المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

غيمة تمطر أصالة


الموسيقى وعي

يتشكل الإيقاع وتترسم الأنغام خطى الكلمات ليولد من رحمها لون الضياء وعبير الورد.. والأهم من ذلك كله: الموسيقى
حين تتسلل الموسيقى إلى عقولنا وتغفو على راحات اليد مثل عصفور نكتشف كم نحب هذا الكون..نعشق هذا الحبيب..نشكو هذا البعاد.. ونطرب لهذا المغني
والموسيقى هي القصيدة الوحيدة في العالم التي يمكن أن نقرأها من دون ترجمة..هي تترجم نفسها ذاتياً للآخرين

هل هي اللغة الأم؟.. ربما

هل هي النبع الأول للبهجة؟ بالتأكيد

الموسيقى ترحل بنا إلى جزرٍ بعيدة.. وتقف بنا على أبواب الأزمنة.. تمنحنا معطف الدفء وفرو الطمأنينة.. تمارس فن الغواية..وتبكي مثل حوريةٍ تشتاق إلى الماء

هي الحب الذي يأتي من دون موعد.. وأسرع وسيلةٍ لاستدعاء الذكريات التي نخفيها عن الآخرين وعن أنفسنا..من اختلاس السعادة إلى وجع الأنين..من نشيج الهوى إلى نشيد الثورة..من لحن الانتماء إلى عطر الأحباب..من الأذن التي تسمع وترى إلى جنة التأويل التي تتجاوز التخوم وتستعصي على الوصف



هي إذن الحب المناسب.. في أي وقت
هي أيضاً الحزن اللائق.. في أي زمن
نحب الموسيقى ونعرف "مقامها": دائماً في القلب

ولهذا كله كانت "نهاوند" هي العنوان الصحيح: موسوعة الطرب وقاموس عشاق الصوت الذي تخضع له آذان وأفئدة المحبين..جبل الرواد وقمة السبعة الكبار..مدينة القدود والموشحات..محراب الابتهالات والتواشيح..رحلة الغناء الصوفي وإن طال السفر..طريق الحرير إلى الموسيقى الإثنية..ذاكرة الصور والبرامج الغنائية التي حفرت نقوشها في الوجدان



نهاوند غيمة تمطر موسيقى وأصالة..معكم وبكم
استعدوا جيداً

بين أيديكم الآن جهة القلب.. والحلم الذي أصبح حقيقة: نهاوند
تابع القراءة

gravatar

وزير الدفاع..في طبق الجيلي







عندما تنساب الموسيقى وسط إضاءة خافتة يموت الكلام وتولد الأحلام

وفي تلك الليلة الاستثنائية في قلب القاهرة كان للموسيقى دور آخر في ذاكرة التاريخ

كانت المقدمة الموسيقية الصاخبة التي تتداخل فيها الطبول والدفوف انتظاراً للراقصة الشرقية قد طالت

ومع رعشة الجنون التي أصابت الأضواء الملونة في الملهى الليلي المطل على نيل القاهرة شعر وزير الدفاع السوفييتي أندريه غريتشكو بأن زجاجات الفودكا التي ألهبت جوفه قد تحولت إلى هستيريا من الأمواج المتلاطمة تهدده بالغرق فيها.. ولولا أن إيقاع الموسيقى كان يؤذن ببدء فترة جديدة ويعد بشيء أكثر إثارةً من ذي قبل.. ولولا أن الراقصة المعروفة سهير زكي دخلت وهي تمسك بطرف ثوبها البراق المكشوف لكان المارشال السوفييتي العجوز قد انسحب من المكان...ولربما كان التاريخ في بلادنا قد تغير أيضاً

في تلك اللحظة غير المحسوبة سقط وزير الدفاع السوفييتي في هوى الراقصة المصرية التي لم تكن تعرف هذا الضيف الثقيل الذي يتابعها بعينين مفتوحتين..ولم تصدق المرأة التي تتثنى بقوامها الملفوف وهي التي تكره السياسة وتخشاها ولا تفهمها.. أنها يمكن أن تكون شخصية فاعلة مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط بأسرها في أصعب وأشد أوقاتها حرجاً..بعد هزيمة الخامس من يونيو حزيران عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعة وستين وحتى وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر أيلول عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعين

لم تصدق هذه الراقصة أنها يمكن أن تهز المنطقة هزاً



كانت سهير زكي في ذلك الوقت في ربيع العمر في حين كان المارشال غريتشكو في خريفه.. وحين يلتقي الربيع مع الخريف لا بد أن تهطل الأمطار وتتداخل الفصول. التمعت عينا وزير الدفاع السوفيتي - المولود في السابع عشر من أكتوبر تشرين أول عام ألف وتسعمئة وثلاثة- وهو يشاهد الراقصة تنساب مع الموسيقى مثل حورية خرجت لتوها من كتاب "ألف ليلة وليلة"..وكأنها تنطق بمقولة "الشرق شرق.. والغرب غرب" حسب شاعر الإمبراطورية البريطانية روديارد كيبلنغ

شرقان..لكن شرق الراقصة كان أكثر جاذبية على الأقل بالنسبة للمارشال العجوز -المولود في بلدة قرب روستوف لأبوين أوكرانيين من المزارعين- الذي اعتدل في جلسته لمتابعة تلك الابتسامة الساحرة وهذا الجسد الذي يجيد فك رموز الموسيقى ويحولها إلى أنوثة مرهفة ورشاقة يسيل لها لعاب كثيرين

وعندما تميل سهير زكي وتنحسر بدلة الرقص عن جسدها البض..كان الرجال يفغرون أفواههم وهم يرون قطعة الملبن تفرد أشرعة اللذة وهي تمنح لإيقاع أغنيات أم كلثوم أو ألحان محمد عبد الوهاب مذاقاً خاصاً ومعنى جديداً عنوانه: فن الرغبة الذي يدفع الرجال إلى التحول إلى هراوات تتشاجر مع الحرمان

كان نهْدُها الملآن شـوقاً يرْتَجّ..يقولُ كلاماً عن جسدٍ غطاه الإيقاعُ‏‏..ويحكي عن بدن يهوى العراء السَّاخِن
والراقصات "لكل حديثٍ عندهن بشاشةٌ وكل قتيلٍ عندهن شهيدُ" كما يقول الشاعر العذري جميل بثينة



في ذلك الوقت كان السوفييت يضغطون على أعصاب القوات المسلحة المصرية بقوة ويماطلون في تغطية أجواء مصر المفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي..حتى إن المشير محمد عبد الغني الجمسي يقول في مذكراته التي تحمل عنوان "حرب أكتوبر عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين" إنه في يناير كانون ثانٍ من عام ألف وتسعمئة وسبعين "أغارت الطائرات الإسرائيلية على مناطق التل الكبير وإنشاص ودهشور وبعض مدن الدلتا.. وفي فبراير وجهت إسرائيل هجماتها الجوية على منطقة أبو زعبل وحلوان.. وكانت الخسائر المصرية في منطقة أبو زعبل حوالي سبعين شهيداً من المدنيين. وفي أبريل أغارت

الطائرات الإسرائيلية على مدرسة بحر البقر حيث استشهد لنا حوالي ثلاثين تلميذاً"

لكن السوفيت ظلوا يواربون مخازن أسلحتهم ولا يفتحونها..ويعطون ما تريده مصر بالقطارة..ودخلت القاهرة وموسكو في مفاوضات سرية وتبادلتا الزيارات السياسية والعسكرية..إلى أن جاء غريتشكو أكثر من مرة. في كل مرة كان يبدو متشدداً متعنتاً متعسفاً..لكن ذلك كله تغير كثيراً في سقط في هوى الراقصة التي كانت الأكثر شهرةً في تلك الأيام

ومن الواضح أن أجهزة الأمن المعنية لم تكن بعيدة عن الصورة بل كانت تتابع باهتمام رحلة سهير زكي إلى قلب غريتشكو.. وراحت مصر تجمع السلاح قطعةً.. قطعة..وراحت الراقصة تجمع أجزاء غريتشكو المبعثرة في الملهى الليلي قطعةً.. قطعة

وفي بداية عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعين وافق السوفييت - كما يقول أمين هويدي في كتابه الموثق "الفرص الضائعة"- على تقديم ثلاث وعشرين كتيبة صواريخ "سام ثلاثة" كاملة بأطقمها وأجهزتها ومعداتها على أن تصل إلى موانيء مصر في غضون شهرٍ واحد وأن تعمل تحت القيادة المصرية لأغراض الدفاع الجوي عن العمق المصري.. إضافة إلى خمس وثمانين طائرة ميغ معدلة بطياريها وخمسين طائرة سوخوي وأربعة أجهزة رادار "بي خمسة عشر" للعمل ضد الطيران المنخفض ورفع كفاءة الإنذار الجوي في شبكة الدفاع الجوي المصري..وعشر طائرات "ميغ واحد وعشرون" لغرض التدريب..بالإضافة إلى توقيع اتفاق للتعاون الفني بين جهازي المخابرات في مجال المعلومات عن إسرائيل



ويتحدث سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر ووزير شؤون الرئاسة سابقاً في مذكراته التي نُشرت في جزئين عن "موافقة الاتحاد السوفييتي على المطالب المصرية التي تقدم بها الرئيس عبدالناصر للقادة السوفييت في زيارته السرية لموسكو يوم الثاني والعشرين من يناير كانون ثانٍ عام ألف وتسعمئة وسبعين.. تلك الزيارة التي كانت نقطة تحول تاريخية في العلاقات الدولية.. وبصفة خاصة في العلاقات المصرية السوفييتية.. وكان يصحب الرئيس في هذه الزيارة الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وتولى كتابة محضر الجلسات الدكتور مراد غالب سفير مصر في موسكو في ذلك الوقت.. والمباحثات التي تمت في هذه الزيارة تعتبر من ضمن أهم المباحثات التي جرت في القرن العشرين على المستوى الدولي"

ويضيف سامي شرف قائلاً إنه في نهاية مباحثات عبد الناصر مع القادة السوفييت في الخامس والعشرين من يناير كانون ثانٍ عام ألف وتسعمئة وسبعين.. قال له الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف: "إني أعلن لكم أن القيادة السوفييتية بمؤسساتها توافق بالإجماع على تنفيذ مطالبكم كاملة.. وقد فوضنا المارشال غريتشكو لتولي المسؤولية.. فنرجوكم اقتراح من ترونه من جانبكم للبدء فورا في بحث التفاصيل".. فرد عبد الناصر قائلاً: "إن الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة هو الذي سيتولى من جانبنا بحث وسائل التنفيذ لما اتفقنا عليه"

وهكذا تم تنفيذ كل ما اتفق عليه الجانبان من ناحية الإمدادات.. ومن ناحية التوقيتات التي حددت بين الطرفين. وتمكن الفريق أول محمد فوزي ومعاونوه من استكمال تجهيز المواقع الأساسية لشبكة الصواريخ قبل الثامن من أغسطس آب عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعين..وأصبحت إسرائيل تواجه شبكة كاملة من الصواريخ المصرية حيث لم تتوقع كما لم تتوقع واشنطن أيضًا أن تتمكن مصر من القيام بهذا العمل في هذا الوقت الضيق.. وقبل سريان إيقاف إطلاق النار

إن من السذاجة أن ننسب الفضل في ذلك كله إلى ضعف قلب غريتشكو أمام الراقصة التي وصفها الرئيس المصري أنور السادات يوماً بأنها "أم كلثوم الرقص"..لكن من الواقعية الشديدة ألا ننكر تأثير ذلك أيضاً

إن أمين هويدي -الذي كان في ذلك الوقت رئيساً للمخابرات العامة - يدلل على ذلك بمثالٍ آخر..أهم

لقد أصر السوفييت على أن تكون تحركات قواتهم القادمة من بلادهم إلى مصر سريةً.. ولكن المفاجأة حدثت عند عبور السفن السوفيتية التي تحمل القوات والمعدات المتفق عليها مضيق الدردنيل..فقد عبرته نهاراً والأفراد يحيون من تقع أنظارهم عليه على الشواطيء..وإذاعات العالم ووسائل الإعلام تتابع بشغفٍ هذا المنظر الفريد. وأصرت السفن على دخول ميناء الإسكندرية في وضح النهار.. وأن يجري التفريغ تحت ضوء الشمس..وأن تشق شوارع القاهرة نهاراً..ولم يكن ذلك ما هو متفق عليه

ولن نشعر بالدهشة بعد ذلك لو عرفنا أن غريتشكو - الذي زار مصر مرتين عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعين: الأولى بين الثامن عشر والحادي والعشرين من فبراير شباط والثانية بين الرابع عشر والسابع عشر من مايو أيار- وجّه للراقصة التي وقع في هواها دعوةً رسمية لزيارة موسكو..وعندما هبطت العاصمة السوفيتية فوجئت بمظاهر الترحيب والاهتمام التي لا يحظى بها عادةً بعض زعماء العالم الثالث..ووجدت نفسها تدخل الكرملين مقر الحكم والنفوذ على سجادةٍ حمراء


أما في القاهرة فلم يُنشر سوى خبر في إحدى المجلات الفنية المتخصصة على لسان سهير زكي يتحدث عن استعدادها للسفر إلى موسكو للمشاركة في تصوير مشروع سينمائي..مشروع تبخر الحديث عنه سريعاً

عرفت سهير زكي عبد الله - المولودة في الرابع من يناير كانون أول عام ألف وتسعمئةٍ وخمسة وأربعين- طريقها إلى قلب وزير الدفاع العتيد الذي لم يستطع أن يرفض مطالب "طبق الجيلي" - وهو اللقب الأثير إلى قلب سهير زكي- فالقلب له أحكامه..ولم يكن لها طلبات خاصة إنما كانت طلباتها تتعلق بتسليح الجيش المصري بعد الهزيمة

سهير زكي التي قالت يوماً إنه "مفيش راجل في الدنيا يعطي من غير ما يطلب الثمن" لم تنس يوماً قسوة الأب زكي عبد الله الذي تركها وهي جنين عمره شهران في بطن أمها..فكانت تردد دائماً عنه "عمري ما شفت منه غير القطيعة والأسية..وكنت أقول لنفسي إذا كان ده أبويا..يبقى الرجالة إيه"!

لم تدخل سهير زكي مدرسةً لكنها عاشت في مدرسة الحياة وعرفت أن "القرش هو لغة الحياة"؛ ولا بد للإنسان أن يجيد هذه اللغة.. أو يضيع

وفي كتابه "المثقفون.. وجوه من الذاكرة" يستحضر الروائي سليمان فياض حواراً موجعاً دار في كواليس إذاعة القاهرة بمبناها العتيق..بين الدكتور محمد مندور عميد النقد الأدبي العربي الحديث وبين الراقصة سهير زكي حين اكتشف أن دخلها الشهري يربو على ثلاثين ألف جنيه بجنيهات الخمسينيات.. ليضرب كفاً بكف قائلاً: لقد ضَيَّعتُ عمري في الورق والقلم يا سهير

كانت سهير زكي رمزاً لحالة رقص سياسية مهمة في تاريخ مصر.. فهي الراقصة التي رقصت في أفراح أبناء الرئيس جمال عبدالناصر الذي تابع رقصاتها بنفسه في أثناء حفل زواج ابنته هدى..فقال لها: "رقصك جميل يا أم شعر طويل".. يومها أصرت على أن تأخذ أجرها كاملاً



كما رقصت سهير في قصر شاه إيران وأمام الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة والرئيس الأمريكي سابقاً ريتشارد نيكسون الذي أطلق عليها لقب "زغاريط" حين علم أن الكلمة تعني الزغاريد التي تترافق عادةً مع البهجة والأفراح. وذات يومٍ تساءلت سهير زكي أمام صحفي روسي قائلةً :"مش عارفة ليه لا تدعوا الراقصات المصريات لعرض فنهن على الشعب الصديق؟!"..وقد كان

أطلق عليها كثيرون ألقاباً براقة..لكن عبد الحليم حافظ أسماها "الشيخة"؛ لأنها رفضت عروضه المغرية للرقص في الكويت وبيروت وإمارات الخليج. وقد اعتادت سهير أن تصوم وتصلي في شهر رمضان..لكنها ترقص أيضاً في رمضان بين صلاة العشاء وصلاة الفجر..وتقول: هذه نقرة..وهذه نقرة

اللقاء الذي جرى بين سهير زكي والمارشال غريتشكو -الذي احتفظ بمنصبه كوزير للدفاع حتى وفاته في الرابع والعشرين من أبريل نيسان عام ألفٍ وتسعمئةٍ وستةٍ وسبعين- فتح صفحةً جديدة من كتاب العلاقات المصرية -السوفيتية خاصةً على صعيد التعاون العسكري..والدور الذي لعبته تلك الراقصة التي لا تزيد صلتها بعالم السياسة على بطاقة عضوية في الاتحاد الاشتراكي مُنِحت لها ذات يومٍ..غيرّ كثيراً من خريطة الأحداث السياسية في مصر والمنطقة

إن الحظ الذي قاد ابنة المنصورة التي عرفت الشهرة في الإسكندرية أولاً إلى ليالي القاهرة الساهرة مروراً ببرنامج "أضواء المسرح" ووصولاً إلى أكثر من خمسين فيلماً شاركت فيها كراقصة وممثلة..هو نفسه الحظ الذي جعلها تخطف قلب وزير الدفاع - وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي- الذي استسلمت كل حصونه من أول طلقةٍ أطلقتها عليه عيناها في تلك الليلة الاستثنائية في أحد الملاهي الليلية التي تنام على ضفاف النيل

كان غريتشكو القائد العام لقوات حلف وارسو طوال سبع سنوات..بين عامي ألفٍ وتسعمئةٍ وستين وألفٍ وتسعمئةٍ وسبعة وستين.. لكن القائد استسلم بسهولة لراقصة..ربما لأن المعركة كانت في ملعبها..ولم تكن في ساحته



قصة مجهولة.. ربما.. لكن تفاصيلها تسربت من أحد المقربين من وزير الحربية سابقاً الفريق أول محمد فوزي الذي كتب مذكراته المهمة تحت عنواني "

"حرب ثلاث السنوات: 1967-1970" و"استراتيجية المصالحة"..وجرى التحقق من مدى دقتها من رجلٍ كان مسؤولاً في تلك الأيام..وكانت مسؤوليته تتيح له أن يعرف ما فوق السطح..وما تحت الأرض. أما المقصود فهو مدى الضغوط التي كان يمارسها السوفييت على مصر والتي وصلت إلى الراقصات في الكباريهات

لم يكن هناك في مصر من لم يدفع الثمن.. فالهزيمة كانت بالجملة والتقسيط

تابع القراءة

gravatar

أحاديث التليفون التي هزت مصر: 3


ننتقل إلى حرب أكتوبر تشرين أول عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثة وسبعين..أو حرب العاشر من رمضان كما يسميها آخرون

ففي أعقاب هذه الحرب والخلافات التي وقعت بين الفريق سعد الدين الشاذلي من جهة والرئيس المصري أنور السادات ووزير الحربية أحمد إسماعيل من جهة أخرى..وفي الثاني عشر من ديسمبر كانون أول من العام نفسه اتصل أحمد إسماعيل بالفريق الشاذلي وطلب لقاءه في مكتبه بالوزارة حيث أبلغه بأن السادات قرر إنهاء خدمته كرئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية وأصدر قراراً جمهورياً بتعيينه سفيراً في وزارة الخارجية..فاعتذر الشاذلي عن منصب السفير



ويقول الشاذلي في مذكراته "حرب أكتوبر" إنه في الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة مساءً "رن جرس الهاتف وكان المتحدث هو اللواء (آنذاك) حسني مبارك.. فقال لي إنه يريد أن يقابلني لأمرٍ مهم..لم أكن أعرف إذا كان قد علم بخبر إقالتي أم لا..فحاولت أن أؤجل المقابلة إلى الغد على اعتبار أنه إذا لم يكن يعرف الآن فسوف يعرف غداً وينتهي الموضوع..ولكنه أصر على المقابلة. قلت له: "لا داعي لهذه المقابلة حيث إني لم أعد رئيس أركان حرب القوات المسلحة"..فأجاب "أنا أعرف ذلك..ولذلك أريد أن أقابلك..إني أحمل رسالة لك من السيد الرئيس".. فأجبت: أهلاً وسهلاً"

كانت رسالة السادات التي نقلها مبارك إلى الشاذلي تحمل في مضمونها محاولة لإقناع الأخير بمنصب سفير مصر في لندن.. ولكن الشاذلي ظل مصراً على موقفه وقال لمبارك: "إذا كان الرئيس يعرض عليّ هذا المنصب مكافأةً لي فأرجو إبلاغه شكري واعتذاري عن قبول المنصب.. وإذا كان هذا المنصب عقاباً لي فلنضع النقاط على الحروف ولنناقش هذا الموضوع بطريقة علنية..لن اقبل هذا المنصب ولن يستطيع أحدٌ أن يرغمني على قبوله"

في صباح اليوم التالي - الثالث عشر من ديسمبر كانون ثانٍ- ظهرت الصحف وهي تحمل نبأ تعيين محمد عبد الغني الجمسي رئيساً للأركان من دون أي ذكرٍ لمصير الشاذلي..حتى وافق على تعيينه سفيراً لمصر في لندن

وفي كتاب "حقبة غامضة من التاريخ المصري" الذي كتبه فلاديمير فينوغرادوف آخر سفراء موسكو في القاهرة قبل تدهور العلاقات بين البلدين إثر طرد الخبراء السوفييت من مصر..يقول فينوغرادوف عن حرب أكتوبر تشرين أول عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثة وسبعين: "وفي الساعة الثانية بعد الظهر تقريباً رن جرس التليفون العادي..طلبت من السكرتيرة فافي غولنيراد أن ترد على الطالب..لكن اتضح أنه السادات..تشككت في الأمر فكيف بالرئيس أن يتصل بالتليفون العادي؟..وتناولت سماعة التليفون وإذا بي أسمع صوت السادات مبتهجاً:" سيادة السفير إننا الآن على الضفة الشرفية للقناة..وقد ارتفعت عالياً في سمائها الأعلام المصرية..لقد عبرنا القناة"


وفي كتابه "السلاح والسياسة" عن حرب أكتوبر تشرين أول عام ألفٍ وتسعمئة وثلاثة وسبعين يقول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل إن السادات تلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس السوفييتي آنذاك ليونيد بريجنيف وتولى المترجم السوفييتي ترجمة تهنئة بريجنيف للسادات بهذا الانتصار العسكري الكبير.. وحين قال المترجم إن بريجنيف يأمل بإذن الله في أن تحقق مصر أهدافها من وراء حرب أكتوبر تشرين أول عام ألفٍ وتسعمئة وثلاثة وسبعين..علق السادات ضاحكاً: "الله..هو بريجنيف بقى بيقول زينا بإذن الله"!


استثنائية - على الأقل في ظروفها ومضمونها- تلك المكالمة الهاتفية التي جرت بين جيهان السادات قرينة الرئيس المصري أنور السادات مع ابنها جمال وهي في المستشفى تحاول متابعة حالة السادات بعد إطلاق الرصاص عليه في حادث المنصة في السادس من أكتوبر تشرين أول عام ألفٍ وتسعمئةٍ وواحد وثمانين.. إذ يرد في كتاب عادل حمودة "اغتيال السادات" أن جيهان قالت لابنها جمال: "جمال سوف أقول لك أمراً غاية في الأهمية ويجب ألا يظهر على ملامح وجهك أي انفعال يراه أحدٌ من المحيطين بك..لأن المسألة لا بد أن تظل سراً في الوقت الراهن.. إنهم أطلقوا النار على أبيك..ويجب أن تعود فوراً"

وعقب هذه المكالمة اتصل جمال السادات بالسفارة المصرية في واشنطن لترتيب عودته.. واتصل بالسفارة المصرية في لندن لتحضير أحد جراحي القلب ليأخذه معه متصوراً أن الإصابة هينة..لكن الأنباء سرعان ما كشفت عن أن السادات قد لفظ آخر أنفاسه نتيجة حادث المنصة

وبعد هزيمة الخامس من يونيو حزيران عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعة وستين وبالتحديد في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الخميس الثامن من يونيو حزيران اتصل الرئيس المصري جمال عبد الناصر هاتفياً بهيكل في مكتبه في مؤسسة "الأهرام" الصحفية..يقول هيكل في كتابه "حرب الثلاثين سنة: 1967 الانفجار" إن صوت عبد الناصر بدا لأول وهلةٍ على التليفون مثقلاً بهموم الدنيا كلها. وسأل عبد الناصر هيكل عما يقترح عمله فكان رأي هيكل أنه لم يبق أمامه غير الاستقالة وكان رد الرئيس المصري بالحرف: "غريبة..هذا ما فكرت فيه تماماً"..وكان رد هيكل أنه ليس هناك خيارٌ آخر..وكان تعليق عبد الناصر بالموافقة




وانتقل الحديث إلى بعض التفاصيل مما جرى بين عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر داخل مكتب الأخير ابتداءً من تهديده بالانتحار إلى الاتفاق على اختيار شمس بدران رئيساً مؤقتاً للجمهورية بعد إعلان عبد الناصر استقالته..وكان كل تفصيل من تفصيلات ما جرى على حد وصف هيكل "جرحاً يصيب القلب والعقل معاً"

ثم سأل عبد الناصر هيكل في نهاية الحديث عما إذا كان يستطيع -وكجهدٍ أخير- أن يكتب له خطاب استقالته للأمة بحيث يلقيه في اليوم التالي (الجمعة التاسع من يونيو حزيران)..وقال هيكل: "إنني سوف أسهر طوال الليل..وهي مهمةٌ لم أكن أتمنى في حياتي أن يُعهد إلي بها..ولكنني أقبلها عارفاً بمسؤولية الظروف"

وفي الحديث الهاتفي الأخير بين جمال عبد الناصر وهيكل كما ورد في صحيفة "الأهرام" عدد التاسع والعشرين من سبتمبر أيلول عام ألف وتسعمئةٍ وسبعين دق جرس التليفون في مكتب هيكل..وجاء صوت عبد الناصر متعباً فأعاد عليه الكاتب الصحفي حديث الإجازة..فرد عبد الناصر بأنه سوف يستريح بعد وداع أمير الكويت صباح السالم الصباح. سأله هيكل عما يشعر به فقال عبد الناصر: أجد نفسي غير قادرٍ على الوقوف

هيكل: هل رأيت الطبيب؟
عبد الناصر: كان عندي الدكتور الصاوي وأجرى رسماً جديداً للقلب.. وقال لي: إن كل شيء كما هو
هيكل: آلام الساق.. أما من دواء لها؟
عبد الناصر: سوف أضع قدمي في ماءٍ دافيء به ملح..وأظن أن الألم سوف يتحسن..هو طول الوقوف فيما أعتقد!

وعاد هيكل ليلح في حديث الإجازة واقترح عليه الذهاب إلى مدينة الإسكندرية..فقال عبد الناصر: لا أستطيع الذهاب متعباً بهذا الشكل..سوف أنام هنا يوماً كاملاً..وبعدها أفكر في الذهاب إلى الإسكندرية

ومن المكالمات الهاتفية نذكر أيضاً الاتصال الهاتفي الذي تلقاه الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري من صلاح نصر مدير المخابرات العامة ليلة الخميس الثامن من يونيو حزيران عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعة وستين.. ويروي د. عكاشة في مذكراته أنه في ساعة متأخرةٍ من تلك الليلة اتصل به صلاح نصر وأبلغه أن المشير عبد الحكيم عامر قد عقد العزم على الانتحار..ورجاه لما يعرفه عما كان بينه وبين عامر من ودٍ قديم أن يسرع إليه عسى أن يثنيه عما اعتزمه

ويجب ألا ننسى أيضاً الاتصال الهاتفي الذي أبلغ فيه عبد الناصر أنور السادات بأن المشير قد انتحر. ويقول السادات في كتاب "البحث عن الذات: قصة حياتي" ما يلي: "في مساء الخميس الرابع عشر من سبتمبر سنة ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعة وستين.. تناولت طعام العشاء ورأسي ما زال مشغولاً بلقاء الجمعة (كان السادات سوف يلتقي بالمشير عبد الحكيم عامر يوم الجمعة لنصحه بالتصالح مع عبد الناصر)

فإذا بجرس التليفون يدق وعبد الناصر يتكلم
قال: أنور
قلت: أيوه يا ريس خير
قال: أنور
وسكت لمدة دقيقة..دهشت
فقلت: جمال..أنت على الخط
قال: آه
قلت: أمال سكت ليه؟ فيه إيه؟
قال: عبد الحكيم عامر انتحر ومات الساعة السابعة مساءً وبلغوني دلوقت من المعتقل
قلت: والله إذا كان ده حصل فعلاً يبقى ده أحسن قرار اتخذه عبد الحكيم كقائد خسر معركة..لأني لو كنت مكانه كنت عملت كده يوم الخامس من يونيو"



وفي حادث الرابع من فبراير شباط عام ألف وتسعمئةٍ واثنين وأربعين..هدد السفير البريطاني مايلز لامبسون الذي نال لقب اللورد كرومر فيما بعد بأنه في حالة عدم رد الملك فاروق حتى السادسة مساءً بردٍ مرضٍ يقبل فيه إسناد مهمة تشكيل الحكمة إلى زعيم الوفد مصطفى النحاس..فإن بريطانيا ستتخذ الإجراءات اللازمة ضد فاروق. وفي أثناء اجتماع عابدين لمناقشة الإنذار البريطاني طالت المناقشات ونبّه أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي إلى أن ميعاد السادسة اقترب..ثم اتصل بالسفير البريطاني وأجلّ الرد ربع الساعة..وبالتالي أخرّ لامبسون لقاء فاروق إلى التاسعة مساءً..انتهى المجتمعون إلى رفض الإنذار البريطاني


لكن حصار الدبابات البريطانية للقصر الملكي وتهديدات السفير البريطاني للملك فاروق أديا في نهاية الأمر إلى إذعانه للمطلب البريطاني وتكليفه مصطفى النحاس بتشكيل الوزارة..وهو ما يرد ذكره بالتفصيل في كتاب "فاروق وسقوط الملكية في مصر" للدكتورة لطيفة محمد سالم

وكم سقطت حكومات وخضع حكام..بمكالمةٍ هاتفية من عواصم صنع القرار..الخارجية طبعاً

تابع القراءة

gravatar

أحاديث التليفون التي هزت مصر: 2



للاتصالات بين الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل والرئيس المصري أنور السادات مذاق مختلف


ربما يعود السبب في ذلك إلى أنه لم تكن هناك ندية - أقرب إلى الاختلاف منها إلى الاتفاق- بين صحفي ورئيس مثلما كانت بين الاثنين


كانت الاتصالات الهاتفية بين الاثنين تحمل باستمرار معنىً خاصاً وأهمية معينة لأنها كانت تجري عادة في ظروفٍ دقيقة وحساسة من تاريخ مصر..فبعد اتفاقية فك الارتباط الثاني جاء وزير الخارجية المصري آنذاك إسماعيل فهمي إلى كابينة هيكل في الإسكندرية وكان الوقت صيفاً..وأبلغ الكاتب الكبير بأن هناك هجوماً شديداً على الاتفاقية وأن السادات يطلب من هيكل أن يتولى الرد على هذا الهجوم..فسأل هيكل: هل هناك تعهدات سرية فرد إسماعيل فهمي بالنفي


وقبل أن ينصرف الأخير رن جرس الهاتف..وكان فوزي عبد الحافظ سكرتير السادات..وقال لهيكل: "الرئيس عاوزك"..ثم جاء صوت السادات طبيعياً وكأن شيئاً لم يكن

قال السادات: أيوه يا محمد..إسماعيل جالك؟
هيكل: مازال عندي
السادات: أنا مش عايز حد يدافع عني أنا أقدر أدافع عن نفسي..لكن مصر بتتهاجم يا محمد وعايزك تدافع عنها
هيكل: بالأمس كنت في فندق فلسطين..وقابلت بالصدفة جوزيف سيسكو (الذي شغل مناصب عدة من بينها منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا..تولى توجيه السياسة الخارجية الأمريكية في أثناء حرب أكتوبر تشرين أول عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين والمفاوضات المصرية الإسرائيلية في عام ألف وتسعمئةٍ وأربعةٍ وسبعين) وتناقشت معه فيما قرأته في "هيرالد تريبيون" عن البنود السرية..وسيسكو قال إنها موجودة..وإسماعيل فهمي نفاها

السادات: مفيش حاجات سرية
هيكل: لكني قرأت عنها في "التريبيون"
السادات: محمد...هل ستصدقني أم ستصدق "التريبيون"؟
هيكل: أصدقك أنت.. لكن الحقيقة أنا محتار
السادات: بلاش بلبلة..حتكتب ولاّ مش حتكتب؟! أنا بأسأل سؤال واضح ومش عايز فيه بلبلة..حتكتب..ولاّ مش حتكتب؟!
هيكل..لا..مش هأكتب
السادات: إن شاء الله عنك ما كتبت

ووضع السماعة




وبعد أحداث الثامن عشر والتاسع عشر من يناير كانون ثانٍ عام ألف وتسعمئة وسبعة وسبعين.. كان هيكل في بيته الريفي في برقاش حين استدعاه رئيس مجلس الشعب آنذاك سيد مرعي. وفي الصباح التقى هيكل مع مرعي في حضور الدكتور مصطفى خليل..وبعد قليل جاء حسن مرعي يطلب من سيد مرعي الذهاب إلى حجرة المكتب لأن السادات يريد أن يحادثه على الهاتف..ثم طلب من هيكل أن يلحق بسيد مرعي..وكان الأخير يشرح للرئيس المصري وجهة نظر هيكل التي رددها أمامه قبل قليل..ثم أعطاه سيد مرعي السماعة وجرى بين هيكل والسادات الحوار التالي

هيكل: أهلاً يا فندم..أتمنى ألا تكون متضايقاً
السادات: هو ده ما كنت أقوله لك دائماً يا محمد
هيكل: إيه هو؟
السادات: مراكز القوى أهم اتحركوا
هيكل: اعمل معروف..لا داعي لاستدعاء أشباح نسيناها
السادات: لا..لا.. يا محمد

وبدأ هيكل يشرح وجهة نظره الاجتماعية في تفسير المظاهرات..وبعد أن انتهى قال له السادات: ما فهمتش حاجة..أنت جرالك إيه..صديت؟!
................

السادات: عايزك تفكر..وحنتكلم

ثم جرى اتصال هاتفي آخر بين السادات ووهيكل حاول الأخير في أثنائه إقناع السادات بأن الأزمة اجتماعية. في اليوم التالي عندما تبادل الرئيس المصري والكاتب الصحفي الحديث هاتفياً بدا السادات قريباً من وجهة نظر هيكل..كان ذلك في العاشرة صباحاً..ولكن بعد اجتماع السادات مع مجلس الأمن القومي المصري اتصل به الرئيس المصري قائلاً:
محمد..أنت عايزني أصدقك وأكذب اللي شايفه قدام عيني
هيكل: اللي هو إيه؟
السادات: مؤامرة مفيش شك.. فيها شيوعيين والروس وكله وأنا مش واخد بالي..أنا حأضرب..فكرت..فكرت يا محمد؟ هيكل: لقد قلت إن القضية قضية تشخيص.. والتشخيص هو الذي سيحدد العلاج..أما وقد وصلت إلى تشخيص أنا غير مقتنعٍ به إذاً الحل ليس بيدي وإنما بيد صاحب التشخيص
السادات: أنت عايز تفرض عليّ رأيك؟
هيكل: لا طبعاً..لكن أنا بأقول إن أحسن من يخدم سياسةً ما هو من يقتنع بدواعيها..أنا غير مقتنع بأنها مؤامرة..أنا مقتنع أنها انفجار اجتماعي..وإذا كان رأيي سليماً يبقى العلاج اجتماعي..وإذا كان التشخيص أنها مؤامرة يبقى العلاج بالضرب..وأنا لا أدخل في الضرب..فهو ليس من اختصاصي
السادات: وأنا كنت متصور أنك ستكتب الكلام الذي سأقوله
هيكل: إذا كنا مختلفين..فكيف سأكتب؟
فرد السادات وقد استبد به غضب مفاجيء: طيب..شاكر يا محمد..كتر خيرك

ومن المكالمات الطريفة التي جرت بين السادات وهيكل تلك المكالمة التي دارت وقائعها في الخامس من أبريل نيسان عام ألف وتسعمئةٍ وواحدٍ وسبعين..وجرى في جزءٍ منها الحوار التالي

السادات: يا باي يا محمد..بس لو يصدقوا الأمريكان..هما غايظني. وبعدين النهارده كان يوم صعب كله سفراء..شفت سفير إيران بعثت له للشاه (شاه إيران محمد رضا بهلوي) يعني النهارده قلت له يتحرك تاني..هو كان اتحرك في المرة اللي فاتت..قلت له لأ اتحرك تاني
هيكل: بعثت له شعراً ولاّ نثراً؟

كانت تلك إشارة إلى صدامٍ بين الشاه والسادات حين كان الأخير نائباً للرئيس وذلك في قمةٍ جمعت بينهما في الرباط في إطار المؤتمر الإسلامي..إذ أبدى الشاه في هذا الاجتماع ملاحظةً عقّبَ عليها السادات ببيت شعرٍ فارسي..لكن شاه إيران قال إنه لم يفهم كلمةً واحدةً مما قاله السادات


السادات: حأعمل إيه يا محمد؟ قلت للسفير النهارده أنا حأبعث للشاه رسالة نصها الفوقاني عربي ونصها التحتاني فارسي عليها علامة على أننا حضارة واحدة ومصير واحد. بعد كده جه السفير الإنجليزي كان بيسلم رسالة من هيث (إدوارد هيث رئيس وزراء بريطانيا آنذاك) وبعدين جالي السفير الأفغاني.. كان جايب عينات رخام من الضريح بتاع جمال الدين الأفغاني..ده ضريح صممه ظاهر شاه (ملك افغانستان آنذاك) بنفسه وأنا سنة خمسة وخمسين هناك الملك وراني التصميم اللي هو عمله وقال لي حنفذه..واتنفذ..فبعث لي بقى صورة للموقع كله..والشارع اللي قدام الضريح مباشرة وفي وسط جامعة كابول سموه شارع جمال عبد الناصر. الرخام الأفغاني طبعاً أنت عارف أحسن رخام في العالم بعتولي النهارده خمستاشر عينة وبيقولوا بقى إيه؟ إنهم عاوزين يشتركوا في ضريح الريس برخام أفغاني فبعتوا العينات..فأنا قلت للجماعة ابعتوه للست والولاد يشوفوه (يقصد حرم الرئيس المصري جمال عبد الناصر وأولاده)



هيكل: طيب والله دي حاجة ظريفة..رخام وجوابات نصفها عربي ونصفها فارسي

السادات: يعني حأعمل إيه يا محمد..ما أنا بألعب بالبيضة والحجر

وكان السادات في نظر كثيرين رجلاً يهوى بالفعل اللعب بالبيضة..والحجر


حتى حكاية "ثورة التصحيح" - أو "انقلاب مايو" كما يسميه خصومه- التي قام بها السادات في الخامس عشر من مايو أيار عام ألف وتسعمئةٍ وواحد وسبعين بدأت - كما يرد في أغلب الروايات- بمكالمات هاتفية..إذ يقول هيكل في كتابه "خريف الغضب" إنه بعد منتصف ليلة الحادي عشر من مايو أيار عام ألف وتسعمئةٍ وواحد وسبعين وصل إلى بيت السادات ضابط شرطة يعمل في إدارة الرقابة على التليفونات بوزارة الداخلية المصرية..وكان يحمل معه مجموعة من الأشرطة المسجلة تكشف بوضوح أن كل تليفونات الرئيس السادات كانت موضوعة تحت الرقابة. لم يكن تليفونه هو تحت الرقابة ولكن الرقابة وضِعَت علىتليفونات جميع الذين يتصل بهم من دون استثناء..وبالتالي فقد كان السادات نفسه تحت الرقابة الكاملة ولإن لم يوضع تليفونه هو بالتحديد في كشف المراقبات

وهكذا شن السادات حملةً ودخل في مواجهةٍ مع من أسماهم "مراكز القوى"..وكانت النتيجة المعروفة بموجة من الاستقالات والإقالات والمحاكمات لوزراء وعسكريين مرموقين ورجالات دولةٍ من الوزن الثقيل

ويقول السفير السوفييتي الأخير في مصر فلاديمير فينوغرادوف في كتابه "حقبة غامضة من التاريخ المصري" إنه بعد أحداث الخامس عشر من مايو أيار عام ألف وتسعمئةٍ وواحد وسبعين التقى محمد حسنين هيكل فأبلغه بأن السادات قد أسمعه شريط تسجيلٍ لمحادثةٍ تمت بين السفير السوفييتي وبين سامي شرف في التاسع من مايو أيار عام ألف وتسعمئةٍ وواحد وسبعين..فسأل فينوغرادوف هيكل عن مضمون الحديث المسجل فقال هيكل: "قال سامي شرف لك إن مواقف السادات لم تعد مفهومة وإنه عازم على التفاهم مع الأمريكان..ولم يعد معروفاً ما سوف يقدم عليه بعد ساعةٍ أو ساعتين..وأخيراً سألك: ما العمل الآن معه؟".. فلما سأله فينوغرادوف عن رده على سؤال سامي شرف ابتسم هيكل قائلاً: "كان ردك أن هذه ليست قضيتك وقلت لسامي شرف "السادات هو رئيسكم ويجب الالتفاف حوله وتعضيده للحفاظ على وحدة الإرادة داخل القيادة السياسية في البلاد"

وأضاف هيكل قائلاً إن السادات بعد أن استمع إلى هذه الفقرة من التسجيل ضرب كفاً بكفٍ -طبقاً للعادة العربية- قائلاً: "يا سلام..أفلت السفير بينما كان على شفا الحفرة"..سأل فينوغرادوف هيكل قائلاً:" ماذا تعني كلمة أفلت؟ ماذا كان الرئيس السادات يتصور أن تكون إجابتي على هذا السؤال؟"..قال هيكل: "ربما كان السادات تواقاً إلى الزج بالاتحاد السوفييتي والربط بينه وبين المتآمرين"

وهكذا أفلتت الفرصة "المسجلة" من بين يدي السادات..مثلما أفلتت فرص كثيرة أخرى من بين يديه
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator