المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

الملك فاروق (5): سيدة البرازيل..وفتاة السيجار






بعد تطليقه فريدة، انجرف الملك فاروق بقوة مع تيار الهوى، غير عابيء بدين أو تقاليد، يقوده الإيمان بأن حياته الشخصية هي ملك له وحده، وبالتالي عاشها طولاً وعرضاً. ففي حديث له مع أحد المسؤولين البريطانيين ذكر له أن تنبؤاته دلت على أنه سيموت صغيراً، وأن ذلك يدفعه إلى التمتع، ما أمكنه ذلك

ولم يغب العنصر النسائي عن فاروق في رحلاته داخل مصر وخارجها
والصحيح أن بعض من عرفهن من النساء لمسن نقطة ضعفه، ومن ثم تمكنّ من معالجته نفسياً، بمعنى أنهن نقلن إليه المشاعر الناطقة بأنه يتمتع بكامل لياقته المطلوبة، أيضاً أدرك بعضهن صفات الملل الذي يعتريه، وتحوله السريع وتخليه عن الآخر، وقوة نزعة التقلب عنده في حالة استسلامهن له. ومن هنا أهملنه، فكان أكثر اندفاعاً نحوهن. وهذه الصفات انعكست على عطائه لهن، فهو أحياناً يكاد يوصف بالبخل عليهن، وفي أحيانٍ أخرى يكون مسرفاً ومبذراً ويقدم الهدايا الثمينة للمرأة التي يجذبها إليه


ولم يشر المسلسل التليفزيوني "الملك فاروق" بشكل كافٍ إلى اهتمام الملك بالنبيلة فاطمة طوسون (19 أبريل نيسان 1923- 14 مارس آذار 1990)، وكان فاروق يتودد لها بالهدايا الكثيرة أثناء حياة زوجها، وتتحدث بعض المراجع والوثائق الأجنبية عن أنه كان على علاقةٍ كاملة معها، وتوسعت تلك المراجع فيما هو أكثر من ذلك


وقد تصور فاروق أن الطريق إليها الآن مفتوح، وأنها لن تفكر في معارضة أن تكون ملكة مصر، بعد وفاة زوجها النبيل حسن طوسون – نجل الأمير عمر طوسون- في حادث سيارة وقع في فرنسا في 15 نوفمبر تشرين ثانٍ عام 1946
ولكن كانت الصدمة عندما رفضت فاطمة طوسون الزواج من الملك فاروق، إذ حدث أن تلك الجميلة التي عاشت لفترةٍ في باريس بعد أن أصبحت أرملة وقعت في حب الأمير "دوم" خواو ماريا دي أورلينز اي براغانزا (15 أكتوبر تشرين أول 1916- 26 يونيو حزيران 2005) وهو ينتمي إلى أسرة براغانزا التي حكمت البرتغال من 1640 إلى 1910
ثم حكمت إمبراطورية البرازيل من 1822 إلى 1889


وكان لدى فاطمة وهذا الأمير مشروع زواج توقف في منتصف الطريق، لأن النبيلة أصرت على إشهار إسلامه شرطاً لإتمام الزواج، ومن جانبه فقد وجد خواو صعباً عليه التخلي عن مسيحيته، لئلا تكون من ذلك مشكلة لأسرته
وتكتب السفارة البريطانية في القاهرة (484/7/553) و(1303/141) تقارير إضافية:

"لقد ظهر أن التقارير التي وصلتنا عن زواج النبيلة فاطمة طوسون من كونت برتغالي سابقة لأوانها، لأن النبيلة ترددت في النهاية بسبب عدم رغبة خطيبها في تغيير دينه من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنها تخشى إذا تزوجت من غير مسلم أن تفقد حقوقها، وفيها اللقب الملكي"

لكن الملك فاروق كان أسرع من توقعات السفارة البريطانية، وكان مذهلاً أن الملك فاروق ركز اهتمامه ذلك الشهر الحاسم في التاريخ المصري وهو ديسمبر كانون أول عام 1948 على ترتيب زواجه من النبيلة فاطمة طوسون – ابنة حسين إسماعيل شيرين بك وعائشة مسلَّم- إلا أن أحكام القدر كانت أقوى من رغبات الملوك

والذي حدث أن الملك أوفد ممثلاً خاصاً له إلى باريس هو فؤاد شيرين (باشا)، محافظ القاهرة وقتها، والهدف الظاهر من رحلته تمثيل مصر في المؤتمر العالمى للبلديات، لكن المهمة الحقيقية وراء الظاهر أن يتفاهم مع النبيلة فاطمة طوسون على موضوع زواجها المحتمل من فاروق. وكانت ميزة فؤاد شيرين (باشا) أنه عميد أسرة يربطها نسب مع فاطمة طوسون

وسافر فؤاد شيرين (باشا) إلى باريس، وقابل النبيلة فاطمة طوسون وفاتحها في موضوع عودتها لتصبح الملكة الجديدة لمصر. وكانت المفاجأة أنها اعتذرت لأن "المشكلة التي كانت تعطل زواجها من الكونت البرتغالي أمكن حلها، وأنهما سوف يتزوجان في ظرف أسابيع قليلة". وهكذا فشلت مهمة مبعوث الملك في باريس، وكانت الصدمة ثقيلة الوقع على ملك مصر، الذي حاصرته الهموم العامة والخاصة


وقد تم الزواج في 29 أبريل نيسان عام 1949 واستمر حتى عام 1970، لكن فاطمة طوسون آثرت بعد الطلاق البقاء في البرازيل حتى توفيت في ريو دي جانيرو

وتقول بعض المصادر إن فاروق استشاط غضباً بسبب هذه الزيجة وهدد فاطمة طوسون بالحجر على ممتلكاتها في مصر؛ بل وأوفد حتى إلى حكومة البرازيل طالباً استرجاعها، واعتذرت له البرازيل بأنها لم توقع مع مصر اتفاقية تبادلٍ للعشاق



بعدها تزوج فاروق للمرة الثانية

قصصٌ كثيرة وروايات نُسِجَت عن ظروف وملابسات ارتباط الملك فاروق ملك مصر السابق بالفتاة الجميلة ناريمان. لم تتفق الروايات جميعها على التفاصيل، حيث حفلت كل قصة بسيناريو مختلف، لكن هذه الروايات اتفقت على أن اللقاء الأول بين الملك وناريمان كان في محل أحمد باشا نجيب الجواهرجي في شارع الملكة فريدة المعروف الآن باسم شارع عبد الخالق ثروت

ويقدم لنا المسلسل التليفزيوني اللقاء الأول بين فاروق وناريمان على أنه جاء في حضور والدها حسين فهمي صادق وكيل وزارة المواصلات. إلا أن مراجع وشهادات محل ثقة - بينها كتاب د. لطيفة سالم، إضافة إلى شهادة يوسف نجيب ابن شقيق أحمد نجيب الجواهرجي- تؤكد أن اللقاء حدث حين دخلت ناريمان المحل مع خطيبها الدكتور زكي هاشم لشراء خاتم الزواج، فأعجب بها فاروق الذي كان موجوداً هناك، وقرر الاستحواذ عليها وفقاً لصفاته المعهودة في الاستيلاء على ممتلكات الغير، بالإضافة إلى أنه كرر فعلة أبيه عندما تزوج من نازلي

ولفهم شخصية ناريمان (31 أكتوبر تشرين أول 1933- 16 فبراير شباط 2005) علينا أن نرصد تفاصيل صغيرة، منها أن تلك الفتاة كانت تبلغ من الطول خمسة أقدام وكانت تنجذب إلى الأشياء المضادة..ويبدو أن أكبر مشكلة كانت تواجهها مع الرجل الذي وعدها أبوها به أنه لم يكن ضخم الحجم بما فيه الكفاية، فكانت دائماً تشير إليه على أنه زكي هاشم الصغير، ولم تكن مهتمة بمؤهلاته العلمية من جامعة هارفارد مثلما كانت متأثرة بأنه نحيل وضئيل الجسم لأنه كان أطول منها بمقدار بسيط

وفي يوم زيارة الملك لمنزلها ذهبت مع والدتها أصيلة هانم -ابنة كامل محمود، من أعيان محافظة المنيا- إلى حلواني "جروبي" لشراء تشكيلةٍ غالية من الحلويات وقامتا بتزيين المنزل بالنباتات والزهور، واشترت فستاناً جديداً. وكان موعد الملك في الثالثة لكنه لم يحضر قبل العاشرة، حيث وقفت سيارة "كاديلاك" حمراء أمام المنزل، وكان فاروق يرتدي بدلة سهرةٍ سوداء، وطلب من ناريمان إعداد فنجان من القهوة، ومكث في المنزل 20 دقيقة فقط. وبعد أن غادر، أخذت ناريمان السيجار الهافانا الذي أطفأه في منفضة السجائر كتذكارٍ لتريه لصديقاتها في مدرسة الأميرة فريال الثانوية، إلا أن والدها نهرها ومنعها من ذلك



وفي 11 فبراير شباط عام 1951 احتفل فاروق رسمياً بخطوبته من ناريمان بعد أن عادت من الخارج، وفي 6 مايو أيار عقد القران، وبلغت تكاليف الزفاف 483,73 جنيه، وهو مبلغٌ كبير بمقياس الفترة الزمنية. ووضعت العروس في جيدها عقداً ماسياً، عُدًّ من أندر حلى العالم، مما أثار الأقوال والانتقادات، ولم يترجم أي شعور عام للفرحة التى ملأت قلوب الناس عند زواجه الأول

وتنقل الملك والملكة في أوروبا، ولم يغير فاروق من عاداته أثناء الرحلات، وشنت الصحافة الأجنبية حملاتها عليه، وحدثت الأزمات مع الصحفيين. ولم تكن الملكة الشابة - التي انفصلت عن فاروق في 2 فبراير شباط عام 1954- تصاحبه دائماً في أماكن لهوه التي اعتاد التردد عليها ليمارس هواياته المعهودة، ومنها لعب القمار، وقد خسر في ليلةٍ واحدة مئة ألف جنيه استرليني كما كتبت الصحف الإنجليزية فى ذلك الوقت

ولما كانت عقدة عجزه فيما يتعلق بالسيطرة على فريدة تلاحقه لتعاليها وكبريائها، فقد أحكمها على الزوجة الثانية، التي تقبلت الأوضاع على ما هي عليه، إذ لم تكن تتمتع بقوة الشخصية، بالإضافة إلى رغبتها في أن تظل ملكة على عرش مصر. وارتفعت تكاليف رحلة شهر العسل بشكل أثار الانتباه، ويبعث السفير البريطاني في روما إلى حكومته ليصف البذخ والترف في تلك الرحلة الملكية، ويسجل أن ناريمان أنفقت عشرين ألف جنيه في نصف يومٍ في فينيسيا. وفي 15 سبتمبر أيلول عاد الملك والملكة إلى مصر



وفي يوم 16 يناير كانون ثانٍ عام 1952 دوت طلقات المدفعية في سماء القاهرة، حيث تم إطلاق 101 طلقة مدفعية في تمام الساعة السادسة والثلث صباحاً إعلاناً عن مولد أول طفل ذكر للملك فاروق قبل موعد ولادته الطبيعية بشهر واحد وهو الأمير أحمد فؤاد. وأرجع فاروق سبب الإنجاب قبل الموعد المنتظر إلى الوراثة من ناحية زوجته، في حين نحت الأقاويل منحى آخر
جاء الأمير أحمد فؤاد، في وقت كانت مصر فيه على شفا حفرة من النار. وعندما يقرر الملك تقديم ابنه وولي عرشه إلى الجيش في 26 يناير كانون ثانٍ عام 1952، فإذا في اليوم ذاته ينشب حريق القاهرة ويتحول الفرح المطالب الاحتفاء به إلى جنازة

ثم وقعت ثورة يوليو 1952، واضطر فاروق إلى توقيع وثيقة التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد، ومغادرة البلاد على ظهر يخت "المحروسة" مساء يوم 26 يوليو تموز عام 1952

استقر فاروق في إيطاليا وبعد أقل من ثلاثة أشهر فقط، وتحديداً في 15 أكتوبر تشرين أول عام 1952، بدأت صحيفة "إمباير نيوز" البريطانية في نشر سلسلةٍ من 12 حلقة بعنوان "ذكريات فاروق" حكى فيها الملك المخلوع عن سنواته الأخيرة في مصر بروح شخصٍ منفعلٍ ومجروح، أكثر مما روى حقيقة الأمر

شيءٌ طبيعي أن يبكي فاروق كالنساء مُلكاً لم يحافظ عليه كالرجال

تابع القراءة

gravatar

الملك فاروق (4): فضيحة..في جناح مولانا




حكمة القصور تقول: ليس من الصعب اصطياد ملك عابث

ففي يوم 24 أبريل نيسان عام 1945 كتب اللورد كيلرن إلى لندن (1531/ 45970) ما نصه:
"أتشرف بأن أبعث إليكم بصورة تقرير سري كتبه مصدر موثوق على اتصال بنا (كريم ثابت) عن واقعة بطلتها سيدة اسمها ليلى شيرين ضُبطت على مدخل جناح الملك فاروق في قصر عابدين، وتحول مشهد ضبطها إلى فضيحة شهدتها الملكة فريدة وشاركت في وقائعها

"إن مصدرنا الوثيق الصلة بالقصر والذي نستطيع الاعتماد بالكامل على صحة روايته، قال "إن الملك فاروق كان "بريئاً" لأنه لم يكن في قصر عابدين من الأصل، وإنما كان يقضى الليلة في استراحته بالفيوم"

يستكمل اللورد كيلرن برقيته فيقول:

"إن السيدة التى ضُبطت على مدخل الجناح الملكي اسمها ليلى شيرين، وهي سيدة "متسامحة في الفضيلة" A lady of easy virtue وقيل إنها مصابة باضطرابات عصبية عولجت بسببها في مستشفى الدكتور "جيلات" للأمراض النفسية في المعادي. ومن الملاحظ ولحظوظ الجميع الحسنة أنه أمكن الحصول على شهادة بعلاجها من مستشفى الدكتور جيلات قُدمت إلى النائب العام الذي أصرت الملكة فريدة على إبلاغه بواقعة وجود "سيدة غريبة" على باب جناح الملك قريباً من جناحها!"



يستطرد اللورد كيلرن في تقريره فيقول:


"من نتيجة الحادث أن الملكة فريدة صممت على طلب الطلاق، قائلة إنها تريد أن تترك القصر وتعيش وحدها مع بناتها وتترك فاروق يفعل ما يشاء. وكان الملك في البداية مغتاظاً مما جرى ويوافق على إجراء الطلاق فوراً، لكن أحمد حسنين (باشا) هرع إلى مكتبه عندما عاد من الفيوم يرجوه ألا ينفعل، لأن الأوضاع السياسية الآن (وهو المسؤول فيها عن البلد بعد إقالة حكومة النحاس (باشا) لا تسمح بمثل ذلك). ونزل الملك في ما علمنا على رأي حسنين، لكننا على ثقة بأن موضوع الطلاق سوف يطرح نفسه مرة أخرى، لأن الملكة فريدة لم تعد تطيق الحياة مع زوجها. وهو من ناحيته لا يمانع في طلاقها، معتبراً أنها لم تستطع أن تنجب له ولداً يخلفه على العرش. إن الملكة هائجةٌ على نحو خاص من غرام الملك بالنبيلة فاطمة طوسون، والعقبة أن فاطمة طوسون عليها أولاً أن تحصل على الطلاق من زوجها الأمير حسن طوسون، وعندما يطلق الملك زوجته فريدة، ويطلق حسن طوسون زوجته فاطمة فإن عمليات الطلاق المزدوجة سوف تخلق موقفاً شديد الحساسية"!

وفي ملفات الحرس الملكي (هيئة ضباط الياوران المكلفين بمرافقة الملك والخدمة المباشرة معه)، تقرير بخط يد الأميرالاي عثمان المهدي (بك)، (أو ربما بإملائه على أحد موظفي مكتبه) ترد الواقعة في سطور قليلة:

12 أبريل 1945

"أبلغت صاحبة الجلالة الملكة عن سيدة ادعت أنها من مربيات الأميرات، وكانت موجودة قرب الجناح الملكي، وعلى الفور تحرك الأميرالاي عثمان المهدي وضبط المدعوة ليلى شيرين، وتم إبلاغ النيابة بناءً على طلب من حضرة صاحبة الجلالة الملكة، وتم اتخاذ اللازم"



لكن السفير البريطاني ما لبث أن بعث إلى لندن مذكرة أشرف على إعدادها السير كين بوين (مستشار وزارة الداخلية المصرية السابق، وكان يدير وقتها شبكة معلوماتٍ نافذة إلى صميم الحياة السياسية والاجتماعية في مصر) وكانت المذكرة على النص التالي:

"بعد منتصف الليل يوم 12 أبريل 1945 لاحظت الوصيفة المناوبة للملكة فريدة وهي السيدة نعمت مظلوم (كريمة أحمد مظلوم (باشا) وهو صهر لأسرة حسين سري (باشا) وزوجته السيدة ناهد خالة الملكة فريدة) عندما خرجت من جناح الملكة لتجري حديثاً تليفونياً مع بيتها، أن هناك سيدة ترتدي ملابس السهرة، وتتمشى في الصالون الملحق بجناح الملك (وكان الباب مفتوحاً). واندهشت السيدة نعمت مظلوم واقتربت من السيدة الغريبة تستطلع أمرها "من هي؟"، و"ماذا تعمل؟" و"ما الذي جاء بها إلى هنا في هذه الساعة داخل الجناح الملكي الخاص؟". ثم سألتها بحدةٍ: كيف دخلت؟ وردت عليها السيدة بهدوء قائلة لها: "من الباب طبعاً"! ثم بدا أن السيدة الغريبة تريد أن تنصرف بسرعة، لكن نعمت مظلوم أمسكت بها، وسمعت الملكة فريدة أصواتاً غريبة وهرعت نحو مصدرها، وعندما وقع نظرها على السيدة المذكورة، صرخت الملكة تطلب "مسدساً" من غرفتها، لأنها لا بد أن تقتل "هذه المرأة". وتحت التهديد بالقتل اعترفت المرأة الغريبة باسمها ليلى شيرين، وذكرت أنها جاءت إلى هنا مراتٍ من قبل عندما كان الملك يدعوها بنفسه أو بواسطة مكتب الشؤون الخاصة (مكتب بوللي بك)، وقد أبلغوها بأن جلالة الملك يطلبها، وأن كلمة السر في القصر الليلة هي "المنتزه"!

"وتحت تهديد السلاح في يد الملكة فريدة جلست ليلى شيرين تكتب بخط يدها اعترافاً بعلاقتها مع الملك، وقد أخذته الملكة فريدة وهي تقول لنعمت مظلوم "هذه المرأة تقول أيضاً إنها حامل من فاروق!"

قالت الملكة أيضاً إنها لمحت في يد ليلى شيرين خاتماً عليه صورة للملك فاروق، واعترفت لها بأنها تلقت الخاتم هدية منه

وفي هذه اللحظة أخطرت الملكة ثلاثة رجال داخل القصر بالواقعة:


مراد محسن (باشا) ناظر الخاصة الملكية
أحمد صادق (باشا) قائد الحرس الملكي
الأميرالاي عثمان المهدي (بك) وهو ليلتها الياور النوبتجي المكلف بالخدمة

ثم اتصلت الملكة بنفسها بعد ذلك برئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي (باشا). وأصرت على إبلاغ النائب العام بالواقعة. وكلفت السيدة نعمت مظلوم بإبلاغ مأمور قسم عابدين كذلك

روت الملكة في اليوم التالي أن كل المسؤولين في القصر كانوا في حالة ذعرٍ شديد. وأن الأميرالاي عثمان المهدي (بك) الياور النوبتجي الذي قال في تحقيق النائب العام إنه توجه إليها بعد دقيقتين ونصف الدقيقة، لم يصل في الواقع إلى حيث كانت إلا بعد خمس وأربعين دقيقة، وكان خلال هذه المدة يحاول الاتصال بأحد من حاشية الملك الموجودين معه في الفيوم لإبلاغه بما جرى، حتى يتلقى "التوجيهات" في كيفية التصرف

والظاهر من التحقيقات الأولية أن الملك واعد ليلى شيرين على اللقاء مبكراً من أول الأسبوع، وبعد عشاءٍ يحضره مع الوفد المصري المسافر إلى سان فرانسيسكو (للمشاركة في وضع ميثاق الأمم المتحدة)، ثم حدث أن العشاء أُلغي، ونسي الملك بعد إلغائه موعده الغرامي الذي رتبه بعد ذلك العشاء وذهب إلى الفيوم وهكذا جاءت ليلى شيرين في موعدها ولم تجده

وبعد مشاوراتٍ بين الحكومة والقصر، تقرر اعتبار ليلى شيرين مجنونة، وأمكن استصدار شهادة بذلك من مستشفى الدكتور جيلات، وبالفعل أودعت مستشفى الأمراض العقلية

لكن الملكة فريدة لم تكن مقتنعة، وقد أبدت رضاها لأنها حصلت من ليلى شيرين على اعترافٍ كامل يثبت استهانة فاروق ليس فقط بكرامتها كزوجة، ولكن بقصر عابدين كمقر للعرش، ثم أضافت "إن فاروق بعد ذلك لا يحق له أن يرفع عينه فيها أو يحاسبها على شيء!"

ولم تسكت الملكة عن طلب الطلاق إلا عندما أقنعها رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي (باشا) "بأن المصالح العليا للبلد لا تتحمل الآن فضائح". على أن الأمر الذي نستغربه جميعاً هو "لماذا اختار فاروق قصره الملكي لمواعيده الغرامية، وهو القادر على إيجاد مساحةٍ لغرامياته في ألف مكانٍ آخر؟!"

لقد ظل فاروق يحب فريدة حتى النفس الأخير، لكن ذلك الحب لم يمنعه من أن يطلقها في 17 نوفمبر تشرين ثانٍ عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين. وكان الشهر المذكور شديد الدقة بالنسبة لأوضاع الجيش المصري في فلسطين، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد استولت على تقاطع الطرق ما بين "مستعمرة نجبا" وحتى "مستعمرة نيتساليم"، وبذلك تمكنت من احتلال شمال النقب، وقسمت الجيش المصري إلى قسمين كل منهما معزول عن الآخر: المجموعة الضاربة التى يقودها القائمقام أحمد عبد العزيز وقيادتها في بيت لحم، والمجموعة الرئيسية التى يقودها اللواء أحمد محمد المواوي وقيادتها في المجدل على الطريق الساحلي

وكان ذلك هو الظرف الذي اختاره الملك فاروق لإتمام طلاقه من المرأة التي أحبها

والمدهش في الأمر أن الملكة فريدة أرادت أن تعرف السفارة البريطانية بالتفاصيل الدقيقة لما جرى معها ساعة الطلاق، وكانت الأميرة سميحة حسين ابنة السلطان حسين كامل، (ووالدة وحيد يسري (باشا)، هي التي دعت المستشار الشرقي في السفارة السير والتر سمارت لتنقل له على لسان الملكة تفاصيل ما وقع لها

وكتب السير والتر سمارت تقريراً عن لقائه الأميرة سميحة حسين، مشيراً إلى أن "سموّها" أبلغته بالتفاصيل نقلاً مباشراً عن الملكة فريدة

ونص التقرير (484/ 6/ 553) كما يلي:
"يوم 10 نوفمبر طلب نجيب سالم (باشا) مدير الخاصة الملكية مقابلة الملكة فريدة على وجه الاستعجال، وأبلغته باستعدادها لمقابلته على الفور في جناحها الخاص، وجاء نجيب (باشا) ومعه ظرف سلمه للملكة، وكانت فيه "ورقة طلاق"

قال لها نجيب سالم (باشا) إن "جلالة الملك" يعطيها مهلة شهر لكي تجد لنفسها مكاناً تقيم فيه وتخرج من القصر الملكي. وأبلغها أن الملك سوف يحتفظ بحضانة البنتين الأكبر (فريال وفوزية). لكن الأصغر وهي فادية ستظل في حضانتها هي حتى تبلغ سن التاسعة، وسوف تتكفل الخاصة الملكية بكل نفقاتها، وهذه النفقات تشمل كل ما هو لازمٌ لأميرة ملكية من الحضانة والتربية والتعليم والخدمة وهذه إضافة مستقلة عن التسوية المالية مع الملكة نفسها عقب الطلاق

وتنقل الأميرة سميحة حسين إلى السير والتر سمارت بالنص:

"إن الملكة فريدة شكرت نجيب سالم على إبلاغه بهذه الأخبار ولاحظت حرجه وهو يقوم بمهمته، ورجته هي إبلاغ الملك بأن يهتم برعاية "البنات" حتى لا يتحولن إلى "بغايا مثل عماتهن!" So they do not become prostitutes like their aunts

"خرج نجيب سالم (باشا) مهرولاً من جناح الملكة، لكن أنتوني بوللي (بك) مدير الشؤون الخاصة للملك ما لبث أن وصل إلى جناحها مهرولاً يقول إنه يريد جلالتها لكلمة واحدة"

وتنقل الأميرة سميحة حسين عن فريدة بالنص:

"قال بوللي إنه يحمل رسالةً ذات طابع سري من الملك، وهي أن جلالته يريد منها أن تسلم التاج الذي كان في عهدتها، وأن تسلم أيضاً كافة المجوهرات التي تلقتها منه عند الزواج أو في مناسبة الزواج، لأن تلك كلها متعلقات ملكية
وردت فريدة بأنها سوف تسلمه التاج الآن، على أنها تريد لفت نظره إلى أن هناك ماسة ضائعة فيه، وأنها تتكفل بشراء بديلة لها توضع مكانها. ثم قالت إنه بالنسبة للهدايا التي جاءتها من الملك عند الزواج أو في مناسبته فتلك أشياء تملكها هي الآن، وأبلغها بوللي أن جلالة الملك مصممٌ على طلبه، وقامت فريدة غاضبة وجاءته بكل ما كان عندها قائلة له "إنه عندما تهدأ أعصاب فاروق فإنها تريد أن تجلس معه على انفرادٍ لحديث طويل"

ذكرت الأميرة سميحة حسين "أن الملك فاروق كان قد أطلق اسم فريدة على "تفتيش زراعي" ملكه مساحته 1700 فدان، وسماه فعلاً باسم "الفريدية"، لكنه لم يتخذ بعد "الاسم" أية إجراءات، ومن الظاهر أن هذا التفتيش سوف يضيع على الملكة. كذلك أشارت الأميرة سميحة حسين إلى أن الملك كان قد أهدى إلى الملكة فريدة قصراً قدمه له ابن عمته محمد طاهر (باشا) وهو قصر الطاهرة، لكن فاروق لم ينقل "عقد الهبة" إلى فريدة، وظهر أن هدية ابن عمته له موثقة، وأما هديته إلى زوجته فقد كانت شفوية. وبذلك فإن الملكة سوف تخرج بأقل القليل بعد إتمام الطلاق"


وهكذا خرجت الصحف المصرية، وتناقلت عنها وسائل الإعلام العربية والأجنبية بلاغين صادرين عن ديوان حضرة صاحب الجلالة الملك:

البلاغ الأول يعلن طلاق الملك فاروق من الملكة فريدة، والسبب "أن حكمة الله وإرادته اقتضت وقوع الانفصال بين الزوجين الكريمين"

والبلاغ الثاني يعلن طلاق الأميرة فوزية من زوجها محمد رضا بهلوي شاه إيران، والسبب "ما ثبت من أن مناخ طهران لا يلائم صحة الأميرة المصرية التي تحملت ذلك المناخ حتى اعتلت صحتها، ولم يعد في مقدورها الاستمرار
المدهش أن أحد أسباب الطلاق في الحالتين واحد: عدم إنجاب ولي العهد

وفي اليوم التالي دعا مجلس البلاط إلى اجتماع عاجل لبحث مسألة طرأت للملك فاروق وهي ضرورة إصدار فتوى أو قرار شرعي يمنع الملكة فريدة من الزواج مرة أخرى في حياتها، ويجعل مثل هذا الزواج باطلاً مهما كانت ظروفه. وكان داعي الملك إلى هذا الطلب أنه سمع خبراًعن احتمال أن تتزوج فريدة من وحيد يسري (باشا)، وقد أراد أن يسبق احتمالات مثل هذا الزواج ويحول دونه

وحاول فاروق استصدار فتوى من شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي بتحريم الزواج على فريدة من بعده، لكن المراغي رفض الأمر لمخالفته الشريعة الإسلامية، وإن لم تتزوج فريدة من بعده بلا فتاوى


بعد الطلاق، أخرجت فريدة طاقتها في الرسم بعد أن حُرِمَت من رؤية بناتها. وقد امتد ذلك الحرمان بعد الثورة حين رحلن مع أبيهن إلى المنفى



وبعد سنواتٍ طويلة أرسلت خطاباً إلى جمال عبد الناصر تستأذنه في السفر لرؤية بناتها، ووافق بخطاب يحمل توقيعه، لكن الخطابين حرقهما فيما بعد ميشيل أورلوف وهو نجل ابنتها فادية التي تزوجت من الروسي بيير أورلوف.. كما حرق جزءاً من مذكراتها وحمل ما تبقى منها إلى موسكو ليخفيها

وقد كتبت المذكرات باللغة الفرنسية وكشفت فيها عن رغبة عضو مجلس قيادة الثورة جمال سالم في الزواج منها، وعندما رفضت وضع ما تبقى من ممتلكاتها تحت الحراسة، فعاشت من بيع لوحاتها ومن نفحات المحسنين. وقبل أن ترحل بسنواتٍ قليلة أصبحت لها شقة صغيرة في حي المعادي منحتها لها الدولة، لكنها لم تعش فيها طويلاً، فقد ماتت بسرطان الدم..اللوكيميا

تابع القراءة

gravatar

أريكة العائلة






كل شيء تغير في هذا المنزل.. سواها

أريكة العائلة، التي جاءت إلى البيت الضيق ضمن أثاث العروسين

يتشبث بحوافها العابرون

لها رائحة القرفة والزعفران، ولها ذاكرةٌ محترقة بكل أنواع النيران التي لا رماد لها

والذكريات تخدش زجاج الزمن

كبرت العائلة وأثمرت الزيجة عن ولدٍ وابنتين..عرفوا جميعاً قيمة تلك الأريكة ذات نقوش عصر الروكوكو الساحرة والمساند الذهبية العتيقة

إنها الوفاء على هيئة قطعة أثاثٍ تناسب لون الستائر

وهي ظلت تلتقطهم وتحتفظ بصورهم وأسرارهم في ذاكرتها المثقلة

حفظت كل رفة عينٍ، التفاتة، إيماءة، حالة تواطؤ صامتة، بكاء مرير مكبوت، شهقة سعادة ممتزجة بالألم

لا أحد يدري كيف تؤطر الأريكة بلا جهدٍ حياتنا الشاسعة

تتصدر المشهد في أناقةٍ لافتة

تباعد بين ساقيها لتفصح عن أنوثتها كأي حبيبة تخلق الألفة معها من أول جلسة

أريكةٌ حين يدركها الغرام تصبح أرجوحة.. تعلو لتلمس سقف السماء، وتقطف نجمةً لتحتضنها في رحلة الهبوط

اختارها الابن البكر مستقراً وفراشاً له، بعد أن ضاقت عليه الشقة بما رحبت

عليها أراح جسده وتوسد أحلامه البسيطة.. أصبحت سريراً تتلاشى أطرافه

يفكر فيها: فتاةٌ في رقة النجوم البعيدة حين تومض في عمق المساء

في الليل، تسحب الأرض نفسها من أمامه

والليل مفرط العذوبة.. والنهار مفرط المرارة

تنتابه الحمى، وتبتلعه دوامة إعصارها

يرى بياض جسدها، وهي منومةٌ بسحر عينيه الجسورتين

لا يُعاب على التفاحة أنها تدعو إلى القضم

بعد مداعبةٍ وجيزة يمسح فيها طبقة القشدة عن قوس الثدي، ينهض الليل كله ليتحرر ويعدو فوق شعاع مكسور


ويندفع الماء من الينابيع الساهية.. كيف نطلب من الكأس ألا ينسكب؟

في مركزه تبقى النافورة وادعة.. شبه نائمةٍ في دائرتها العتيقة

لنكن خفيفين وحانيين إذاً فوق أرضٍ مشتعلة

يثقب الظل فتظهر له كائناتٌ جديدة، إلى أن تغفو العاصفة ويتسلل ضوء النهار من بين شقوق النافذة

كم يكون النائم جميلاً..حتى يفيق

في كل إنسان ينام نبي، عندما يستيقظ يكون الشر قد زاد قليلاً في العالم

لكن الحبيبة ضاعت، أو أضاعت عهد الهوى، واكتفت بدمعتين على النهاية الأليمة..وابتسامةٍ على البداية الجديدة مع رجلٍ آخر

أمطر الفتى دموعه في قلبها ومضى..دفن رأسه بين الأمس واليوم، وحين ناداه السفر حزم حقائبه وهاجر إلى آخر الدنيا
في البلاد البعيدة، جر بصيصاً من عنق اللوم، كان ينفثه مع دخان السجائر وعلى المقاهي التي لا تعرفه..وفي المساء الوحيد لا تنمو على صدره إلا عشبة النوم المتقطع

وفي المنافي نجر وراءنا مقبرة أصدقاء وأعداء. ليس من المهم كثيراً أن تكون تلك المقبرة قد أحيلت إلى مهاوي القلب أو أسقطت على سطح الرغبات

على الأريكة يجالس الرجل ذو الشارب الرفيع صديقته التي تسلل بها إلى المنزل في غياب الزوجة الموظفة

عيناه مثل طائرٍ قلق، لا يستقر على غصن. تنتبه إلى قميصه: كل أزراره نجوم

يتذوق الزائرة ويعتصرها، يضغط عليها ويدعها تتحسس عضلات جسده الرياضي، يتمددان فوق الأريكة فيلمسان في اضطرابهما الطاولة البنية المجاورة ويفقد إناء الورد توازنه ويسقط على الأرض، موزعاً الورد المقطوف من حديقة المنزل على الأرضية الصلبة

يا لدهاء البنفسج وغواية الورد

تلقي الأريكة نظرةً خاطفة على الجار الذي هوى، وفوقها نافذةٌ تشبه الشاهد الصامت

والجيران عالقون في الشباك يسترقون السمع

النافذة تهجع أسفل الكلام، والريح تلعن النوافذ المغلقة

تختلس الأريكة نظرةً خاطفة إلى المرآة العريضة التي تغطي الجدار المقابل، وتكتوي برؤية كيف يقشر مصاص دماءٍ شقائق النعمان

يحمل الرجل الزائرة مثل طفلةٍ إلى غرفة الحميمية المقدسة؛ ليكمل رحلته في جسدها الذي تراخى ولان وتأهب للغزو، وبدت في إغفاءةٍ تشبه الموت.. والموت صنو الروح

وهناك، تتحول الساق اليمنى إلى ساريةٍ تصطاد نوارس المتعة التائهة

معظم الجسد عالقٌ بين فكي سمكة قرش.. فقط يطل وجهها ورقبتها وكتفاها من بين الفكين

ثمة راهب وجزار يتشاجران داخل كل رغبة

في اللذة كما في أوقات الهلع، نبحث عن فرويد وصورة القرد الذي يبلغ المجد أخيراً..ولو لمدة الصرخة أو الآهة
يرميها جانباً كطفلٍ ملَ لعبته، نهداها يغفوان مجهدين وهي تكرر: أنت رائع

في المساء، تهمس الجارة في أذن الزوجة بحكاية الزائرة الغريبة، في حي تنتشر فيه الحكايات أسرع من الأوبئة

وتتكفل الرائحة وبقعةٌ غامضة على الأريكة بافتضاح أمر العلاقة..وإنهاء الزيجة التي كانت سعيدة


في الأسبوع الثاني من الانفصال، تجعل الأريكة من نفسها يداً تواسي الأم التي تضع الابنة الصغيرة في حضنها، وتفكر في ما هو آتٍ

يا لكمية التعب التي كانت ترتاح في دماغها..تسألها الطفلة عن أبيها الغائب فتطمئنها وتسألها عن يومها الدراسي

الحكمة تستر جراحنا: إنها تعلمنا كيف ننزف خفيةً

بعد أربعة أشهرٍ يأتي صديق قديم للعائلة بابتسامةٍ صفراء وقميص مشجر، ويخوض في هراءٍ ممتد عن المطاعم الجديدة في المدينة، والموسيقى التي يتعين أن تسمعها لتصبح مثقفاً، ورغبته في إخراج المطلقة من سجن عزلتها
تحمل المرأة رأسها باتزانٍ وترفع قوسي حاجبيها لتواجه نظراته التي تشي بما في رأسه، وتباغته بلهجةٍ ساخرة: عفواً، هل كنت تقول شيئاً؟ إن صوت رغبتك المرتفع كان يشوش على كلامك

ياقته القاسية تكسرت من ركلةٍ واحدة

ويمر على تلك الأريكة زمنٌ كافٍ كي ينضج جسد الابنة، فتجلس بجوار خطيبها الشاب الذي اغتنم إجازته من وحدته العسكرية ليرى الحبيبة

كان فستانها مذعوراً من الهواء العابث الذي تحركه مروحةٌ عتيقة مرصعةٍ بعلامة تجارية مغمورة

يتذبذب النيون مثل حسرةٍ، أو استراحة من هواء

مكيدةٌ عاشقة بين الهواء والضوء، تحرك خصلات شعرها

يحاول هو أن يحصر زهرة حمراء بين هلالين، ويتسلل بأصابعه إلى جسدها الغض محاولاً اكتشاف أسرار تلك الفتاة الفارعة الطول التي تمنحه كل شيء إلا عذريتها التي تحتفظ بها.. له

خيوط الأريكة تنحل، تتفكك مثل جسد الفتاة، وتهبط بالحشية قليلاً.. لكنها تظل ساحة مثالية لعاشقين ذابا مثل قطعة سكر في كوب شاي ساخن

يهمس في أذنها ليقشعر بدنها على شكل حبيباتٍ صغيرة من أسفلها إلى أعلاها

ثمة رغبة سحيقة في الكلام..رغبة في القبلة

أليس محزناً أننا نغمض أعيننا حين نتبادل القبل؟

نريد عيوننا مفتوحة دائماً، لأننا أبصرنا قبل الأوان

في عناقهما تتناسل الشوارع والأزقة، الصحو الرائق، زهو الألوان، تبرج الأشجار، وأزهار الحدائق المنسقة

تبدأ رغبة السلسلة الذهبية في عنقها المرمري بالتأرجح

يقبلها بشغفٍ ويهبط باتجاه جنوب خريطة الجسد فتمسك رأسها بأصابعها منتشيةً.. وتكتفي الأريكة بمطالعة الحذاء المقلوب في أسىً


يصعد درجات الريح ليرى ما.. لا يُرى

وحين يودعها، تشعر بالنداوة الحارة التي تركها

تتعلم درسها الأول: في المرة المقبلة، حين تفرغين من ممارسة الحب.. لا تضعي وردة على قبر الشهوة، فهي لا ترقد تحت هذا التراب.. إنها الآن داخلك

وما هي إلا سنواتٌ قلائل حتى تستضيف الأريكة زائراً جديداً: خطيب الشقيقة الصغرى

جاء من أقصى الخليج يسعى، باحثاً عن شريكة عمره، فلم يجد أفضل من الجارة الوديعة

أعجبته خفة ظلها، رقتها، بشرتها السمراء المحببة إلى النفس فقرر أثناء تلك الإجازة السنوية أن يعقد قرانه عليها

خطوةُ سمحت له بالخلوة، والاختلاء بالمرأة التي ستصبح يوماً أم أبنائه.. وبعد تلاقي الشفاه النهمة، ونداء الأجساد الجائعة، استحث الأسرة على أن يدخل بفتاته، لكن الأم رفضت بإصرار، قائلةً إن إنهاء السنة الدراسية الأخيرة وتخرج الابنة في الجامعة يأتي أولاً..وبعدها يمكن للشابين أن يستمتعا بزواجهما

غير أن الوردة ظلت مشتهاة

وفي غابة الأحضان، كم ترهل الخيط الذي كان مشدوداً

وذات ليلةٍ صيفية، زار العائلة في غياب الأم التي سافرت على عجلٍ إلى قريتها الصغيرة لأداء واجب التعزية في إحدى قريباتها

جاءته فتاته برائحة عَطِرة تلعب النسمات دور موزع البريد لها، وبنطالٍ مقلم يمكن أن تغيب وسط خطوطه المغوية

يلمح ثرثرة الأقراط، وهي تحدثه بحرارةٍ عن يومها الطويل

وتلتقط خطته غير البريئة، وهو يكلمها عن نهرٍ قديم عثر عليه في عينيها

لم يكن يصغي إلى لثغتها.. فالعاشق بدا مأخوذاً بحزنها الأبدي

لم تهتم بندبةٍ أعلى جبينه صنعتها مغامرات الطفولة..فالعاشقة كانت تصطلي بأنواره العذبة


اعتدل في جلسته، وأسند يده التي تحمل سيجارةً مشتعلة على جانب الأريكة، فأصابها بحرقٍ شوه أحد نقوشها
لم يأبه العاشقان لأثر الحرق كثيراً.. كانت نيرانٌ أخرى تنبعث منهما

وحين يلتقي جسدان، نستكشف لون الظمأ، نرشف من الوقت أجساداً مهجورة تصب بلمسة واحدةٍ أيقونة.. رغماً عنها
طوق كتفها وحشرت رأسها في صدره الواسع

هكذا يغني العشب تحت جلودنا

توغل أكثر، لتئن الأريكة بحمولتها الثمينة

ثم تقع أول حربٍ جميلة عرفها الكون

يحدثان جلبةً تقلب الأشياء المرتبة في الغرفة

بكت وهي تنظر إلى ثيابها المبعثرة هنا وهناك، وضربته بالوسائد الصغيرة الحمراء على شكل قلب

ليلتها لم تنم الأريكة

بقيت عيناها مفتوحتين على عيون النائمين المغلقة في هذا المنزل

ربما لو كانت لديها شجاعةٌ كافية، كل يوم، كي تصرخ ربع ساعة، لتمتعت بتوازنٍ كامل

سمع الجيران صوت بكاء غامض ينبعث من غرفة الجلوس.. لكنهم لم يملكوا للأمر تفسيراً

وأنت لا تفهم وصية إصبعك حتى تكسر الحرب يدك

في تلك الليلة، تقدم القمر مرتجاً ليواسي قطعة الخشب المطلية التي تتنفس ألماً؛ لأنه ما من أحدٍ سواها يحتفل بالظلام

ولا أحد غير القمر الساهر يعرف كم من الصعب سؤال الأرائك عن الأحبة الغائبين في تلافيف الدنيا، أو في تلافيف الجسد الذي كان

في الصباح، فوجيء أهل المنزل باختفاء الأريكة

ولم يصدق أحد رواية الشاهد الوحيد.. طفل في السابعة قال إنه رأى قطعة أثاثٍ تحلق بجناحي الاعترافات واللعنات، تنافس طائرته الورقية الملونة فوق منازل الحي، وتطير بعيداً.. بعيداً، باتجاه سماء لا تُمس


تابع القراءة

gravatar

الملك فاروق (3): عقدة غرفة النوم




الصورة التي رسمها المسلسل التليفزيوني "الملك فاروق" لزوجته الأولى الملكة فريدة (5 سبتمبر أيلول 1921- 16 أكتوبر تشرين أول 1988) كانت لزوجةٍ مستاءة من غياب وابتعاد الزوج، وقد أصابها الضيق لأنه لا يقابل وفاءها وحبها بمشاعر متبادلة بعد أن انطفأت جذوة مشاعر الحب القديمة، خاصة بعد إنجابها لذريةٍ من البنات

إلا أن هذه صورةٌ ناقصة إن لم تكن خادعة

صحيحٌ أنه عقب طلاق الملكة فريدة من الملك فاروق، خرجت المظاهرات الشعبية وهتفت أمام قصر عابدين: "فريدة خرجت من الدعارة إلى الطهارة"..غير أن فريدة كانت لها أيضاً نزواتها

فقد تسلل إلى قلب فريدة أكثر من رجل، بينهم البريطاني سيمون إلويز (29 يونيو حزيران 1902- 6 أغسطس آب 1975) الذي اشتهر بغرامياته، وبينها علاقته بالليدي بنيلوب أيتكن، وخدم في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية برتبة لفتنانت كولونيل


تفاصيل أكثر وحيثيات أهم لتلك الخيانة الزوجية نجدها في كتاب المؤلفة البريطانية أرتميس كوبر وعنوانه "القاهرة: سنوات الحرب 1939-1945". ولعل المهم في ما كتبته المؤلفة البريطانية المشهورة أنها أسست ما قالته على الوثائق الرسمية للحكومة البريطانية سنة 1943، وضمنها تقارير المخابرات العسكرية البريطانية، إلى جانب تقارير اللواء السير توماس راسل (باشا) حكمدار بوليس القاهرة وقتها
وتجيء رواية أرتميس كوبر في كتابها بدءاً من صفحة 229 على النحو التالي:
"في بداية شهر مارس 1943 أبدى الملك فاروق شكوكه من تكرار زيارة زوجته الملكة فريدة لرسامٍ بريطاني جاء إلى مصر ضمن القوات البريطانية في ظروف الحرب اسمه الكابتن سيمون إلويز

"كان هذا الضابط في الأربعينيات المبكرة من عمره، وقد وصل إلى مصر في نوفمبر1941 مع الكتيبة العاشرة للهوسار. وألحق بقسم العلاقات العامة بقيادة القوات البريطانية في مصر. وبعد وصوله بفترة قليلة ظهر إلويز في مجتمعات القاهرة، يرسم لوحات زيتية لعددٍ من الشخصيات ضمنها السفير البريطاني السير مايلز لامبسون، والسيدة كونسويلو رولو الزوجة الجميلة للمليونير اليهودي الأشهر في مجتمع الإسكندرية، وغيره من نجوم المجتمع المصري البريطاني المختلط في تلك الفترة الغريبة. وكان إلويز يعتبر نفسه "دون جوان"، وقد قال لأحد أصدقائه إنه يستمتع عندما يرسم لوحة لامرأة جميلة، لكن الإلهام لا يكتمل عنده إلا إذا عرف صاحبة اللوحة بطريقة حميمة

"كان إلويز طموحاً وقد طلب أن يرسم صورة لملك مصر وملكتها الملكة فريدة. ولم يكن لدى الملك فاروق في ما يبدو وقت، وكذلك فإن الملكة فريدة بدأت جلسات طويلة أمام الرسام الإنكليزي، والتقى الرسام بالملكة فريدة أول مرة في بيت خالتها السيدة ناهد سري (زوجة حسين سري باشا)، وقد سبق الجلسات اتفاق بين إلويز وأحد مسؤولي القصر، على أن يتقاضى إلويز مبلغ ألف جنيه استرليني عن الصورة، وأن يحصل على نصف أتعابه مقدماً مع أمله بأنه إذا وجد الملك فاروق وقتاً فإن نفس العقد يتكرر معه
"وقبل جلسات الرسم تلقى إلويز تحذيرات من أحد مستشاري السفارة بأن يكون حريصاً في تصرفاته مع الملكة، لأنه يتعامل مع مجتمع شرقي له حساسياته وتقاليده، ولذلك يجب أن يكون شديد التحفظ في مسلكه، خصوصاً في حضرة الملكة

"كانت الجلسة الأولى في قصر عابدين وتكررت الجلسات، ثم أبدى إلويز للملكة شكواه من أن حركة الوصيفات من حولها ومقاطعتهن لها تفسد عليه تركيزه، وأبدى أن من الصعب مواصلة العمل في هذا الجو، وسأل الملكة إذا كان في وسعها أن تذهب إليه في مرسمٍ يعمل فيه لأن ذلك سوف يكون أدعى إلى كمال الصورة

"كان اقتراح إلويز حتى وإن كان مألوفاً في مجتمعات غربية صدمة لوصيفات الملكة في البلاط المصري. لكن إلويز أصر على أن مواصلة العمل في قصر عابدين صعبة عليه، وتمكن من إقناع الملكة فريدة بأن تذهب إليه حيث يسكن مع عدد من زملائه الضباط وحيث يعمل أيضاً

"كانت الملكة فريدة في بواكير العشرينيات من عمرها، وقد أنجبت لزوجها ابنتين هما فريال وفوزية، ولم تكن قد نجحت في إنجاب ولي للعهد يكفل استمرار حكم أسرة محمد علي


وتحكي أرتميس كوبر عن ظروف تلك العلاقة قائلةً: "في تلك الأيام كانت علاقة الملكة فريدة بالملك فاروق قد ساءت إلى درجة أنه لم يعد بين الزوجين خطاب مباشر. وكانت الصلات بينهما عن طريق الوصيفات أو سكرتارية الملك، وكان ذلك هو السبب الذي أبدته فريدة لعدم استئذان أحد حتى زوجها في الذهاب إلى مرسم إلويز حتى يستكمل رسم صورتها، وكانت بذلك تعرّض نفسها ومركزها إلى خطر شديد في مجتمع شرقي متحفظ، خصوصاً أنه كان من الصعب إبقاء زياراتها لإلويز سراً. وكانت تذهب كل مرة وفي صحبتها وصيفة اسمها عقيلة هانم. وكان وصولها كل مرة ملحوظاً، وكان للقصر الملكي شبكة معلوماته. وكان أفراد الشبكة من "السفرجية" السودانيين، ومعظمهم على اتصال بمحمد حسن النوبتجي الخاص القائم على خدمة الملك

"كان سيمون إلويز يعيش في شقة مع اثنين من ضباط سلاح الطيران هما سوني ويتني وويتني ستريب والأخير من أسرة بريطانية أميركية وقد قُتل في ما بعد في فرنسا. وكان شريكا إلويز في شقته يعرفان بزيارات الملكة السرية إلى مسكنهم ويحرصان على التسلل خارجين منها عندما تجيء. ومن سوء حظهم أن الملك فاروق جاء مرة بنفسه إلى الشقة وهم داخلها، ومن سوء الحظ أيضاً أنهم وجدوا أنفسهم مضطرين في نفس اللحظة إلى مساعدة إلويز على تهريب الملكة فريدة ووصيفتها من الباب الخلفي للشقة حتى لا يراهما الملك. وسرت حكايات كثيرة في مجتمعات القاهرة عن علاقة إلويز مع الملكة فريدة. وطلب الملك عن طريق أحمد حسنين باشا إبلاغ السفير البريطاني في القاهرة برغبته في نقل إلويز إلى خارج مصر. (ووجه الملك طلباً آخر إلى الجنرال "باجيت" القائد العام)

ويوم 16 يناير كانون ثانٍ عام 1943 صدر أمر بسفر سيمون إلويز إلى جنوب أفريقيا. وكتب اللورد كيلرن في هذا التاريخ في يومياته ما نصه: "كان لا بد من الخلاص من إلويز وإلا قام الملك فاروق بتطليق زوجته". وثار إلويز عندما عرف أن ذهابه إلى جنوب أفريقيا لم يكن مؤقتاً كما قيل له، وكتب خطاباً ملتهباً إلى الملكة فريدة حجزته الرقابة البريطانية بسبب ما تضمنه وبينه غضب إلويز على السفير البريطاني الذي تدخل بنفسه لدى الماريشال ويفل لنقله من مصر


وفي الجزء الأول من كتابه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" - الذي صدر في ثلاثة أجزاءٍ عن دار الشروق- يستخرج محمد حسنين هيكل من الوثائق البريطانية ما يجعله يؤكد بصورة قاطعة أن الملكة فريدة كانت "زوجة غير مخلصةٍ لزوجها" رغم "محاولات لا لزوم لها لرسم صورة مغايرة"..ونقرأ أيضاً "إن التماثل في السن بينها وبين زوجها خلق ــ على ما يبدو ــ لديها حاجة إلى رجلٍ أكثر نضجاً..وكان أن وقعت في غرام وحيد يسري باشا



وفي كتاب عادل حمودة "الملك أحمد فؤاد الثاني.. الملك الأخير وعرش مصر" (سفنكس للطباعة والنشر، 1991) يروي له أمين فهيم سكرتير فاروق الخاص في وقتٍ من الأوقات أنه راجع مذكراته الملكية التي أملاها وهو في المنفى على الصحفي الإنجليزي نورمان برايس، وتوقف عند اتهامه لزوجته فريدة بالخيانة..وبالنص قال:

"كنت والحرب العالمية على أشدها أجتمع مع القادة العسكريين لمتابعة سير المعارك ومجريات القتال بينما زوجتي فريدة تخونني مع وحيد سري، وكان من ثمرة هذه الخيانة.. فادية".. ابنته الأخيرة.. لكن أمين فهيم شطب هذه الفقرة من المذكرات

والحاصل أن الوثائق والمراجع البريطانية هي أهم المصادر التي تابعت حياة الملك فاروق الشخصية، وبالذات تفاصيل ما طرأ على علاقة الملكة فريدة والملك فاروق. وكان المخبر الأنشط في المتابعة هو الأمير محمد علي الذي تحدث مبكراً جداً مع السير والتر سمارت (مذكرة بتاريخ 11 ديسمبر كانون أول عام 1941، ملخصها (نقلاً عن ولي العهد) "أن الملك فاروق في حالةٍ سيئة لأنه اكتشف وجود صداقة حميمة بين زوجته وبين وحيد يسري (باشا) (وهو الابن الأكبر لسيف الله يسري (باشا) زوج الأميرة سميحة حسين (ابنة السلطان حسين كامل)، وكان في بداية الأربعينيات من عمره، وجيهاً ناضجاً ومجرباً)

وفيما قاله الأمير محمد علي أن فاروق طارد زوجته إلى بيت الأميرة سميحة حسين بظن أنها سوف تلتقي بوحي (باشا) هناك، وأنه تهور عليها أمام الجميع وفيهم الخدم ولكن الموقف أمكن تداركه

وبعدها بأسبوعين (24 ديسمبر كانون أول عام 1941) وكان ولي العهد المصري يزور السفير البريطاني يهنئه بعيد الميلاد، سأله السير مايلز لامبسون عن أحوال الزواج الملكي، وقال الأمير محمد علي "إنه لن يكون هناك طلاق"، ثم أضاف: "ليس في الظروف الحالية"!

وطوال عام 1945 ألحت برقيات السفارة البريطانية من القاهرة بشدة على العلاقات بين الملك فاروق والملكة فريدة. وترد بداية الإشارات ذلك العام في صدد الإعداد لمشروع زيارة ملكية يقوم بها ملك مصر وملكتها ضيفين على الملك جورج السادس وزوجته الملكة إليزابيث عام 1946، لكن كبير الأمناء البريطاني اللورد لاسيل بعد أن قرأ العديد من التقارير السرية لدى المخابرات البريطانية بعث يسأل اللورد كيلرن عما إذا كانت علاقة الزوجين الملكيين المصريين قد ساءت إلى هذه الدرجة، وعما إذا كانت فريدة سوف تجيء مع فاروق، وماذا يحدث إذا جاء الملك وحده؟

ولم يكن لدى اللورد كيلرن جواب واضح، لكنه بعد أربعة أيام كتب (155/ 307) يقول بالنص:
"شخصي وسري (وزير الخارجية المكتب الخاص قصر "باكنغهام

"قبل افتتاح البرلمان الجديد يوم 18 يناير تلقينا تقارير مضمونها أن الملك فاروق أرسل لزوجته الملكة فريدة قائمة بأسماء الأميرات والنبيلات اللاتي دُعين معها إلى جلسة افتتاح البرلمان في المقصورة الملكية. وعلى قائمة المدعوات لاحظت الملكة فريدة وجود اسم النبيلة فاطمة طوسون، والأمير ماهواش طوسون. والملكة فريدة تعرف أن النبيلة فاطمة طوسون على علاقة حميمة بالملك فاروق، وأنهما يلتقيان في بيت الأميرة شويكار التى تكرهها الملكة فريدة ولا تطيق سماع اسمها. وقامت كبيرة وصيفات الملكة فريدة بإبلاغ كبير أمناء القصر بأن الملكة لن تحضر الاحتفال بافتتاح البرلمان، وذلك وضع الملك فاروق في مأزق لأنه لم يعد يعرف كيف يبرر غياب زوجته عن المقصورة الملكية
"وعلم فاروق كذلك أن الملكة نازلي (الملكة الأم) لن تحضر الاحتفال هي الأخرى، فقد أبدت أن غياب فريدة وحضور فاطمة طوسون يضعانها في موقف حرج

"وباعتذار الملكة نازلي فإن المقصورة الملكية بقيت فارغة (وهو ما لاحظته زوجات الدبلوماسيين المدعوات للاحتفال وكل حضوره) لأن أميرات الأسرة ونبيلاتها لم يكن في وسعهن الذهاب إلى حفلة افتتاح الدورة البرلمانية في غياب الملكتين"

ويستطرد تقرير اللورد كيلرن (إلى الخارجية وإلى قصر باكنغهام) فيقول بالنص:

"إن الصحافة المحلية نشرت في اليوم التالي أن الملكة فريدة لم تستطع حضور احتفال افتتاح البرلمان بسبب إصابتها بنوبة برد، لكن المفاجأة التى وقعت لنا هي أن مكتب الملكة اتصل بالسفارة يدعو زوجتي (الليدي جاكلين كيلرن) إلى لقاء فوري مع الملكة وعرفنا أن غيرها من سيدات السلك الدبلوماسي في القاهرة دُعين أيضاً. وأثناء اللقاء قالت زوجتي للملكة فريدة بقصد المجاملة "إننا قلقنا جميعا لأن جلالتك لم تحضري احتفال افتتاح البرلمان أمس"، وكانت المفاجأة الأكبر أن فريدة ردت عليها بصوتٍ مرتفع تعمدت أن يسمعه الكل قائلة: "إن كرامتي كملكة لا تسمح لي بأن أحضر هذا الاحتفال"، وهذه الملاحظة من الملكة تؤكد لنا ما سبق أن وصل إلينا من معلومات. والمشكلة في القاهرة أنه لا يمكن الاحتفاظ بسر فيها، وكذلك فإنه يبدو أننا سوف نسمع كثيراً في الأيام المقبلة عن العلاقات بين الزوجين الملكيين"


بهذه الأزمات الزوجية المتلاحقة انكسر فاروق..فقد كانت فريدة – واسمها الحقيقي صافيناز ذو الفقار- حبه الأول والأخير..تزوجها وعمره 18 سنة في 20 يناير كانون ثانٍ عام 1938، وأنجبت له ثلاث بنات: فريال (17 نوفمبر تشرين ثانٍ 1938) وفوزية (7 أبريل نيسان 1940) وفادية (15 ديسمبر كانون أول 1943).. ولم تنجب ولي العهد، فبدأت المتاعب بينهما في الظهور على السطح بعد أن كانت مقصورة على غرفة النوم

في غرفة النوم، كانت فريدة تدرك أن زوجها "رجل غير طبيعي"..علماً بأنه في اليوم الواحد "كان يتناول كميات كبيرة من اللحوم والعصائر والفطائر والمياه والمحار تكفي عشرة أشخاص، وكان المحار يأتي إليه خصيصاً من كوبنهاغن أسبوعياً" لارتباطه بتوليد قوة جنسية كان في حاجة إليها..والغريب أن فاروق الذي لم يكن يشرب الخمر -على عكس ما هو شائع- دأب على التظاهر بتناولها والتفاخر بالكلام عن أنواعها..مع أنه اقتصر الملك في شرابه على العصائر، وبخاصة عصير البرتقال، وكذلك البيبسي كولا التى فضلها لارتباطه مع شركتها بمصلحة مالية، وأيضا دخَّن سيجار هافانا

والأمر نفسه ينطبق على النساء

فعلى عكس ما هو معروف لم يكن قادراً على تذوق النساء، فعوض ذلك بالتهام الطعام ولعب القمار وسرقة الأشياء الثمينة وخطف النساء من أصدقائه..فقط الخطف

وحين كانت الملكة فريدة تقيم بعض الحفلات تدعو فيها زوجات السفراء وزوجات السفراء وكرائم السيدات المصريات، كان الملك فاروق يقف في النافذة يراقب هؤلاء السيدات، وأحياناً كان يتلصص من ثقب الباب أو يطل من الباب الموارب، وكثيراً ما بدأ علاقاته بهذا الأسلوب

ووفقاً للتحليل النفسي، فإن انعكاسات الضعف الجنسي تكون إما بالإيمان والتسليم بالأمر الواقع، وإما بمحاولة الإثبات للنفس بالمقدرة، وذلك عبر تعدد العلاقات النسائية من ناحية الشكل دون الجوهر، للادعاء أمام الجميع بأنه رمز الرجولة والفحولة

واختار فاروق الأمر الثاني

زد على ذلك تداعيات حادث 4 فبراير 1942 التي دفعته إلى الغوص في الملذات، كنوع من الترفيه عن الصدمة التي تلقاها، بعد أن استقر في أعماقه أن مُلكه لن يدوم، وقد صرح بذلك كثيراً، قائلاً إن عليه أن يستمتع بما يهوى


وقد أحاطت بفاروق أجمل النساء، لكنه اكتفى بذلك المظهر الخادع دون أن يقيم علاقاتٍ جنسية معهن..وكان السبب فسيولوجياً، وأثبتته التقارير الطبية، وسط فشل محاولات علاجه، وتعلق بضعفٍ هرموني وخمول غدد معينة جعلته يفتقد مقومات الفحولة، "حتى إنه كانت هناك فكرةٌ لإجراء عملية تنشيط لهذه الغدد الخاملة"..وهو ما سجلته الوثائق البريطانية التي نشرتها الدكتورة لطيفة سالم في كتابها عنه "فاروق وسقوط الملكية في مصر" الذي أشارت فيه إلى أن الأطباء أرجعوا ذلك الخلل إلى ما قبل زواج فاروق من فريدة واستمر معه


وفي إحدى الوثائق البريطانية نطالع حواراً بين رئيس الوزراء حسين سري والسفير البريطاني سير مايلز لامبسون – الذي أصبح لورد كيلرن- يكشف ذلك بوضوح:

"سري: لقد تأكدت من مصادري الخاصة أن الملك لا يذهب مع النساء إلى آخر المطاف

لامبسون: أعرف ذلك، وأعرف أن زوجته الملكة فريدة أخطرته بعد عيد ميلاد الأميرة الأخيرة أنه إذا اقترب منها كزوج فإنها ستستقبله كمتطفل

سري: وقبل الولادة لفظته لامبسون: ولكن.. كيف أنجب بناته؟

سري: إنه ليس عقيماً ولكنه يفتقد مقومات الشباب

لامبسون: هذا أمرٌ خطير ولا يستبعد أن يؤثر على عقله

سري: والحل؟

لامبسون: سأطلب من حكومتي الاتصال بالدكتور ب. هنري الذي سبق الكشف عليه عندما كان في لندن لنعرف حالته بدقة"

غير أن فاروق واصل حياته العابثة وعمد إلى الإبقاء على "صورته" التي تخالف حقيقة أمره، مما زاد الوضع سوءاً بينه وبين فريدة
تابع القراءة

gravatar

الملك فاروق (2): لحية الخليفة..وسياراته

غريبٌ أمر مسلسل "الملك فاروق"
ميزانيةٌ ضخمة تقدر ببضعة ملايين من الدولارات، لكنها لم تكن كافية للتصوير اللائق في مواقع خارجية مناسبة
ومن تابع المسلسل سيلاحظ أن معظم مشاهد الشارع المصري – إن لم يكن كلها- قد جرى تصويرها في شارع عليه أسماء معينة، هي كالتالي: مقهى الأمراء، أجزخانة الشفاء، فاين آرت، موبيليات وأنتيكات الكرنك، السعد للموبيليا

الأحداث على اختلافها، من احتفالات ومظاهرات ومسيرات ومحاولات اغتيال واعتقالات..مرت في هذا الشارع التليفزيوني العجيب

هل هذا معقول؟

من ناحيةٍ ثانية، كان من الأجدر بالقائمين على المسلسل الاستعانة بجهود د. لطيفة محمد سالم لمراجعة الحلقات، باعتبارها أفضل من كتب عن الملك فاروق، وقد التزمت في كتابيها "فاروق وسقوط الملكية في مصر"و"فاروق الأول وعرش مصر: بزوغٌ واعد وأفول حزين"، المنهج العلمي التاريخي الدقيق والمتوازن الذي قدم طرحه بعيداًً عن منطقي التحامل أو التعاطف. ومع احترامي الشديد للدكتور يونان لبيب رزق كمؤرخٍ بارز، فإن ميوله الوفدية قد تجعل البعض يأخذ ذلك عليه

ولم نر في المسلسل مرحلة اللحية






فقد أصدرت مشيخة الأزهر في عهد الملك فاروق فتوى تقول "إن الملك فاروق من الأشراف ومن حقه أن ينصب نفسه خليفة للمسلمين"

وعقب صدور هذه الفتوى، أطلق الملك العنان لنمو لحيته حتى مطلع الأربعينيات، وظل يسوّق نفسه بوصفه الرجل الصالح والزعيم المؤهل للخلافة الإسلامية، وأخذ يصاحب باستمرار الشيخ محمد مصطفى المراغي ويصلي كل يوم جمعة في مسجد من المساجد، وطلب إلى شيخ الأزهر إعطاء دروس في الدين لزوجته الملكة فريدة

ثم انتهت المغامرة بحلق اللحية

وتزامن ذلك مع الخبر المؤسف الذي هو إلى الهزل أقرب منه إلى الجد، عندما قالت الصحف إن "جلالة الملك المعظم ينتسب من جهة والدته الملكة نازلي بنت عبدالرحيم صبري إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم"‏,‏ وأعلنت الصحف أن "هذا الكشف قد توصل إليه وزير الأوقاف الهمام صاحب المعالي حسين الجندي باشا" وأن الذي أرشده إلى هذا الاكتشاف الخطير وباركه هو السيد محمد الببلاوي نقيب الأشراف في مصر وخطيب مسجد الإمام الحسين‏

والحقيقة أن نازلي هي حفيدة الضابط الفرنسي الذي جاء مع حملة نابليون بونابرت على مصر، قبل أن يسمي هذا الضابط نفسه سليمان باشا الفرنساوي
ويقول مصطفى النحاس في مذكراته: "فاروق ابن نازلي التي يتصل نسبها بلاظوغلي تصبح بين عشية وضحاها من آل البيت النبوي الكريم ويتصل نسبها بخاتم المرسلين.. سبحانك‏..‏ ضحكت كما لم أضحك في حياتي وتذكرت المثل اللي يعيش ياما يشوف"

وقد بدا الملك فاروق عبر حلقات المسلسل كأنه شخصيةٌ محبوبة من الطلبة على طول الخط، دون أن يتوقف القائمون على هذا المسلسل عند نقطة مواجهة ساخنة تسببت في شرخ في العلاقة بين الملك والطلبة: أحداث كوبري عباس

ففي عام ١٩٤٦ نظم الطلبة مظاهرةً حاشدة للمطالبة ببدء المفاوضات مع بريطانيا للجلاء عن مصر، وسارت المظاهرة قاصدة قصر عابدين، مروراً على كوبري عباس، الذي حوصر وانتهى الأمر بمذبحة. وفي عيد ميلاد الملك اشتعل الموقف مرة أخرى في مهرجان الشعلة وحطم الطلبة الزينات وداسوا صورة الملك بالأقدام، وانتهى الأمر بتحميل الحكومة المسؤولية وتكليف إسماعيل صدقي بالوزارة، واستحدث الملك وظيفة المستشار الصحفي للديوان الملكي، وعين رئيس تحرير جريدة "المقطم" كريم ثابت، وهو لبناني الأصل من بلدة دير القمر في منطقة الشوف. إلا أن المسلسل أغفل الإشارة إلى قرابة كريم ثابت نسباً لوالتر سمارت المستشار الشرقي للسفارة البريطانية
كما قدم مسلسل "الملك فاروق" أثناء الحرب العالمية الثانية وهو يجمع حاشيته الإيطالية وعدداً من كبار مسؤولي السراي ليشرح لهم على الخريطة طبيعة المعارك والقتال بين قوات الحلفاء وقوات المحور والمدن والنقاط الملتهبة في تلك المواجهة، ثم رأيناه يرتدي الزي العسكري قبيل حرب فلسطين ليجمع القادة العسكريين ويشرح لرئيس وزرائه محمود فهمي النقراشي مسار القتال وتوقعاته



ولا أعرف كيف صار فاروق قائداً عسكرياً وهو الذي لم ينل نصيباً يذكر من التدريب العسكري، ولم يحصل على أي شهادة ولم ينل تعليماً حقيقياً، واكتفى في تعليمه بزيارةٍ لبريطانيا عاد بعدها وهو يشعر بخيبة الأمل إذ لم يمكث هناك سوى ستة أشهر ونصف الشهر قضاها في مجرد التعرف على بريطانيا، وقد قال هذا لرئيس وزرائه

إن التقويم السياسي والتاريخي للملك يثبت أنه لم يكن يصلح للمهمة التي ألقيت عليه، رغماً عنه، بعد وفاة والده. ومن الطبيعي ألا يكون فاروق الأول القائد العسكري المؤهل لوضع الخطط وشرحها

والحقيقة أنه بعد أزمة 4 فبراير ١٩٤٢ التي انتهت بتشكيل حكومة مصطفى النحاس بناءً على طلب بريطانيا، بدأ فصلٌ جديد في علاقة الملك بالجيش الذي شعر بمدى الإهانة التي تعرض لها قائده على يد الإنجليز. وأغدق فاروق على كبار العسكريين، وبادله الجيش الحب

ويقول السفير جمال الدين منصور أحد أوائل وأبرز "الضباط الأحرار" في كتابه الصادر تحت عنوان "ثورة الجيش المصري..وثائق الإعداد والتمهيد ١٩٤٥- ١٩٥٢" إنه بعد حادث ٤ فبراير واقتحام الدبابات البريطانية قصر عابدين، لفرض حكومة النحاس على الملك، كان فاروق محل تعاطفٍ من جميع ضباط الجيش وحظي الملك بشعلةٍ من القبول بين الضباط، لكنه تغير بعد ذلك وانساق في طريق الفساد والاستبداد وكان يعامل رؤساء الوزارات والوزراء بطريقةٍ مخجلة، ولم يعط أي اهتمامٍ لمطالب الضباط بإصلاح الجيش

بدأ الضباط الشبان يرفضون تصرفات الملك، خاصة عندما وجدوه يمنح الألقاب العسكرية على هواه، لدرجة أنه منح سائقه الخاص رتبة بكباشي "مقدم" وأخذ في فصل عددٍ من الضباط دون مبرر. وأخذ التذمر طريقه إلى الجيش، وتكونت داخله عدة تنظيماتٍ سرية، بدأت في الحركة لمواجهة فاروق. وفي سعيه للقضاء عليها، استبعد أحمد عطية وزير الدفاع الوطني، وتم تعيين محمد حيدر مكانه عام ١٩٤٧، وهو رجل البوليس القاسي، مما أثار شباب الضباط



المدهش أن فاروق ظل يستشعر أن الجيش مازال القوة التي يعتمد عليها، ولازمه هذا الشعور حتى نهاية حكمه، وكان يزور ثكناته بين القاهرة والإسكندرية، متودداً للضباط. وأمر فاروق بخوض حرب فلسطين بالرغم من عدم استعداد الجيش، حتى إنه التزم بارتداء الزي العسكري -وهذه للأمانة، نقطةٌ أشار إليها المسلسل- ووقعت الهزيمة وحوصرت القوات في الفالوجا وأصبح جهل وزير الدفاع ماثلاً للعيان، وكانت هزيمة فلسطين الصخرة التي تحطم عليها الكيان الملكي في نظر الجيش

أصبحت مواجهة الضباط سافرةً مع فاروق، وتبدى هذا من خلال المنشورات التي صارت أداة حربٍ معلنة على التصرفات الملكية، كما أعلنت أن الجيش جيش الأمة وليس جيش فرد

لقد حاولت منشورات ضباط الجيش تنبيه الملك فاروق إلى الخطر المحدق. ولذا نجد منشوراً صادراً عام ١٩٤٧ موجهاً إلى "صاحب الجلالة قائدنا الأعلى" وموقعاً من تنظيم "ضباط الجيش" - الذي نشأ عام ١٩٤٥ ثم اندمج مع مجموعة جمال عبد الناصر بوساطة خالد محيي الدين عام ١٩٥٠ تحت اسم "الضباط الأحرار"- حول سوء أحوال التدريب والتنظيم والتسليح بالجيش وإهمال القيادة

إن الجملة الافتتاحية تقول: "إليك صيحةٌ يا مولاي من قلوب مفعمة بالإيمان بالله وبمليكها.. يرفع هذا ضباط الجيش"، في حين تقول الجملة الختامية، بعد عرض المشكلة والمطالب المتصلة بها: "مولاي.. إن هذا الجيش المخلص لعرشكم المتفاني في الولاء لقائده الأعلى واثقٌ من عطفكم وعدلكم ووطنيتكم"

وفي منشورٍ آخر موجه إلى رئيس الأركان الفريق إبراهيم عطا الله في يوليو تموز عام ١٩٤٧، أراد الضباط زرع الشقاق بين الملك وبين الفريق عطا الله، بعد أن أحال الأخير بعض ضباط التنظيم السبق ذكره إلى المحاكمة وصوَّر نشاطهم على أنه تهديدٌ للعرش. ولذا يؤكد المنشور ولاء الضباط للعرش وللملك مع توجيه سهام النقد إلى رئيس الأركان باعتباره رمز الفساد في الجيش. كان المنشور يهدف إلى وضع الملك بين خيارين، إما اختيار ضباط الجيش الذين يعلنون ولاءهم له، أو رئيس الأركان الذي استطاع كشف بعض ضباط التنظيم وتقديمهم للمحاكمة

وأدى هذا المنشور إلى دفع الملك إلى اختيار الضباط، وتم حفظ القضية والإفراج عن الضباط المعتقلين



وفي منشورٍ ثالث في سبتمبر أيلول عام ١٩٤٧ يخاطب التنظيم الملك في العنوان كالتالي: "من ضباط الجيش إلى مولانا الملك". وفي الفقرة الافتتاحية يتحدث المنشور عن نفاد الصبر فيقول: "لقد فاض الكأس وطفح الكيل ولا نستطيع صبراً بعد الآن يا مولاي، تدارك الأمر بحكمتك وإلا كانت العاقبة وخيمة"
وفي سياق المنشور يخاطب الضباط الملك قائلين: "ولكن يا مولاي بإمكانك القضاء على كل هذا بالإصلاح والتحسين وإقصاء الفاسدين والمضلين من حاشية مولاي الذين يزيفون الحقائق ويضللون..."

يختتم المنشور بنداء استغاثةٍ بحكمة الملك: "مولاي إن الساعة خطيرة وتأذن بالانفجار، فتدارك الأمر يا مولاي بحكمتك السديدة..."

إلا أن فاروق لم يتدارك أخطاء نظامه وتجاهل نداءات الإصلاح من الداخل، وانتابته رغبة قوية في وأد نشاط الضباط الأحرار. وكانت الجولة الأولى في المواجهة في انتخابات نادي الضباط عام ١٩٥١، التي فاز فيها الضباط الأحرار وفشل مرشح الملك اللواء حسين سري عامر، ذو السمعة السيئة، ولم تفلح محاولات الملك في تأجيل الانتخابات، ولم يمتثل لها الضباط


وتلقى فاروق نبأ محاولة الضباط الأحرار اغتيال حسين سري عامر في يناير كانون ثانٍ عام ١٩٥٢- التي اشترك فيها جمال عبد الناصر وحسن إبراهيم وحسن التهامي وكمال الدين حسين - بفزعٍ بالغ وتوعد بالانتقام

وفي أعقاب صدور أمر حل مجلس إدارة نادي الضباط، ارتفع مؤشر نقمة الضباط على الملك الذي منعهم من دخول النادي. وقد أسهم العناد الملكي وخطواته العنيفة بالتبكير في القيام بثورة يوليو 1952

وفي ليلة الثورة كان الملك في حفلٍ ساهر أقامه في رأس التين احتفاءً بإسماعيل شيرين زوج شقيقته لتوليه وزارة الحربية، الذي عزم أن يروع به ما يسمي تنظيم الضباط الأحرار، ولكن ما حدث كان العكس تماماً لينتهي فاروق والملكية من مصر

أما ما ظهر في المسلسل عن حرب 1948 فحدث ولا حرج





فقد ساير المسلسل ما كانت تنشره الصحف المصرية من رواياتٍ خيالية عن بطولات جيوش التحرير العربية في فلسطين، وفي الوقت نفسه تقلل من أهمية القوات اليهودية


أما الجيش المصري، الذي احتارت السراي والحكومة بشأن قرار مشاركته في تلك الحرب، فإن هذا الجيش لم يكن ببساطة مستعداً ولا جاهزاً لخوض لحرب


يكفي أن نشير إلى أن هذا الجيش المصري لم يقم بمناورةٍ واحدة من عام 1931 إلى عام 1948


وكان الجيش في تلك الأيام موزعاً بين الاحتفالات، كسفر كسوة المحمل أو المولد النبوي، وبين أعمال الوزارات العادية. وزارة المالية مثلاً كانت تستعير من الجيش فرقة للحراسة، ووزارة الصحة تستعير بعض أفراد إحدى الفرق لمقاومة الفيضانات، ووزارة الصحة تستعير بعض فرق الجيش لمكافحة الجراد، ووزارة الصحة كانت تستعير فرقاً من الجيش: في الحرب ضد الأوبئة مثل الكوليرا.. ووزارة الداخلية كانت تستعير بعض فرق الجيش لحفظ النظام وقمع المظاهرات


هكذا تحول الجيش إلى أداةٍ مدنية، وكاد يفقد تماماً الروح العسكرية

ويقول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في يومياته عن حرب فلسطين إن محمود فهمي النقراشي أبلغ اللواء أحمد محمد المواوي أول قائد مصري لحملة فلسطين بأن موقف مصر بين الدول العربية يحتم عليها الدخول، وأنه يعتقد أن حرب فلسطين سوف تسوى سياسياً بسرعة، وأن الأمم المتحدة سوف تتدخل، وأن الاشتباكات ستكون مجرد مظاهرة سياسية، وليست عملاً حربياً

وصباح يوم دخول مصر حرب فلسطين، حملت الصحف المصرية مانشيتات تقول:


"الطائرات المصرية فوق تل أبيب والمستعمرات اليهودية"
"إلقاء منشورات بطلب تسليم اليهود في ظرف ساعة"
"دخلت الجيوش العربية فلسطين"

ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة..واتضحت معالم الهزيمة

وكان هذا اليوم هو يوم الإشاعات في القاهرة

فقد أشيع أن الإسكندرية وقعت فيها حوادث، وأن داوود عدس صاحب محال عدس الشهيرة قد قُِتلَ وأن محله نُهِبَ، وأن الفريق حيدر باشا سافر إلى الحدود.. في حين أنه كان في اجتماع عسكري

وأشيع أيضا أنه جرى نسف الأزهر الشريف بالديناميت

وظهرت إشاعات أخرى عن ذبح ثلاث حاخامات في مذبح القاهرة، وإشاعةٌ عن قتل 250 يهودياً في ميدان الملكة فريدة

وكانت الصحف المصرية في ذلك اليوم تحمل خبر إعلان قيام دولة إسرائيل، واعتراف الولايات المتحدة بها

وعاش أهل القاهرة في حيرة..لم يكن أحد يعرف ماذا يحدث في فلسطين

وتاهت الحقيقة في طوفان البرقيات والإشاعات والخطب الحماسية، في حين كانت هناك دماء تسيل على أرض فلسطين.. في اليوم نفسه


ولقد أخطأ صانعو المسلسل بالقول إن أحمد عبد العزيز قائد قوات المتطوعين في حرب فلسطين قُتِلَ في الفالوجة، وهو الذي قضى نحبه في عمليةٍ طائشةٍ في منطقة عراق المنشية

في 22 أغسطس آب عام 1948، دُعي أحمد عبد العزيز لحضور اجتماعٍ في دار القنصلية البريطانية بالقدس لبحث خرق اليهود للهدنة. وفي مساء اليوم نفسه توجه أحمد عبد العزيز بصحبة اليوزباشي صلاح سالم -أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر فيما بعد- إلى مقر قيادة القوات المصرية في المجدل؛ لينقل إلى قادته ما دار في الاجتماع. وكانت منطقة عراق المنشية مستهدفةً من مسلحين يهود يستغلون ظلام الليل للهجوم عليها، فكانت ترابط بها كتيبةٌ عسكرية لديها أوامر بضرب كل عربة تمر في ظلام الليل. فلما اقتربت سيارة أحمد عبد العزيز من تلك المنطقة ظنها أحد الحراس من سيارات العدو، فأطلق عليها الرصاص، فأصابت إحداها أحمد عبد العزيز فلقي حتفه في الحال

واليوم، يوجد نصبه التذكاري الشامخ في مقبرة قبة راحيل شمال بيت لحم

ولنفتح معاً باب المال والاقتصاد، الذي يرتبط للأسف في كثير من الأحيان بفساد الذمم

وللأمانة، لا بد من القول إن النظام في العهد الملكي لم يكن حر التصرف ولا مطلق اليد في ثروات البلاد.. وكل هذه الثروات كانت ملكاً لأفراد ولا أحد يستطيع أن يمد يده عليها.. لذلك كان الاقتصاد المصري أقوى من الآن بمراحل رغم الاحتلال والسراي والفساد..وكان الجنيه المصري أعلى سعراً من (الجنيه الذهب)..وكان الجنيه الذهب يساوي (٩٧.٥ قرش صاغ مصري)..والثورة استلمت البلاد والجنيه المصري أقوى من الاسترليني والدولار والريال والمارك الألماني والين الياباني.. وحتى بداية السبعينيات من القرن الماضي، كان الدولار بـ(٣٥ قرشاً مصرياً) والريال السعودي بعشرين قرشاً

لقد أشار المسلسل إلى أن الملك فاروق عاش أكثر من ضائقةٍ مالية، حتى إنه طلب قبل زواجه من ناريمان أن تمنحه الوزارة نصف مخصصاته الملكية مقدماً..لكن المسلسل أغفل السفه والتبذير في حياة الملك الذي خسر ماله في صالات القمار وأهدر أموال وطنه مع رفاق السوء

وفي العدد الصادر من مجلة "المصور" في 5 ديسمبر كانون أول عام 1952 نطالع قوائم دقيقة لثروة فاروق الحقيقية. ففي مجال الأطيان والأرض الزراعية تبين أن مجموعها 24 ألفاً و73 فداناً و16 قيراطاً، وكان لفاروق دخل آخر يحصل عليه من ريع الأوقاف يقدر بحوالي مليون و365 ألف جنيه..وهذا بخلاف دخلٍ سنوي كبير يقدر بحوالي 300 ألف جنيه يستولي عليه بصفته ناظراً على عددٍ من أوقافٍ أخرى يبلغ عددها 14 وقفاً

أما دخل فاروق من الأسهم التي كان يملكها في الشركات فيبلغ ثلاثة ملايين و398 ألفاً و145 جنيهاً. وكان فاروق يملك 71 سيارة خاصة به غير السيارات الملكية "الحمراء" والسيارات المخصصة لرجال الحاشية والقصر، ومن هذه السيارات الخاصة بالملك السابق سيارات كاديلاك ومرسيدس ويوبكي وأوستني ورينو وكورد وفيات ولنكولن وفورد وشيفروليه وجيب ليموزين وتوربين للسباق. أما اليخوت واللنشات فيبلغ عددها عشرين قطعة، قدر ثمنها بحوالي 58 ألف جنيه

وهناك ممتلكات أخرى تتمثل في الأثاثات التي ملأت قصري الطاهرة والبستان واستراحات وادي الرشراش والغردقة والمعمورة

ولعله من المناسب هنا أن نقول إن هواية الاقتناء سلبت لب فاروق، حيث حرص على امتلاك مجموعات من التحف التي تعددت أنواعها: العملة وبخاصة الذهبية، طوابع البريد، ورق اللعب، أدوات لعب القمار، الأصداف، اللوحات، التماثيل، الآثار، علب السجائر، الولاعات، النياشين، الساعات، الأسلحة، الكتب، النباتات وشمل بعضها الحشيش والأفيون، الحشرات غير المألوفة، رؤوس الغزلان، الحيوانات النادرة، الفصائل الأصلية من الكلاب والخيول، السيارات الحمراء - هذا اللون اختص بالملك وحده - وكان من أهم ما حُبب لنفسه اقتناء المجوهرات ويأتي بعدها الذهب، وقد برع في فهم تلك المقتنيات بأنواعها وأشكالها المختلفة

ومع ذلك، كان فاروق مصاباً بداء الكليبتومانيا، أي هوس السرقة والولع بها

كان فاروق الأول مغرماً باختلاس ما خف حمله وغلا ثمنه من ساعاتٍ وولاعات ذهبية‏.‏ وعُرِفَ عنه أن يده خفيفة يدسها في حقائب يد السيدات لينشل ما فيها في لمح البصر‏,‏ وهو واثق من أن السيدة الضحية لن تجرؤ على اتهامه بالسرقة‏,‏ فتسكت‏,‏ وتسلم أمرها إلى الله‏.‏ وكان كبراء البلاد يعرفون هذا الداء عن فاروق‏,‏ فإذا علموا برغبته في زيارتهم‏,‏ أسرعوا بإخفاء التحف الثمينة حتى لا تقع عيناه عليها فينقلها إلى حوزته

أما أبشع سرقات فاروق‏,‏ فهي تلك التي يرويها الصحفي مصطفى أمين وكذلك كريم ثابت في مذكراته ("مذكرات كريم ثابت: فاروق كما عرفته.. ملك النهاية"، دار الشروق، 2000..و"مذكرات كريم ثابت: نهاية الملكية: عشر سنوات مع فاروق: 1942-1952"، دار الشروق، 2000) عن سرقة فاروق الأول أغلى متعلقات أخته الإمبراطورة فوزية، عندما جاءت إلى مصر بعد رحلة انفصالها عن شاه إيران




هذه هي فوزية التي أظهر المسلسل مدى حب فاروق الشديد لها

ولن نفتح باب الحديث عن فاروق الذي قالت عنه مجلة "تايم" الأميركية في عددها الصادر بتاريخ 24 فبراير شباط عام 1941 إنه كان يجوب شوارع القاهرة ليلاً بواحدة من سياراته الحمراء والخضراء، إذ كان لديه 15 سيارة "باكارد" و10 سيارات "رولز رويس"

لم يهتم المسلسل بتوضيح دور مستشاره المالي إلياس أندراوس في منح الألقاب والرتب بمقابل مادي، ولا طبيعة عمل المجموعة الإيطالية بقيادة سكرتيره الخاص أنطون بوللي في لعب دور القوادة وجلب النساء لمشاركة فاروق في سهراته، ومنهن كاميليا اليهودية وآني بيريه الفرنسية وسامية جمال المصرية

وتدور حكايات متضاربة عن علاقة الملك فاروق بالممثلة ليليان ليفي كوهين فيكتور -التي اشتهرت باسم كاميليا- بعد أن شاهدها عام 1946 في إحدى الحفلات بكازينو "حليمة بالاس" فأعجب بها وارتبط معها بعلاقة عاطفية. ومع تقاربهما طلب منها الملك أن يلتقيا في قبرص بعيداً عن الأنظار. بل إن فاروق أمر - كما تقول القصة- بإخلاء شاليه أحد وزرائه وإسكانها فيه أواخر عام 1947

وتقول بعض الشهادات إن فاروق يزورها في هذا الشاليه أثناء حرب فلسطين دون أن يُعْلِم أحداً بهذا، وبعد الهزيمة ثارت الدنيا عليه وصارحه رئيس وزرائه محمود فهمي النقراشي بأن كثيراً من النساء اللاتي يلتقي بهن يعملن كجواسيس وينقلن من الأسرار ما يضر بسلامة الوطن، وثار الملك فاروق عليه. لكن كاميليا لقيت مصرعها في 31 أغسطس آب عام 1950 في حادث تحطم طائرة سقطت في مدينة الدلنجات بمحافظة البحيرة، وكانت في رحلةٍ متجهة إلى سويسرا

ويحكي رشاد كامل في كتابه "البحث عن السلام بالجنس: اليهودي الغامض في القاهرة " (دار الخيال، 1996) عن تفاصيل موثقة وجديدة تروي حكاية اليهودية الحسناء الغامضة إيرين مع الملك فاروق.ولم يركز المسلسل على دور مستشاره الصحفي كريم ثابت، والأميرة شويكار الزوجة الأولى للملك فؤاد، والتي أفسدت فاروق من حيث علاقاته النسائية، التي كان يتخذها سبيلاً للتسلية والمباهاة أكثر منها أداة لتحقيق رغباتٍ جسدية

وما دمنا قد دخلنا هذه المياه المحظورة التي أغفلها المسلسل، فإن الأمر يستحق أن نذكر تفاصيل مذهلة عن غراميات الملك: الصورة..والحقيقة

تابع القراءة

gravatar

الملك فاروق (1): أخطاء مسلسل..وخطايا الحياة







الأضواء القوية تحجب الرؤية السليمة عن العين

والمديح المتواصل لمسلسل "الملك فاروق" الذي تابعه الجمهور اعتباراً من مطلع شهر رمضان وصولاً إلى نهاية عيد الفطر السعيد – أي طوال شهري سبتمبر أيلول وأكتوبر تشرين أول من عام 2007- تجاهل أن المسلسل وقع في عددٍ من الأخطاء الساذجة، بل إنه أغفل الكثير من الحقائق..في حين طنطن كثيرون بأن المخرج السوري حاتم علي يتقن إخراج الأعمال التاريخية وأن د. لميس جابر شرعت في كتابة هذا المسلسل مطلع التسعينيات، واستمعنا إليها وهي تقول: "اكتشفت أن 90 بالمئة مما قيل عن فاروق ليس صحيحاً. وأمضيت خمس سنوات أجمع المادة العلمية..بدأت في العام 1996 كتابته، وانتهيت من كتابته في 1999"

لكن الأخطاء وقعت

أخطاء ما كان يجوز لها أن تقع لولا أن القائمين على المسلسل لم يراعوا الدقة التاريخية والفنية في المسلسل

ومن الهفوات الفنية – ذات الصلة بالتاريخ- التي وقع فيها المسلسل، أن مخرج المسلسل اختار المطربة ريهام عبد الحكيم للعب دور أم كلثوم، لنجدها في الحلقة (27) وهي تغني للملك فاروق على شاطيء الإسكندرية في عام 1944 فيثني عليها ويمنحها لقب "صاحبة العصمة" قبل أن تحصل على نيشان الكمال
في سبتمبر أيلول عام 1944

وليس معقولاً أن تؤدي ريهام وهي شابةٌ في مقتبل العمر دور أم كلثوم (20 ديسمبر كانون أول 1898- 3 فبراير شباط 1975) التي كانت في ذلك العام في منتصف الأربعينيات من عمرها

والأغرب أن تغني أم كلثوم في جلسة خاصة يحضرها الملك فاروق في "أربعينيات المسلسل" أغنية "جددت حبك ليه"، مع أن الأغنية التي كتب أحمد رامي كلماتها ولحنها رياض السنباطي ظهرت إلى النور عام 1952 وهي بالمناسبة من مقام نهاوند

وفي إحدى الحلقات الأولى من المسلسل، حين كانت عقارب الزمن تشير إلى مطلع الأربعينيات، يظهر ملصقٌ دعائي على إحدى دور العرض عن فيلم "ابن النيل". غير أن القائمين على المسلسل فاتهم أن يراجعوا معلوماتهم ليعرفوا أن هذا الفيلم من إنتاج عام 1951 وهو من بطولة شكري سرحان وفاتن حمامة ويحيى شاهين، ومن إخراج يوسف شاهين

وفي القصر الملكي، تابعنا الملك فاروق وهو يشاهد مع زوجته الملكة فريدة في عام 1943 مشهداً من فيلم تؤدي فيه المطربة أسمهان مقطعاً من أغنية "يا بدع الورد". والحقيقة أن الفيلم كان "انتصار الشباب" الذي أنتج عام 1941 وظهرت فيه أسمهان لأول مرة على شاشة السينما، وشاركها البطولة شقيقها فريد الأطرش.. وأثناء تصويره تعرفت إلى المخرج أحمد بدرخان ثم ارتبطت به في زيجةٍ انهارت بعد أربعين يوماً فقط. والمنطق يقول إن فاروق وعائلته وحاشيته لا يتجمعون إلا لمشاهدة فيلم جديد، وليس معقولاً أن يتابعوا فيلماً جرى عرضه للعامة منذ عامين كاملين

ويقدم المسلسل في الحلقة (24) راقصةً وهي تتلوى على إيقاع أغنية "روحي وروحك حبايب"، لكن الأغنية التي لحنها فريد الأطرش وغنتها وردة الجزائرية في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" الذي أنتج عام 1962
ولم يقدم لنا المسلسل الكثير عن الخلفية الاجتماعية والفكرية لرئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا -واسمه الكامل هو أحمد محمد مخلوف حسنين البولاقي- الذي نال تعليمه في جامعة أكسفورد وكان أحمد حسنين باشا رحالة ومستكشفاً بدءاً من عام 1921، وشاركته أبرز رحلاته الحسناء البريطانية روزيتا فوربس التي وصفته في مذكراتها بأنه "جنتلمان حقيقي" وقعت في غرامه أثناء تلك الرحلة



وأصدر أحمد حسنين باشا كتابه "الواحات المفقودة" باللغة الإنجليزية عام 1925، ثم ترجمه أمير نبيه وعبد الرحمن حجازي في عام 2006 ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر. وقد نظم أمير الشعراء أحمد شوقي بك قصيدة يصف فيها أحمد حسنين المغامر والرحالة الذي اكتشف واحتي أركينو والعوينات المفقودتين في الصحراء الغربية، وكطيار جريء قام بأكثر من محاولةٍ للطيران من مصر إلى أوروبا. وكانت هذه القصيدة تدرس للتلاميذ في كتب المطالعة

كما كان بطلاً دولياً في الشيش وممثل العرب الوحيد في دورة استكهولم التي جرت عام 1912 وكان في ذلك الوقت طالباً في انجلترا، لكنه خرج من التصفية الأولى في فردي الشيش في سيف المبارزة..وهو ما أثار فزع الأمير محمد علي توفيق حينما تحداه ذات يومٍ للمبارزة. وقد جرى تعيينه سكرتيراً أول للمفوضية المصرية بواشنطن، بعدها نُِقلَ إلى المنصب نفسه في سفارة لندن. وقد نجح في جذب قلب لطفية هانم -ابنة الأميرة شويكار وسيف الله يسري باشا- وتم له الزواج منها. بعدها عُينَ عام 1926 أميناً أول في قصر عابدين، ولما سافر الملك فؤاد في رحلته إلى أوروبا اصطحبه معه.
صحيحٌ أنه ابن أحد رجال الأزهر، لكنه لم يكن في نظر كثيرين ابن المنطقة الشعبية الذي قفز إلى الصفوف الأولى، وإلا ما كان تزوج من لطفية هانم أو تم تعيينه رائداً للأمير فاروق ولى العهد في بعثته الدراسية إلى لندن. وكان أحمد حسنين شخصاً شديد الذكاء والتحضر، واهتم بأناقته، ومال إلى المغامرات النسائية، وليس إدمان العمل في المكاتب حتى ساعات الصباح الأولى كما قدمه المسلسل

وفي الحلقة (30) رسم المسلسل صورة غير دقيقة للحادث الغامض الذي أودى بحياة أحمد حسنين باشا، إذ أظهر شاحنةً تصطدم بسيارة أحمد حسنين من الأمام..ولكن هذه رواية ناقصة لما جرى


ففي ظهر يوم ١٩ فبراير شباط عام ١٩٤٦، كان أحمد حسنين مدعواً على الغداء في بيت أحد أصدقائه، لكن الأعمال تراكمت عليه في مكتبه بقصر عابدين، وأدرك أنه لن يمكنه اللحاق بموعد الغداء، فاعتذر لصاحبه وأكمل بقية أعماله

وفي الساعة الثالثة ظهراً غادر أحمد حسنين قصر عابدين في سيارته متجهاً إلى بيته في الدقي. وعندما كانت السيارة تعبر كوبري قصر النيل، فجأة وبلا مقدمات جاءت من الناحية الأخرى المضادة سيارة "لوري" تابعة لقوات الجيش الإنجليزي بسرعة جنونية، ودار "اللوري" الإنجليزي في لحظة حول سيارة أحمد حسنين وصدمها صدمة هائلة. والتفت سائق سيارة حسنين مذعوراً إلى الخلف، وقال أحمد حسنين: "يا ساتر.. يا ساتر يارب"

وتقهقرت سيارة "اللوري" الإنجليزية إلي الخلف بعد أن ارتبك سائقها، ودار نصف دورة حول سيارة أحمد حسنين، ففوجئ بسيارة قادمة من الاتجاه الآخر، فعاد إلى الخلف مرة أخري ليصدم سيارة أحمد حسنين مرة ثانية.. وكان أحمد حسنين قد انحنى قليلاً في مكانه بالسيارة وبدأ الدم ينزف من أنفه

وتصادف مرور سيارة أحمد عبد الغفار وزير الزراعة، فأسرع بنقل أحمد حسنين بسيارته إلى مستشفى الأنجلو أمريكان، لكن روح أحمد حسنين فاضت إلى بارئها في الطريق إلى المستشفى، فنقلوا جثمانه من المستشفى إلى بيته في الدقي جثة هامدة. وخرجت صحف مصر والصحف العالمية في اليوم التالي تحمل أخبار الحادث الذي راح ضحية له أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي

خطأ آخر شهدته الحلقة (31) من المسلسل في حادث اغتيال محمود فهمي النقراشي وهو يهم بدخول مبنى وزارة الداخلية


لكن الرواية الدقيقة تقول إنه في العاشرة من صباح يوم الثلاثاء الموافق 28 ديسمبر كانون أول عام 1948 قُتِلَ النقراشي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك داخل فناء وزارة الداخلية على يد عبد المجيد حسن عضو جماعة الإخوان المسلمين، حيث ارتدى زى ضابط شرطة ودخل مبنى الوزارة منتحلاً صفة ضابط ووقف بجوار المصعد. وعندما دخل النقراشي باشا إلى المصعد أخرج الضابط المزيف سلاحه وأطلق عليه عدة أعيرة نارية فأرداه قتيلاً. وكان هذا الضابط قد جلس على مقهى بجوار وزارة الداخلية وتلقى من داخل المقهى مكالمة هاتفية من أحد زملائه بالجهاز السري، وأبلغه فيه بخروج النقراشي من منزله لكي يستعد لقتله

والحقيقة أنه بعد وقوع عدة حوادث عنف واغتيال ارتبطت بعناصر من الإخوان المسلمين، قرر النقراشي حل الجماعة بعد عريضة اتهام طويلة، واعتقل كل رجال الحركة البارزين، وأغلق جميع الأماكن المخصصة لنشاطهم، وصادر جميع الأوراق والوثائق والمطبوعات والأموال المملوكة للجماعة

ففي الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 28 ديسمبر كانون أول عام 1948 أذاع راديو القاهرة أمر الحاكم العسكري العام رقم 63 لسنة 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين بكل فروعها في البلاد ومصادرة أموالها وممتلكاتها. وبعد أقل من عشر دقائق خرج الإخوان من المقر العام فوجدوا أن المكان قد تم حصاره من جميع الجهات وأنهم وقعوا في الفخ وألقي القبض عليهم جميعاً، ما عدا حسن البنا المرشد العام ومؤسس الجماعة

وتبع هذا الأمر العسكري صدور أوامر عسكرية أخرى بتصفية شركاتهم، والعمل على استخلاص أموال الجماعة لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشؤون الاجتماعية. وحاول مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا أن يسوي الموقف مع النقراشي. وقضى اغتيال النقراشي في 28 ديسمبر كانون أول عام 1948 ، على هذه المحاولات، وقد وقع حادث اغتيال النقراشي على يد مجموعة من شباب الإخوان دون إذنٍ أو موافقة من البنا، فازداد الموقف حرجاً بين الإخوان والحكومة


على أنه كان من الواجب أن يشير المسلسل - الذي حفل بقراءة الوثائق والبيانات- إلى موقف مرشد الإخوان من الاغتيال، فقد أصدر حسن البنا "بيان للناس" ونشر في 11 يناير كانون ثانٍ عام 1949 وقال في بعض فقراته : "ولقد حدث أن وقعت أحداث نُسِبَت إلى بعض من دخلوا الجماعة دون أن يتشربوا روحها أو يلتزموا نهجها مما ألقى عليها ظلاً من الشبهة فصدر أمر بحلها. وتلا ذلك هذا الحادث المروع حادث اغتيال رئيس دولة الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي باشا الذي أسفت البلاد لوفاته وخسرت بفقده علماً من أعلام نهضتها وقائداً من قادة حركتها ومثلاً طيباً للنزاهة الوطنية والفقه من أفضل أبنائها ولسنا أقل من غيرنا أسفاً من أجله وتقديرا لجهوده وخلقه"

"ولما كانت طبيعة دعوة الإسلام تتنافى مع العنف بل تنكره وتمقت الجريمة مهما يكن نوعها أو تسخط على من يرتكبها، فنحن نبرأ الى الله من الجرائم ومرتكبيها. ولما كانت بلادنا تجتاز الآن مرحلة من أدق مراحل حياتها مما يوجب أن يتوفر لها كامل الهدوء والطمأنينة والاستقرار"

ومضى حسن البنا قائلاً : "لهذا أناشد إخوانى الله مراعاة المصلحة العامة وأن يكون كل منهم عوناً على تحقيق هذا المعنى وأن ينصرفوا الى اعمالهم ويبتعدوا عن كل عمل يتعارض مع استقرار الأمن وشمول الطمأنينة حتى يؤدوا بذلك حق الله والوطن عليهم"

ومن الواضح أن شباب الإخوان –والجهاز السري للجماعة- خرجوا عن السيطرة في تلك المرحلة مما أوقع البنا في حرج بالغ مع الحكومة التي حاول أن يؤكد لها عدم رضائه عن هذه التصرفات في مقولته الشهيرة " ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"، وتفاوض معها لتهدئة الوضع، لكن المفاوضات مع الحكومة انهارت بسبب محاولة نسف محكمة الاستئناف فى 13 يناير كانون ثانٍ عام 1949 وألقي القبض على أحد أعضاء الجهاز السري للإخوان بعد أن تبين أنه سلم أحد السعاة قنبلةً لوضعها داخل المحكمة، إلا أنها انفجرت خارجها

وفي المسلسل تابعنا اغتيال أمين عثمان وأحمد ماهر والنقراشي وسط موسيقى مؤثرة تفطر القلب و"فلاش باك"، ولكن حينما وصلنا إلى اغتيال البنا لم نشهد تفاصيل الاغتيال الذي وقع يوم السبت الموافق 12 فبراير شباط عام 1949 في شارع رمسيس أمام مبنى جمعية الشبان المسلمين، وإنما اكتُفِيَ بعنوانٍ رئيسي في صحيفة مفاده: مصرع حسن البنا

لم يتحدث المسلسل عمن يقف وراء هذا الاغتيال الذي جرى بترتيبٍ من القصر ووزارة الداخلية وجهاز البوليس السياسي
وبدا مستغرباً تصوير حسن البنا في المسلسل على هيئة تلميذٍ مطيع يجلس وعلى رأسه الطير في حضرة مصطفى النحاس، ليقرعه الأخير وينهره عن دنايا أفعاله، ثم لا يفتح الله عليه إلا بكلمة.. "حاضر يا فندم"
وجرى في المسلسل إغفال الحديث عن "الحرس الحديدي" الذي تقول المصادر إن فاروق أنشأه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تحت إشراف ياوره البحري الطبيب يوسف رشاد، وكانت باكورة أعماله اغتيال وزير المالية الوفدي وقناة الاتصال بين الوفد والسفارة البريطانية أمين عثمان في يناير كانون ثانٍ عام 1946
لقد أمر فاروق باغتيال الدكتور عزيز فهمي جمعة زعيم الطليعة الوفدية خوفاً من شعبيته في صفوف جموع المثقفين، وأمر بقتل مصطفى النحاس ليس مرة واحدة فقط بل مرات ثلاث، نفذ اثنتين منهما بفشل باهر أنور السادات أحد رجالات الحرس الحديدي. ولم يتطرق المسلسل ولو بجملةٍ عابرة إلى أنور السادات، سواء فيما يخص علاقته بالمخابرات الألمانية عن طريق الراقصة حكمت فهمي، أو مشاركته باغتيال أمين عثمان، ولا تنفيذه لمحاولتي اغتيال النحاس


وشاهد الجمهور سيدة طيبة تقف بجوار زوجها ولا تتحدث كثيراً في السياسة، هي زينب هانم الوكيل زوجة زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا

إلا أن هذا أيضاً ليس بالأمر الدقيق

إن مصر كانت منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي ووصولاً إلى منتصف الأربعينيات، تحت نفوذ ثلاث سيدات: زينب الوكيل حرم النحاس باشا، الملكة نازلي في القصر، وجاكلين لامبسون وهي في السفارة البريطانية. والأمر الذي يجمع هؤلاء الثلاث – كما يقول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل- أن كل واحدةٍ منهن متزوجة من رجل هو في عمر أبيها. النحاس باشا كان في أزمة عندما تزوج وهو في سن الثامنة والخمسين من فتاة عمرها 21 سنة هي زينب الوكيل.. تزوجها في 12 يونيو حزيران عام 1934 وبعد ذلك بشهورٍ قلائل أصبح رئيساً للوزراء

وفي تقارير له عن زيارة النحاس وحرمه لفرنسا بعد زواجهما، يحكي حسن نشأت سفير مصر في باريس عن تصرفات غير منطقية وغير معقولة، لكنه يمكن فهمها من الناحية الإنسانية. فهو يذكر كيف وقفوا ربع ساعة على رصيف محطة القطار فى انتظار زينب هانم التى كانت تصلح من مكياجها ومظهرها وتنسق قبعتها. ومن المثير للاهتمام أيضاً أن هذه العروس تأخذ مرافقة لها فى السفر ست ريفية اسمها أم السعد، وتجعلها وصيفة لها


ولعله من المستغرب أن يتجاهل المسلسل حقيقة أن أحد أسباب خلاف مكرم عبيد مع صديق عمره مصطفى النحاس مرده اعتراض مكرم على تسهيل مصالح مالية وتجارية لشخصيات تمت بصلة قرابة لأسرة الوكيل التي منها حرم النحاس باشا. وهكذا ضاق النحاس ذرعاً بموقف مكرم الذي ركب رأسه واستمر في التصدى لاستشراء المحسوبية.. فكان ما كان بينهما من خلافات وقطيعة

ويتعين أن نشير إلى تأثير عامل السن في تصرفات النحاس الذي سمح بتدخل زوجته في شؤون البلاد وتفصيل القوانين وإصدار الاستثناءات لخدمة أهلها وأقربائها وحتى خدمها والعاملين بأمرها، وخاصة في مجال الإعفاءات الضريبية


وليس أدل على نفوذ زينب الوكيل من تصريح نجيب الهلالي باشا حينما فوتح بدخول وزارة النحاس السابعة والأخيرة في يناير كانون ثانٍ عام 1950، إذ قال: "إن سبب الكوارث التي حلت بنا في الوزارة الماضية هو الفساد واستغلال الذين حول النحاس باشا لنفوذهم"..فقيل للهلالي باشا: إن الوزارة الجديدة ستستفيد من الأخطاء القديمة، وإن حرم رفعة النحاس باشا تعتكف الآن في المرج، حتى لا يقال إنها تشترك في تأليف الوزارة

فقال الهلالي: أنا غير مطمئن، ولذلك سأنتظر..وإذا ثبت لي أن "الست" لا تتدخل فسأشترك في الوزارة" (كتاب "هكذا تحكم مصر"، علي أمين، كتاب اليوم، مارس 1952)

وفي حادثة أخرى كان د. زكي عبد المتعال وزير المالية في زيارة للهلالي في بيته، فقال له في ضيق: "لقد أمسكتني حرم رئيس الوزراء اليوم من يدي وقالت لي: أهلاً بوزير ماليتي"!.. فصرخ الهلالي وضرب كفاً كف وقال: "والله عال! أنت وزير ماليتي..وأنا بكره وزير معارفي أو وزير خارجيتي..خليني بعيد عنكم أحسن"

ورصد رسامو الكاريكاتير بريشاتهم الساخرة صعود نجم زوجة النحاس وتأثيرها الواضح في كواليس السياسة، حتى إن رسام الكاريكاتير عبد السميع عبد الله رسم ذات مرةٍ على غلاف مجلة "روز اليوسف" شخصية "المصري أفندي" وهو يهمس في أذن إحدى السيدات قائلاً: "أحسن طريقة علشان الست تبقى رئيسة وزراء، أنها تتجوز رئيس وزراء"!

ولا مجال لإنكار فضل المسلسل في الحديث عن الملك فاروق وعصره استناداً إلى مراجع تاريخية.. وإن كانت المؤلفة ومعها المخرج قد وقعا في أخطاء ارتأينا الحديث عنها




فقد تضمن المسلسل أخطاء تاريخية في ضبط التوقيت وفي التعامل مع الألقاب وغير ذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر لم يراع المسلسل الدقة في استعمال الألقاب، فحضرة صاحب العظمة تقال للسلطان وحضرة صاحب الجلالة للملك. ومنذ عام ١٩٢٢ وإعلان الملكية لم يعد من يحمل لقب صاحب العظمة سوى السلطانة ملك أرملة السلطان حسين كامل، لكننا نجد أن مخاطبة الملك فؤاد والملكة نازلي تتراوح بين عظمتك وجلالتك، وهو ما لم يكن يحدث في السراي الملكي


وحضرة صاحب المعالي هو الوزير منذ عام ١٩٢٠ أثناء وزارة يوسف وهبة باشا وكانت إحدى محاولات استرضاء الوزراء بعد تعدد محاولات الاغتيال التي تعرضوا لها (٤ محاولات شملت رئيس الوزراء و٣ وزراء في عمر الوزارة القصير البالغ نحو ٧ شهور)، أما حضرة صاحب الدولة فهو رئيس الحكومة وتقررت في الأمر السلطاني الصادر في ٢٠ يونيو حزيران عام ١٩١٥ أثناء وزارة حسين رشدي باشا، ولا علاقة للباشوية أو البكوية باللقبين


من جانبٍ آخر، فإن الرتب المدنية كانت البكوية من درجتين فيلقب حامل الثانية بصاحب العزة وحامل الأولى بحضرة صاحب العزة ثم الباشوية ويلقب حاملها بحضرة صاحب السعادة ولمن يحمل الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي يلقب بحضرة صاحب المقام الرفيع، وفي البيت المالك كانت الألقاب هي حضرة صاحب السمو الملكي وولي العهد وفي الأسرة المالكة حضرة صاحب السمو للأمراء وحضرة صاحب المجد للنبلاء

فحينما يدخل الملك فاروق على حسن صبري باشا لتسليمه النيشان كان من الطبيعي أن يخاطبه بقوله: "صباح الخير يا رفعة الباشا"، وليس "يا دولة الباشا". كما رأينا النحاس باشا تتم مخاطبته بمعالي مرة و"دولة" مرة ثانية ورفعة مرة ثالثة وأحياناً تتعدد أشكال المخاطبة في حوار واحد، في حين أصبح صاحب المقام الرفيع في أول عهد فاروق. كما حدث الشيء نفسه مع محمد محمود باشا وعلي ماهر باشا وكانا من أصحاب المقام الرفيع. وتمت مخاطبة حسنين باشا بصاحب المعالي، وكان صاحب السعادة ثم الرفعة فهو لم يصبح وزيراً قط


وكان من المفترض عند اختيار من يؤدون أدوار الشخصيات البريطانية التركيز على من يتقنون اللكنة الإنجليزية ذات "الجرس" المشهور، ولا نعتقد أن ذلك كان شيئاً صعباً.. فضلاً عن اختيار من يتقنون تمثيل برودة الأعصاب الإنجليزية المعروفة، إذ لا يظهر الإنجليز انفعالاتهم عادةً، بعكس ما رأينا من انفلات أعصاب سير مايلز لامبسون في حالات الغضب الواضحة بالمسلسل





كما أن البروتوكول كان يستلزم ارتداء الردنجوت عند الذهاب إلى لقاء الملك وبذلات التشريفة في المناسبات الرسمية.. فلا يمكن أن نرى محمد حسين هيكل باشا خارجاً من لقاء الملك مرتدياً بذلته العادية أو الزعماء السياسيين في اجتماع مع الملك يرتدون جميعاً بذلات عادية. وكان كرسي العرش يوضع في قاعة مجلس النواب أثناء وجود الملك في البرلمان وكانت أثناء افتتاح البرلمان وليس كما ظهر في كل الجلسات البرلمانية. وأيضاً لم يتم استخدام الألفاظ الشائعة في تلك الفترة مثل "أتعشم" مثلاً ولم نجد مثل هذا إلا في الحلقة ٢٩ عندما قال أمين عثمان باشا مودعاً النحاس: "سعيدة" ويرد النحاس "سعيدة مبارك". ونجد في المقابل تعبيرات لم تكن مستخدمة، مثل "أوكي" وهو تعبير أميركي لم يكن مستخدماً في تلك الفترة
والطريف أنه ورد في المسلسل ذكر مستشفى مايو كلينيك منسوبة إلى ولاية نيويورك، مع أنها تقع في ولاية مينيسوتا

وليس مفهوماً كيف تقتصر تغطية السنوات الأربع الأخيرة من حكم فاروق ـ وهي الأخطر والأشد حسماً ـ على حلقاتٍ أربع، في حين توزع تسع وعشرون حلقة على باقي سنينه المصرية، وجلها من الجلوس عام 1936 وحتى حرب فلسطين عام 1948
والأنكى أن عام 1947 كله أُغفِلَ من التناول، وهو الذي شهد شكوى حكومة النقراشي بشخصه لمجلس الأمن ضد بريطانيا بسبب استمرار احتلالها للقنال، وشهد قرار تقسيم فلسطين، وقمة بلودان، وبدء الحرب الباردة

من الواضح أن هناك جهداً كبيراً في جمع المعلومات عن هذه الفترة التاريخية، ولكن كانت هناك أخطاء سخيفة لعدم تحري الدقة في العمل، ومنها أنه في وزارة النحاس باشا الخامسة التي شكلها بعد أزمة ٤ فبراير ١٩٤٢ تولي مكرم عبيد باشا وزارة المالية وفي ٣١ مارس آذار دخل فؤاد سراج الدين الوزارة وزيراً للزراعة بدلاً من عبد السلام فهمي جمعة باشا الذي تم انتخابه رئيساً لمجلس النواب وفي اليوم التالي أول أبريل نيسان تم ندب مكرم عبيد لتولي وزارة

غير أننا نجد النحاس في المسلسل يوصي مكرم عبيد بوزارة التموين، وهو ما يعني أنه حوار تم بعد أول أبريل نيسان. وفي الحوار نفسه يعارض مكرم عبيد تعيين فؤاد سراج الدين وكيلاً لوزارة الداخلية وكان قد أصبح وزيراً للزراعة في هذا التاريخ ولا يمكن أن يرشح وكيلاً للداخلية بعد توليه وزارة الزراعة. وفي الاجتماع نفسه يذكر النحاس أن عيد ميلاد الملك كان أمس والمعروف أنه كان يوم ١١ فبراير شباط، وبالتالي لا يمكن أن يكون مكرم عبيد وزيراً للتموين، ولو لم يوص النحاس مكرم بوزارة التموين لكان الحوار سليماً

نعود إلى فاروق

لقد كانت القوة عنده أمنيةً أكثر مما كانت حقيقة، لحد أنه وضع على مكتبه شعارا كتب عليه "سأفعل"، وعزَّزه بتمثال لقبضة من حديد، إشارة إلى هيامه بالقوة والقدرة على التنفيذ وقت أن يحين الموعد

إلا أن فاروق عجز في كثير من المناسبات عن أن يكون الرجل الذي ينجز أو يحقق المرجو منه

والصحيح أن الملك فاروق لم يكن ملاكاً كما يظهره المسلسل التليفزيوني، ولا شيطاناً كما أظهرته ثورة يوليو

على أن هذا ليس كل شيء في ملف أخطاء وخطايا فاروق، الإنسان..والمسلسل
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator