيرة، ودارت بيننا مناقشة اقتنع في نهايتها بفكرتي
وفجأة دخل المشير عبد الحكيم عامر فقال لي الرئيس:
قل له على فكرتك عن المرأة!
فهب عبد الحكيم عامر واقفاً وخلع حزام بذلته العسكرية وحلف بالطلاق قائلاً: "عليّ الطلاق بالثلاثة لو ست دخلت مجلس الوزراء لأخرج أنا منه"!
ويقول مصطفى أمين: وماتت الفكرة، وبعد عامٍ أو اثنين كلمني الرئيس تليفونياً وقال لي إن عبد الحكيم عامر سوف يعين نائباً للقائد الأعلى وسيتولى وزارة الحربية شخصٌ آخر، وما دام قد خرج من الوزارة فهي فرصة لتعيين وزيرة، وقال لي عبد الناصر: عندكم في أخبار اليوم أحسن أرشيف، فاختر لي أحسن 10 نساء في مصر وأرسل لي صورهن وتاريخ حياتهن

وفعلاً نزلت الأرشيف واخترت عشراً، بينهن أمينة السعيد وكريمة السعيد وفاطمة عنان المفتشة في وزارة المعارف وعائشة راتب وكانت وقتها أستاذة في الجامعة، واقترحت أن تعين أم كلثوم وزيرة للثقافة والفنون الجميلة، واخترت أيضاً عزيزة أحمد حسين، وكانت آخر سيدة في القائمة حكمت أبو زيد، وأرسلت للرئيس الصور ولم يرد عليّ
وبعد فترة تألفت الوزارة، وفوجئت بأن حكمت أبو زيد عُينت وزيرة رغم أنها رقم 10 بين السيدات اللاتي أرسلت أسماءهن للرئيس، فاتصلت به وسألته:
لماذا اخترت حكمت أبو زيد؟
فقال: "لأنها أوحش واحدة"
(رشاد كامل، حياة المشير عبد الحكيم عامر، دار الخيّال، القاهرة، 2002، ص 139-140)
وهكذا شاءت تصاريف القدر أن تصبح ابنة قرية الشيخ داود بالقوصية محافظة أسيوط، أول وزيرة عربية
شعورٌ بالاستغراب والدهشة سيطر على أستاذة القانون الدولي د. عائشة راتب حين نشرت الصحف المصرية في صفحتها الأولى في 12 نوفمبر تشرين ثانٍ ١٩٧١ خبر تعيين د. عائشة - والتي كانت آنذاك في الثالثة والأربعين من العمر- وزيرة للشؤون الاجتماعية

ففي أعقاب انتخابها لعضوية اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي شاركت في المؤتمر العام وكان النقاش دائراً حول الدستور. ولأنها كانت قانونية فقد ذهبت لزملائها في الكلية وسألتهم عن اعتراضاتهم على مواد الدستور، وجمعت آراءهم. كان النقاش حول اختصاصات رئيس الجمهورية حين اعترضت د. عائشة راتب على توسيع اختصاصات رئيس الجمهورية وظلت تقول "لا يجوز" و"لا يليق" وفق ما هو مدون في محاضر الجلسة الرسمية. استمرت الجلسة ثلاث ساعات وهي مصرة على الرفض فأرسل لها البعض ورقة وقالوا لها فيها "ارحمينا يا دكتورة عائشة"
تقول د. عائشة راتب: "وكان الرئيس أنور السادات موجوداً في الجلسة في الطابق العلوي إذ كان يرأس اجتماعات اللجنة المركزية وقتها، وقد سمعت بعد ذلك منه شخصياً في اجتماع لجنة السياسات واللجنة الوزارية أنه قال للوزراء "إنتو عارفين أنا جبت الدكتورة عائشة وزيرة ليه؟ لأنها في اللجنة المركزية وأنا موجود جلست تناقش اختصاصات رئيس الجمهورية، فقررت تعيينها وزيرة"
أما عن معرفتها بالخبر، فقد أخبروها في المنزل أن مكتب وزير الداخلية اتصل بها، وكانت وقتها تلقي محاضرة في المؤتمر العمالي التابع لجامعة الدول العربية، وكانت في المحاضرات تنتقد رفض العرب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٤٧ الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين إسرائيلية وأخرى فلسطينية، وترى أنه لو قبل العرب ذلك لاختلف الوضع. اعتقدت د. عائشة راتب أن الحكومة لم يعجبها كلامها فاستدعتها. وذهبت إلى ممدوح سالم وكان وزيراً للداخلية، فأخبرها بضرورة الذهاب إلى مجلس الوزراء، فذهبت وقابلت د. محمود فوزي الذي قال لها: "يا دكتورة نحن يسعدنا ويشرفنا أن تكوني وزيرة معنا"، فقالت: "وزيرة إيه؟"، قال: شؤون اجتماعية، قالت: "أنا أستاذة قانون، مالي ومال الشؤون الاجتماعية"! فقال "الشؤون الاجتماعية كلها قوانين ونحن نريدك لذلك"
اشترطت د. عائشة راتب أن تكمل العام الدراسي مع الطلبة وأن ترجع للكلية بعد خروجها من الوزارة. وفي حجرة الوزراء جاءها صوت د. محمد حافظ سالم من آخر الغرفة يقول: "كمان بتتشرطي"، فقالت: "أنا لا أشترط إنما لابد أن أنهي التزاماتي تجاه الطلبة". بعد ذلك حلفت اليمين أمام الرئيس وأصبحت ثاني وزيرة للشؤون الاجتماعية في مصر (عائشة راتب وزيرة الشؤون الاجتماعية والتأمينات في السبعينيات لـ "المصري اليوم": السادات سيدخل الجنة "حدف".. ومصر كلها مديونة لي، جريدة "المصري اليوم"، 4 سبتمبر 2008)

صداقات رفاق السلاح منحت فرصة للضباط الأحرار كي يستوزروا
فقد أصبح المشير عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وحسين الشافعي وزراء للحربية أثناء عهد الثورة

وحين تشكلت برئاسة علي ماهر الوزارة الأولى في عهد الثورة، والتي تحمل الرقم 70 في تاريخ مصر الحديث، تولى رئيس الوزراء في هذه الوزارة ثلاث وزارات بالإضافة إلى منصب رئيس الحكومة، في حين تولى مدير مكتبه وصديقه الحميم إبراهيم عبد الوهاب وزارتين، وبقيت الوزارة الخامسة عشرة في تلك الحكومة وهي وزارة المواصلات بلا وزير، ثم عُيِنَ لها بعد أسبوع وزير تولاها لمدة يوم أو يومين بصفة شكلية حتى يكون مؤهلاً لمنصب أعلى، وهو رشاد مهنا مرشح الضباط الأحرار لعضوية مجلس الوصاية
وفي الوزارة التالية، وهي وزارة الرئيس محمد نجيب الأولى، تولى فتحي رضوان منصب وزير الدولة، وسرعان ما أنشئت وزارة الإرشاد القومي. ويذهب البعض إلى القول بأن هذه الوزارة أسست لفتحي رضوان أو أنه أسسها هو بنفسه، خاصة أنه كان على علاقة قوية بمجلس قيادة الثورة وبالذات جمال عبد الناصر، مثلما كانت الحال بالنسبة للرئيس أنور السادات وكل من سيد مرعي وعثمان أحمد عثمان اللذين ارتبط بهما السادات بعلاقات مصاهرة
ويروي فتحي رضوان لضياء الدين بيبرس كيف أنه لم يمض 24 ساعة على الاجتماع الذي عقده قادة الثورة للتعارف معه والاستماع إلى آرائه حتى فوجىء باختياره عضواً في الوزارة الجديدة. بل إنه يؤكد أنه في ذلك اليوم اعتذر عن عدم دخول الوزارة أكثر من 20 مرشحاً، منهم محمود محمد محمود ومريت غالي وإبراهيم بيومي مدكور وحامد سليمان وحفني محمود. وكانت طريقة الاستدعاء لدخول الوزارة في بعض الأحيان من أسباب الاعتذار عن عدم دخولها. فعلى سبيل المثال، حفني محمود كان مسافراً إلى الإسكندرية في الطريق الصحراوي، فلحقت به سيارة جيب من سيارات الشرطة العسكرية وأعادته إلى القاهرة من دون أن تقدم له سبباً واضحاً؛ لأن قائد الحملة نفسه لم يكن يعلم السبب. وبهذه الطريقة دخل حفني محمود مجلس قيادة الثورة وهو يظن أنه مطلوب للاعتقال، فلما عرف أنه مرشحٌ للوزارة اعتذر في الحال (ضياء الدين بيبرس، فتحي رضوان يروي أسرار حكومة يوليو، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1967)
ويشير فتحي رضوان إلى أنه هو الذي أقنع عبد الناصر باختيار الشيخ أحمد حسن الباقوري كمرشحٍ للإخوان المسلمين وزيراً للأوقاف، في حين كان عبد الناصر يميل إلى اختيار مرشحٍ إخواني آخر هو حسن العشماوي. أما مسوغات اختيار الباقوري فيرويها فتحي رضوان كالتالي: "فقلت له "عبد الناصر" مبرراً ترشيحي.أنا عاوز في الوزارة دي "عمامة" وعاوزها على رأس شاب. والشيخ الباقوري خطيب ووسيم، ودخل السجن وقاسى أهوال المعتقل، فهو صورة للأزهري غير الصورة المعروفة عنه للناس"
ويحكي عثمان أحمد عثمان في مذكراته عن استدعاء الرئيس أنور السادات له في أكتوبر تشرين أول 1973. في بادىء الأمر، لم يكن عثمان يعرف الغرض من المقابلة التي استمرت ساعة ونصف الساعة كاملة، تحدث السادات فيها عن تصوراته لإعادة المياه إلى منطقة القناة..إلى أن يقول مؤلف الكتاب: "قال لي الرئيس هيا يا عثمان. تصورت أن المقابلة قد انتهت، فقلت: أتركك بخير يا سيادة الرئيس، قال إنه أصدر قراراً بتعييني وزيراً للتعمير. وكانت مفاجأة أخرى بالنسبة لي، مفاجأة سعيدة لا أتمناها، لذلك قلت: إنني أستطيع أن أقوم بهذا الدور على أحسن ما يكون.. وأنا خارج الوزارة يا سيادة الرئيس. وقال: إن تعمير القناة يحتاج إلى وزير
(عثمان أحمد عثمان، صفحات من تجربتي، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 1981)
في تلك المقابلة، قال له السادات أيضاً: "عثمان، أنا عاوزك وزير تعمير عشان أضمن إن كل حاجة تمشي مضبوط"
وعندما سأل السادات عن مصور الرئاسة لكي يلتقط صور حلف عثمان أحمد عثمان لليمين الدستورية، تبين أنه ذهب إلى منزله..في حين لم يكن فوزي عبد الحافظ سكرتير السادات، وحسن كامل رئيس الديوان، على علمٍ بالمقابلة التي يبدو أنها فكرة خطرت على ذهن السادات فجأة. وهكذا تم استدعاء المصور فوراً، ليؤدي عثمان اليمين الدستورية وهو يشعر بحجم المفاجأة وهكذا اختير عثمان وزيراً للتعمير في حكومة د. عبد القادر حاتم في 28 أكتوبر تشرين أول 1973، ليظل في الوزارة لمدة ثلاث سنوات عاصر أثناءها ثلاث حكومات متعاقبة. فقد اختير وزيراً للإسكان والتعمير في حكومة د. عبد العزيز حجازي في 26 سبتمبر أيلول 1974، ثم احتفظ بالحقيبة الوزارية نفسها في حكومة ممدوح سالم في 16 إبريل نيسان 1975، إلى أن خرج من الوزارة في نوفمبر تشرين ثانٍ 1976وحكاية عثمان مع السادات تبدأ عندما كان الاثنان يسكنان متجاورين في منطقة الهرم قبل ثورة يوليو 1952، ومن ثم تعارفا وتوطدت العلاقة بينهما لتصبح في فترة من الفترات أشبه بالتوأمة. ويؤكد عثمان أنه كان بينه وبين السادات نوع من "التوافق النفسي"، فقد كانا جارين وبينهما "عِشرة عمر"
يقول عثمان: "عندما أُعلِنَت أسماء وأعضاء مجلس قيادة الثورة لم أجد في الأسماء من أعرفه إلا محمد أنور السادات الذي عاش خلال مراحله الأولى فترة في الإسماعيلية، ثم رأيته في بورسعيد عقب العدوان الثلاثي عام 1956. وكنت قد حضرت من السعودية خصيصاً لكي تشارك شركتي في تعمير بورسعيد، وذهبت أزوره في بيته وفتح لي باب منزله بنفسه وهو يرتدي الجلباب. وكلفني ذات يومٍ بإدخال بعض التعديلات على منزله، وطلب أن نبني فيللا لابنته، ثم طلب بناء فيللا لكريمته الثانية. وتكررت الزيارات العائلية"
ويبدو أن هذه العلاقة القوية بين عثمان والسادات كانت وراء موافقته على تولي منصب وزاري، إذ كان الأول قد سبق له في شتاء 1960 رفض عرض من المشير عبد الحكيم عامر بأن يتولى من منصب وزير السد العالي، إذ قال له عثمان رداً على العرض المذكور: "أنا أنفعكم كمقاول، ولا أنفع مصر إلا كذلك يا سيادة المشير"!
وتكشف حكاية سيد مرعي مع المنصب الوزاري جزءاً من لعبة شد الحبل بين القيادة السياسية والمرشح للوزارة
لقد اشترك في الوزارة عام 1956 كوزير دولة للإصلاح الزراعي، ثم وزيراً للزراعة عام 1957 بالإضافة إلى الإصلاح الزراعي، ووزيراً للزراعة عام 1958 "الإقليم الجنوبي" أثناء تجربة الوحدة مع سوريا، ثم وزيراً مركزياً للزراعة والإصلاح الزراعي حتى أكتوبر تشرين أول عام 1961 "في أعقاب الانفصال"، وعاد وزيراً للزراعة بعد حرب 5 يونيو حزيران 1967، وفي سبتمبر أيلول 1970 وأصبح في نوفمبر 1971 نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الزراعة والري، ووزيراً للزراعة والإصلاح الزراعي
وفي أكتوبر تشرين أول 1957 كان المهندس سيد مرعي يشغل منصب وزير الدولة للإصلاح الزراعي، حين فوجىء في أحد اجتماعات مجلس الأمة المصري بوزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية علي صبري يناوله ورقةً صغيرة موجهة له تقول سطورها: "إن الرئيس جمال عبد الناصر يريد أن تتولى وزارة الزراعة إلى جانب عملك كوزير دولة للإصلاح الزراعي
وبعد الاجتماع جلس سيد مرعي مع علي صبري وأوضح له دوافع اعتذاره عن عدم قبول المنصب، وفي الوقت نفسه يبلغ الرئيس عبد الناصر اعتزازه بهذه الثقة من جانبه
وباقي ما جرى يرويه المهندس سيد مرعي في مذكراته كالتالي:
"في اليوم التالي دعاني الرئيس عبد الناصر للغداء معه، وكان علي صبري قد أبلغه برفضي لوزارة الزراعة، وذهبت إلى بيته في منشية البكري ووجدت هناك المشير عبد الحكيم عامر، ودارت أحاديث عادية على الغداء ولم يفتح الرئيس الموضوع ولم يشر إليه. وبعد أن انتهينا من تناول الغداء جلسنا في الصالون نحن الثلاثة وحدنا، والتفت إليَّ المشير عامر وقال لي فجأة:
- هل يجرؤ إنسان في مصر أن يعترض على قرار يصدره جمال عبد الناصر؟
وفهمت على الفور مقصده وقلت له:
- لا طبعاً.. هي المسألة مش رفض لأمر أو اعتراض على قرار..إنما هي مسألة هل الإنسان يستطيع القيام بالعمل المطلوب منه أو لا يستطيع؟
قال لي عبد الحكيم عامر:
ما توضح كلامك.. إيه المسألة بالضبط؟
فقلت له: في الحقيقة هناك اعتباران جعلاني أعتذر عن وزارة الزراعة.. الأول انشغالي بالإصلاح الزراعي، والثاني وهو الأهم وجود مديرية التحرير
وتدخل الرئيس عبد الناصر في الحديث وقال لي:
- طيب بنشيل مديرية التحرير من وزارة الزراعة.. إذا كانت هي دي المشكلة"
ويختتم سيد مرعي الواقعة السابقة بقوله:
"ولم تعد لي حجة أخرى، فقلت له: وأنا أقبل وزارة الزراعة على هذا الأساس" (سيد مرعي، أوراق سياسية ــ الجزء الثالث، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 1977)

أما الدكتور أحمد خليفة فيروي في مذكراته "الرأي والرأي الآخر" كيف أنه في 29 سبتمبر أيلول 1965 كان في منزله يقوم بتنظيف وطلاء حذائه، حين دق جرس الهاتف، حيث أبلغه سكرتير زكريا محيي الدين بأن الأخير يطلب لقاءه في منزله صباح اليوم التالي. وفي الموعد المحدد عرض عليه زكريا محيي الدين منصب نائب الوزير لوزارتي الشؤون الاجتماعية والأوقاف. وبعد تشكيل وزارة صدقي سليمان في سبتمبر أيلول 1977 التي أصبح فيها د. أحمد خليفة وزيراً للأوقاف والشؤون الاجتماعية، سأل د. خليفة الرئيس جمال عبد الناصر عن سبب تكليفه بوزارةٍ يعلم مسبقاً أنه غير مُلِم بأوضاعها، فكان رد عبد الناصر "يمكن علشان تكمل بناء الجامع"، ويقصد الجامع الذي أصبح يحمل الآن اسم عبد الناصر ويضم ملحقه الآن رفات الرئيس الراحل
ويتعين ألا ننسى أن د. ثروت عكاشة أحد أبرز وزراء الثقافة في تاريخ مصر فوجىء بخبر اختياره للمنصب الوزاري عبر أثير الإذاعة
فقد كان د. عكاشة مع زوجته يشغلان مقعدين في أحد الصفوف الأمامية من دار الأوبرا في العاصمة الإيطالية روما في مساء 8 أكتوبر تشرين أول 1958. وبعد أن انتهى العرض الممتع وغادر الأوبرا، أخذ يستمع كالعادة إلى نشرة أخبار الحادية عشرة من إذاعة القاهرة، فأصيب بدهشةٍ بالغة عندما وجد أن الخبر الأول يذيع اسمه كوزير للثقافة ضمن تشكيلٍ وزاري جديد. ويروي الرجل في مذكراته (ثروت عكاشة، مذكراتي في السياسة والثقافة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988) أنه عاد إلى مصر فوراً وطلب من الرئيس جمال عبد الناصر إعفاءه من شغل المنصب الوزاري الذي لم يُستشر في أمر إسناده إليه، لكن عبد الناصر أقنعه بالمنصب الوزاري، ليقدم د. عكاشة العديد من الأعمال الثقافية المهمة أثناء فترة توليه هذه الحقيبة الوزارية
أما أطرف وأغرب الاختيارات لمنصب الوزارة فقد جاءت من رفاق السجن والزنزانة
فقد اختار الرئيس أنور السادات رفيق السجن في قضية اغتيال أمين عثمان لمنصب وزير الخارجية. وقد أشار الرئيس المصري الراحل إلى محمد إبراهيم كامل ووسامة هذا السجين الأشقر في مذكراته "البحث عن الذات" (أنور السادات، "البحث عن الذات"، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 1978). الطريف أيضاً أن محمد إبراهيم كامل يروي في مذكراته "السلام الضائع في كامب ديفيد" أنه كان في زيارة لوالدته في حي الزمالك في 25 ديسمبر كانون أول 1977 قبل أن يعود إلى منزله في حدود الساعة 5:30، ليفاجأ بزوجته تبلغه بأن الراديو والتليفزيون قد أذاعا نبأ تعيينه وزيراً للخارجية خلفاً للوزير السابق إسماعيل فهمي
وفي استراحة الإسماعيلية عاتب إبراهيم كامل السادات على تعيينه وزيراً للخارجية من دون أخذ رأيه، فرّد عليه السادات قائلاً إنه سمح لنفسه بتعيينه من دون سؤاله لأنه كان في منزلة ابنه (كان السادات يكبر إبراهيم كامل بتسع سنوات) وإنه اختاره لأنه يراه شخصاً يثق فيه تماماً ويتصف بالوطنية والشجاعة. وقال السادات له: لو علمت عدد الذين كانوا يتهافتون على هذا المنصب لما أسفت" (محمد إبراهيم كامل: السلام الضائع في كامب ديفيد، كتاب الأهالي رقم 12، القاهرة، 1987)
غير أن البحث عن وزير في العهد الملكي كان بدوره أشبه بالبحث عن فضيحة
تابع القراءة

gravatar

البحث عن وزير (2): شلة باريس




يحرص الرئيس مبارك على أن يستشير بنفسه الوزراء السابقين فيمن يرونه قادراً على أن يخلفهم في مواقعهم

ولعل أبرز نموذج على ذلك هو اختيار وزير العدل السابق أحمد ممدوح لخلفه المستشار فاروق سيف النصر (1987). وأسلوب الرئيس مبارك يعتمد على السؤال والاستفسار عن عددٍ من الأشخاص من دون التركيزعلى اسمٍ بعينه أو الكشف عن اهتمامه بهذا الشخص، لأنه بطبيعته ميالٌ إلى التحفظ والتكتم
والشاهد أن مبارك يحرص على أن تكون له يدٌ في اختيار أو استبعاد الوزراء، وفقاً لتقييمه لأدائهم وانسجامهم مع الخط الرسمي للدولة
وفي حالة د. محمود أبو زيد وزير الموارد المائية والري الذي خرج من حكومة د. أحمد نظيف في 11 مارس آذار 2009، قيل كلامٌ كثير حول عدم رضاء الرئيس مبارك شخصياً عن أسلوب معالجته لقضايا المياه وحصة مصر في نهر النيل، الأمر الذي أدى في النهاية الأمر إلى خروجه من الوزارة

وترشيحات الوزراء أنفسهم قد تسهم في اختيار من يتولى المنصب الوزاري
فقد جاء د. عبد السلام عبد الغفار بترشيح من د. مصطفى كمال حلمي عندما وقع الانفصال بين وزارة التعليم العالي التي استبقاها د. مصطفى كمال حلمي لنفسه، والتربية والتعليم التي تولاها عبد السلام عبد الغفار (1984). وأسهم كمال حسن علي في ترشيح د. عصمت عبد المجيد ليصبح وزيراً للخارجية (1984) عندما أصبح الأول رئيساً للحكومة
ومن المحافظات أيضاً يخرج الوزراء، حيث إن نجاح المحافظ في أداء مهامه أو بروز اسمه إعلامياً قد يزكيه للعمل الوزاري بشكل تلقائي، وهو ما حدث لأول مرة في حالة محمد صبري زكي محافظ أسوان الذي اختير وزير دولة للصحة (1982)، ثم حدث في حالة يوسف صبري أبو طالب محافظ شمال سيناء الذي اختير وزيراً للدفاع (1982)، وفي حالة سعد الدين مأمون الذي اختير وزير دولة للحكم المحلي (1983) من منصب محافظ القاهرة، وهو ما حدث أيضاً مع د. محمود شريف (1991) بالترتيب نفسه


وقد اختير ناجي شتلة في الوقت نفسه وهو محافظ كفر الشيخ وزيراً للتموين (1993). كما حدث هذا مع أحمد جويلي محافظ الإسماعيلية الذي اختير وزيراً للتموين في أغسطس آب 1994. وفي 27 أغسطس آب 2006 صدر قرارٌ جمهوري بتعيين محمد عبدالسلام المحجوب ابراهيم وزير دولة للتنمية المحلية، وقد كان من أبرز من تولوا منصب محافظ الإسكندرية (1997-2006) واكتسب شعبية ضخمة، حيث بدأ ورشة من إعادة البناء والصيانة لعدد كبير من منشآت ومرافق المدينة العامة، ومنها كورنيش الإسكندرية الشهير. وتكررت مسألة التوزير مع ثلاثة محافظين لأسيوط اختيروا وزراء للداخلية وهم زكي بدر (1986) ومحمد عبد الحليم موسى (1990) وحسن الألفي (1993)



واختير عددٌ من الشخصيات البارزة من خارج ديوان الوزارة نفسها، كما حدث مع د. عبد العزيز كامل عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين الذي تولى وزارة الأوقاف في نهاية عهد جمال عبد الناصر، والذي احتفظ بالمنصب الوزاري في بداية عهد السادات. كذلك الحال مع د. مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة الذي اختير وزيراً للتعليم العالي (قبل أن يصبح وزير الدولة للشؤون القانونية والمجالس النيابية)، ومن قبله الشيخ جاد الحق علي جاد الحق الذي عُينَ مفتياً للديار المصرية في أغسطس 1978 ثم اختير وزيراً للأوقاف في 3 يناير كانون ثانٍ 1982، وظل في المنصب شهوراً قليلة، اختير بعدها شيخاً للجامع الأزهر في 17 مارس آذار 1982
وأصبح عادل طاهر وزيراً للسياحة (1982) بعد أن كان رئيس هيئة التنشيط السياحي. وعُينَ محمود محمد محمود وزيراً للاقتصاد في حكومة د. عاطف صدقي الثالثة (1993) وكان رئيساً لبنك مصر الدولي، ود. نوال التطاوي التي انتقلت خلال شهرٍ واحد من رئاسة بنك الاستثمار إلى عضوية مجلس الشعب، ثم إلى عضوية مجلس الوزراء كأول وزيرة للاقتصاد (1996) في تاريخ مصر



وعلى هذا الغرار، اختير المشير محمد حسين طنطاوي للدفاع (1991) وكان أحد القيادات البارزة في وزارة الدفاع، وعمرو موسى (1991) بعد أن كان سفيراً لامعاً ومندوب مصر لدى الأمم المتحدة، وعبد السلام عبد الغفار الذي اختير وزيراً للتربية (1984) وكان من أقدم عمداء كليات التربية، ود. أحمد هيكل الذي اختير وزيراً للثقافة (1985) وكان أستاذاً بالجامعة يشارك في الندوات والحوارات مع الجماعات المتشددة، وهي حوارات كانت محط اهتمام وسائل الإعلام، الأمر الذي زاد من أسهمه ورشحه للوزارة



د. يوسف والي كان أحد الذين وقعوا لحزب الوفد على بيانه التأسيسي في الشهر العقاري، وإذا بالجماهير الوفدية تفاجأ باختياره وزيراً في أول حكومة تمت فيها اختيارات جديدة في عهد الرئيس مبارك، وهي وزارة د. فؤاد محيي الدين الأولى في يناير كانون ثانٍ 1982. أما حلمي الحديدي الذي كان قد وصل إلى عضوية مجلس الشعب نائباً عن حزب العمل الاشتراكي، فقد أصبح وزيراً للصحة في حكومة د. علي لطفي (1985)، قبل أن يترك هذا المنصب عند أول تعديل
ومن رؤساء مجالس الإدارات، وبالذات في قطاع الصناعة، جاء عدة وزراء بينهم المهندس فؤاد أبو زغلة (1982) من شركة الحديد والصلب، ومحمد عبد الوهاب من شركة النصر للسيارات (1984)، وسليمان رضا (1996) من مجمع الألومنيوم في نجع حمادي، وتولوا وزارة الصناعة. وفي السياحة جاء فؤاد سلطان (1985) من رئاسة بنك مصر إيران، وفي الإسكان جاء صلاح حسب الله (1993) من رئاسة مجلس إدارة شركة المقاولون العرب. وفي الاقتصاد جاءت د. نوال التطاوي (1996) من رئاسة بنك الاستثمار العربي، وجاء محمود محمد محمود من رئاسة بنك مصر الدولي
وعلى بساط الحزب الوطني جاء وزراء إلى الحكومة، فقد اختير د. علي لطفي للوزارة وكان رئيساً للجنة الاقتصادية في الحزب الوطني، وجاء د. إسماعيل سلام من رئاسة اللجنة الصحية إلى مقعد وزير الصحة (1996)، وبالمثل جاء د. حلمي الحديدي من منصب الأمين العام المساعد للحزب إلى المقعد نفسه (1985)، وجاء د. محمود شريف من منصب الأمين السابق للشباب ليصبح وزيراً للإدارة المحلية (1991)


وفي حالة د. ممدوح البلتاجي ود. محيي الدين الغريب جاء الاختيار من الرجال الثواني في وزارة أخرى. فقد كان الأول رئيساً لهيئة الاستعلامات والرجل الثاني في وزارة الإعلام، لكنه اختير وزيراً للسياحة قبل أن يصبح وزيراً للإعلام (يوليو تموز 2004- 15 فبراير شباط 2005) لينتقل بعد ذلك وزير الشباب أنس الفقي ليحل في وزارة الإعلام محل د. البلتاجي الذي ذهب بدوره ليكون وزيراً للشباب‏. أما د. الغريب، فقد كان رئيس هيئة الاستثمار لمدة عشر سنوات (86 ـ 1996) والرجل الثاني في وزارة الاقتصاد ثم أصبح وزيراً للمالية لمدة ثلاث سنوات. غير أن الغريب تحول في 28 فبراير شباط 2002 من وزير إلى مسجون لمدة 25 شهراً، وبين يوم وليلة تحول من وزير تفتح له كل الأبواب إلى مسجون أغلق عليه باب الزنزانة، بموجب قضية الجمارك الكبرى


ومن نواب رؤساء الجامعات البارزين جاء د. أحمد هيكل للثقافة (1985)، ود. أحمد فتحي سرور للتربية (1986)، وأحمد سلامة للحكم المحلي (1986)، ود. محمود حمدي زقزوق للأوقاف (1996)، ومحمد ناجي شتلة للتموين (1983). أما من رؤساء الجامعات فجاء د. عادل عز رئيس أكاديمية السادات لوزارة البحث العلمي (1986)، ود. مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة لوزارة التعليم العالي (1997)


ومن رجال رؤساء الوزارات أنفسهم جاء عادل عبد الباقي وزيراً لشؤون مجلس الوزراء (1982) في وزارة د. فؤاد محيي الدين، ود. عاطف عبيد وزيراً لشؤون مجلس الوزراء والدولة للتنمية الإدارية (1984) في وزارة كمال حسن علي، وجلال أبو الدهب وزيرأً للتموين والتجارة الداخلية (1986) في وزارة د. عاطف صدقي، ومعه د. محمد الرزاز وزيراً للمالية ود. يسري مصطفى وزيراً للاقتصاد والتجارة الخارجية ود. أحمد فتحي سرور وزيراً للتربية والتعليم ود. أحمد سلامة وزيراً للحكم المحلي (1986)، وبالطبع وزير شؤون مجلس الوزراء طلعت حماد الرجل القوي في وزارة د. الجنزوري، وظافر البشري وزير الدولة للتخطيط في حكومة د. الجنزوري


وقد لا يعرف كثيرون أن أول وزير لقطاع الأعمال العام لم يكن هو د. عاطف عبيد، وإنما كان د. عاطف صدقي نفسه، وهكذا فإن د. عاطف عبيد ورث د. عاطف صدقي على مرحلتين، في البداية ورثه في منصبه الأحدث عام 1993 في وزارة د. عاطف صدقي نفسها كوزير لقطاع الأعمال العام وتنازل يومها عن إحدى الحقائب الثلاث التي كان يتولاها وهي حقيبة شؤون مجلس الوزراء، فيما احتفظ مع القطاع العام بحقيبتين أخريين هما التنمية الإدارية والدولة لشؤون البيئة. وفي 1997 في أثناء وزارة د. الجنزوري تنازل د. عاطف عبيد ربما بغير إرادته عن وزارتين أخريين من الثلاث التي كان يتولاها منذ 1984، وهكذا أصبح د.عبيد في 1997 يتولى وزارة التخطيط بدلاً من الوزارات الثلاث التي جمع بينها في 1984
لم يكن عاطف عبيد أول أستاذ إدارة أعمال يصل إلى منصب الوزارة، كان هناك قبله زميل له في القسم نفسه أكبر منه سناً وهو د. علي عبد المجيد عبده، الذي كان قد وصل إلى منصب وكيل كلية التجارة في جامعة القاهرة، وكان في شبابه ينتمي إلى الإخوان المسلمين. ود. علي عبد المجيد هو صاحب الفضل في اختيار زوجة د. عبيد، وهي د. نجدة محمد خميس، ابنة الوكيل السابق لجماعة الإخوان المسلمين
وقدم البرلمان والحزب الوطني رافداً آخر للوزارة
ويأتي كمال الشاذلي كنموذج بارز لهذا النوع من الاختيار، فقد كان يُوصف بأنه "الغول" و"المايسترو" تحت قبة البرلمان، إذ كان يخشاه الجميع ويحسبون له ألف حساب. غير أن كمال الشاذلي بدأ يفقد أنيابه في أعقاب تعيينه في حكومة د. عاطف صدقي الثالثة (1993) وزير دولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى. وقبله ظهر توفيق عبد إسماعيل الذي اختير وزيراً للسياحة والطيران (1982) ولشؤون مجلسي الشعب والشورى.. لكنه دخل السجن مساء يوم ١٧ يوليو تموز ١٩٩٩ في قضية نواب القروض، وكانت ليلة عيد زواجه. قضى توفيق عبده إسماعيل الليلة الأولى داخل تخشيبة الخليفة، وهو يقول إنه "لن ينسى هذا اليوم الذي نامت فيه الصراصير إلى جواره"، قبل أن تمر ٨ سنوات ويعود إلى منزله في حي الزمالك (جريدة "المصري اليوم"، الثلاثاء ٨ مايو ٢٠٠٧)

كذلك يبرز اسم د. مصطفى السعيد وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية (1982) في وزارة د. فؤاد محيي الدين الثانية. ويأتي أيضاً السيد علي السيد (1985) ووليم نجيب سيفين (1985) في وزارة د. علي لطفي. وجاء أمين الحزب الوطني في الإسكندرية د. زكي أبو عامر (1993) وزيراً لشؤون مجلسي الشعب والشورى ثم التنمية الإدارية

وبرزت قيادات عمالية لتدخل الوزارة، مثل سعد محمد أحمد وعاصم عبد الحق (1986) وأحمد العماوي (1993). وقدمت القوات المسلحة عدة وزراء بينهم وزراء مجلس قيادة الثورة، واللواء حسين صدقي الذي اختير وزيراً للإسكان في حكومة كمال حسن علي

وقد يتم اختيار الشخص لمنصبٍ وزاري لأسبابٍ تبدو غامضة، على الأقل في ظاهرها
اللواء حسن أبو باشا فوجىء بضمه إلى وزارة د. فؤاد محيي الدين التي تشكلت في أول يناير 1982، وقد أبلغه بالخبر اللواء نبوي إسماعيل الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية. فلما سأل أبو باشا عن أسباب اختياره وزيراً للداخلية، قيل له إن ذلك يعود لاعتباراتٍ داخلية عدة تحتم هذا الاختيار

وللصداقة دورٌ في التوزير

واستفاد د. عاطف صدقي من شلة باريس، وبينهم د. أحمد فتحي سرور (التربية) ود. محمد الرزاز (المالية) وفاروق حسني (الثقافة). فأما د. سرور فقد فشل في موقعه كوزير للتربية في الفترة من 11 نوفمبر تشرين ثانٍ 1986 إلى 12 ديسمبر كانون ثانٍ 1990، وقيل أيامها إنه صاحب بدعة الدفعة المزدوجة التي ضاعفت من قوة الدروس الخصوصية وأباطرتها في مصر
أما د. الرزاز فقد كان صديقاً مقرباً من د. صدقي حتى قبل الوزارة، وكثيراً ما كانا يقضيان أوقات فراغهما في لعب الطاولة (النرد). والطريف أن د. الرزاز كان أول من استدعاه د. صدقي عندما علم بنبأ تكليفه بتأليف الحكومة في مطلع يناير كانون ثانٍ 1986، وجلس معه نحو نصف ساعة في مجلس الوزراء قبل أن يتوافد عدد من الوزراء الذين اشتموا رائحة التغيير الوزاري ورأوا أنه من الضروري أن يذهبوا إلى د. صدقي لمعرفة الخبر اليقين
ويبقى اسم د. الرزاز في ذاكرة المصريين مرتبطاً بالضرائب والجمارك والدمغات التي أرهقتهم إلى حدٍ كبير، علماً بأنه صاحب أطول فترة قضاها وزير مالية في المنصب ، إذ شغل هذا الموقع 10 سنوات كاملة منذ حكومة د. عاطف صدقي في 1986 وحتى 1996


والأمر كما يرى الجميع في حال الوزير "الفنان" فاروق حسني، الذي ارتبط عهده كوزير - بدءاً من 1987- بحريق قصر ثقافة بني سويف (2005) وحريق المسرح القومي (2008)، وقضايا الآثار الكبرى وتهريب الآثار للخارج، وسرقة المتحف الإسلامي والمتحف المصري ودار الكتب
على أن د. صدقي عاد بعد سنواتٍ طويلة ليتبرأ من اختياراته، إذ أكد -ربما نتيجة خلافاته مع وزير الثقافة- أنه لم يكن صاحب اختيار فاروق حسني لهذا المنصب بشكلٍ مباشر، وقال إنه كان قد وضع اسم فاروق حسني في الترتيب الرابع أو حتى الخامس بعد أسماء أخرى رشحها قبل أن يحسم الرئيس مبارك الأمر ويختار فاروق لهذا المنصب من بين البدائل المطروحة أمامه

وكان د. عاطف صدقي مولعاً بالاستفادة من قدامى البيروقراطيين، وهكذا استفاد من أحمد رضوان كوزير لشؤون مجلس الوزراء ومحمد فؤاد اسكندر كوزير دولة لشؤون الهجرة (1987) وموريس مكرم (1987) وزير دولة للتعاون الدولي. ولقد اختار د. صدقي لمنصب وزير الصحة د. علي عبد الفتاح المخزنجي (1993) عميد طب عين شمس السابق، وتربطهما معاً صلة نسب ومصاهرة. كما جاء أساتذة جامعة متقاعدون أو على وشك التقاعد إلى الوزارة، مثل د. فينيس كامل جودة وزيرة دولة للبحث العلمي (1993)، ود. ماهر مهران وزير دولة لشؤون السكان والأسرة (1993)
الشللية والصداقات التي تقود إلى مقعد الوزارة، لم تكن وليدة الأمس القريب.. وإنما البعيد أيضاً

تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator