المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

موتٌ خفيف




تعالوا بنا نموتُ قليلاً

ما أجملَ أن نختارَ موتنا..وننسى أنه تاريخُ الاحتفالِ بمولدٍ جديدٍ مُنتظر

لكن لا شيء يمكن انتظاره أو تَوقُعُه هذه المرة. فالعامُ توضأ بالدمعةِ الأخيرة، ورمق الساعة قبل أن يقول: حان الوقت، فلنكن أول الموتى

يأتيه صوتٌ من الأعماق متسائلاً: والذنب؟

لا ذنبَ خارجَ الوقت، لا وقتَ لأخطائنا..سيخسرُ واحدٌ منا أخيراً، على كلِ حال

لكن بهاءَ التجربة يستحقُ الاحتفاء، لا الندم، ويستدعي الفخرَ لا الشعور بالذنب. إن الشعور بالذنب لا يصيبُ إلا الذين ينقصهم الفعل، الذين يستحبون العجز على الفعل. وهكذا فإن الندم عندهم يحل محل العمل

أما الندم، أو تبكيت الضمير، فهو الرغبة في أن يجد المرء نفسه مذنباً، في أن يلتذ بتمزيقِ نفسه، في أن يرى نفسه ويُحِسها أسودَ وأسوأ مما هي عليه في الواقع

ينظرُ العام بحنينٍ جارفٍ وخفي إلى أيامِه الماضية..يطالع اليومَ المعلق في التقويم، ويدندن بأغنيةٍ لم يسمعها أحدٌ من قبل
"هو هنا يبني بيتاً .. وهي هناك تهدم ذاكرة"

ما أصعب أن تكتشفَ متأخراً أنك من الصباح إلى المساء، ولمدة عامٍ كامل، كنت تصنعُ الماضي، فالمستقبلُ لم يعد لك


التاسع والعشرون من ديسمبر

تاريخٌ أعاد كتابة التاريخ

يقولون لك: اكتب لنا شيئاً نفهمه.. أصدقائي لا يعرفون أن تغييرَ الكاتبِ لغتَه يعادلُ كتابةَ رسالةِ حبٍ بوساطةِ قاموس. نرتِبُ ونُركِبُ الكلماتِ في صيغٍ مختلفة، لكن كيف يا ترى سنفلحُ في مضاهاةِ وردة؟

وقتٌ كالسيف، إن لم تسبقه.. قَطَعك

وقتٌ مخادعٌ مثل خصلاتِ شعرها: ينابيع جبلية في عيني مسافر

وقتٌ ضائع، مثل رضابها: عسل الجنة

وقتٌ مؤلم مثل خطواتها الرشيقة: إيقاع الرهبة وهو يسير فوق بساط قلبك

والحكمةُ تستر جراحنا: إنها تعلمنا كيف ننزف خفية

منذ خمسة وعشرين عاماً وأنا على سفر. وهذا امتيازٌ له مساوئه: ما من استقرارٍ في أي مكان. وهكذا لا يتمسكُ المرء بشيء، ويعيش حياةَ عابر سبيل. إنه شعورٌ دائم بالرحيلِ الموشك، إدراكٌ لواقعٍ انتقالي إلى أقصى حد
لا بأس. نحن بشرٌ، نخطيء ونصيب.. ولا شيء عفواً
يبعثرُ التاريخُ طيورَه البحرية ليظل وحيداً.. يصغي إلى مولدِه البريء والجريء من ضفافٍ مجهولة، قبل أن تمزق العواصفُ أشرعة المراكب
ها هي المغفرةُ، في جدولِ الأعمال
يضع الزمنُ يده على رأسِه في أسىً..عبروه في الحلمِ، منحوه جنونهم مثل ليلةٍ بهيجة أو عيد ميلادٍ غامض

ما بين السأمِ والوجدِ تجري كلُ تجربتنا مع الزمن

ندركُ أننا لم نعد في مرحلةِ الشباب عندما نكفُ عن اختيارِ أعدائنا، أو عندما نكتفي بمن عندنا منهم. لعل أفضل طريقةٍ للتخلص من عدوٍ هي أن تمدحه أينما حللت. سوف ينقلون إليه ذلك فلا تبقى لديه قوةٌ لإزعاجك: لقد حطمت قوته.. وسوف يواصل حملته ضدك دائما، لكن من دون صرامة وبأس، إذ يكون قد كف بشكل غير شعوري عن كرهك. لقد هُزِمَ وهو يجهل هزيمته

أما الذين يهزمونك فعليهم أن يتذكروا جيداً ما ستقوله لهم الأيام: من قُتِلَ..يقتلُ ولو بعد حين

في قلبِ الليل، لا أحدَ غير مجتمعِ الدقائق، كل دقيقةٍ تتظاهرُ بمرافقتنا ثم تهرب. فرارٌ يليه فرار. الأرقُ هو شكلُ البطولة الوحيد المنسجم مع السرير

وعندما يكون المرء وحده، حتى وإن لم يفعل شيئاً، فإنه لا يحس بأنه يبدد وقته. إنه لا يبدده إلا إذا كان في رفقة شخصٍ قرر سلفاً أن يطفيء شمعة المودة بعدم اكتراث

بعد البحث سدى عن بلد تنتمي إليه، ترتد إلى الموت، حتى تتمكن في هذا المنفى الجديد، من الإقامة كمواطن

أيها الموت، اقترب..كي نبتعد معاً

الأوراقُ الأخيرة تسقط متراقصة. لابد من جرعةٍ كبيرة من فقدان الحس كي نواجه هذا الخريف

كيف يؤدي وعيُ المرءِ بالموتِ إلى تلطيفِ فكرةٍ تخيف الناس عادةً؟ عندما يدرك المرء أنه فانٍ، فمعنى ذلك في الواقع أنه يموت مرتين فقط، ولا يظل يموت في كل مرة يدرك فيها أنه سيموت

الساعةُ تقترب من عناقِ الوداع. لا خفقة جناحٍ في الأفق.. كل شيء منصهرٌ في جسد الظلام

أحلمُ أحياناً بحبٍ بعيد، مثل رذاذ العطر، ووقتٍ للحُمى يشبه الحناء على كفِ امرأة

الحياةُ هي أن نحرقَ أسئلة، ونرد على رسائل

يلح عليَ حسن في رسالته قائلاً: "تعال، تعال، تعال"، لكنني لست مستعداً بعد لقرار العودة. يبدأ أيمن رسالته بجملة "أستحلفك بالله.."، فأطمئنه، ويحدثني إبراهيم قائلاً: "المشروع سيتأخر قليلاً"، فأطيب خاطره. يخاطبني رفعت في رسالةٍ نصية "الرائعون كالأحجار الكريمة لا نصنعهم، ولكن نبحث عنهم"، فأشكره، ويشرح لي علاء الدين تفاصيل الميزانية المقترحة بادئاً كلامه بجملة "شوف يا سيدي.."، فأقترح عليه: الجرأة تفعل الأعاجيب

ويسألني العام:"هل أنت بخير؟"

طبعاً، فكل الموتى مثلي بخير

تأتي ماجدة الرومي في سيرتها الأولى، فتيةً وندية مثل أوراقِ النعناع، تغني أغنيتي المفضلة. يبدو أن الموسيقى ملجأ الأرواحِ التي جرحت السعادة

عامٌ طويل..كيف انتهى؟

عرفتُ فيه مشرط الجرَاح، ومشارط الجوارحِ، ورأيت الألم في قطار مندفعٍ نحو المجهول، وتذوقت اللهفة في بهو فندقٍ يراقب نظارةً سوداء تخفي عيني ميدوزا الساحرتين، ورأيت اللغةَ نجمةً تلمع بين رماد الغرقى، وقرأت عباراتٍ أثقلُ من نكبةٍ على القلب

أصطادُ البحر، موجةً بعد موجة، وبجواري يقول بستانيٌ عجوز: "عندما أبكي بجوار زهرة، تنمو بوتيرةٍ أسرع"

تجتاحني رغبةٌ، تنفجر على معطفِ الأشواق

سأرمي انفجاري. هذا ما أمتاز به على القلقين الكبار الذين كانوا إجمالاً مستسلمين وهادئين

العام لم ينتهِ بعد.. سأدعه ينساني، لكنني سأتذكره دائماً. قد يأتي يومٌ ويعرف أنني الوحيد الذي مات وهو يتذكره

سأطلقُ سراحَه برحابةِ صدر، لعله يعود.. فإن لم يعد سأدركُ أنه لم يكن موجوداً إلا في خيالي

إنه لأمرٌ قاسٍ ألا نعود موجودين، وأن نكف عن الوجودِ في شيء ما

الشمسُ بائعةُ هوى، تبذلُ نفسها للعابرين..وحين يرفعون مظلاتهم هرباً منها تطلق في الفضاء حسرةً لا تُحدُ

والطبيعةُ التي كانت تحبني تتحداني في أن أكتب

أقبلُ التحدي، وأكتبُ في دفتر مذكراتي مثل مصباحٍ ينطفيء

"سأموتُ مثلما عشتُ، وأسيرٌ.. تتشابك أصابعي مع العام
أمشي بمحاذاته حتى لا تسبقني إليه مواعيد السفر
حياتُنا شعلةٌ وللنارِ حقُ الهيمنة.. أواجهُه: حدِق في عيني أيها المودِعُ وتأمل خرائبَ أنتَ صانِعُها
بيني وبينه مسافةٌ لاتذكر، لكننا نظل مثلَ منارتين على طرفي شاطيء مهجور
كَفنَ الغيابُ أيامي، حتى صارت مثل أوركسترا خفيفة تُعزف في دار أوبرا لجمهورٍ أصم
دعوا غرفَ القلب باردةً، فهي ساحةُ حرب توشك أن تقع.."وَالْقَلْبُ خِزَانَةٌ مُسْتَحْفَظَةٌ لِلْخَوَاطِرِ وَالأَسْرَارِ"، كما يقول الجاحظ
وحدها الروح وسادةٌ..وحده جسدي جدارٌ يرتعد
موتنا عربةُ بأجراسٍ، وآذانُنا مسحورةٌ بالصلصلة
أنا المسرح الحي، أيها العام الذي يحاول أن يلملم ثيابه
يفتح الشوق نافذةً تطل على شجيرات اللبلاب وأنوثة السُحُب
أرشقُ السماء بسهم يفجِرُ دماً من خاصرتها
رائحة القهوة في الشارع الصاخب، والكلامُ الذي يسطع، هما كل ما تركه لي عمداً
يسقط من حقيبته غلالةٌ تشعل النجوم، فيحسدني قمرٌ مصطبغٌ بضباب خفيف
تلعب الريح ولا تستحي بضحكاتٍ ترددها الشوارع التي عبرناها ذات مساء
استعجلتَ، يقول العام، وأردُ: بل أنت الذي قفزت إلى الصفحة الأخيرة"

أصرخ: ما عدتُ أجيدُ الكلام

يا لكميةَ التعبِ التي ترتاحُ في دماغي
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (7): فضيحة الأتعاب





تشبه قصة حياة الأمير سيف الدين مأساة إغريقية

في الفصل الأول، يطلق البطل النار على زوج شقيقته الأميرة شويكار في عام 1898. كان من الممكن أن تمر تلك الحادثة بهدوء، لولا أن المجني عليه أصبح في وقتٍ لاحق سلطان مصر ثم مليكها. وفي الفصل الثاني، يهرب الأمير سيف الدين في عام 1925 من المصحة العقلية التي نُقِلَ إليها في بريطانيا قبل نحو ربع قرن. أما كيف هرب ومن الذي ساعده كي يسافر سراً إلى تركيا، فهذا ما أزعج القصر الملكي في مصر، خصوصاً أن الهروب كان يعني خطوة مهمة في طريق استعادة سيف الدين أملاكه الضخمة التي سُلِبَت منه بعد الحجر عليه

أما الفصل الثالث فقد بلغ ذروته عام 1928..وربما كان الفصل الأكثر إزعاجاً

لنعد قليلاً إلى الوراء

كان الملك فؤاد معروفاً ببخله، إلا أن ثورة 1919 والتغيرات التي حدثت فى مصر بعدها أجبرته عن التخلي عن هذا البخل، فأنشأ حزب "الاتحاد" لكي يكون صوتاً له ينادي بحق الملك في أن يكون هو مصدر السلطات وليس الأمة. ولما كان فؤاد حريصاً على عدم إنفاق أمواله فقد أصبحت دائرة الأمير سيف الدين هي الممول الرئيس لنشاط الحزب

استفز هذا التصرف طليقته الأميرة شويكار التي كانت قد غادرت مصر مع أمها الأميرة نجوان إلى تركيا، فهي لم تنس ثأرها مع فؤاد الذي تسبب في إيداع شقيقها مصحة للأمراض العقلية وها هو ينعم بماله وأملاكه

ولم ينس لها الملك بدوره تمردها والتشهير بسلوكه، ما جعل شقيقها يطلق النار عليه. وبسبب هذا الثأر لم يكف فؤاد عن التشهير بالأميرة والتندر على كثرة أزواجها الذين بلغوا أربعةً بعده، ولكن كان معظمهم من أصحاب النفوذ فى الدولة التركية، ما جعلها تنجح في إعادة فتح ملف شقيقها المنفي وثروته المنهوبة. واستطاعت أن تقنع ابن عمها الأمير يوسف كمال بأن يسافر معها لزيارة الأمير السجين، ليقتنع بعدها بسوء حاله ويرجع إلى مصر وهو يحمل توكيلاً من الأميرة لمصطفى النحاس باشا لإقامة دعوى قضائية لمحاسبة القيَم أمام المجلس الحسبي وتقديم كشوف حسابات عن إدارة هذه الثروة الطائلة



وظلت القضية منظورة إلى أن اعتُقِل النحاس مع سعد زغلول ونُفيَ إلى جزيرة سيشل في نهاية عام 1921، وترك القضية لغيره

وعادت الأميرة نجوان تطرق أبواب القضية مرة أخرى عام 1924 إذ وكلت محامياً تركياً كبيراً كان سفيراً سابقاً لبلاد هو جلال الدين عارف بك

والطلب الذى وكلته في السعي لإنجازه هو اتخاذ الإجراءات لنقل ابنها إلى تركيا تحت رعايتها. واستطاع المحامي أن يلتقى الأمير الحبيس الذي تذكر المحامي وتعرف عليه حيث جرى بينهما لقاء قبل أن يُحبس بين جدران المصحة. وخرج المحامي ليؤكد للجميع أن الأمير سيف الدين عاقلٌ، بل إنه في كامل قواه العقلية، فهو لازال يتحدث بالعربية والتركية والفرنسية بالرغم من أنه لم يتحدث بها مع أحدٍ منذ سنين طويلة، كما أنه أتقن اللغة الإنجليزية من مجرد التعامل مع ممرضيه

ونشر جلال بك عدة مقالاتٍ في الصحف الفرنسية بهذا الشأن، ما جعل إدارة المستشفى تمنع الزيارة عن الأمير للمحامي أو لغيره. وجاء فشل مساعي جلال بك تأكيداً لعدم جدوى اللجوء لبريطانيا للإفراج عن الأمير سيف الدين

وقطعت الأميرة نجوان الأم والأميرة شويكار الأخت، الأمل في الإفراج عن الأمير بالطرق المشروعة، فسافرتا إلى انجلترا واستطاعتا رشوة حارسي الأمير وتزييف تصريح مرور له ثم تهريبه إلى الآستانة

وظهر الأمير في الآستانة عام 1925 بعد عملية دؤوبة لترميم صحته بعد طول إهمال
الأمير الآن في الخمسين من عمره، ولابد أن يستعيد حياته المفقودة ومن قبلها أمواله المنهوبة..ولكن الجالس على عرش مصر هو الغريم المباشر للأمير، وهو ليس على استعدادٍ للصفح والغفران

وذات يومٍ توجهت الأميرة شويكار إلى السفارة المصرية في أنقرة وطلبت مقابلة السفير المصري، فاستقبلها الرجل بكل احترام بما يليق بأميرةٍ ومطلقةِ مليك البلاد وأم ابنته الكبرى فوقية. سألته إن كان فى استطاعته توصيل رسالة إلى جلالة الملك، فرد بالإيجاب. وعادت لتسأله: هل تعدني أن توصلها له كما هي دون تغييرٍ وبكل أمانة؟ ..فأقسم الرجل أنه سيفعل

آنذاك شبت الأميرة على أطراف أصابعها، حيث كانت قصيرة القامة، ثم هوت بكفها على وجه السفير بصفعةٍ ساخنة وهي تقول ضاحكةً: أرجو ان توصل هذه الصفعة إلى جلالته بالنص.. ثم غادرت السفارة وهي لا تلوي على شيء

وكانت هذه الصفعة إشارة بدء استئناف القتال بين الطرفين

وبعدها بنحو أربعة شهور أوفدت الأميرة نجوان محمد بك شوكت للتوصل إلى حل ودي للحصول على حقوق الأمير..ولكنه عند وصوله مصر وجد جميع الأبواب مغلقة، وأن الملك ازداد قوة بعد استقالة سعد زغلول إثر حادث مقتل السردار، وأنه لا يوجد أحد يستطيع التوسط لحصول الأمير على ما له من حقوق

بل إنه وجد خصوماً آخرين للأمير..فالقيَم على الأمير كان يختاره الملك من أكثر خلق الله فساداً، حتى يستطيع السيطرة عليه ولا يستطيع أن يرفض طلباً للسراي، فإذا فكر فى ذلك فتحت له ملفات فساده وهو ما فعلوه مع محمد باشا سعيد القيَم على الأمير الذي عينوا مكانه الأمير محمد علي إبراهيم ابن شقيق الأمير سيف الدين، الذي لم يكن أقل قسوةً على الأمير من سابقه، لدرجة أنه انتهز فرصة هروب عمه من المصحة وقطع عنه النفقة وتوقف عن إرسال أي مصاريف له..كذلك كانت الدائرة مليئة بأصحاب المصالح الذين لهم أكبر مصلحة في بقاء الوضع على ما هو عليه

ولكن لم ييأس شوكت بك ووجد أنه لا مفر من المواجهة العلنية، فكان لابد له منها

وكانت المسائل التي تخص الأسرة الحاكمة لا تنظر أمام القضاء العادي ولكن تُنظر أمام مجلس البلاط الذي صدر قانون بتنظيمه عام 1922 وهو مختص بالنظر في كل ما يتعلق بأمراء الأسرة المالكة حتى الأمور الشرعية وحصن بعدم الطعن على أحكامه وكان يتكون من أمير هو أقرب أقرباء الملك ووزير الحقانية ومفتي الديار وشيخ الجامع الأزهر ورئيس المحاكم الشرعية

وكان لابد من وجود رجالٍ أشداء يستطيعون الوقوف في وجه أعلى سلطة فى البلاد بلا خوف. وبعد بحثٍ وسؤال انتهى شوكت بك إلى سؤال جعفر فخري بك صديقه وكان ذا صلة عائلية به، وطلب منه ترشيح محاميين آخرين معه لرفع القضية أمام مجلس البلاط على أن يكونا على درجة عالية من النزاهة والشرف والشجاعة، فرشح له صديقيه مصطفى باشا النحاس وويصا واصف باشا

وبدأت المعركة

في 1927 وقع شوكت بك بصفته وكيلاً عن الأميرة نجوان عقداً مع المحامين الثلاثة، يوكلهم به إقامة دعوى قضائية لرفع الحجر عن الأمير سيف الدين. ونص العقد على أن يترافعوا عن الأمير أمام مجلس البلاط أو أي جهة قضائية أخرى للحصول على رفع الحجر عنه أو ترتيب نفقة مناسبة له

ونص العقد أيضاً على أتعاب قدرها 117 ألف جنيه مصري في حال رفع الحجر وعشرة آلاف جنيه مصري في حالة تقدير نفقة تصل إلى 22 ألف جنيه، وتزيد الأتعاب وتنقص حسب مقدار النفقة المترتبة ومتجمدها

وقِعَ العقد في مكتب ويصا واصف واتفقوا على تقاضي المحامين الثلاثة 15 ألف جنيه كمقدم أتعاب، لكن اعتذر شوكت بك بعدم وجود سيولة مالية لدى الأميرة فاكتفوا بـ 1500 جنيه تقاسمها المحامون الثلاثة

ولأنهم من الحنكة فقد قرروا أن يضعوا خطة مناسبة للدفاع عن مصالح الأمير. وهكذا قرروا الاكتفاء برفع قضية تقدير نفقة أولاً ثم الاستفادة بحيثيات الحكم لرفع قضية لرفع الحجر كلياً عنه

وسافر شوكت بك إلى الآستانة وسعى إلى إحضار تقارير طبية تحدد حالة الأمير الصحية والنفسية بواسطة أكبر أطباء الآستانة للاستعانة بها في القضية

وانعقدت جلسة في مجلس البلاط للنظر في أمر القضية المرفوعة بطلب نفقةٍ مناسبة للأمير والمطالبة بمتجمد النفقة عن المدة التي انقطع الصرف فيها منذ هروبه من المصحة عام 1925

ومنذ اللحظة الأولى عرف الجميع أن المعركة القانونية ليست سهلةً، فقد حشدت الدائرة بما لها من أموال أربعة من أكبر محامي مصر، على رأسهم عبد العزيز باشا فهمي وتوفيق دوس باشا الوزيرين السابقين وقطبي حزب الأحرار الدستوريين

وبدأ الدفاع عن القيَم على الأمير بالهجوم على الأميرة نجوان واتهامها بغير ذات الصفة، وأنها غير مسؤولة عن الأمير وتطمع في وضع يدها على ثروته بل إنها سعت إلى تهريبه من مشفاه وهو ما أضر بمصلحته، وأن الواجب تسليم الأمير للقيَم ليعود إلى المصحة لأنه أفضل لصحته ومصلحته

وتم الدفاع عن الأمير بالشكل المطلوب، مع التوضيح لهيئة مجلس البلاط مدى تقتير القيم على الأمير والسعي وراء التحكم غير المسؤول في أمواله وإهدارها

ولفت الدفاع عن الأمير نظر المحكمة إلى أن ثروة الأمير تقدر بنحو عشرة ملايين جنيه تدر دخلاً سنوياً مقداره 120 ألف جنيه، فما الضرر في إنفاقه على ضروريات واحتياجات وكماليات الأمير، خصوصاً أن أصل الثروة موجود

ولفتوا الأنظار أيضاً إلى أن الأمير ليس له زوجةٌ أو ولد، وأن القيَم - وهو عمه الأمير محمد على إبراهيم - له مصلحةٌ في التقتير فى الصرف على الأمير حتى يستبقي الثروة لحين وفاته لنفسه كوريثٍ من ضمن ورثته

وطلب الدفاع احتياطياً تقدير نصف الريع السنوي - 60 ألف جنيه - كنفقةٍ سنوية للأمير، حتى يتمكن من شراء قصرٍ مناسبٍ له في أسطنبول، إضافة إلى شراء قصر ثانٍ على ضفاف البوسفور. وعندما سأل رئيس المجلس دفاع القيَم عن سبب قطع نفقة الأمير، ردوا بأن القيَم لم يعرف مكان للأمير بعد هروبه من المصحة، ما أثار امتعاض رئيس المجلس واستفزه رد الدفاع عليه

وأحس دفاع القيَم أن القضية لا تسير في مصلحتهم، فكان لابد من تصرفٍ سريع لتدارك الأمر


أسرع القيَم على الأمير سيف الدين، بإرسال بعثةٍ كبيرة برئاسة النبيل عباس حليم وصحبة عدد كبير من محامي الدائرة بهدفٍ معلن، هو الوقوف على حالة الأمير سيف الدين وإعداد تقرير عما يلزمه من أوجه الصرف

وبعد أسبوعٍ من وصول البعثة إلى تركيا طلب النبيل عباس حليم مبلغ 40 ألف جنيه لتغطية نفقات الأمير منذ هروبه من مصحة تايهست بإنجلترا
طلب محامي الدائرة التأجيل من مجلس البلاط لحين وصول البعثة وكتابة تقريرها، ووافق دفاع الأمير سيف الدين على هذا التأجيل، خاصةً عندما طلبت الأميرة نجوان حضور شوكت بك بصحبة أحد محامي الدفاع إلى الآستانة لبحث شروط الصلح الذي عرضه النبيل عباس حليم عليها. وعند وصولهم إلى الآستانة وجدوا أن العرض هبط إلى الحد الأدنى وأشاروا عليها بالرفض

في الوقت نفسه أعد النحاس أحد محامي الدفاع عن الأمير بحثاً عن مسألة الحضانة، وهل من حق الأميرة نجوان حضانة الأمير سيف الدين على اعتباره قاصراً عقلياً.. لأنه يكون بذلك في حكم الطفل الصغير

ومع انعقاد الجلسة التالية كان النحاس يدخل القاعة حاملاً مجموعة مجلداتٍ تؤكد رأيه الشرعي في مسألة الحضانة كما ساقها في مذكرة دفاعه



في هذه الجلسة فاجأ النحاس الخصوم بطلب تقدير نفقةٍ مؤقتة لحين الفصل في القضية، مستشهداً بطلب النبيل عباس حليم مبلغ 40 ألف جنيه للصرف على أوجه نفقات الأمير

وبعد مبارزاتٍ قانونية عنيفة قرر المجلس الحكم بنفقةٍ قدرها ألف جنيه شهرياً، كما قرر سفر رئيسه حسين باشا رشدي إلى الآستانة لمعاينة حالة الأمير، وله أن يستعين بمن يراه من الأطباء. وقرر أيضاً تأجيل القضية لموعدٍ لم يحدده على أن يخطر به الأطراف بعد إجازة الصيف

وكان القرار الوحيد الذي نُفِذَ من هذه القرارات هو صرف مبلغ 20 ألف جنيه متجمد النفقة للأمير منذ مغادرته للمصحة

واستمرت القضية معلقةً أكثر من عام، ولم تعقد جلسة لها، خاصةً بعد أن خلا مكان رئيسها حسين باشا رشدي وعين محله عبد الخالق ثروت. ولم تألُ الأميرة نجوان جهداً لحشد تأييد رجال السياسة وأعضاء الأسرة الملكية بهدف استعادة أملاك وثروات ابنها سيف الدين


وفي هذا الوقت توفي الزعيم سعد زغلول في 23 أغسطس آب عام 1927، ليحل محله مصطفى باشا النحاس زعيماً للوفد المصري. أما ويصا واصف فقد شغل موقع رئيس مجلس النواب لفترتين هما (20مارس 1928-18 يوليو 1928) و (11يناير 1930-21 أكتوبر 1930)

وحانت لحظة الفصل الثالث من مأساة سيف الدين

ففي رسالةٍ مؤرخة بتاريخ 29 يونيو حزيران عام 1928، أبلغ المندوب السامي البريطاني لورد جورج لويد مسؤوليه بأمر اختفاء وثائق مهمة من منزل جعفر بك فخري، أحد المحامين الثلاثة المتصدرين للدفاع عن الأمير سيف الدين. فقد كان فخري مسافراً خارج الإسكندرية هو وأسرته للقاهرة، حين اكتشف حارس المنزل أن نافذة من المنزل مكسورةٌ ومفتوحة على مصراعيها

اتصل الحارس بجعفر بك الذي جاء مسرعاً ودار في منزله ليجد كل شيء في مكانه فلم يجد ما يدعو لإبلاغ الشرطة، ولكنه عندما عاد مرة أخرى اكتشف سرقة نسخة العقد الموقع بين شوكت- وكيل الأميرة نجوان- ومكتب المحاماة الخاص بالنحاس والذي يحدد الأتعاب الضخمة عن القضية، وصورة لخطاب شخصي أرسله جعفر فخري إلى فريد الدين باشا زوج أم سيف الدين بشأن القضية. وكان الخطاب مؤرخاً بتاريخ 24 سبتمبر أيلول، أي بعد يومين من اختيار النحاس زعيماً لحزب الوفد

ولما كانت النافذة مكسورةً من الداخل فقد اتجهت الشبهات إلى طباخه، فقد أبلغ الشرطة ضده قائلاً إن الوثائق المسروقة كانت موجودة في خزانة زوجته. وبدا جلياً أن المستفيد الوحيد من سرقة هذه الوثائق هي دائرة سيف الدين، وأصبحت الشكوك يقيناً عندما وكل محامي الدائرة للدفاع عن الطباخ . إلا أن المحكمة أفرجت عن الطباخ وفيما بعد أن برأته لعدم كفاية الأدلة

وفي وثائق الخارجية البريطانية نجد أن لورد جورج لويد يشكك في صحة الرواية، على أساس أنه من الصعب على رجل يعمل طباخاً في منزل عائلة أن يصل بسهولة إلى خزانة ملابس سيدة، خصوصاً في تلك الأيام. وبعد إجراء بعض التحقيقات، علم رجال لويد أن فخري على خلافٍ مع زوجته، ما أثار الشك في أن تكون الزوجة هي من سرقت الوثيقتين. غير أن المندوب السامي البريطاني لم يقتنع بهذه الفرضية أيضاً، ورأى أن فخري يتعاون سراً مع الملك وأنه سلم الوثيقتين إلى القصر

وبعد أسابيع قلائل هدأ الموضوع



شكَل مصطفى النحاس الوزارة خلفاً لعبد الخالق ثروت، ولم ينس في غمرة مشاغله أن يرسل خطاباً إلى شوكت بك وكيل الأميرة نجوان يبلغه فيه بتنحيه عن المشاركة في الدفاع عن الأمير سيف الدين لحظر القانون أن يقوم الوزراء ورئيسهم بأعمال خاصة خلال توليهم مناصبهم. وتقول مصادر إن شوكت بك رد عليه بخطاب شكرٍ على ما بذله من مجهود أثناء الفترة التي تولى فيها الدفاع عن الأمير.. إلا أن الأميرة نجوان لم تكتب للنحاس رداً على رسالته

ومع اشتعال الأزمة بين النحاس وبريطانيا وبينه وبين الأحرار الدستوريين، بدأت الصحف تدخل على خط الهجوم بالغمز واللمز وتصيد الأخطاء. وكان لابد لخصومه من تدبير فضيحةٍ مدوية تُسقِط وزارة النحاس وتبرر إقالته

وكانت الفضيحة كما يظنون جاهزة

انطلقت الرصاصة من وسائل الإعلام

وتبين الوثائق البريطانية أن الملك فؤاد انتظر الوقت المناسب لتوجيه ضربته إلى خصومه، فأعطى أحمد وفيق رئيس تحرير صحيفة "الأخبار" – لسان حال الحزب الوطني- الوثائق المختفية في ظروفٍ غامضة، وتولى الأخير عمل نسخٍ مصورة منها على ألواح الزنك ونشرها على صدر الصفحة الأولى من الجريدة في العدد الصادر يوم السبت الموافق 23 يونيو حزيران عام 1928 مع ترجمةٍ باللغة العربية للأصول المكتوبة باللغة التركية. وفي غضون أيام، ظهرت الوثائق في صحيفة "الاتحاد" لسان حال حزب الاتحاد المقرب من القصر، وصحيفة "السياسة" لسان حال حزب الأحرار الدستوريين

وكانت العناوين الساخنة تقول:

"فضائح برلمانية خطيرة
رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب يستخدمان السلطتين التنفيذية والتشريعية لمصالحهما الذاتية
تشريع خاص من أجل أتعاب في قضية
نائب يصف المجلسين بالاستسلام والخنوع
يجب على النحاس النزيه وزميله أن يتخليا عن منصبهما ويطلبا رفع الحصانة البرلمانية والتقدم للتحقيق
واجب البرلمان المبادرة للنظر في الأمر حرصاً على سمعة البلاد
أتعاب قضية ضعف رأس مال بنك مصر"

وتحت هذه المانشيتات صور من الوثيقتين المسروقتين من منزل جعفر فخري، وأحدها صورة العقد الذي وقعه المحامون الثلاثة مع محمد شوكت بك وكيل الأميرة نجوان

خلاصة الفضيحة أن الصحف صورت أن العقد الذي وقعه الثلاثة يتضمن استغلالاً بشعاً لمناصبهم وللأميرة نجوان، وأنهم غالوا في تقدير أتعابهم واستباحوا لأنفسهم المساومة بآلام الأمير سيف الدين

وقالت صحيفة "الأخبار" إن النحاس وويصا واصف كانا محاميين لدى مجلس البلاط عندما أبرما الاتفاق مع شوكت، وبالتالي فقد طلبا أتعاباً بأرقامٍ فلكية آنذاك بسبب نفوذهما السياسي وعلاقتهما بمجلس البلاط

وتحدثت تلك الصحف عن الوثيقة الثانية "المسروقة" بإسهاب، فقالت إن الخطاب تضمن إشارة إلى اعتزام المحامين إلغاء مجلس البلاط حتى يمكن النظر في قضية سيف الدين أمام المحاكم الشرعية، التي لم يكن للملك نفوذ يُذكر عليها. وقد جرت محاولات في هذا الشأن عندما تقدم حافظ رمضان زعيم الحزب الوطني بمشروع قانون للبرلمان في يونيو حزيران عام 1928 يقضي بإلغاء مجلس البلاط. وبدا في تلك الحالة كما لو أن الحزب الوطني متحالفٌ مع حزب الوفد ضد الملك

وتصاعدت الحملة الصحفية ضد النواب الثلاثة، حتى أن أحد المقالات كُتب فيها يقول:

"لتلق الأمة دروس النزاهة والشرف على النحاس وويصا واصف وجعفر فخري..إن حرفتهم كانت سلب أموال الأمة فأمعنوا في سلبها.....وكانت مهمتهم الدستور فقتلوه..إذن هم عنوان الشرف والأمانة كما هو العرف في دولة اللصوص وقطاع الطرق والقراصنة"

ثم أضاف كاتب المقال:"إنه لشرف النعال وإنها لأمانة المحتال وإنها لصيانة دستور الدجال..ألا تختشي أن يتلطف معك صاحب الجلالة ويسألك أين استقالتك؟..فماذا تجيب أيها النتن القذر"

وشنت هذه الصحف حملةً شرسة على حزب الوفد، إذ طالبت "الأخبار" بمحاكمة هؤلاء المحامين الثلاثة بتهمٍ جنائية بموجب المادة 93 من قانون العقوبات، إضافةً إلى تهمة خرق المواد 67 و68 و71 من الدستور. ودعت إلى تجريد كلٍ من رئيس الوزراء (النحاس) ورئيس مجلس النواب (ويصا واصف) من الحصانة النيابية، حتى يتسنى إحالتهما إلى المحاكمة. وشاركت الصحف الأخرى في تغذية هذه الحملة المستعرة

وفي المقابل، تولت الصحف الموالية للوفد الدفاع عن قادة الحزب. وعقدت الهيئة البرلمانية للوفد اجتماعاً عاجلاً في 24 يونيو حزيران لبحث تلك الأزمة وتداعيات نشرها. وفي اليوم التالي نشرت صحيفة "الأهرام" تفاصيل الاجتماع. وأبلغ فخري رفاقه في حزب الوفد بأن الترجمة العربية للوثائق التركية لم تكن دقيقة وتضمنت كلماتٍ وفقراتٍ لم ترد في النص الأصلي. وفي الاجتماع، نفى فخري بشدة أي ادعاءاتٍ تتهمه بالتآمر على "الوفد"

وفي مواجهة الحملة الصحفية والضغوط السياسية، قال فخري إن المحامين الثلاثة طلبوا 500 جنيه مقدم أتعابٍ لكل واحد منهم، على أن يتم دفع 40 ألف جنيه لكل واحدٍ منهم، في حال استرد الأمير سيف الدين جميع أملاكه، وبغض النظر عن عدد الدعاوى القضائية التي ينبغي إقامتها أمام المحاكم العامة أو المختلطة أو الشرعية، أو حتى أمام مجلس البلاط. وأضاف فخري أن هذه الأتعاب أقل بنسبة ثلاثة في المئة من قيمة المبلغ المطلوب استرداده، وهي تمثل بالتالي رقماً متواضعاً للغاية

وبدوره، نفى ويصا واصف الادعاءات بأن قياداتٍ في حزب الوفد سعت إلى إلغاء مجلس البلاط، قائلاً إن حقيقة الأمر تتمثل في أن عدداً من أفراد العائلة الملكية ناشدوه بوصفه رئيساً لمجلس النواب إلغاء مجلس البلاط، على أساس عدم دستوريته. وأوضح أنه لم تكن لديه نيةٌ في توريط نواب الوفد في البرلمان في هذا الأمر، وأنه عندما رفض هذا المطلب، وجد أصحاب الطلب شخصاً غيره يثير مطلبهم تحت قبة البرلمان. وكان هذا الشخص هو حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني، والذي قدم للبرلمان مشروع قانون في مايو حزيران عام 1928 بشأن إلغاء مجلس البلاط. وشدد ويصا واصف على أن نواب الوفد في البرلمان لم يكن لهم دورٌ في مشروع القانون المذكور، الذي أحيل إلى اللجنة القانونية لدراسته، وظل هناك حتى تاريخ تصريحات واصف

وفي ضوء تصريحات رئيس مجلس النواب، اتجهت الأنظار إلى حافظ رمضان رئيس الحزب الذي كانت صحيفته أول من أثار تفاصيل تلك "الفضيحة"، وانتهى الأمر بعدول رمضان عن مشروع القانون الذي قدمه للبرلمان. وأدى ذلك إلى إثارة تكهنات حول دوره في مؤامرة السراي ضد حزب الوفد

في هذه الأثناء، طالت الشكوك شخصية النحاس باشا الذي عدل عن تمثيل الأمير سيف الدين فور توليه رئاسة الحكومة. غير أن واصف قال إن النحاس كتب إلى الأميرة نجوان عقب تكليفه بتشكيل الحكومة، طالباً إعفاءه من تمثيل الأمير سيف الدين في الدعاوى القضائية المرفوعة، وإنه لم يتلق رداً منها بقبول اعتذاره عن المهمة. وبالنسبة لواصف فإنه لم يكن هناك ما يمنعه من تمثيل موكيله أمام القضاء، إلا إن كان سيعتذر عن ذلك لأسباب تتعلق بطبيعة منصبه
وفي النهاية، قال ويصا واصف إنه لا هو ولا النحاس باشا كانا على علمٍ مسبق بالرسالة التي أرسلها جعفر فخري إلى فريدون باشا - زوج الأميرة نجوان- وهو ما أكده فخري بنفسه أمام الهيئة البرلمانية للوفد وفي التحقيقات التي أجراها المدعي العام في وقتٍ لاحق

وبالرغم من نفي الوفد ودفاعه، واصلت الصحف المعادية للحزب حملتها، وجددت صحيفة "الاتحاد" مطالبتها باستقالة المحامين الثلاثة من البرلمان وإحالتهم إلى المحاكمة، في حين واصلت صحيفة "لا ليبرتيه" حملتها ضد رئيس الحكومة المصرية ووصفته ذات مرةٍ بأنه "غبي". وقالت صحيفة "الأخبار" إنه في أي بد آخر فإن توجيه اتهاماتٍ من هذا النوع ضد محامين كان سيجبرهم على الاستقالة، قبل إحالتهم إلى المحاكمة. وانتقدت الصحيفة ما ورد على لسان النحاس في صحيفة "الأهرام" من أنه سيبقى رئيساً للحكومة ما دام يحظى بثقة البرلمان

ووسط هذه الأحداث، أصدر الملك فؤاد مرسوماً بإقالة حكومة النحاس. وحتى يتجنب أي اتهاماتٍ بالضلوع في مؤامرة الوثائق المتسربة للصحافة، لم يرد في المرسوم أي ذكرٍ لهذه الفضيحة أو لقضية الأمير سيف الدين. وبرر الملك في مرسومه إقالة الحكومة بتصدع الائتلاف الحكومي

وبالرغم من تلك التطورات، واصل قادة حزب الوفد تحقيقاتهم في قضية الوثائق المسروقة، وكانوا متأكدين من وجود مؤامرةٍ ضد الوفد، وبدوا عازمين على معرفة الطريقة التي تسربت بها تلك الوثائق إلى الصحف، والعقل المدبر للترجمة المشوهة للرسالة التي أرسلها فخري إلى فريد الدين باشا

ولسوء الحظ، واجه الوفديون عقبتين. ومع أنهم أقروا بأن الترجمة العربية للوثائق التركية لم تكن دقيقة، فإن جهات التحقيق أيدت المبدأ الذي رفعه رئيس تحرير جريدة "الأخبار" بشأن حق الصحفي في عدم الكشف عن مصادره. من ناحيةٍ ثانية، لم يكن هناك أحد قادر على أن يوجه إصبع الاتهام علناً إلى الملك بأنه من يقف وراء هذه المكيدة. وأقصى ما أمكن فعله هو التلميح إلى دور السراي بشكلٍ غير مباشر، وهو ما قامت به "الأهرام" على سبيل المثال

ففي عددها الصادر بتاريخ 11 يوليو تموز عام 1928 أجرت الصحيفة حواراً خيالياً بين مراسل "الأهرام" و"شخص ذو اطلاع"، يسأل فيه الصحفي ذلك المصدر عما إذا كان لاحظ شيئاً في هذا الموضوع، فيرد المصدر قائلاً إنه لولا السياسة المحلية ووجود دوافع معينة ما كانت هذه المسألة أثارت كل هذه الضجة. وعندما قال الصحفي إن الادعاء العام يتطلع إلى معرفة الظروف المحيطة بسرقة تلك الأوراق من منزل فخري بك، رد المصدر قائلاً: "هل تظن السرقة مازالت سراً غامضاً؟ الكثير من الناس يعرفون بالضبط كيف حدث ذلك وأنا واحد من هؤلاء". يسأله الصحفي عمن فعل ذلك فيرد المصدر بقوله" السيد اكس، بالطبع، كان الرجل الوسيط". إلى هنا تسكت "الأهرام" عن الكلام المباح في تلك القضية أو الفضيحة





في 29 أبريل نيسان عام 1936 توفي الملك فؤاد الأول، وفي العام التالي توفي الأمير سيف الدين، تاركاًَ ثروته لشقيقته الأميرة شويكار. لم يعد سيف الدين إلى مصر منذ أن غادرها متوجهاً إلى المصحة العقلية في بريطانيا، ولكن بقي التاريخ وحده شاهداً على تلك الحكاية المثيرة في تفاصيلها وأبطالها

وكما أسلفنا، لم يبق من ذكرى الأمير سيف الدين سوى عمارات شهيرة في شارع قصر العيني. أما الأميرة شويكار فقصرها الشهير الذي عاشت فيه فترةً طويلة تحتله الآن رئاسة مجلس الوزراء، وقد تم ذلك أيام النظام الملكي وليس بعد ثورة يوليو كما يتبادر إلى الذهن، إذ اشترته منها الحكومة المصرية في عهد الملك فاروق بمبلغ كبير

يبقى القول إن هناك من يرى أن محاولات الأميرة شويكار إفساد الملك فاروق في أيامه الأخيرة كانت انتقاماً من أبيه الذي أساء إليها وكذلك من جده الذي تقول بعض المصادر أنه قتل جدها بإغراقه في النيل عند كفر الزيات

تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (6): حرب الأمراء



أُحضِرَ الأمير سيف الدين من سجنه إلى المحكمة، وجلس مع أمه وأخته في حجرة جانبية بالمحكمة. وأمام المحكمة قال محامي سيف الدين إن بيان الجريمة تنقصه الدقة، وإن هناك خطأ في تطبيق القانون، وبطلاناً فيما يخص تدخل الأمير أحمد فؤاد في القضية..لكن الأمير سيف الدين عاد إلى سجنه في اليوم نفسه بخُفي حنين، فقد رأت محكمة النقض أنه لا يوجد أي خللٍ في حكم محكمة الاستئناف، ومن ثم فقد رفضت التماس النقض

وبدأ سيف الدين يعاني أكثر تجارب الإذلال في محنة السجن. لم يقتصر الأمر علي أن يعيش جنباً إلى جنب مع أرباب السوابق والمجرمين من نزلاء السجن، بل إن إدارة السجن سمحت للزوار بمشاهدة الأمير السجين وهو يعمل في السجن كنجار. وكان زوار السجن يتطلعون في فضولٍ إلى الأمير وهو جالس على دكةٍ في السجن يحاول - بلا خبرة - أن يحسم بالخشب أشكالاً متنوعة، وكانوا يتغامزون ويضحكون عندما تفلت من بين أصابعه السكين أو بعض المسامير

تحمل سيف الدين كل ذلك فترة طويلة، لكنه في النهاية ثار وتقدم بشكوى، إلا السلطات لم تتحرك إلا بعد مضي شهرين، مطالبةً مأمور السجن بأن يمنع عن الأمير السجين زيارات الإهانة والمهانة

وبعد انقضاء سنةٍ عليه وهو في السجن يتجرع الذل، قدم سيف الدين التماساً إلى الخديو عباس الثاني، إلا أن الأخير أحال الالتماس إلى وزارة العدل. في الوقت نفسه، ذهبت أمه الأميرة نجوان وأخته الأميرة شويكار إلى أبعد من ذلك، وقدمتا التماساً بطلب العفو عنه إلى ملكة انجلترا. غير أن هذه الجهود لم تُجد نفعاً. وعادت الأميرتان لتقدما التماساً إلى الخديو

لكن الخديو عباس الثاني قال في "رقة": إن الشفقة مست شغاف قلبه، لكن الوقت الذي قضاه سيف الدين في السجن لا يكفي للتكفير عن جريمته.. إلا أن الأمير لن يكون مضطراً للانتظار طويلاً حتى يصدر العفو عنه

امتلأت الأميرتان بالأمل، وفسرتا كلمات الخديو على أنها وعدٌ بتعديل الحكم الصادر من محكمة النقض. بل إنهما أبلغتا سيف الدين بأنه يستطيع أخيراً أن يأمل.استبشر سيف الدين خيراً، فتغير سلوكه وبدأ يطيع أوامر السجن دون شكوى، وبدأ يعامل زملاءه من السجناء بأسلوب رقيق

أطلقت عليها الصحف أيامها وصف "حرب الأمراء"

وبدأت الصحف في مصر في الكتابة عن أخبار وأسرار العائلة المالكة، لإشباع فضول القراء، لكنها حرصت في الوقت نفسه على السير فوق حبلٍ مشدود بسبب حساسية هذه المسألة وخطورة الخوض في حكايات عائلةٍ تحكم وتملك الكثير. وربما لهذا كان القارىء مطالباً بالانتباه وفهم الكلام الذي بين السطور

بدت "حرب الأمراء" كأنها مصدر إحراجٍ للعائلة المالكة في مصر بأكملها..ولذا لم يبد مستغرباً أن يستجيب الخديو عباس الثاني لالتماس الرأفة الذي تقدم به الأمير سيف الدين، وكذلك التقرير المرفوع إليه من قبل مدير مستشفى الأمراض العقلية الذي يشهد فيه بأن حالة الأمير العقلية ليست على ما يرام، ويوصي بعلاجه في مستشفى متخصص في بريطانيا


استصوب الخديو عباس الثاني الفكرة. وفي عام 1900 صدر قرارٌ من مجلس حسبي مصر يمنع الأمير سيف الدين من التصرف في أمواله. وبعد أسابيع من قرار الحجر، صدر قرار بالإفراج عن سيف الدين وإرساله إلى انجلترا وفقاً لترتيباتٍ خاصة قام بها لورد كرومر، ثم المفوضية العليا البريطانية إلى مصر، سواء فيما يتعلق بإجراءات السفر أو الإيداع في مصحةٍ للأمراض النفسية

وهكذا امتدت سنواتُ السجن إلى أجلٍ غير مسمى



ويرى البعض أن ما حدث للأمير سيف الدين لم يكن وليد صدفةٍ، بقدر ما كان مخططاً للحصول على ثروته التي كانت تعد من أكبر الثروات في مصر آنذاك..بل إننا حتى الآن عندما نسير في شارع قصر العيني قد نرى عماراتٍ شهيرة، مثل العمارتين اللتين تحملان رقمي 68 و88، زُينت أبوابها الحديدية بشعار سيف الدين. والأمر نفسه مع شارع كورنيش النيل، الذي تقف فيه العمارة رقم 1095 المطلة على نهر النيل، وكانت ملكاً للأمير البائس

غير أن فريقاً آخر يذهب إلى القول بأنه لم يكن متوقعاً أن يبقى الأمير سيف الدين طويلاً في المنفى، إلا أن التطورات السياسية لم تكن في مصلحته. فاندلاع الحرب العالمية الأولى وإعلان الحماية البريطانية على مصر وغير ذلك من أحداث تسببت في مجملها في عددٍ من التغييرات غير المتوقعة، لعل أهمها هو إنهاء السيادة التركية الاسمية على القاهرة وإلغاء الإجراءات الرسمية التي كانت تقضي بأن تجري المصادقة على أي حاكمٍ مصري بفرمان صادر من أسطنبول

وعندما انتهى عهد عباس الثاني في عام 1914، رشحت بريطانيا عمه حسين كامل للحكم بعد أن حصل على لقب سلطان. وبعد وفاة حسين كامل في عام 1917، ورفض ابنه الأمير كمال الدين حسين تولي عرش مصر، لم يجد الإنجليز سوى أحمد فؤاد لتولي العرش

وهكذا، على حين غرةٍ تولى غريم سيف الدين حكم البلاد، وأصبح صعلوك الأمس ملكاً على البلاد. اختير فؤاد، في البداية كسلطان، ولكن جرى تغيير لقبه إلى ملك عقب إصدار إعلان 28 فبراير
1922


وبطبيعة الحال، لم ينس الملك فؤاد الأول أبداً الإصابات التي ألحقه بها الأمير سيف الدين في الكلوب الخديوي قبل نحو ربع قرن من الزمان

بعد فترةٍ وجيزة من اختياره لحكم مصر، أصدر فؤاد مرسوماً يخص العائلة الحاكمة من شأنه أيضا أن يلعب دوراً فى تحديد مصير صهره السابق. وفي المذكرة الملحقة بالمرسوم، على سبيل المثال، يرد أن العائلة الحاكمة هي عماد الدولة بالنظر الى العلاقة مع من يشغل العرش والحقوق المترتبة على الخلافة، وباعتبارها أكبر وأنبل عائلة، والقدوة في السلوك القويم

وتستند المواد الاثنتان والعشرون من مرسوم العائلة المالكة إلى مبدأ أن "من يشغل العرش هو رب العائلة المالكة وبهذه الصفة، فإن له حق الوصاية على أعضائها". كلمة "الأعضاء" تتضمن: أطفال الملك وأبناؤهم، وأخوة وأخوات الملك، وأطفال الخديويات والسلاطين السابقون، المتحدرون من نسل محمد علي وفق النحو الذي ورد في قائمة ملحقة بالمرسوم، وهؤلاء الذي أنعم عليهم الملك بلقب أمير أو أميرة وزوجات أو أرامل السابق ذكرهم إلى أن يتزوجن مرة ثانية

وبعد بضعة أيام، صدر مرسوم ملكي جديد يقضي بأن أعضاء عائلة محمد علي الذين لم يتأهلوا للقب أمير سيعتبرون نبلاء. وفي 4 يوليو تموز عام 1922 نشرت صحيفة "الأهرام" قائمةً تضم 21 أميراً و29 أميرة و29 نبيلاً ونبيلة، يتمتعون جميعاً وبشكل طبيعي بتلك الألقاب. وشملت القائمة الأمير سيف الدين والأميرة شويكار - طليقة الملك فؤاد الأول- والأميرة نجوان والدة سيف الدين. ولم يكن بوسع القصر أن يفعل شيئاً يحول دون أن يثير هذا المرسوم في أذهان الناس ذكرى تلك الحادثة الدموية التي وقعت في الكلوب الخديوي

وبعد ثلاثة أعوام، عادت "حرب الأمراء" لتطفو على السطح بشكل أكثر حدة. ففي 18 أغسطس آب عام 1925 أوردت "الأهرام" أن الديوان الملكي قرر إبعاد محمد سعيد باشا رئيس الوزراء السابق عن منصب القيَم على ممتلكات الأمير سيف الدين، وتعيين محمد علي إبراهيم في مكانه، واختيار رئيس الوزراء السابق يحيى إبراهيم باشا مشرفاً

وفي اليوم التالي شرحت الصحيفة سبب هذا التغيير، قائلةً إن الديوان الملكي تلقى تقريراً مجهول المصدر يفيد بأن سعيد قد اختلس مبلغ 42 ألف جنيه من أموال الأمير سيف الدين. وحين استدعى المجلس الموظف المالي المسؤول واستفسر منه عن المبلغ المتبقي في الخزينة أجاب بأنه 41 ألفاً و245 جنيهاً. إلا أنه بعد فتح الخزينة لم يتم العثور سوى على مبلغ 900 جنيه. واستدعى المجلس محمد سعيد الذي اعترف بأنه أخذ المبلغ المالي الناقص وكتب إقراراً خطياً بهذا الأمر، وطلب السماح له برد المبلغ بالتقسيط. وبالرغم من أن المجلس رفض النظر في طلبه، فإنه وافق على فترة السماح التي طلبها لرد المبلغ المختلس. الغريب أننا حين نتابع ما نشرته "الأهرام" في أعداد لاحقة سنكتشف أن محمد سعيد باشا لم يرد على الإطلاق المبلغ الذي اختلسه

ووفقاً لتقرير رفعه خبير من قسم عوائد بلدية الإسكندرية، فإن أملاك الأمير سيف الدين تضمنت 20 ألفاً و202 فدان من الأراضي الزراعية ومجموعة من الممتلكات -كالقصور والفيلات والعمارات والمحال التجارية- في القاهرة والإسكندرية، علاوة على 20 ألفاً و243 متراً مربعاً من الأرض الخلاء. وأضاف الخبير المالي أن دخل الأمير سيف الدين من أملاكه المختلفة، في عام 1927 وحده، وصل إلى 119 ألفاً و483 جنيهاً. ولم تكن معظم تلك الأموال والإيرادات تصب إلا في جيوب المنتفعين، مثل إسحق أحمد القيَم ما بين عامي 1900 و1901 وحسين فهمي الذي تولى المنصب لثمانية أعوام تلت ذلك التاريخ، والأمير يوسف كمال الذي شغل المنصب لمدة عام، وصولاً إلى محمد سعيد باشا الذي احتفظ بالمنصب والمكاسب لأطول فترة ممكنة، وذلك على مدار عشرة أعوامٍ كاملة

وكان سعيد باشا قد تولى المنصب مكافأةً له على ولائه للعرش، وكانت أصوله التركية ومكانته كأحد النبلاء وعلاقاته مع القصر ضمن المؤهلات التي قادته إلى المنصب، مثلما قادته من قبل لمنصب رئيس الوزراء بعد اغتيال بطرس غالي عام 1910 ثم أوصلته للمنصب المرموق مرة ثانيةً في عام 1919. وبفضل هذه الصلات القوية مع القصر، ابتلع سعيد باشا المال الذي اختلسه ولم ينفذ تعهداته برد المبالغ المستحقة عليه

وسرعان ما وصلت أنباء اختلاس أموال الأمير سيف الدين إلى أمه في تركيا. كانت الأميرة نجوان في ذلك الوقت متزوجةً من شخصية تركية ذات نفوذ، ولذا بدأت من قصرها المطل على ضفاف البوسفور في تدبير خطةٍ ستشكل الفصل التالي من حياة ابنها

والشاهد أن الأميرة نجوان لم تسكت منذ البداية على قرار إيداع ابنها مصحة عقلية في بريطانيا، وهو قرارٌ اعتبرته جائراً، فخاطبت كل أولي الأمر فى مصر وأثارت الموضوع مع لورد كرومر، غير أنها لم تصل إلى حل ينهي مأساة الأمير سيف الدين.. بل إنها ذهبت إلى انجلترا حتى تطالب بالإفراج عن ولدها أو حتى تستطيع زيارته، فقيل لها إنه مجنون وجنونه من النوع الخطر الذي يستوجب استمرار احتجازه في المصحة

ووصلت الأميرة نجوان بعد دفع رشى إلى مكان ولدها الشاب حتى تخلصه من مصيره المظلم، وعرفت ما فعلوه في هذا الشاب الذي كان من أغنى أغنياء المحروسة. فقد شهد حارسه أن الأمير كان في صحةٍ عقلية جيدة عند وصوله للمصحة، واستمر على هذه الحال بضع سنوات كان أثناءها مرحاً وبشوشاً، لكن سنوات العزلة القسرية طالت، ووجد من يدس له ما يوفر له الخمور والدخان. وسرعان ما اندمج الأمير في السكر والسهر والدخان، حتى فقد آدميته وتوحش ثم أخذت حالته النفسية تتدهور عاماً بعد آخر وقواه البدنية تخور

كل ذلك والقيَم على ثروته لا ينفق عليه وهو من يمتلك الملايين من الجنيهات لم يكن يحصل سوى على 4000 جنيه سنوياً، في حين بلغ ريع ثروته نحو 120 ألف جنيه مصري سنوياً

وهكذا أصبحت دائرة الأمير سيف الدين هي الدجاجة التي تبيض ذهباً، وكان الخديو عباس يختار القيَم من أصدقائه ويظل قيماً لسنوات ثم يعزل بعد أن يكتشف سرقته من الدائرة وغناه الفاحش على حسابها

وبعد بضعة أيامٍ من الكشف عن فضيحة سعيد باشا، ذكرت صحيفة "ديلي كرونيكل" البريطانية أن الأميرة نجوان كتبت إلى لندن مطالبةً بالإفراج عن ابنها من المصحة العقلية التي نُقِلَ إليها في مقاطعة كنت. وقالت الصحيفة إن الأميرة هددت بأنه في حال رفض السلطات البريطانية الاستجابة لطلبها فإنها ستطلب تعويضاً قدره أربعة ملايين جنيه استرليني. وفي 4 سبتمبر أيلول عام 1925، نشرت صحيفة "الأهرام" خبراً عن هروب الأمير سيف الدين من المستشفى. لم يكن هناك شك في وقوف الأميرة نجوان وراء واقعة الهروب، نظراً لأنه لم يكن بوسع الأمير التخطيط للأمر وترتيب أمر الفرار سراً، حتى مع افتراض سلامة قواه العقلية



انقسمت الآراء في مصر حول الأطراف الأخرى المتورطة في تلك الخطة. "الأهرام"، على سبيل المثال، رأت أن السلطات البريطانية قد تكون سهلت الهروب. ولم تكن تلك الفرضية بلا أساس، فبحلول صيف عام 1925 كانت العلاقات قد توترت بين المندوب السامي البريطاني لورد لويد والملك فؤاد، بعد استقالة حكومة سعد زغلول وإطلاق يد حسن نشأت رئيس الديوان الملكي، وهو ما جعل بريطانيا تخشى من وقوع اضطرابات شعبية في البلاد. ولذا سعت بريطانيا إلى مجموعة من الحيل والتكتيكات للضغط على الملك فؤاد وإبعاد ساعده الأيمن حسن نشأت



وربما كانت قصة هروب الأمير سيف الدين واحدةً من أدوات الضغوط على فؤاد، الذي رضخ للأمر الواقع فعزل حسن نشأت من الديوان الملكي في 8 ديسمبر 1925، وجرى نقله إلى السلك الدبلوماسي. ومع أن صحيفة "وستمنستر غازيت" طالبت بإجراء تحقيقات قانونية في ظروف وملابسات اختفاء الأمير سيف الدين، فإن الشكوك في الدور البريطاني تعززت عندما نشرت صحيفة "ديلي ميل" خبراً يفيد بأن الخارجية البريطانية لن تطلب من وزارة الداخلية تعقب الأمير الهارب "لأن رحلته لم تكن مخالفة قانونية"

لم يكن خبر هروب الأمير سيف الدين بالأمر السار على الملك فؤاد، الذي طلب من الأمير محمد علي، القيَم على أملاك الأمير سيف الدين، العودة إلى مصر فوراً، وكان محمد علي يقضي الصيف في فرنسا. وكتب الملك فؤاد إلى الأمير محمد علي قائلاً إن هروب سيف الدين إلى تركيا لن يغير من مسألة بقاء أملاكه تحت إدارة القيمَ وتحت إشراف يحيى إبراهيم باشا

وحسب مراسل "الأهرام" في أسطنبول، فإن الأمير سيف الدين وصل إلى الميناء التركي على ظهر سفينةٍ مساء يوم 21 سبتمبر أيلول، ولم يكن أحد على تلك السفينة يعلم بأمره. ووصفه المراسل بأنه شاب نحيل، ذو بشرة داكنة، يرتدي معطفاً رمادي اللون ويضع على رأسه قبعة. وعقب نزوله من السفينة، تبعه فريد الدين باشا زوج الأميرة نجوان، والدة سيف الدين. بدا الأخير متعباً ومتكئاً على حارسه الإنجليزي ذي القامة الطويلة. وعقب نزول "البرنس" إلى قاربٍ لينقله إلى الشاطيء، أشعل سيجارةً وأخذ يتأمل في مياه البوسفور

وبعد يومين، أبلغ فريد الدين باشا الصحافة بالقصة الحقيقية لرحلة الأمير، قائلاً إن البرنس غافل حراسه في 31 أغسطس آب وأبحر إلى فرنسا حيث كانت أمه وزوجها في انتظاره. استقل الثلاثة طائرة إلى باريس حيث أخذوا يتنقلون بين الفنادق ويغيرون السيارات التي يستخدمونها لتضليل من يحاول تعقبهم، خصوصاً من عيون وجواسيس الملك فؤاد. حلق الأمير سيف الدين ذقنه واختفى عن الأنظار قدر الإمكان، إلى أن تمكنوا من الحصول على جوازات سفر، ثم سافروا إلى مارسيليا وأبحروا منها إلى أسطنبول. وعلى سبيل التمويه، كانت رحلتهم البحرية في الدرجة الثانية، حتى لا يلفتوا الانتباه إليهم

وبينما قال وزير الصحة البريطاني رداً على استجواب في مجلس العموم إن ثلاثة اخصائيين فحصوا الأمير سيف الدين في عام 1924 واستنتجوا أنه يعاني من اضطراب عقلي، قال زوج أمه فريد الدين باشا إن "البرنس" عزا حالته إلى سوء المعاملة في المستشفى، حيث جرى مع الزيارة عنه ولم يكن يُسمح له بالخروج إلا مرةً واحدة في الأسبوع


على أن أفضل تفسيرٍ لحالة سيف الدين جاءت على يد مراسل تركي أجرى حواراً مع "البرنس". كتب الصحفي قائلاً: "إنه بالكاد قادرٌ على جلب كأس من الجعة إلى فمه دون أن يتسرب منه بعض المشروب، كما أن يده تهتز بشكل عنيف. إنه يسير بشكل واهن وذاكرته أصبحت بالغة الضعف. وكل ما يهمه الآن هو الأكل والشرب بشكلٍ جيد، والنظر إلى النساء والاستماع إليهن وهن يتحدثن. وإذا رأى امرأة في الشارع فإنه يتوقف عن الكلام حتى يحملق فيها"



وفي تركيا، برز تساؤلان، يتعلق أولهما بمسألة تسليم الأمير سيف الدين إلى الحكومة المصرية، والثاني مرتبط بمصير أملاكه في مصر. تولت السلطات التركية مهمة السؤال الأول، فقالت إنه نظراً إلى أن الأمير مولودٌ لأبوين تركيين فإن له حق البقاء في تركيا وأن يصبح مواطناً تركياً بموجب اتفاقية لوزان لعام 1923. وبالطبع فإن الأمير سيف الدين، أو على الأقل من كان يتخذ القرارات نيابةً عنه، اختار هذا المخرَج المناسب بلا أدنى تردد، ليس فقط لأنه ينقذ "البرنس" من براثن الملك فؤاد وإنما أيضاً لأنه يفتح نافذة للأمير كي يطالب بثروته

وبدا مفهوماً أنه في حال حصول الأمير سيف الدين على تقرير واضح من السلطات الصحية التركية يؤكد سلامة قواه العقلية فإنه سيكون بوسعه نيل حُكمٍ من القضاء التركي يمنحه الحق في استعادة أملاكه. ومن تلك النقطة يمكنه أن يقيم دعوى أمام المحاكم المختلطة في مصر. وهذا بالضبط ما حدث، مما استدعى إقامة سلسلة من الدعاوى القضائية، تسببت إحداها في إسقاط أول حكومة شكلها الزعيم الوفدي مصطفى النحاس
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة ( 5): ارحمني يا فؤادي


بينما تبين أن البرنس فؤاد لم يمت بعد أن أُخرِجَت الرصاصة التي أصابت فخذه، وبقي قيد الملاحظة في "الكلوب" نتيجة نفاذ الرصاصة الثانية من بطنه إلى صدره، كان الجاني يقضي ليلتين في قسم عابدين
بعد نجاح العملية الجراحية التي أجريت له وتماثله للشفاء، كان أول قرارٍ اتخذه الأمير أحمد فؤاد هو تطليق الأميرة شويكار التي كان قد أنجب منها الأميرة فوقية، زوجة فخري باشا سفير مصر لدى فرنسا. وحين وصلتها ورقة الطلاق، كانت الأميرة شويكار حاملاً في شهرها الثاني
قال البرنس أحمد سيف الدين في التحقيقات الرسمية إنه كان ينتقم لأخته التي يعذبها البرنس فؤاد. إلا أن الأميرة شويكار نفت أن تكون قد اشتكت زوجها لأخيها، وحاولت أن تثني البرنس فؤاد عن قرار تطليقها، وأرسلت له رسائل تستعطفه وتعتذر له. وقد احتج في المحاكمة بكتبها له، كما احتج بكتبها ورسائلها إلى عمها وعمتها وأخويها وغيرهم، حيث كانت تشكو منه. ونكتفي من رسائل الاستعطاف بنشر هذا النموذج الذي يحكي عن نفسه
"عزيزي فؤاد
أكتب لك هذا وأنا باكيةٌ، وقلبي ألف قطعة، بل وأنا في حالة الجنون ولا أصدق أن فؤادي لا يريدني؛ لأني عالمة أنك تحبني شديد الحب
نعم، أنا أعترف بأني مخطئة فيما كنت أقول من الأقوال الفارغة، ولكن أنت تعلم أنني عصبية، فأنا أقبل قدميك وأستحلفك بأمك وبقبر والدك كي تسامحني
فإن لم يكن صفحك نظراً لخاطري فنظراً لخاطر بنتنا (وكيجة) -تقصد فوقية- وللجنين الذي سيولد بعد سبعة أشهر
إنني سأعتبر نفسي جارية لك، كأنك اشتريتني بالمال من عند الياسرجي، وأكون مطيعة لأوامرك، ولا أحسب نفسي مطلقا أنني من عائلة (أحمد) المتهم - وهل تظن أيها العزيز أني قادرة على تحريض أحمد - هذا الأهبل- أن يفعل أمراً شنيعاً كالذي فعل؟!
هل أحرضه على أن يقتل زوجي والد ولدى
إنني أقسم لك بأن مثل هذا الأمر ما خطر بفكري قط
ارحمني يا فؤادي، اشفق علي وسامح جاريتك؛ إذ لا يمكنني أن أعيش دونك، إن غاية ما كنت أتمناه لك من صميم فؤادي الصحة ولله الحمد قد رجعت لحبيبي فؤاد
والآن أقبل قدميك وأبقى في ظلك واسمح لي فقط باللقاء ولو مرة واحدة وأموت بعدها
( شويكار)"

إلا أن السهم كان قد نفذ ولم يعد هناك أي أمل عن التراجع، خاصة بعد أن وافقه شقيقاه البرنس حسين والبرنس إبراهيم
تركت الأميرة شويكار قصر الزعفران لآخر مرةٍ إلى سراي والدها في قصر الدوبارة..وأرسلت عمتها عين الحياة هانم أفندي إلى سراي الزعفران لأخذ بقية أمتعتها
أما الأمير أحمد سيف الدين فكان يعاني آنذاك من متاعب الحبس، وخاصة "البق" الذي يحرمه من النوم
بدأت المحاكمة في أواخر يونيو حزيران عام 1898 وكان البرنس سيف الدين طوال مدة المحاكمة رابط الجأش، هادئاً، شاخصاً إلى الأمام، لا يلتفت يمنة ً أو يسرةً، كأن القضية لا تعنيه في شيء
دفع محامو سيف الدين بأنه مختل عقلياً ولم يكن يقصد القتل، ولكن التهويش فقط. حكمت المحكمة على الأمير سيف الدين بثبوت تهمة الشروع في قتل "دولة البرنس فؤاد باشا" –الذي كان قد دخل القضية كمدعٍ بالحق المدني- وبسجنه سبع سنوات تحسب منها مدة الحبس الاحتياطي، وبتعويض للمجني عليه قدره 1845جنيهاً إفرنكياً، وذلك قيمة ما صرفه البرنس فؤاد على الأطباء والأدوية فقط، وبإلزامه بالمصاريف، ورفضت دعوى الحجر التي كانت مرفوعةً أيضاً، قائلةً إن المتهم سليم العقل وإنه كان يقصد القتل لا التخويف

وتقول صحيفة "المنار" في متابعتها للمحاكمة: "قد أهين المتهم بالدفاع عنه، حيث رمي بالعته وضعف العقل وبالحكم عليه، حيث ذكر الرئيس في تعليلات الحكم وحيثياته أن الذي دفع به إلى الجناية عدم التربية الصحيحة، وهاك عبارة الرئيس في ذلك: "وحيث إن سيرة المتهم منذ صغره لا تدل على أنه تربى كما يليق بشأنه، وقد تيتم قبل أن تتمكن منه صفات الرجال ووجد نفسه ذا ثروةٍ واسعة مطلق السراح ولم يكن له من معاشريه ومخالطيه من يطلب له السعادة بإهداء رشيد النصح وتمثيل الفضائل له بما يحرضه على اعتناقها، فمال طبعاً إلى ما يميل إليه من خلص من كل القيود وكان له مكانته الاجتماعية نصيراً على عدم التصادم بجزئيات الحوادث كل يوم"

وطوال الوقت الذي نطق فيه رئيس المحكمة بالحكم، ظل الأمير سيف الدين واقفاً في قفص الاتهام، وقد تقلص وجهه بفعل الأسى ونظرات عينيه تنطق باليأس، لكنه بالرغم من ذلك، لم ينطق بكلمة احتجاجٍ واحدة
هكذا وجد الأمير سيف الدين نفسه خلال ثلاثة أيام يواجه عقوبة السجن، في حين قرر محاموه الطعن على الحكم بالاستئناف
كان للحكم الذي صدر بحبس الأمير سيف الدين سبع سنواتٍ بتهمة الشروع في قتل الأمير أحمد فؤاد أصداء كبيرة ومتباينة. ففي اليوم التالي مباشرة لصدور الحكم، صدرت جريدة "ايجيبشيان غازيت" وهي تحمل مقالاً درامياً قالت فيه: "إن محاكمة الأمير أحمد سيف الدين لم تكن مثيرة للاهتمام فقط لأنها أتاحت للجمهور الفضولي أن يلقي نظرةً على ما يجري من مشاجرات داخل الأسرة الخديوية، ولكن لأنها قدمت مثالاً رائعاً على أن جميع المواطنين متساوون أمام القانون. وعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية تجعل كل الناس سواسية، فإن هذا المبدأ حتى سنواتٍ قليلة لم يكن مطبقاً من الناحية الواقعية"

وأضافت الصحيفة: "إن السير إدوارد ماليت قال وهو يغادر مصر "إن العدالة هي ما تحتاج إليه البلاد أكثر من أي شيء"، وإن لورد كرومر لم يتوقف يوماً عن سعيه للارتقاء بمستوى أداء المحاكم الأهلية في مصر"

وقالت "ايجيبشيان غازيت": إن قضية الأمير سيف الدين عكست مدى الجهد الذي بُذِلَ لإشباع شعور الناس بالعدالة، وبالطبع مازال ثمة قصور في سير العدالة. ولازالت الرشوة والمحسوبية موجودة في أنحاء كثيرةٍ ومترامية من البلاد، وقضية سيف الدين تعد أهم قضيةٍ جنائية تنظر أمام محكمةٍ أهلية من البداية للنهاية، والحقيقة أن المحاكم الأهلية في مصر قدمت الكثير للعدالة، وإذا استمرت على الأداء نفسه فإنه سيتم التغلب على أكبر عقبة تقف في طريق استقلال مصر"
وكان السير ألفرد ملز قد كتب قبل خمس سنوات من ذلك التاريخ يقول إنه إذا أمكن الارتفاع بمستوى أفراد هيئات المحاكم الأهلية، إلى حد يضمن تطبيق روح القانون، فإن المبرر الوحيد لوجود سلطات قضائية أوروبية في مصر - المحاكم المختلطة - سيكون قد فقد دواعي وجوده
وأنهت الصحيفة مقالها قائلة إنه "ما من وطنٍ استعاد صورته أمام أنظار العالم المتحضر بالسرعة التي فعلت بها مصر ذلك، ومحاكمة الأمير سيف الدين، يجب أن تظهر لأوروبا أن مصر في إمكانها الاستغناء عن تدخل القوى الدولية في تطبيق العدالة"

وقد سجلت جريدة "الأهرام" أن الجمهور الذي حضر المحاكمة من بدايتها كان يستحب أن تكون الرأفة بالمتهم أعظم، والحكم أخف وطأة. وأضافت: "لكن للأسف فإن حيثيات الحكم نقضت دفاع المحامين، الذين أدوا ما عليهم من واجب في الظروف الحرجة التي تمت فيها المحاكمة"
وقالت "الأهرام" تصف المحاكمة كلها: "كانت هذه الأيام الثلاثة الأخيرة أياماً مشهودة.. للفصاحة والبلاغة، والفضل والعدل"
أما صحيفة "المنار" فقد اهتمت بمسألة القضاء المصري فقالت: "إن انتظام أمر المحاكم تحقيقاً وتدقيقاً وضبطاً وعدالة أطلق الألسنة بالثناء واللغى المختلفة على حضرة القاضي الفاضل صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية وافتخر به المصريون بحق واحتجوا به على أنهم قادرون على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وبمثل سعادته تنهض لهم الحجة، ولولا ضيق المجال لأسهبنا بما شاهدناه كما أسهبت الجرائد اليومية ولكننا نكتفي بتصديقها بما حكت وأثنت"
غير أن أحمد فتحي زغلول - شقيق زعيم حزب الوفد سعد زغلول- هو نفسه عضو المحكمة في قضية دنشواي ورئيس محكمة مصر الابتدائية الذي كتب حيثيات الحكم بخط يده في تلك الحادثة التي تعد رمزاً للظلم في عهد الاحتلال

نعود إلى الأمير سيف الدين
كان الأمير يشعر وهو في السجن أن المحكمة عاملته بقسوة، وكان قد بدأ إجراءات استئناف الحكم بحبسه سبع سنوات. وعندما طلب مقابلة النيابة ورفض طلبه فاجأ الجميع بأغرب تصريح وهو أنه قد قرر الاستغناء عن خدمات علي بك جلال ممثله القانوني، ووضع مكانه شقيقته الأميرة شويكار
وتساءل الناس: هل لغير ذلك أن تظهر الأميرة شويكار كمحاميةٍ تترافع عن شقيقها، على غرار ما فعلته بورشيا في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"
مضي شهران قبل أن يتم تحديد يوم 16 نوفمبر تشرين ثانٍ من العام نفسه لنظر الاستئناف، لكن قبل أن يحل الموعد حدثت مفاجأة أخرى: حيث قرر رئيس محكمة الاستئناف صالح بك ثابت التنحي عن نظر الاستئناف لأن أخاه قد تزوج من الأميرة شويكار أخت المتهم

وعندما تم تعيين عفيف بك رئيساً جديداً للمحكمة طلب منه الأمير سيف الدين تعيين أي محامٍ يراه لكي يتولى مهمة الدفاع عنه، لكنه أخذ بعد ذلك يرفض أسماء المحامين الذين اقترحتهم عليه المحكمة. وفي موعد المحاكمة لم يكن لديه ممثل قانوني، وعندما سأله رئيس المحكمة عن اسمٍ يرشحه شخصياً، رشح الأمير سيف الدين إبراهيم بك الهلباوي محامياً عنه
ولم يكن إبراهيم الهلباوي موجوداً في القاهرة في ذلك الوقت
ولأن القانون يرفض أن يكون لطالب الاستئناف محام، فقد اضطرت المحكمة إلى تأجيل نظر الاستئناف. وتم إرسال خطابٍ إلى الهلباوي لسؤاله إن كان يقبل الدفاع عن سيف الدين
وتحدد يوم 7 ديسمبر كانون أول لجلسة الاستئناف
لكن إبراهيم بك الهلباوي طلب التأجيل لأنه لم يكن لديه وقتٌ كافٍ للاطلاع على القضية التي سيترافع فيها، فتأجلت الجلسة أسبوعاً
ويوم 14 ديسمبر كانون ثانٍ، وفي التاسعة صباحاً، افتتحت الجلسة.. وغصت المحكمة بالمشاهدين
دخل الأمير سيف الدين القاعة ومعه أحب الناس إليه: أمه الأميرة نجوان وشقيقته الأميرة شويكار، اللتان جلستا الصف الأول بالقرب من مكان المحامين
ووقف عبدالله بك سميكة ممثل الادعاء يستعرض تفاصيل القضية في مرافعةٍ بليغة طلب في نهايتها تأييد حكم حبس الأمير سيف الدين سبع سنوات، وأيضاً أن يتحمل جميع النفقات
ثم شخصت أبصار الحضور نحو إبراهيم بك الهلباوي محامي سيف الدين عندما وقف ليقدم مرافعة الدفاع
انطلق الهلباوي في مرافعته يدافع عن جريمة سيف الدين، وألقى بقنبلةٍ في قاعة المحكمة حين قال إن أفعال الأمير تستحق الصفح أكثر من أي شيء آخر، لأن سببها معاناة الأمير من نزعاتٍ أحادية موروثة واختلالٍ عقلي، حيث تتغلب عليه حالة التركيز على شيء واحد أو فكرة واحدة
وحدثت مفاجأةٌ مذهلة، إذ فوجيء الجميع بالأمير سيف الدين في تلك اللحظة يهب واقفاً وهو يصيح بأنه ليس في حاجة إلى خدمات محامٍ يقول عنه أمام الجميع إنه مجنون
بدا وجه سيف الدين شاحباً من شدة الغضب. وشهقت أمه وأخته من تلميح محاميه بأنه مجنون
توقف إبراهيم بك الهلباوي عن الكلام، وتبادل القضاة النظرات في دهشة، وساد القاعة صمت متوتر
لحظات وتمالك المحامي إبراهيم الهلباوي نفسه، واختتم مرافعته مطالباً المحكمة بضرورة تخفيف الحكم
وبالرغم من ثورة الأمير سيف الدين على دفاع الهلباوي عنه والدفع بأنه مختل عقلياً، فإنه استفاد من ذلك، فعندما فض القضاة الجلسة للمداولة ثم عادوا.. أصدروا الحكم التالي: على صاحب السمو أحمد سيف الدين أن يودع في السجن خمس سنوات، وأن يسدد نفقات علاج سمو الأمير أحمد فؤاد، وأيضاً مصروفات القضيتين
وهكذا تم نقل سيف الدين وهو في حالة يُرثى لها إلى عربة السجناء التي أسرعت به إلى سجن الجيزة. وعندما أغلِقَت بوابة السجن عليه في ذلك اليوم عرف أنه لن يعامل أبداً كأمير، وأنه من الآن فصاعداً ليس سوى شخصٍ مدانٍ يقضي عقوبته وراء القضبان

ولأنه لم يكن مسموحاً بأن يكون هناك سجينٌ عاطل عن العمل، اختار سيف الدين أن يعمل في ورشة النجارة بالسجن

وفيما عدا حفنةٍ قليلة من الأصدقاء المخلصين، فإن الأمير البائس لم يحظ إلا بقليلٍ من التعاطف، وبدأت الصحف تتناول حياته في السجن بتعليقات قاسية مليئة بالسخرية، وتحدثت عنه الصحف بالكثير من الشماتة عن الذل الذي يعيشه في السجن..لكن جريدة "ايجيبشيان غازيت" كتبت باعتدال تقول: "إن سمو الأمير سيف الدين تقدم بطلب لرفع قضيته إلى محكمة النقض. وهو يؤكد أنه إذا أعيدت محاكمته فإنه سيقدم البواعث التي دفعته ليفعل ما فعل. ومع هذا فإن طلبه لن يُجاب"

لكن الصحيفة نفسها لم تستطع مقاومة الرغبة في التهكم على الأمير السجين، فأضافت: "وبما أن سموه سيكون في السنوات الخمس المقبلة مشغولاً في النجارة وأعمال أخرى متواضعة لكنها مجدية، فإنه لن يتمكن من الاهتمام بأملاكه. وستقوم السلطات القضائية باختيار بعض المشرفين الذين سيديرون شؤون الأمير المالية طيلة فترة بقائه في السجن"

لكن الذي حدث فعلاً أن محكمة النقض انعقدت للنظر في التماس سيف الدين
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (4): رصاص في الكلوب





بعد يومين من الواقعة، كان الأمير أحمد فؤاد قد اكتشف هروب زوجته، فعاد على الفور إلى القاهرة وتوجه إلى قصر أصهاره في الجزيرة
في القصر وجدت الأميرة شويكار شقيقها "البرنس" سيف الدين، فروت له كل ما حدث ومعاناتها داخل قصر الزعفران من زوجها المقامر السكير وحماتها سليطة اللسان

هنا، لا بد أن نتوقف قليلاً لنحكي عن الأمير سيف الدين


فقد كان هذا الأمير يعيش مأساة شخصية..خيط البداية لهذه المأساة هو قصة عنيف عاشها سيف الدين في القاهرة، إذ ارتبط عاطفياً بالأميرة نعمت هانم ابنة "البرنس جلال" وتقدم يخطبها لنفسه، وأخذ يتبادل معها رسائل غرامية بالتركية والفرنسية ووجد فيها صديقة يبدو أنها قدرت حالته العصبية المضطربة التي أثرَت في عاطفته المرضية تجاهها..لكن أعصابه أخذت تتوتر وتفاقمت حالته العصبية..فقد أخذت الأسرة تتندر على الخطابات التي يرسلها إلى خطيبته، وأهمل شقيقه الأكبر الأمر..ثم بدأ عمه الأمير أحمد كمال يبدي اعتراضاتٍ على الزواج ويشهٍر بتصرفاته العصبية أمام أنسبائه لينفرهم منه، وهو الدور نفسه الذي لعبته عمته "البرنسيس" عين الحياة هانم أفندي، وكانت أميرة عجوزاً من النوع التركي الصارم إلى حد العدوانية. وقد وجدت في الأمير أحمد سيف الدين هدفاً سهلاً لعدوانيتها المستمرة، لذلك لم يكف لسانها الشرس عن التشهير بالعاشق المسكين


لم يستطع سيف الدين مواجهة هذه الضغوط على شخصيته المريضة عصبياً إلا بالإغراق في احتساء الخمر، لتبدر منه تصرفاتٌ أكثر طيشاً وتوتراً، لدرجة أن عمه بدأ يهدد بأن يضعه تحت الوصاية ويطلب الحجر عليه من المجلس الحسبي بداعي السفه، خاصةً بعد أن سجلت محاضر الشرطة حوادث تدل على نزقه وهو عصبيٌ أو مخمور

وفي تلك الفترة كانت شقيقته شويكار تعاني أيضاً من تصرفات زوجها، فهربت إلى قصر أسرتها باحثةً عن حلٍ أو مواساة



اصطحب البرنس سيف الدين أخته ليتمشى معها في حديقة القصر وليهديءمن روعها






وبعد قليلٍ حضر البرنس فؤاد وشاهدهما من بعيد. فطلب من جاريةٍ حبشية أن تخطر الأميرة شويكار بأنه ينتظرها في صالون القصر
بعد دقائق، صعدت إليه الأميرة شويكار مع شقيقها الأمير سيف الدين
لكن البرنس فؤاد تجاهل وجود شقيق زوجته، وطلب من الجارية أن تخبره بأن يتركه مع زوجته


وبكل هدوءٍ انصرف البرنس سيف الدين إلى صالون مجاور


وبأسلوبٍ لا يخلو من العجرفة والتعالي، أخذ البرنس أحمد فؤاد يصرخ في زوجته لأنها هربت من قصر الزعفران دون إذنه، فصرخت فيه الأميرة شويكار: "اسمع.. أنا مش جاريتك"!


ثار البرنس فؤاد، وصاح فيها: "أنتِ.. لازم ترجعي الآن قصر الزعفران"
ردت عليه في إصرار: "أبداً، لن أعود إلى الزعفران.. سأعيش هنا وسط إخوتي ليحموني.. وإذا كنت تريد أن تعيش معي هنا أو في قصر الدوبارة لا مانع.. أو حتى تستأجر لي قصراً في القاهرة.. لكن الزعفران مستحيل"!


تناثرت الشتائم وتناولت الآباء والأجداد، وارتفعت الأصوات أكثر عندما تحدثت عن التوكيل، وطالبته بالتنحي عن التصرف في أموالها..جن جنون البرنس فؤاد وجذبها من يدها بشدةٍ من المقعد الذي كانت تجلس عليه.. فاندفعت بقوة الجذب إلى وسط الحجرة، وهي تصرخ مستغيثة. وهنا أسرع شقيقها الأمير سيف الدين لإنقاذها، واندفع يوجه لكمةً هائلة إلى الأمير أحمد فؤاد..لكن الأخير كان أقوى جسدياً، فرد الصاع صاعين، وأوسع الأمير سيف الدين ضرباً.. ولم يجد سيف الدين أمامه سوى أن يهرب من المكان هابطاً درجات السلم، في حين كان الأمير أحمد فؤاد يصرخ في أحد الخدم: "امسك الكلب ابن الكلب ده.. وسلمه للبوليس يحبسه"


وبينما سيف الدين يغادر القصر، كان فؤاد يسحب زوجته من شعرها على سلم القصر وهي تقاومه..هبط بها بالقوة، حيث كانت عربته تنتظره لتعود بها إلى قصر الزعفران


ومن سجنها في هذا القصر كانت شويكار تبعث برسائل إلى شقيقها تقطر ألماً، ومن ذلك قولها: "أؤكد لك يا أخي أن كل كسرة خبز آكلها تشعرني بخوفٍ لا حد له..أستودعك الله يا حبيبي..ومني لخطيبتك ألف قبلة.. الصبر..فبعد قليل سأكون بعيدة عن هؤلاء"

أصبح سيف الدين على يقين من أن شقيقته في خطر، وزادت وساوسه فتصور أنهم قد يدسون لها السم أو يقدمون لها عقاقير تذهب بعقلها. وبعد أن فشل في إيجاد من يتدخل لإنهاء معاناة شقيقته سواء مع الخديو عباس حلمي الثاني -ابن شقيق البرنس فؤاد- أو اللورد كرومر ممثل الاحتلال البريطاني في مصر، كشفت له شقيقته شويكار عن سرٍ خطير، مفاده أن زوجها يغريها بدس السم لشقيقها سيف الدين لترثه ويستمتعا معاً بأملاكه وثروته الطائلة


في صباح اليوم التالي، بدأ سيف الدين برنامجاً للتدريب على إطلاق الرصاص

وحين أطل صباح يوم السبت الموافق 7 مايو أيار عام 1898 كان القدر يعد للعائلة المالكة في مصر دراما من نوعٍ مأساوي شديد اللهجة وهو إطلاق الرصاص

ذهب سيف الدين في ذلك اليوم إلى محل "بايوكي" للأسلحة والذخائر وطلب خرطوشاً لمسدسه. وما إن غابت الشمس حتي كان الأمير سيف الدين قد حشا معدته بكمية من الخمر ومسدساً بالرصاص ودماغاً بأفكار سوداء
توجه سيف الدين إلى الكلوب الخديوي في شارع المناخ..وفي شرفة النادي كان البرنس فؤاد يقف مع صديقه نقولا صباغ يتحادثان..لمح نقولا مركبةً تسرع آتيةً من شارع الإسماعيلية - التحرير حالياً- في اتجاه الشارع الذي يقع الكلوب على ناصيته - وهو شارع رشدي الآن- فحدق فيها ليرى البرنس سيف الدين. لفت نظر البرنس فؤاد إلى الأمر..فما كان من الأمير أحمد فؤاد إلا أن قال هازئاً وضاحكاً: "لعله قادمٌ لقتلي"

وقد كان

سأل سيف الدين بواب الكلوب عن البرنس فؤاد، وكان الأخير عندما يذهب إلى النادي يلعب البلياردو فترة قليلة، ثم يعكف على الشراب مع لعب القمار حتى ساعة متأخرة من الليل. قفز سيف الدين إلى صالون الدور الأول.. وما كاد كعباني باشا ناظر "أي وزير" الحربية يقف لتحية البرنس فؤاد، ومظلوم باشا وزير المالية يطوي صحيفةً كان يقرؤها، حتى كان البرنس أحمد سيف الدين يقف أمامهم وهو يشهر مسدسه. أدرك فؤاد على الفور ما يضمره سيف الدين الذي صاح في وجهه: "سأقتلك". اختبأ البرنس فؤاد خلف عياني باشا ثم انسحب في اتجاه قاعة لعب القمار

وبعد حوارٍ قصير تبادلا فيه الشتائم باللغة الفرنسية، أخرج سيف الدين مسدسه وأطلق على صهره ثلاث رصاصات، إلا أن الطلقات الثلاث لم تود بحياته, ففي حين استقرت الأولى في فخذه وطاشت الثانية لتصيب كُم ثوبه, أصابت الثالثة - وهي أخطرها- أسفل البطن، فمرت تحت الكبد وانتهت قرب القلب. في المقابل، أخرج فؤاد مسدسه من جيبه الخلفي وحاول إطلاقه، لكن ظنه خاب إذ كان خالياً من الرصاص


وقع البرنس فؤاد على الأرض.. انحنى عليه الكونت دي لاسال..قال له أحمد فؤاد بالإيطالية: "لقد مُتُ يا عزيزي لاسال..قتلني"، في حين قال سيف الدين بالإنجليزية


Finish
(أي انتهى)
نزل سيف الدين بثباتٍ، لكن يعقوب آرتين وكيل نظارة (أي وزارة) المعارف الذي سمع الصيحات وإطلاق النار أمر البواب بإغلاق باب النادي. حاول الجاني فتح الباب فلم يستطع.. أطل عليه من باب الكلوب الزجاجي عسكري..طلب منه البرنس أن يفتح الباب، لكن العسكري اشترط عليه أن يعطيه المسدس أو أن يستسلم، فقرر تسليم نفسه، ليتم اقتياده إلى قسم شرطة عابدين

وفي طريقه إلى القسم كان "البرنس" هادئاً للغاية، وكان يسير على قدميه والمسدس في يده وبصحبته العسكري وخلفه على مسافة قصيرة عددٌ من الباشوات. على مكتب المعاون وضع البرنس المسدس أداة الجريمة، وقال بهدوءٍ: "لقد قتلت الأمير فؤاد لأنه عدو عائلتنا هو وعمه الخديو عباس، الذي منذ أن جلس على كرسي الحكم يتصدى لنا ويناصبنا العداء"

ولي العهد -السلطان فيما بعد- حسين كامل، علق على ما جرى قائلاً: "في أسرتنا أي الأسرة المالكة، من هو سكير، ومن هو نصاب، ومن هو مقامر.. ولكن كنا نظن ليس بيننا قتلة وسفاكون"



أما الأميرة شويكار فعندما علمت بما حدث لم تهتم كثيراً، بل إنها - كما قالت في مذكراتها- خاطبت نفسها قائلةً: "في ستين داهية..راجل بلطجي"
في الليالي التالية، سهرت القاهرة وهي تتابع فصول المأساة وتتعرف أكثر على الكواليس السرية للعائلة المالكة، وأحصت الجرائد اليومية جزئيات هذه الحادثة من يوم وقعت إلى يوم الحكم فيها حتى جاءت -كما يقال- بالذرة وأذن الجرة


صحيفة "المنار" الأسبوعية قالت تعليقاً على الحادث إن "هذه أول دعوى وقعت في القطر، سيق فيها أحد عائلة الإمارة، بل أسرة الملك إلى المحكمة، وأوقف فيها في موقف المجرمين، وحكم عليه بالعقوبة، وكان من شهودها الوزراء : كعباني باشا ناظر الحربية، ومظلوم باشا ناظر المالية، ويعقوب أرتين باشا وكيل نظارة المعارف





وأضافت الصحيفة قائلة "إن هذه الحادثة قد كشفت الستار عن كثيرٍ من الشؤون الداخلية لهذه العائلة العظيمة القدر، تمس مقام غير أمير وأميرة منها، وترميهم بالطمع الشائن مع واسع ثروتهم، وما سبب ذلك إلا التربية الإفرنجية الخاسرة. دع ذكر المبالغ العظيمة التي طلبتها دولة الأميرة "البرنسيس" نازلي هانم من المتهم لإنقاذه، وذكر المعاملة القاسية التي كان يعامل بها دولة فؤاد باشا قرينته الأميرة شويكار هانم لأجل توكيله على أمور مالية، حتى كان من تبرمها وشكواها لأخيها سيف الدين بك ما حركه على الانتقام منه ، كما شكت لعمها صاحب الدولة أحمد كمال باشا ولغيره"

غير أن المفاجآت توالت في تلك الحادثة.. وكان أولها أن الأمير أحمد فؤاد نجا من الموت
تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (3): زوجة البرنس المفلس






كأن الرصاص لغة العاطفة، التي لا تسلم من الأذى إلا حين يراق على جوانبها الدم

بطل الأحداث التالية هو الأمير أحمد سيف الدين. شابٌ رفيع، طويل القامة، يتمتع بقدرٍ من الوسامة، عصبي المزاج.. من أكثر أمراء العائلة المالكة المصرية إثارةً للضجيج في القرن التاسع عشر، مع أنه لم يتول أي منصب رسمي في حياته داخل القصر الملكي أو خارجه.. وهو حفيد إبراهيم باشا نجل محمد علي
الطرف الثاني من القصة هو الأمير أحمد فؤاد الذي أصبح فيما بعد السلطان فؤاد ثم "صاحب الجلالة الملك فؤاد"..والد الملك فاروق الأول

وبينهما امرأة: الأميرة شويكار.. شقيقة الأول وزوجة الثاني

وبالرغم من أن الأمير أحمد فؤاد أو "البرنس فؤاد" كما كان يطلق عليه في تلك الأيام كان سليل الحكام، باعتباره أصغر أنجال حاكمٍ شهير هو الخديو إسماعيل، وحفيد حاكمٍ أشهر هو محمد علي باشا الكبير، فإن شخصية البرنس أحمد فؤاد في الواقع كانت نموذجاً للشاب المستهتر

وفي أوراقه التي تحمل عنوان "حكايات من دفتر الوطن" يرسم الكاتب صلاح عيسي صورة "البرنس فؤاد" في تلك الأيام قائلاً:

في تلك الأيام، وبالتحديد في عام 1895 كان البرنس أحمد فؤاد في السابعة والعشرين من عمره. وكان معروفاً آنذاك في أوساط العائلة المالكة بأنه شاب مفلس كثير الاقتراض مقامر.. سكير.. وهي شهرةٌ تعدت الأوساط الملكية لتصل إلى رجل الشارع العادي، الذي كان يصف البرنس فؤاد بأنه "شمام" وهو تعبير يصف تدهور أحواله العامة وافتقاره للاحترام الاجتماعي

كان بتعبير المرحوم بيرم التونسي "مقامراً لا ترحب به أندية القمار" لأنه مفلس ولا يسدد ديون اللعب، وكان يركب الحنطور ولا يدفع لحوذي عربة "الحنطور" أجرته، ويطرق منازل أصدقائه ليلاً ويطلب الطعام.. وبدا هذا كله طبيعياً لأنه ابن الخديو إسماعيل


وكما يقول الأديب يحيى حقي، فإن الفرع الذي ينتمي إلى إسماعيل من سلاطين وملوك أسرة محمد علي فرع شرهٌ إلى المال بدرجةٍ مرعبة، فمن تولى منهم العرش: توفيق وعباس حلمي وحسين كامل وفؤاد وفاروق، كانوا لصوصاً مشهورين، وكان شرههم الأساسي للأرض. يبذلون الجهد للاستيلاء عليها بأي سبيل، حتى لو كان هذا السبيل هو اغتصاب الأوقاف الخيرية والأهلية. بل إنهم لم يتعففوا حتى عن السرقات الصغيرة.

والسبب في ذلك معروف.. فقد انتقلت أملاك الخديو إسماعيل إلى ملكية الدولة بموجب قانون التصفية الذي صدر قبل عزله عن العرش، تسديداً للديون الشخصية التي كان قد اقترضها من الأجانب. وبهذا لم يترك لأولاده ثروات موروثة تكفيهم للحفاظ علي هيبة الإمارة، فأصبح هم كل الذين جلسوا على كرسي العرش من بعده أن يستردوا الميراث الذي استولت عليه الدولة - في رأيهم - دون وجه حق. ويكفي للتدليل على هذا أن البرنس فؤاد لم يرث عن أبيه سوى 800 فدان فقط. واستطاع بعد توليه العرش أن يصل بها إلى 35 ألف فدان بالإضافة إلى 45 ألف فدان من أراضي الأوقاف، وثروة نقدية لا تقل عن أربعة ملايين جنيه

إذاً.. كان الأمير فؤاد في ذلك الوقت هو "البرنس المفلس"

وهي صورة أكدها الصحفي الكبير مصطفى أمين عندما قال: عندما تولى الأمير فؤاد عرش مصر كان مديناً لكلوب محمد علي بثلاثمئة جنيه قيمة طعام وخمور لم يدفع ثمنها..وكان مديناً للخياط الإيطالي ديليه بألف جنيه قيمة ملابس لم يدفع ثمنها..وكان مديناً للبنك الأهلي ولبنك موصيري وللبنك العثماني ولبنك الكريديه ليونيه
بل إنه كان مديناً للجزار والبقال، وكان مديناً لطباخه وللسفرجي إدريس الذي كان يأخذ مرتبه بالتقسيط. وعندما تولى الأمير فؤاد عرش مصر أنعم على السفرجي إدريس برتبة البكوية.. فتنازل الأخير عن باقي ديونه
وكان مديناً بعدة آلاف من الجنيهات لمدام مخلع باشا.. وعندما أصبح سلطاناً عيَنها وصيفة في القصر..وكان مديناً لكثير من أغنياء اليهود مثل يوسف موصيري بك ويوسف قطاوي باشا بمبالغ كثيرة

وضاقت الدنيا في عين الأمير المفلس "البرنس فؤاد"، ولم يكن هناك أمامه من مخرج سوى أن يتصرف بالطريقة المعتادة التي يلجأ اليها أمثاله من سلالة الملوك والسلاطين المفلسين.. وكان الحل الوحيد: البحث عن زوجة تكون غاية في الثراء.. يعيش على حسابها

لكن الثراء لم يكن الشرط الوحيد المطلوب في هذه الزوجة، إذ كان ضرورياً أيضاً أن تكون من سلالة ملوكٍ وسلاطين مثله


أخذ البرنس فؤاد يبحث هنا وهناك بين أميرات أسرة محمد علي عمن تتوافر فيها هذه المواصفات، حتى عثر على ضالته المنشودة: الأميرة شويكار

كانت الأميرة شويكار حفيدة إبراهيم باشا قد ورثت ثروة كبيرة من أموال وعقارات وأطيان، لأن ثروة إبراهيم باشا لم تصادر. وبالرغم من أنها لم تكن جميلة فإنها كانت "الصفقة المناسبة" للأمير المفلس البرنس فؤاد

لم يتطلب الأمر مجهوداً كبيراً منه للإيقاع بها، إذ وافقت الأميرة شويكار سريعاً على عرض الزواج الذي تقدم به الأمير المفلس..بل إنها وافقت على شرطه بأن يؤجل سداد مهرها البالغ عشرة آلاف جنيه لحين ميسرة

وتزوج البرنس أحمد فؤاد من الأميرة شويكار، لتنتقل من قصر الدوبارة - مسكن عائلتها- إلى قصره المتواضع في الزعفران

ومن اليوم الأول لزواجها اكتشفت الأميرة شويكار حقيقة هذا الزواج.. وعرفت أن البرنس فؤاد تزوجها من أجل ثروتها وبدأ قصر الزعفران يشهد كل يوم فصلاً من فصول مهزلة هذا الزواج. لم يكن البرنس فؤاد يكتفي بعدم الإنفاق على زوجته، وبأنها تتحمل تكاليف الحياة في القصر ومرتبات الخدم والحشم، بل كان يأخذ كل يوم منها مبلغاً، ثم ينطلق إلى القاهرة فيمضي أيامه هناك في قصر "البستان" الذي يملكه في باب اللوق وهو يسكر كثيراً..ويخسر أكثر في القمار..ومعظم وقته ضائع في "الكلوب الخديوي" يحاول أن يربح دوراً من البوكر

ارتبط الأمير فؤاد بموائد القمار وكؤوس الخمر، تاركاً زوجته حبيسة جدران قصر الزعفران

بل إنه مل من كثرة مطالبتها كل مساء بأن تمده بما يحتاج من المال، فلجأ إلى أن تعطيه توكيلاً بإدارة أعمالها المالية، ففعلت. وعندما اكتشفت أنه يبيع بعض ما تملك عمدت إلى إلغاء التوكيل

وعندما أبلغه قلم كتاب المحكمة بأن التوكيل الذي لديه قد ألغته صاحبته كانت ليلةً سوداء على شويكار، إذ انهال عليها ضرباً بالكرباج وهي تصرخ ولا من مجيب

واستمر الزوج "الأمير فؤاد" يعيش دور البرنس الأعزب الطائش. كان يسكر كل ليلة حتى الثمالة، وكان يلعب القمار كل ليلة. ولم يكن مقامراً شريفاً، فكان لا يتورع عن سرقة "الآس" من أوراق اللعب وإخفائها في حذائه


عاشت الأميرة شويكار نهارها وليلها في عذاب

في الليل، كانت حفيدة إبراهيم باشا وابنة الأميرة العثمانية نجوان هانم تبقى وحيدة مع دموعها في حجرة نومها، في حين كان زوجها البرنس فؤاد يلهو ويسكر ويقامر في القصر الموجود حالياً تحت اسم نادي الدبلوماسيين، وكان اسمه من قبل نادي محمد علي، كما كان من قبل الكلوب الخديوي. وفي النهار.. كانت ترى الويل على يدي حماتها أم الأمير فؤاد وهي امرأة تركية حادة الطباع، سليطة اللسان. فإذا عاد زوجها "البرنس فؤاد" مع الفجر مخموراً عابساً من خسارته في القمار، وشكت له من سوء معاملة أمه لم يكن يهتم، بل كان يصرخ فيها طالباً منها المزيد من النقود. وإذا اعترضت، أخذ يكيل لها وابلاً من السباب والشتائم القذرة بخليط من اللغات العربية والتركية.. والفرنسية!

وإذا ردت عليه، لم يكن يتورع عن توجيه اللكمات إلى وجهها وجسدها، أو التقاط كرباج معلقٍ على الجدران، لينهال به ضرباً عليها بكل قسوة غير عابيء بصراخها وتوسلاتها

شعرت الأميرة شويكار بأنها سجينة داخل قصر الزعفران. وكلما طلبت من زوجها أن تخرج لزيارة أهلها كان يرفض بإصرار، فلم تجد أمامها وسيلة لإخبار أهلها بما يحدث لها سوى تهريب الرسائل والخطابات إليهم، تروي لهم فيها عن حياة الذل التي تعيشها في ظل هذا الزوج النصاب الملكي، وتطلب إنقاذها من سجن الزعفران

وكان للأميرة شقيقان: الأمير وحيد الدين، والأمير سيف الدين، في حين كانت والدتها نجوان هانم تعيش في الآستانة

ذات يوم..وبينما كان البرنس فؤاد بعيداً عن القاهرة في غزواته اليومية لدور اللهو، دبت خناقةٌ حامية بين الأميرة شويكار وحماتها. انتهزت شويكار الفرصة وغياب البرنس فؤاد، وأسرعت هاربةً من قصر الزعفران إلى بيت أهلها. وعاد البرنس فؤاد ليكتشف هروبها، فانطلق وكله غضب كالمجنون إلى سراي الجزيرة، حيث تسكن عائلة الأميرة شويكار

وهناك حدثت مشاجرة..وفيما بعد انتهت هذه المشاجرة بأكثر القضايا الملكية إثارةً في تاريخ مصر

تابع القراءة

gravatar

جرائم العاطفة في مصر النازفة (2): دماء في كاليفورنيا


إزاء تشبث الملكة نازلي بموقفها من العودة إلى مصر ومن زواج الأميرة فتحية من رياض غالي، أصدر الملك أمراً بحرمان أمه من لقب "الملكة" وشقيقتيه من لقب الإمارة، وطلب عقد مجلس البلاط وهو مجلس يضم عدداً من القانونيين ومن بعض الأمراء للنظر في القضايا والخلافات التي تقوم بين أفراد الأسرة المالكة
طلب فاروق من المجلس الحجر على أمه والحجز على أموالها هي وشقيقتيه وتعيين ناظر الخاصة الملكية حارساً عليها

وفيما يلي نص الرسالة التي عرضها الديوان الملكي على مجلس البلاط في 12 مايو أيار عام 1950:

"جمع ديوان حضرة صاحب الجلالة الملك جميع المستندات التي تقوم مقام أدلة الإثبات في القضايا العادلة، وهي عبارة عن التحريات الخاصة التي قامت بها السفارة المصرية في الولايات المتحدة، في ما يتعلق بشخصية رياض غالي (أفندي)، والكيفية التي تعرف بها على جلالة الملكة نازلي وسمو الأميرتين منذ سنة 1946، والطرق التي كان يستغل بها أموالهن، مع بيان الوسيلة التي كان يفرض بها نفسه عليهن، والتقارير التي تلقاها ديوان جلالة الملك من مختلف الجهات عن هذه المسألة، وفيها بيان شامل للمساعي التي قامت بها الحكومة المصرية والسفارة المصرية في الولايات المتحدة

وقد تفضل جلالة الملك مبالغة من جلالته في العناية بهذه المسألة، فأعد مذكرة مستفيضة تتألف من صفحتين من الحجم الكبير وقعها باسمه الكريم، جاء في مستهلها:


"رأى المغفور له جلالة والدنا الملك فؤاد الأول وضع نظام للأسرة المالكة، فأصدر بذلك القانون رقم 25 لسنة 1922، وقد راعى بثاقب فكره في وضع هذا النظام أن الأسرة المالكة ركن من أركان الدولة لما بينها وبين الجالس على العرش من أواصر القرابة، وهي من جهة أخرى أكبر الأسر وأكرمها، والمثال الذي يُحتذى به في ضبط النفس وكمال السلوك، واعتبر بحُسن تقديره أن مسائل الأحوال الشخصية مسائل عائلية محضة، وأن كرامة الأسرة ومركزها في البلاد يقضيان بأن لا تتعرض مثل هذه المسائل الشخصية لأحاديث الناس، ولذلك فقد أراد والدنا إنشاء مجلس للبلاط وأن يصبح هذا المجلس فوق ما له من اختصاص قضائي، هيئة استشارية في الأمور المهمة التي تهم الأسرة المالكة عندما يطلب إليها الرأي فيها"

وانتقلت مذكرة المقام السامي إلى أن ظروفاً قد طرأت على جانب كبير من الأهمية والخطورة وتقتضي العرض على المجلس، إذ إن جلالة والدتنا الملكة قد سافرت إلى الخارج في صيف سنة 1946 للعلاج، وقد اصطحبت معها شقيقتينا الأميرتين فائقة وفتحية، وأنهن يقمن الآن في أميركا، ونظراً إلى طول مدة إقامتهن بعيداً عن مصر وعنا، وإلى صغر سن شقيقتينا الأميرتين، وما عليه جلالة الملكة من حالة مرضية ونفسية قد وقعن تحت تأثير بعض المتصلين بهن، وقد دعوتهن مراراً بعد إتمام العلاج للعودة إلى مصر، فلم تقبلن، حتى كان من نتيجة ذلك زواج الأميرة فائقة في أميركا قبل الحصول على موافقتنا، وكان من نتيجة ذلك أيضا أن اعتزمت جلالة الملكة الوالدة أن تُزَوِّج شقيقتنا الأميرة فتحية التي لم تبلغ سن الرشد بعد ولا تزال تحت الوصاية إلى الآن بمن يُدعى رياض غالي المسيحي الذي دَلَّتْ التحريات على سوء سيرته

ولما عَلِمْنا بما اعتزمته جلالة الملكة الوالدة، بذلنا جميع المساعي الممكنة لمنع هذا الزواج قبل وقوعه، وهي مساعٍ عديدة كانت لدى جلالة الملكة الوالدة ولدى الأميرة فتحية نفسها، وقد قدمت لهما فيها النصيحة تلو النصيحة بوجوب المحافظة على كرامة الأسرة المالكة

وقد ساهمت الحكومة كما ساهم سفيرنا في أميركا بنصيب موفور في هذه المساعي، ولكنها كلها مع الأسف الشديد، لم تؤد إلى النتيجة المرجوة. وقد أبلغ سفيرنا في أميركا ديواننا تفصيلات مسعاه التي لم تزد جلالة الملكة إلا إصراراً على تنفيذ ما اعتزمته، وقد كانت تصرح في كل مرة، وعند أي مسعى، بأنه لا يهمها ولا يضيرها أن يكون من يصاهرها من عائلة مالكة أو ممن يُقال أنهم من عائلات عريقة، وكانت تُزيد على ذلك فتذكر بأنها لا تبالي بما ينشب عن هذا الزواج من نتائج وعواقب مهما يكن نوعها

وقد أوضح جلالة الملك أن جلالته قد أرسل إلى جلالة الملكة الوالدة برقية مُطوَّلة مستفيضة يوضح فيها ما يساور جلالته من الألم المرير، ويناشدها أن تكف عن هذا الزواج، ويدعوها أن تقدر ما قد ينشأ عن إصرارها على ما اعتزمته من العواقب الوخيمة السيئة، ولكنها أصرت على موقفها، وردت على جلالته ببرقية قالت فيها "إن عاطفة الأمومة لديها مقدمة على كل اعتبار"، حتى وقعت المأساة مع الأسف البالغ، فتم الزواج مدنياً في يوم 10 من شهر مايو الحاضر

وقد اشتملت هذه المذكرة السامية الكريمة على بيان تفصيلى بالمبالغ التي أُرسِلت إلى جلالة الملكة نازلي والأميرتين في الفترة الواقعة من صيف سنة 1946 حتى الآن، وهي تبلغ في مجموعها نحو أربعمئة وثلاثة وثمانين ألف جنيه

وقد تبين من المعلومات الرسمية التي وصلت إلى ديوان جلالة الملك من مختلف المصادر أن رياض غالي (أفندي) قد استولى على نحو أربعين ألف جنيه من هذه المبالغ

وقد ختم جلالته هذه المذكرة الكريمة بقوله: "لهذا كله أود أن نقف على ما يشير به المجلس من إجراءات نحو هذا الزواج، وما يَصِح أن يُتَّبَع نحو جلالة الملكة"

لكن الأميرة فائقة استطاعت بعد ذلك أن تحصل على عفو أخيها، فعادت إلى مصر مع فؤاد صادق تضع نفسها ومعها زوجها تحت أمر الملك ومجلس البلاط، في حين بقيت نازلي مع فتحية صغرى بناتها في الولايات المتحدة

وفيما يلي نص المذكرة التي قدمها رئيس الديوان الملكي حسن يوسف (باشا) بالإنابة إلى مجلس البلاط بتاريخ 27 مايو أيار 1951 بطلب الحجر على الملكة نازلي وفتحية، والإشارة بالعفو عن الأميرة فائقة:

"وصل إلى ديوان جلالة الملك أن زواجاً مدنياً عُقد في أميركا بين حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فتحية ورياض غالي المصري الجنسية المسيحي الديانة، وبما أن هذا الزواج باطل شرعاً، إذ إن الشريعة الإسلامية لا تُجيز لمسلمة أن تتزوج من غير مسلم، فضلا عن عدم توافر شرط الكفاءة بينهما على افتراض أنه اعتنق الدين الإسلامي كما يزعُم. لذلك يطلب ديوان جلالة الملك الحكم ببطلان هذا الزواج

وقد تقدم محمد نجيب سالم (باشا) ناظر خاصة جلالة الملك وجلالة الملكة نازلي بطلب النظر في الطلب المرفوع بتوقيع الحجر على جلالتها، وتعيين قيم عليها، وبعزلها من الوصاية على كريمتها فتحية هانم، وإقامة وصي آخر بدلا منها، وقد أعلنت بالتوقيع منها بالاستلام

وقد وقع رفع مذكرة مجلس البلاط من سعادة محمد نجيب سالم (باشا) في هذا الصدد ما يأتي:

بناء على الأمر السامي الكريم، يتشرف ناظر خاصة جلالة الملك بأن يطلب إلى المجلس الموقر:

أولاً: توقيع الحجر على حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي وتعيين قيم على جلالتها

ثانياً: عزل جلالتها من الوصاية على كريمتها فتحية هانم. وذلك للأسباب الموضحة بالطلب المؤرخ 12 مايو سنة 1950، والمستندات المُرفقة به

وبناءً عليه يتقدم حضرة صاحب السعادة محمد حسن يوسف (باشا) إلى المجلس بوصف كونه "كاتم سر مجلس بلاط الملك" يطلب النظر في الموضوعين الآتيين:

أولاً: إجازة صدور التصادق على زواج حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فائقة من صاحب العزة فؤاد صادق (بك) أمام فضيلة وكيل الجامع الأزهر نيابة عن مجلس البلاط، والإذن بتسجيله في سجلات المجلس (وكان ذلك الزواج قد تم فعلاً وقضى العروسان شهر العسل في جزر هاواي)

ثانياً: تعديل قرار المجلس الصادر في 20 مارس سنة 1945 الخاص بإنابة شيخ الجامع الأزهر عن المجلس في سماع إشهادات الزواج الخاصة بأمراء وأميرات ونبلاء ونبيلات الأسرة المالكة بإضافة نص يبين العضو الشرعي الذي يحل محل شيخ الجامع الأزهر عند غيابه، وذلك حسبما يراه المجلس في هذا الشأن

وهذا وأتشرف بأن أرفع إلى المجلس الموقر أن حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فائقة شقيقة حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم قد استجابت لرغبة المجلس التي أبداها في 16 مايو سنة 1950، بشأن عودة سموها من أميركا، فعادت فعلاً إلى القاهرة في 21 مايو سنة 1950

وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم، فأَذِنَ بالتصادق على عقد زواج سموها من صاحب العِزة فؤاد صادق (بك) الصادر بينهما في أبريل سنة 1950 وفقا لأحكام الشريعة الغراء لدى إمام مسجد ساكرامنتو بكاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية. كما تعطف حفظه الله بقبول الوكالة عن سموها في إقرار التصادق والإقرار بقبض المهر. وبناء على هذا الإذن السامي الكريم صدر هذا التصادق في 4 يونيو سنة 1950 بقصر القبة العامر لدى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن وكيل الجامع الأزهر نيابة عن مجلس البلاط، على اعتبار أن فضيلته يحل محل الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وفقاً للمادة الأولى من القانون رقم 4 لسنة 1948، وعلى أن شيخ الجامع هو النائب عن مجلس البلاط في سماع شهادات الزواج الخاصة بأمراء وأميرات ونبلاء ونبيلات الأسرة المالكة بناء على قرار المجلس الصادر في 20 مارس سنة 1945

وبمناسبة ما أُثير حول هذه الإنابة في سماع الإشهاد الخاص بالتصادق سالف الذكر، أرجو من المجلس الموقر التفضل بما يأتي:

أولاً: إجازة صدور التصادق المذكور أمام وكيل الجامع الأزهر نيابة عن مجلس البلاط، والإذن باتخاذ اللازم نحو تسجيله في سجلات المجلس، وذلك منعا لكل شبهة في صدور الإشهاد أمام جهة غير مختصة

ثانياً: تعديل القرار الصادر في 20 مارس سنة 1945 بإنابة شيخ الجامع الأزهر عن المجلس في سماع إشهادات الزواج الخاصة بالأمراء والأميرات والنبلاء والنبيلات، وإضافة نص الإنابة الذي يحل عن شيخ الجامع الأزهر عند غيابه حسبما يراه المجلس الموقر في هذا الشأن


كاتم سر مجلس بلاط الملك
محمد حسن يوسف
يوليو1950"

لم يكن هذا كل شيء

فقد أصدر مجلس البلاط حكمه في الموضوع، ووقف إلى جانب فاروق في دعواه ضد أمه وشقيقته فتحية

وللتاريخ، نورد هنا نص القرار بتوقيع الحجر على الملكة نازلي والتفريق بين فتحية وزوجها

"اتخذ مجلس البلاط قرارات نصها كما يلي:

أولاً: من حيث إن زواج المسلمة من غير مسلم باطل بطلاناً أصلياً ولا يترتب عليه أي أثر من آثار الزوجية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية

ومن حيث أنه إذا أسلم شخص فعلا وتزوج بمسلمة عريقة في الإسلام فإن هذا العقد إذا حصل بغير رضاء الولي أو العاصب لا يصح

لذلك قرر المجلس التفريق فوراً بين حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فتحية وبين رياض غالي (أفندي) بالحيلولة بينهما ووضعها تحت يد حضرة صاحب الجلالة الملك للمحافظة عليها إلى أن يفصل في الدعوى

وعلى السلطات المختصة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ذلك

ثانياً: قرر المجلس منع حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي من التصرف في أموالها وتعيين حضرة صاحب السعادة نجيب سالم (باشا) ناظر خاصة جلالة الملك مديرا مؤقتا على جميع أموالها إلى أن يفصل في طلب الحجر

ثالثاً: قرر المجلس وقف حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي عن أعمال الوصاية على حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فتحية وتعيين سعادة نجيب سالم (باشا) ناظر خاصة جلالة الملك وصياً مؤقتاً لإدارة أموالها إلى أن يفصل في طلب عزل جلالة الملكة نازلي عن الوصاية"

وكان الرد على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي سريعاً وقاسياً

فقد تحدثت الملكة نازلي والأميرة فتحية أمام الصحفيين للتعليق على القرارات الصادرة من مجلس البلاط في مصر إزاءهما. وقالت وكالة أنباء يونايتد بوست إن الأميرة فتحية سُئِلَت عن رأيها في معارضة الملك فاروق لزواجها من رياض غالي، فقالت: "إن غايتي الوحيدة أن أجعل زوجي سعيداً، وأن أنجب له عدداً كبيراً من الأطفال"

سُئِلَت الأميرة تحديداً عن وقع قرارات مجلس البلاط في نفسها، قالت: "حسنٌ..هذا ما كنت أريده من زمن"

وكانت تبدو على وجوه الملكة الوالدة وفتحية ورياض غالي دلائل الاستهتار وعدم المبالاة بقرارات مجلس البلاط، وعندما سُئِلَت الملكة نازلي عن رأيها في هذه القرارات، أجابت بقولها: "لقد كنت أتوقع هذا الأمر، لذلك فهو لا يهمني في شيء"

وسُئِلَ رياض غالي -ابن بشارة غالي- في الموضوع فقال: "إن هذه القرارات لا تهمني، ولا تهم زوجتي في شيء، ولكن اهتمامنا الآن منصب على ما يمس جلالة الملكة نازلي من هذه القرارات" (كانت الملكة نازلي قد اعتبرت أن فاروق قد انتهز الفرصة ليستولي على ثروتها من الأرض والعقارات والأثاث والتحف والأموال السائلة)

واستطرد رياض غالي قائلاً: "وعلى أي حال فإن لدينا من المال ما يكفينا بعض الوقت، أما في ما يتعلق بالزواج الديني، فإننا نعد العُدة الآن لإتمامه في غضون بضعة أيام"

هذا وقد أُشيع وقتها أن مكتب الهجرة الأميركي في سان فرانسيسكو طلب من رياض غالي أن يغادر الولايات المتحدة في مدة أقصاها 25 مايو أيار 1950، دون أن يُعيَّن له الجهة التي يقصدها

وكانت السفارة المصرية في واشنطن قد سحبت من رياض غالي جواز سفره الدبلوماسي قبل تصعيد الأزمة بعامين عندما رفض الأوامر الصادرة إليه من وزارة الخارجية بالعودة إلى مصر، لذلك أصبحت إقامته في الولايات المتحدة في العامين الأخيرين غير قانونية

ولما سُئِلَ رياض غالي عما يعتزمه الآن بعد أن تلقى إنذار مكتب الهجرة بضرورة مغادرة البلاد في مدة لا تتجاوز 25 مايو أيار 1950، قال إنه يفكر مع زوجته فتحية في السفر إلى جزر هاواي حيث لا تزال تقيم الأميرة فائقة مع زوجها فؤاد صادق.. لكنه لم يكن يدري أن فائقة ستتراجع وتعود مع زوجها إلى مصر

أما في ما يتعلق بقرار مجلس البلاط الخاص بالتفريق فوراً بين فتحية ورياض غالي بوصف أن زواج المسلمة من غير المسلم باطل بطلاناً أصلياً ولا يترتب عليه أي أثر من آثار الزوجية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن السلطات الأميركية رأت أنه لا يمكن اتخاذ خطوة عملية في سبيل تنفيذه

وكان من رأي هذه السلطات أن كل ما تستطيع أن تفعله الحكومة الأميركية هو أن تطلب إلى الملكة الأم وابنتها فتحية مغادرة البلاد إذا طُلب إليها أن تفعل ذلك، ولكنها لا تستطيع تسليمهما رغم إرادتهما إلى السلطات المصرية أو حتى تعيين البلد الذي تسافران إليه عند مغادرتهما الولايات المتحدة

والمعلومات المتوافرة تقول إن فتحية -المولودة في 17 ديسمبر كانون ثانٍ عام 1930- تزوجت زواجاً مدنياً من رياض غالي - المولود في 11 فبراير شباط عام 1919- في فندق فيرمونت في سان فرانسيسكو في 25 أبريل نيسان عام 1950، ثم أجريت مراسيم دينية للزواج في 10 مايو أيار عام 1950، وأثمرت هذه الزيجة عن ثلاثة أبناء هم: رفيق (المولود في 29 نوفمبر تشرين ثانٍ 1952) ورائد (20 مايو أيار 1954- 26 يوليو تموز 2007) ورانيا (المولودة في 21 أبريل نيسان 1956)

كانت نتيجة هذه التصرفات جميعاً مأساوية لفاروق، حتى وإن لم يعش ليراها

والذي حدث في ما بعد أن الملكة الأم نازلي واعتنقت المسيحية على المذهب الكاثوليكي واختارت لنفسها اسم ماري إليزابيث، وكذلك فعلت ابنتها فتحية وأيضاً فائزة التي انضمت إلى الاثنتين بعد خروجها من مصر عام 1955 بعد الثورة


وكانت فائزة قد نجحت في تهريب مجوهراتها عن طريق الحقيبة الدبلوماسية للملحق العسكري التركي الكولونيل محمد نور الدين، لكن الضابط الذي تولى تهريب مجوهرات الأميرة لم يسلمها لها في باريس كما كان مُتفقاً عليه. ووجدت الأميرة فائزة نفسها مُفلِسة في العاصمة الفرنسية، وأكملت رحلتها إلى كاليفورنيا تشارك والدتها حياتها وكذلك تعتنق مثلها المسيحية الكاثوليكية. وعانت الأميرة فائزة كثيراً في حياتها قبل أن تمرض وتلزم الفراش سنوات
لكن مصير الأميرة فتحية كان أكثر مأساوية، ذلك أن الغرام فَتُر، ثم طرأت بين الزوجين خلافاتٌ وصلت إلى حد أن رياض غالي كما ورد في تحقيقات شرطة لوس أنجليس "كان يضرب زوجته دائماً، ثم يضرب الملكة نازلي ويضرب الأميرة فائزة إذا حاولتا التدخل لمنعه من الاعتداء على زوجته". فقد أخذ الزوج في ابتزاز نازلي وابنتها مالياً، وفي حين انشغلت فتحية بإنجاب الأطفال، أخذ غالي يبدد الأموال في شراء وتعاطي المخدرات، واعتدى بالضرب على زوجته في أكثر من مناسبة، لدرجة أنه كسر ذات مرةٍ زجاجة خمر في ملهى ليلي وحاول أن يضربها بها لأنها طالبته بالطلاق.
انفصل الزوجان جسدياً عام 1965، ثم طلبت فتحية الطلاق في عام 1973. ولم تنته فصول القصة المثيرة بالطلاق، فقد حدث أن توفيت جليلة، أم رياض غالي، وكانت على علاقةٍ طيبة بفتحية، فأرادت الاخيرة أن تقدم واجب التعزية، وأراد رياض إعادتها إليه، لكنها رفضت، وكانت تفكر آنذاك في العودة إلى مصر بعد أن أفلست هي وأمها، وبيعت آخر مجوهرات الملكة نازلي في المزاد العلني

غير أن رياض غالي - واسم شهرته: مينا- طلب من فتحية أن تزوره للمرة الأخيرة، وكانت بالفعل زيارةً أخيرة، إذ أطلق عليها الرصاص في مساء 10 ديسمبر كانون ثانٍ عام 1976، واستقرت خمس رصاصات في جسد فتحية لترديها قتيلةً على الفور. حاول القاتل إطلاق رصاصةٍ على نفسه بقصد الانتحار، لكنه نجا من الموت. وعندما تأخرت فتحية في العودة، ذهب ابنها إلى منزل مطلقها في لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، ليجد جثة أمه على الأرض غارقةً في دمائها، في حين كان والده مصاباً بطلقٍ ناري أدى إلى أن يفقد جزءاً من قدرته على الإبصار إضافةً إلى ضعف الذاكرة لازمه
حتى وفاته في سانتا مونيكا بلوس أنجليس في 12 يوليو تموز عام 1987

حكمت إحدى المحاكم العليا الأميركية في 12 أبريل عام 1978 على رياض غالي بالسجن لمدةٍ تتراوح بين سنةٍ واحدة و15سنة لقتله مطلقته الأميرة فتحية. والقانون الجنائي الأميركي يمنح من يصدر ضده حكمٌ تتراوح مدته بين حدين، الحق في التقدم سنوياً بالتماس إلى المحكمة العليا..ومن حق المحكمة أن تصدر عفواً عنه إذا استوفى في نظرها شروطاً معينة

شيعت جنازة فتحية في مدينة لوس أنجليس ودُفِنَت هناك في مقبرة "غاردن أوف ذي هولي كروس" في كالفر سيتي بلوس أنجليس بناءً على رغبة الملكة نازلي وضد رغبة أولادها الذين كانوا يريدون دفن أمهم في مصر. أما الذين شيعوا الجنازة فقد تجاوز عددهم 300 شخص، معظمهم من أصدقاء العائلة وأعضاء المجتمع الأرستقراطي الأميركي

ومن المُحزن أن الملكة نازلي كانت لا تزال على قيد الحياة حين أقدم رياض على قتل فتحية، وقد سارت في جنازة ابنتها تتوكأ على عصا

بقيت نازلي في لوس أنجليس حتى توفيت هناك في 29 مايو أيار عام 1978..وحين توفيت لم يعد هناك ما يشير إلى العائلة الملكية في مصر أكثر من بضعة سطور في كتبٍ يعلوها الغبار
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator