المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

حرف يبلله المديح



اختارت هيئة تحكيم مسابقة دويتشه فيله العالمية للمدونات -البوبز- مدونة "قبل الطوفان" ضمن المواقع المرشحة في المرحلة النهائية للفوز بجائزة أفضل مدونة عربية

الأكيد أن هذا الخبر يسعدني، فلا حرف يجد زهوته إلا حين يبلله المديح، فضلاً عن أن هذه المسابقة يُنظر إليها على أنها أوسكار المدونات، علماً بأن القائمين على الاختيار هم لجنة تضم نخبةً من المدونين والصحفيين والأكاديميين وخبراء الإعلام

وإذا كنت أشكر بصدقٍ وامتنان من رشحوني للجائزة، فإنني أؤكد أن جائزتي الأولى والأخيرة هي دائرة القراء الأعزاء الذين يمرون هنا ويتفاعلون مع ما أكتبه ويهتمون بقراءة هذا الجهد المتواضع الذي أتمنى أن يضيف ويثري فضاء التدوين


إننا نتعرف على هذا العالم عبر الكتابة، وكلما عرفناه أفضل، كلما خفت وطأته على رؤوسنا

ولفضاء التدوين مذاقٌ خاص، قدم لي حزمة من الأفكار، وأعطاني نمطاً مختلفاً من الحياة، وأورثني الشغف بأن أكون هنا والآن حاضراً في قلب التجربة وان أتعلم منها باستمرار

والموهبة هي أن تكتب كل ذلك الذي تستطيع أن تكتبه، دون أن تجرح غيرك أكثر مما تجرح نفسك

لا بد من القول إنه ابتداء من 27 أكتوبر وحتى 26 نوفمبر، بإمكان زوار موقع المسابقة التصويت لمدونتهم المفضلة، حيث تم ترشيح أفضل المدونات المتقدمة للمسابقة في 16 فئة

"فِي القَصَائِدِ وَحْدَهَا نُعِيدُ بِنَاءَ الْعَالَمَ"
هكذا قال يوماً الشاعر الأمريكي وِليَام كارلوس وِليَامز
ليته يعلم الآن أن جملته تنطبق أشد ما تنطبق على عالم التدوين

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (8): صدمة دمشق وصدفة القاهرة






لم يجن عبد الحكيم عامر بلح الشام أو عنب اليمن
ونحن نعني هذه العبارة حرفياً

فقد أخفق عبد الحكيم عامر - الذي رقي إلى رتبة فريق عام ١٩٥٨، وبعد الوحدة مع سوريا وفي العام نفسه رقي إلى رتبة مشير – في إدارة حرب اليمن، مثلما تحمل جانباً من المسؤولية عن فشل مشروع الوحدة
وأخذ البعض على عبد الحكيم عامر الطريقة السيئة التي أدار بها عملية الحرب هناك
فقد خاضت القوات المصرية المتزايدة الحجم عمليات هجومية واسعة النطاق عبر كل الأراضي اليمنية وصولاً إلى الحدود مع السعودية وجنوب اليمن في يناير كانون ثانٍ 1963 سميت "عمليات الجوف". كان الهدف غير المنطقي هو تأمين كل أراضي الجمهورية وعلى الفور

أعاد عبد الحكيم الكرة في العامين التاليين، وفي كل مرة كانت النتيجة خسائر فادحة ونتائج سياسية مركبة. ولم يتدارك الخطأ إلا في ربيع 1966، عندما وافق على خفض حجم القوات إلى فرقتين مكلفتين بتأمين مثلث صنعاء - الحُديدة – تعز فقط لا غير. هذا المثلث هو قلب اليمن الحيوي وهو المهم في الأساس لإرساء دعائم النظام الجمهوري، ومن ثم بناء الجيش اليمني الوطني القادر لاحقاً على تطهير الأطراف
لقد أنفق عبد الحكيم عامر مالا كثيرا وذهبا وفيرا على رشوة قبائل الحدود، ليُفاجأ في كل مرة أنه لا يستطيع منافسة السعودية في سباق شراء الولاء
ورأى البعض أنه كان الأجدر به أن يحدد هدفه منذ البداية – أي أكتوبر تشرين أول 1962– في أن تأمين المثلث المحوري هو المراد وبعده بناء الجيش الجمهوري ومن ثم تحرير كامل المساحة. ولو فعل ذلك لكان الاستنزاف الذي تعرض له الجيش المصري أقل بكثير مما جرى، ولكانت النتائج السياسية أيسر منالاً




المحطة الأهم في سجل إخفاقات عبد الحكيم عامر على الصعيد السياسي هي الفشل في حكم سوريا أثناء مشروع الوحدة، ما أدى إلى وقوع للانفصال
ففي فجر يوم 28 سبتمبر أيلول 1961 استيقظ عبد الناصر على أسوأ خبر يتعلق بالمشروع القومي العربي منذ ثورة 23 يوليو 1952
والحق أن خلفية قرار تعيين عبد الحكيم حاكما مطلق الصلاحيات لسوريا هي المتاعب الكبيرة التي نالها عبد الناصر من فئات البعث المنحل، سواء بالصراع الصامت بين أنصار ميشيل عفلق وأكرم الحوراني، أو بشكوى الطرفين المبالغ بها من وزير الداخلية عبد الحميد السراج، أو بمحاولة وزرائهم إضفاء صبغة البعث على العديد من أجهزة الدولة بما أوصل شرائح كبيرة من النخبة السورية إلى مرحلة الجأر بالشكوى منهم ومن تحزبهم



وحين أعيد تنظيم الحكم في الجمهورية العربية المتحدة، برز على القمة رجلان هما نور الدين كحالة الذي تولى منصب نائب رئيس الجمهورية لشؤون الإنتاج وعبد الحميد السراج الذي أصبح نائب الرئيس للشؤون الداخلية. وساد إحساس عام في دمشق بأن السراج أصبح عملياً حاكم سوريا . ولعل عبد الناصر أراد تدارك الوضع فقرر تعيين عبد الحكيم عامر ممثلاً له في دمشق
دام بقاء عامر في دمشق من أكتوبر تشرين أول 1959 وحتى أغسطس آب 1960 . وأثناء تلك الفترة، كان الصراع على أشده بين عامر والسراج، إذ حاول كلٌ منهما تقليم أظفار الآخر. ومع تقدم شهور إقامة عامر في دمشق بدأت الاحتكاكات والحساسيات بين رجاله ورجال السراج
وفي هذا يقول محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الغليان: 1967" ضمن سلسلة كتبه عن حرب الثلاثين سنة: "ف "عبد الحكيم عامر" الذي كان نصف مكسور ونصف منكسر في القاهرة بعد أزمته في السويس وجد في دمشق أجواء أخرى تتعامل معه وكأنه "نائب الملك" في دمشق، ومن سوء الحظ أنه راح يتصرف على هذا الأساس، فإذا بمحيطه في دمشق يتحول إلى شبه بلاط تزدحم فيه شبه حاشية، وفي مثل هذه الأجواء فإن المقاييس تترهل والقيم تنفك يوماً بعد يوم، وكان البعد عن مركز السلطة في القاهرة يشجع من حيث أنه يداري فما يصل إلى المركز يصبح مجرد أصداء يسهل الرد عليها بإرجاعها إلى الدس أو الافتراء (وكانت تلك كلها أوضاعاً تداعت عنها فيما بعد عواقب سوف يبدو أثرها على مجرى الحوادث)



"ومن ناحية أخرى فإن عبد الحميد السراج الذي كان قد تخلص من ضغوط حزب البعث التي ركزت عليه لم يكن راغباً في أن يجد نفسه تحت رقابة عبد الحكيم عامر، خصوصاً وأن السراج كان في وضعٍ يسمح له برؤية تصرفات عامر عن قرب. بل لعل ما كان يراه شجعه أكثر بدعاوى الأمن على تشديد قبضة الأجهزة البوليسية على أهم المواقع في دمشق. ولما كان التنظيم النقابي، والتنظيم السياسي (الاتحاد الاشتراكي) كلاهما بقرب اختصاص السراج فإن التداخل بين مقتضيات ومجالات العمل السياسي خلق حالة من التشابك زادت وطأتها" (ص 564)
بلغت الأمور بين الرجلين حالة مهينة ليس لكرامة كليهما فقط، ولكن للدولة التي يمكن أن تحسب عليها في النهاية تصرفاتهما معاً
تصاعد الخلاف بين الرجلين مع صيف 1960 لكنه أخمد وجُمّد عندما انتصر عبد الناصر للسراج في أغسطس آب من ذلك العام

سُحِبَ عامر من دمشق، ورُفـّع السراج لمرتبة رئيس وزراء مع احتفاظه بوزارة الداخلية، فانفرد لشهور ستة في حكم سوريا دون منازع
إلا أن البعث واصل تحركاته وضغوطه كجبهة معارضة، فرأى عبد الناصر أنه ومن باب أن حارسين أفضل من حارس واحد، أن يعود عامر للإقامة في سوريا مشرفاً عاماً، مع الاحتفاظ بالسراج في مناصبه، ليعود الاحتكاك من جديد ويعود معه التجاذب
وفي صيف 1961 – وبالأخص بعد صدور قرارات التأميم في القطاع الاقتصادي التي أثارت نقمة طبقة التجار- برزت تحركات محمومة للتآمر على الوحدة لدرجة أن هاني الهندي قطب حركة القوميين العرب أتى للسراج بقائمة من 37 ضابطاً يتآمرون للانقلاب وعلى رأسهم المقدم عبد الكريم النحلاوي. كان عامر قد عينَّ النحلاوي نائبا لمدير إدارة شؤون الضباط في الجيش الأول (والتي يرئسها أحد أصفياء المشير: العميد أحمد علوي) وهو المنصب الحساس الذي يسمح للنحلاوي بالتحكم بتنقلات الضباط طالما كسب ثقة المشير



أوصل السراج القائمة لعبد الناصر الذي سارع لسؤال عامر عن كاتم أسراره السوري – النحلاوي – فما كان من عامر
إلا أن دافع عنه بشدة، متهماً السراج بأنه يستهدف رجاله وأنها دسيسة لا تستحق مجرد الالتفات إليها
في أغسطس آب 1961 ارتكب عبد الناصر خطيئة أخرى، وهي الاكتفاء بحكومة واحدة للوحدة مركزها القاهرة. لقد أدى نقل مركز الحكم إلى القاهرة إلى حالة من الفراغ في دمشق، ولم تكن دمشق معتادة على هذا الفراغ، الذي أخذ يمتلىء بأصداء مشوشة عما يجري في القاهرة
ويقول هيكل: "ووصلت الأمور إلى نقطة الخطر في أوائل سبتمبر 1961 فقد بدأ عبد الحكيم عامر يقول إن رجال عبد الحميد السراج في الداخلية، وفي الاتحاد القومي يهاجمونه علناً، ثم هدد عبد الحميد السراج بالاستقالة حين أصدر المشير أمراً بنقل عدد من ضباطه إلى القاهرة، وأضاف إلى تهديده بالاستقالة عبارة سرى رنينها في محافل دمشق، فقد قال "إنه يستطيع إخراج عبد الحكيم عامر من دمشق مضروباً بالبندورة (الطماطم)"!
وكان هناك في دمشق من يراقب الصراع بين عامر والسراج ويرتب للنفاذ من الثغرة التي راحت تتسع بينهما يوماَ بعد يوم




وبلغ الأمر حد قول السراج صراحةً إنه إما أن يكون هو في دمشق، أو يكون المشير عامر، ثم أتبع ذلك ببرقيةٍ منه إلى جمال عبد الناصر
صباح يوم 20 سبتمبر أيلول 1961 يقول نصها بالحرف الواحد: "إنك سلمتني إلى من أهانني، فأرجو إعفائي
إمضاء: عبد الحميد السراج"
استدعى عبد الناصر السراج إلى القاهرة لاحتواء الخلاف، لكن السراج أصر على أنه لم يعد هناك مجال للتعاون بينه وبين المشير، في حين كان عامر يضغط من دمشق لقبول استقالة السراج ويشكو لعبد الناصر من السراج، مردداً اتهامات
الأحزاب السورية له بالاستبداد والقمع
المفارقة أن رجال الانقلاب كانوا يحتشدون ويرصون صفوفهم في دمشق، في الوقت الذي كان الرجلان المسؤولان عن حمايتها يتصارعان على مساحات القوة وحجم النفوذ

وهكذا وقع الانقلاب في دمشق، وكاد عامر يلقى حتفه هناك، حين تعرض منزله للقصف من جانب قوات تابعة للعقيد حيدر الكزبري قائد لواء البادية.. ثم قام حكم الانفصال في دمشق وتشكلت حكومة برئاسة مأمون الكزبري الذي كان من قبل ضالعاً في مخططات أمريكية للانقلاب في سوريا، وفق ما أثبتته المحاكمات والوثائق في "قضية الدندشي"
أما المشير عامر فقد خرج من سوريا وهو أكثر ارتباكاً وانكساراً من أي وقتٍ مضى
المضحك المبكي هو أن انقلاب الانفصال تم على يد 37 ضابطاً فقط، ما يبين هزال الأوضاع في الإقليم عشيته وهشاشتها الصارخة
وبنظرة واحدة على قائمة المشاركين في الانقلاب، سنجد أن معظمهم كانوا من أفراد مكتب المشير عامر في دمشق، وأن العقل المدبر للانقلاب هو المقدم عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير. وهذا يعني ببساطة أن الانقلاب تم تدبيره ورسم خطوطه داخل مكتب المشير عامر
والحق أن إدارة عبد الحكيم عامر لأزمة انقلاب الانفصال يوم 28 سبتمبر أيلول تشي بمحدودية قدراته على السيطرة والقيادة. فقد ارتبك عامر واكتفى بالجلوس في الأركان مفاوضا، دون قوة مادية مباشرة يستند إليها، وبالتالي ليس من خلفه إلا قوة معنوية يبددها كل ساعة في ضوء مخاوف وخطط الانقلابيين
ويمكن القول باطمئنان إلى أن عبد الحكيم عامر كان وبالاً على الوحدة في المرحلتين اللتين قضاهما حاكما لسوريا، بفاصل ابتعاد دام ستة شهور
وفي القاهرة، التي عاد إليها عامر مساء 28 سبتمبر أيلول 1961 كسير الخاطر من "الإقليم الشمالي"، أصيب المشير بأزمة نفسية
والشاهد أن أشياء كثيرة تغيرت في المشير عامر الذي ظل حتى عام 1961 مثالا للالتزام العائلي وحسن السيرة والسلوك، صدق فيه حينها وصف عبد الناصر له أنه "كان قطة مغمضة". ففي تجربة دمشق وفي ظل وجود علي شفيق مدير مكتب المشير، أصبحت السهرات الخاصة ولوازمها أمراً مألوفاً بالنسبة للمشير، وقيل الكثير حول ما جرى في تلك الفترة بما في ذلك عن استلطاف عامر للمطربة الصاعدة آنذاك وردة الجزائرية والتسري بمنادمته

وفي المقابل، أفلت عبد الناصر فرصة جديدة لاستبعاد صديقه عبد الحكيم عامر، لكن أموراً كثيرة بدأت تتخمر تحت السطح
ويروي منير حافظ الرجل الثاني في مكتب معلومات جمال عبد الناصر واقعتين لهما دلالتهما، إذ يقول إنه أثناء مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق التي عُقِدَت في مارس آذار 1963، جرى ما يلي: "كان تسجيل المباحثات يجري في غرفة بمكتب المعلومات بقصر القبة وفي حضور سامي شرف ومحمد حسنين هيكل والموظف القائم بعملية التسجيل، أثناء الاستراحة دق في الغرفة جرس التليفون الخاص بالزعيم الراحل الذي طلب هيكل ليكلمه، ولم أسمع طبعاً ما كان يقوله عبد الناصر، ولكن سمعت هيكل يرد:
- المناقشة كويسة جداً..جداً، بس لو تعرف تسكت ال"..." اللي جنب؟
"وكان المقصود بهذا الوصف المشير عامر الذي كان مشتركاً في الجلسة، وكان قد استفاض في مناقشة أمورٍ فرعية حرفت المناقشة بعيداً عن المسار الذي يريده عبد الناصر. ولأن هيكل لم ينطق بشىء أمام عبد الناصر إلا إذا كان محسوباً بدقة، فقد فوجئت بهذا الوصف الذي أطلقه على المشير
"ولكنني فوجئت أكثر بأن هذه الجرأة من جانب هيكل لم تكن على غير هوى عبد الناصر، بدليل أنه أجاب عليها بتعليق جعل هيكل يطلق ضحكة طويلة مستمتعة"
وفي واقعةٍ ثانية، يقول منير حافظ: "جرت القصة في سهرةٍ جمعت المشير ببعض أصفيائه وتساءل أحدهم عن رد فعل عبد الناصر لو أنه حضر ورآهم في هذه السهرة، وعلق واحدٌ من أتباع المشير قائلاً:
"ما تشوف لنا طريقة بقى "يا ريس"، وتخلصنا من الرعب اللي على دماغنا ده؟"
فزجره المشير قائلاً: بس يا ولد..ما لكش دعوة بالكلام ده خالص!
ولكنه –أي المشير- قبل أن يقول هذا أطلق ضحكة طويلة جداً تدل على أن "الكلام ده لم يكن على غير هواه"!
ويخلص منير حافظ إلى أن" العلاقة بين الرجلين إذن قد تحولت من الصداقة الخالصة إلى المناورة والمداورة"
أما السادات فيقول: "انتهت سنة 66 والصراع بين عبد الناصر وعامر على أشده فكلٌ منهما متربص بالآخر وخاصة أن عامر كان كل يومٍ يوسع رقعة سلطاته. فعن طريق لجنة الإقطاع والتعلل بالثورة المضادة استطاع أن يضرب من يشاء وأن يعزل أو يبقي من يشاء في مؤسسات الدولة وجميع مناصبها بما في ذلك النوادي الرياضية، بل إن شكاوى الهيئات العامة أو الأفراد كانت تُحالُ إلى القوات المسلحة للنظر فيها وحلها حسب ما يتراءى لها...وهكذا تراكمت السلطات في يد عامر حتى أصبح الآمر الناهي والمتحكم في مصير الناس وفي كل ما يتعلق بالبلد من أحداث"
ثم يروي السادات كيف أنه ذهب لزيارة جمال عبد الناصر يوم جمعة في فبراير شباط 1967، وكان عبد الناصرحزيناً مهموماً وسأله السادات:
"مالك شايل الدنيا على دماغك ليه يا جمال؟ واضح أنك شايل الدنيا على دماغك!
قال: أيوه..فعلاً أنا شايل الدنيا على دماغي.. يا أنور البلد بتحكمها عصابة وأنا مستحيل أكمل بهذا الشكل..أني أبقى الرئيس المسؤول واللي بيحكم هو عبد الحكيم وينفذ اللي عاوزه..طيب أخرج أنا أحسن وأروح أقعد في الاتحاد الاشتراكي..ويتولى هو رياسة الجمهورية وأنا مستعد لأن أُسأل عن الفترة اللي قعدتها لغاية ما حأخرج..أجاوب عن أي شيء
"قلت له: مش معقول يا جمال تسيب رياسة الجمهورية وتقعد في الاتحاد الاشتراكي عشان عبد الحكيم عامر وأعوانه يحكموا مصر..أنت عارف أن عبد الحكيم أسوأ من يختار معاونيه. ولذلك أعتقد أنه أفضل شيء إنك تجيبه وتكلمه بينك وبينه وبالشكل ده ممكن توصلوا لحل مع بعض
"قال جمال: والله الصورة سيئة يا أنور وأنا حاسس أن إحنا داخلين على كارثة
"بعد ذلك ببضعة أيام ذهبت لزيارة عبد الناصر فقالوا لي إن عنده ضيفاً وانتظرت في حجرة مكتبه إلى أن يخرج الضيف..وبعد فترةٍ جاءني عبد الناصر وبادرني: يا سيدي الحكاية كملت..شمس بدران جاي لي دلوقتي بيطلب رسمي إن المشير يأخذ رئاسة الوزراء..وحجته إيه؟ إن البلد بتشتكي..مش عارف أن معظم الحاجات اللي بتشتكي منها الناس هي من تصرفاته وتصرفات أتباعه؟
"قلت له: طيب أنت قلت إيه؟
"قال والله أنا خدت الموضوع ببساطة..قلت له أنا ما عنديش مانع..قل له أنا موافق بس يترك القوات المسلحة وياخد رياسة الوزراء – أنا حلاقي مين يمسك الوزارة أحسن من عبد الحكيم؟
"قلت له: أنا ما زلت عند رأيي إنك تقابله وتتكلموا مع بعض وأنت عارف طبعاً أنه بيقبل منك ما لا يقبله من أي شخصٍ آخر، بالشكل ده ممكن الموضوع يتلم والمسائل تنحل
"عبد الناصر قال: لا يا أنور..العملية ماشية في اتجاه غلط
"طبعاً كان رد عامر على رسالة عبد الناصر بالنسبة لرئاسة الوزارة هو الصمت، فهو يعتبر القوات المسلحة مكانه الطبيعي ولا يمكن أن يتخلى عنها لأي سببٍ من الأسباب، فهي مركز القوة الأول"
وحين عاد المشير عبد الحكيم عامر من دمشق عقب فشل وانفصام دولة الوحدة في نهاية عام 1961، ظهر في مصر معسكران متناحران، الأول يقف على رأسه عبد الناصر، أما الثاني فيقوده عبد الحكيم عامر




وزاد من حدة الأزمة في السنوات اللاحقة زواج عبد الحكيم عامر عرفياً من الممثلة برلنتي عبد الحميد. وفي هذا الملف، بدت صدفة للقاء والحوار الثنائي مرتبةً من جانب مدير المخابرات صلاح نصر، لكنها نجحت في نهاية الأمر في اجتذاب المشير إلى برلنتي

وفي شهادته التي تحمل عنوان "القصة الحقيقية: برلنتي والمشير" وسجلها بقلمه الكاتب الصحفي سيد زهران، يقول محمد متولي سكرتير المشير وكاتم أسراره: "وكان المشير عبد الحكيم عامر حريصاً على كتمان أمر علاقته مع السيدة برلنتي عبد الحميد وحين يزورها كان يشار إليه – إمعاناً في السرية والتخفي- بلقب الدكتور، وكان يُشار إليها بالاسم الكودي "أبلة بله"
"وفي بداية علاقة المشير مع برلنتي لم يكن يعلم بأمر هذه العلاقة سوى مجموعة قليلة موضع ثقة المشير وهم: صلاح نصر وعباس رضوان وعلي شفيق وعبد المنعم أبو زيد ومع تعدد الزيارات اتسعت الدائرة لتشمل المهندس حسن عامر شقيق المشير، وأخاه مصطفى عامر الذي كنا ندعي أمام الجميع أنه زوج برلنتي إمعاناً في السرية، وعبد المنعم عامر ابن عم المشير والملحق الثقافي المصري في بون وقتها، وأنور السادات"


ويضيف سكرتير المشير قائلاً: "لم يعرف الرئيس عبد الناصر شيئاً عن علاقة المشير عامر ببرلنتي إلا في نهاية عام 1965 وكانت صدمة المفاجأة عنيفة ومؤلمة، ولم يستطع الرئيس عبد الناصر أن يصدق من هول المفاجأة..وأمر الرئيس المشير بأن يقطع علاقته وصلته مع برلنتي نهائياً وفوراً
"وطلب المشير من الرئيس أن يمهله بعض الوقت حتى يتوصل إلى طريقةٍ يتخلصُ بها من برلنتي، وبدأ المشير فعلاً الإقلال من زياراته إلى فيللا الهرم"
غير أن هذه الرواية تذهب إلى أن حمل برلنتي قلب المعادلة رأساً على عقب، خصوصاً بعد أن قررت برلنتي كسر حاجز الصمت المفروض على هذا الزواج المهدد في أي لحظة، وذلك بطباعة منشور مكتوب على الآلة الكاتبة وتوزيعه على مجموعة منتقاة لإحداث ضجة
وقد كان!
نقطة نظام نثيرها هنا، وهي أن أسرة المشير لم تعرف بأمر هذا الزواج إلا بعد حرب يونيو حزيران 1967 وتداعياتها، والتي كان على رأسها تحديد إقامة المشير نفسه
ويقول جمال عبد الحكيم عامر أكبر أنجال المشير: "هزنا خبر زواج أبي وإنجابه عمرو كما صُدمت أمي صدمة كبيرة لأنها الزوجة والأم، ابنة العم، وقد راعينا شعورها"

رواية أخرى يطرحها محمد حسنين هيكل في كتابه "الانفجار"، إذ يقول: "في يوم 20 فبراير 1967 قرأ جمال عبد الناصر تقريراً كان بمثابة صدمة بالنسبة له، كان التقرير من إدارة المباحث العامة وكان يتحدث عن إشاعات تجري في الأوساط الفنية عن زواج المشير عبد الحكيم عامر بالممثلة السيدة برلنتي عبد الحميد زواجاً عرفياً وأن هذا الخبر تأكد بحقيقة أن السيدة برلنتي عبد الحميد تنتظر مولوداً نتيجة لهذا الزواج. وطلب جمال عبد الناصر مزيداً من التفاصيل، واتصل بنفسه بوزير الداخلية يطلب أن تصله معلومات وافية في هذا الموضوع على الفور، وأن تراعى أقصى درجات الحيطة والحذر في تقصي المعلومات حتى لا تحدث إساءة لا لزوم لها لأي طرفٍ من الأطراف قبل الوثوق من الحقيقة
"وتأكد الخبر، ورأى جمال عبد الناصر أن ينتظر أياماً قبل أن يفاتح عبد الحكيم عامر في هذا الموضوع حتى لا تملكه انفعالات الغضب وتصعب المناقشة الجادة في تصرفٍ يصعب السكوت عليه"
استدعى عبد الناصر المشير عبد الحكيم عامر لمقابلته في أول مارس آذار 1967، ومفاتحته في الأمر
ويقول هيكل: "كان أسلوب عبد الحكيم عامر المعتاد عندما يوجه إليه أي تساؤل عن تصرفٍ من تصرفاته أن يبدأ بإثارة زوابع صغيرة، ويتخذ مظهر الغاضب المجروح المعتدى عليه، وهكذا عندما سأله جمال عبد الناصر في موضوع زواجه السري بدا غاضباً ومتألماً وقائلاً: إنه سئم من هذه الحملات الموجهة ضده والتي تثور من وقتٍ لآخر وإنه لم يعد يطلب غير أن يبتعد ويستريح، وإنه يفضل أن يعود إلى قريته في أسطال بالمنيا ويعيش هناك فلاحاً عادياً، يزرع ويقلع، ولا يكون نائباً لرئيس الجمهورية، أو نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة


"وانتظره جمال عبد الناصر حتي أفرغ ما لديه ثم كان تعليقه أن كل ما سمعه من المشير خارج الموضوع وأن سؤاله كان سؤالاً محدداً وليس هناك جدوى من تجنب الرد عليه مباشرة، وهكذا هبط عبد الحكيم عامر فوراً من الغضب أو التظاهر به دفاعا عن النفس، واعترف بعلاقته مع السيدة برلنتي عبد الحميد ولم يجد ما يبرر به تصرفه سوى أنه وجد أخيراً إنسانة تستطيع أن تفهمه، وكانت الدموع تلوح في عينيه وهو يحاول أن يكتمها.. ثم لم يتمالك نفسه وراحت الدموع تجري على خديه في صمت، وسأله جمال عبد الناصر عن الظروف التي تعرف فيها عليها


"وكان رد عبد الحكيم عامر أنه تعرف بها عن طريق صلاح نصر"
"وحين حاول جمال عبد الناصر أن يسأله إذا لم يكن قد فكر في الثورة وفي أسرته وفي أولاده وهو يسلم نفسه لعواطفه تتحكم فيه، قال عبد الحكيم عامر إنه تعذب في الشهور السابقة بما فيه الكفاية، وإنه الآن على استعدادٍ لأن يقبل بما يراه الرئيس بما في ذلك أن يترك موقعه، وكان رأي جمال عبد الناصر أنه مع الأسف الشديد لا يجد سبيلاً آخر"

وتحت ضغط افتضاح أمر الزواج العرفي، اضطر عامر لرفع الراية البيضاء، راضياً باقتراح عبد الناصر عليه بالابتعاد إلى يوغوسلافيا مدة تكفل معالجة أثر الحكاية تمهيداً لقبول استقالته من الحكم دون ربطها بمسألة الزواج العرفي من برلنتي
وبالفعل، صدر قرار عن رئاسة الجمهورية في مارس آذار 1967 يقضي بالموافقة على سفر عبد الحكيم عامر إلى الخارج للعلاج على نفقة الحكومة التي تغطي جميع مصاريف الإقامة والسفر لعامر وجميع مرافقيه

على أن المسألة انتهت على نحو مغاير..لم يسافر عامر إلى يوغوسلافيا، وإنما رحل إلى العالم الآخر
تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (7): عامر 56






شهدت حياة عبد الحكيم عامر بعد نجاح الثورة تغييراتٍ جوهرية وسريعة

فقد تمت ترقيته وهو لم يزل في سن الرابعة والثلاثين من العمر إلى رتبة لواء، وأوكلت إليه مهمة قيادة القوات المسلحة، وأصبح في عام 1953 مسماه الجديد القائد العام للقوات المسلحة المصرية . وبعد عامٍ واحدٍ أيضاً عُيِنَ وزيرا للحربية مع احتفاظه بمنصبه في القيادة العامة للقوات المسلحة، ثم رقي إلى رتبة فريق عام 1958
وبعد قيام الوحدة مع سوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة مُنِحَ عبد الحكيم عامر رتبة مشير في 23 فبراير شباط 1958

وكانت الترقية الأخرى التي رفعته إلى رتبة نائب رئيس جمهورية في 6 مارس آذار 1958، واستمر في هذا المنصب حتى أغسطس آب 1961، حيث أضيفت إليه مهمة رئاسة اللجنة العليا للسد العالي، ثم رئاسة المجلس الأعلى للمؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي في إبريل نيسان من العام نفسه

وبعد قيام ثورة اليمن في 30 سبتمبر أيلول 1962 واعتراف مصر بها ورغبة منها في تدعيم الثوار الجدد، أرسلت جزءاً كبيراً من قواتها المسلحة إلى هناك، وأسندت مهمة الإشراف عليها إلى المشير عبد الحكيم عامر بصفته قائداً عاماً للقوات المسلحة

امتدت أذرع عبد الحكيم عامر في مختلف نواحي الحياة المدنية

وأصبح رئيساً لاتحاد كرة القدم، ورئيساً للطرق الصوفية، واهتم بمباريات كرة القدم - وخصوصاً نادي الزمالك- وكتابات الناقد الرياضي نجيب المستكاوي، في الوقت الذي شغل فيه منصب رئيس اللجنة العليا لتصفية الإقطاع اعتباراً من مايو آيار 1966. وفي أكتوبر تشرين أول من العام نفسه عهد إلى وزير الحربية شمس بدران ببعض اختصاصات القائد العام للقوات المسلحة وأصبح مسؤولا أمام عبد الحكيم عامر عن كل ما يكلفه به من أعمال عسكرية وإدارية

غير أن عامر جمع بين السياسي والعسكري بأسلوبٍ يشوبه الارتباك والاندفاع، ما أدى إلى انحراف الجيش عن مهمته الأصلية في حماية الوطن وحماية النظام. لنتأمل حكاية إشراف عامر على النقل العام بالقاهرة عبر أحد ضباطه عبد العزيز الجمل..وهو أسلوبٌ بدا لكثيرين مجافياً للمنطق

يقول الرئيس أنور السادات في كتابه "البحث عن الذات": "كان لعبد الحكيم عامر أخطاؤه بطبيعة الحال، ولكن الأهم من ذلك أنه كان يسيء اختيار معاونيه بشكل فاضح، وكان من أبرز ملامح شخصيته روح القبيلة، فهو يساند معاونيه بالحق أو الباطل" (ص 305)

ومنذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، حرص عامر قادراً على إبراز معاونيه وتوليتهم أخطر المناصب وأهمها. وهكذا أصبح معاونه الرئيس صلاح نصر مديراً للمخابرات العامة في مايو آيار 1957 مصحوبا بنائبه عباس رضوان وهو التالي له في القرب. ثم نجده يقف وراء اختيار عباس رضوان وزيراً للداخلية. ثم نراه يستوزر معاونه الثالث توفيق عبد الفتاح وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية

والأكيد أن ذلك تم بموافقة عبد الناصر، الذي تصور أن عامر هو الأوثق والأقدر على إدارة الأمور بالحزم العسكري المطلوب وبإشارة للجميع إلى أن الجيش قلعة النظام وهراوته الجاهزة


كان اختبار مارس آذار 1954 شبه ناجح لقيادة عامر للقوات المسلحة، إذ كان واسطة العقد بين سلاحي المدفعية والطيران في تصديهما لسلاح المدرعات وإجهاض محاولته التمرد على مجلس القيادة لصالح "الصاغ الأحمر" خالد محيي الدين وحليفه محمد نجيب

وفي 14 نوفمبر تشرين ثانٍ عام 1954 لم يؤد الحرس الجمهوري التحية العسكرية للرئيس محمد نجيب وهو يدخل قصر عابدين.. وفوجيء بالصاغ حسين عرفة ومعه ضابطان وعشرة جنود يحاصرونه وهم يشهرون السلاح، فصرخ فيهم ليبتعدوا عنه. وبمجرد دخوله مكتبه اتصل بجمال عبد الناصر قائلا: "إيه لعب العيال ده يا جمال".. فرد عليه:"سوف أرسل لك عبد الحكيم عامر"


وبعد دقائق جاء عبد الحكيم عامر ومعه حسن إبراهيم ليقولا له في خجل: "إن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئيس الجمهورية"، فغادر مكتبه دون أن يحمل معه إلا المصحف


ما إن مرت أعوام ثلاثة على توليه القيادة حتى كان عامر قد اكتسب شعبية طاغية بين الضباط أوصلته إلى أن يقف في احتفال إهداء أعضاء مجلس القيادة قلادة النيل - يونيو حزيران 1956- ويتوجه بالقلادة نحو جموع الضباط الحاضرين، في إشارةٍ واضحة إلى أنها باسمهم ولهم عبره


وحين نتأمل شخصية عامر، سيتبين لنا أنه كان مختلفاً في طباعه عن باقي زملائه في مجلس قيادة الثورة


وفي هذا يقول حلمي سلام: "لم يكن عبد الحكيم عامر حذراً كعبد الناصر ولا فواراً كصلاح سالم ولا غامضاً كزكريا محيي الدين ولا ماكراً كالسادات"

كان عامر ببساطة صورة من العمدة الذي يحرص على أن يكون محبوباً وذا شعبية وأنصار، بفضل بساطته وشهامته..وسخائه

وفي كتابه "حياة المشير محمد عبد الحكيم عامر" ينقلُ رشاد كامل عن عضو تنظيم الضباط الأحرار لطفي واكد حكاية لها دلالتها، إذ يقول: "في أحد الأيام من عام 1954، بعد حادث الاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية، واعتقال الإخوان المسلمين، وكان لي رفاق سلاحٍ منهم في المقاومة ضد قوات الاحتلال البريطاني. ذهبت لزيارة مجاملة للمرحوم بيوسف طلعت، وبعد انتهاء الزيارة تعمد قائد السجن الحربي حمزة البسيوني بأن يعطلني حتى طابور التمام كي أشاهد مسرحيةً سمجة حيث يقف الهضيبي في الأمام ووراؤه طابور من مكتب الإرشاد ثم باقي المعتقلين وكل واحد منهم وراؤه سجان في يده عصا، ثم يُذاع من الميكروفون تسجيل لعبد الناصر وهو يتكلم في المنشية، ثم طلقات الرصاص ثم يتوقف الشريط ويذاع صوت أم كلثوم تغني "يا جمال يا مثال الوطنية"، ويجبر الجميع تحت التهديد بالضرب على ترديد الأغنية والهتاف لجمال لعبد الناصر

"شاهدتُ هذه المسرحية السمجة وخرجتُ منقبضاً إلى منزل الرئيس، ورويتُ له ما رأيت فأصيب بالذهول، وقال:
"هل رأيت بنفسك أم سمعت هذه الرواية من أحد؟"
فقلت له: أنا قادم من هناك فوراً"
فقال: "أنا أشعر بالخزي من حدوث هذا الشيء في عهدي"
ثم قال عبد الناصر: العنف يقابَلُ بالعنف لا أعترض، لكن السجين أمانة في عنق الدولة، وإهانة المساجين وتعذيبهم معنوياً شيء لا أقبله أبداً، ويجب نقل حمزة البسيوني فوراً ومحاكمته!
ثم طلب عبد الحكيم عامر عدة مراتٍ ولم يجده ولم يكلمه أمامي، ولكنه في ثورته قال: عبد الحكيم بيتستر على سفاحين!
وفي أثناء جلوسي معه كان يتكلم في التليفون، ودق تليفون آخر فطلب مني الرد، وكانت المتكلمة السيدة أم كلثوم فقال لي: احكِ لها ما رأيته في السجن الحربي..وبعد فترةٍ تكلم صلاح سالم فروى له ما حدث وكرر عبارة "عبد الحكيم بيتستر على سفاحين"، وخرجت من منزله وأنا متأكد من أن دور حمزة البسيوني، وأمثاله قد انتهى، لكنه بقي بعد ذلك 13 عاماً"!

ويعلق لطفي واكد قائلاً:
"وهنا بدأت أكتشف أن عبد الحكيم لم يعد بالضبط ظلاً لعبد الناصر"


وما لم يقله لطفي واكد أن العلاقة والصداقة بين هذين الرجلين زادت وكبرت ولم تهتز آنذاك ولو بشرخٍ واحد

يقول محمود الجيار، مدير مكتب جمال عبدالناصر، إن "المكانة الخاصة لعبد الحكيم عامر في قلب عبد الناصر كانت سبباً في كثيرٍ من المتاعب مع بعض أعضاء مجلس الثورة الآخرين، وأدت إلى تنمية العداوة بينهم وبين عبد الحكيم، وبسببها تفاقمت مشكلات وخلافات لا حصر لها

"وبعض هذه المشكلات والخلافات كان يمكن أن يتجنبها عبد الناصر لو أنه جعل العلاقة بين عبد الحكيم في مستوى علاقته بكمال الدين حسين أو البغدادي، أو زكريا محيي الدين"

تدريجياً، شهدت العلاقة بين الصديقين ناصر وعامر نوعاً من الحساسية، أخذت تزداد على مر الأيام حتى تحولت إلى مواجهة، خصوصاً بعد أن سعى عبد الناصر إلى إعداد جيل من طلبة الكلية الحربية يدين له بالولاء الشخصي، كي يعتمد عليه بعد تخرج هؤلاء الطلبة. أوكل عبد الناصر هذه المهمة إلى الصاغ إبراهيم الطحاوي من الضباط الأحرار الذي شغل موقع السكرتير العام المساعد لهيئة التحرير

بدأ الطحاوي مهمته سراً عام 1955، لكن عمره كان قصيراً إذ يقول صلاح نصر: "استمر تنظيم طلبة الكلية الحربية يعمل في الخفاء، حتى تم اكتشافه عام 1956، وعلم به عبد الحكيم عامر قائد القوات المسلحة، وتفجر الموقف بمجابهة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر"

تجاوز الرجلان بسرعة هذه الأزمة العابرة


ثم جاءت حرب السويس عام 1956 لتصنع شرخاً في العلاقة بين الرجلين

فقد أبدى عبد الناصر ملاحظاتٍ قاسية ومؤلمة بشأن الأداء العسكري للقوات المسلحة برئاسة المشير عامر
يقول صلاح نصر في الجزء الأول من مذكراته الذي يحمل عنوان "الصعود": "..وبعد أن بدا ل"عبد الناصر" أن اشتراك فرنسا وانجلترا في الحرب أمرٌ مؤكد..برز التساؤل: هل نستمر في الحرب مهما كانت التضحيات، أم نجنب البلاد ويلاتِ الحرب بالاستسلام وبدء عمليات المقاومة الشعبية؟


"كان من رأي عبد الناصر الاستمرار في القتال. وقال: إننا لو لم نقاتل اليوم فلن نقاتل أبداً..لا بد لنا من القتال حتى لو أجبرنا على الانسحاب إلى الوجه القبلي واللجوء إلى حرب العصابات..أما عبد الحكيم عامر فقد ذكَّر عبد الناصر بتحذيره له من مواجهة دولتين كبيرتين، وقال ل"عبد الناصر" إن القوات المسلحة ليست في وضع استعدادٍ لمواجهة غزوٍ كبير، وإن معنى ذلك انتحار القوات المسلحة وتخريب اقتصاد مصر"

وحين أيد صلاح سالم موقف عامر ازداد الموقف سوءاً، إذ انفجر عبد الناصر في وجه صلاح سالم ونعته بالجبن وقال له إنه داعية استسلام، ما أثار حفيظة صلاح سالم. واتهم عبد الناصر صديقه عامر بأنه واقعٌ تحت تأثير صلاح سالم، فرد عليه عامر بالقول: "أنت عارف أن لي شخصيتي المستقلة، ولا يمكن أن يؤثر عليّ صلاح سالم أو غيره"




كان عبد الناصر في حالةٍ أشبه بالهستيريا، لدرجة أنه اقترح على أعضاء مجلس الثورة الانتحار كبديل للاستسلام. وبالفعل كلف عبد الناصر زكريا محيي الدين كي يعد كميةً كافية من عبوات سيانيد البوتاسيوم تكفي أعضاء مجلس الثورة لاستخدامها لو لزم الأمر

ويتابع صلاح نصر حديثه بالقول: "وبدت في الأفق بداية لتدهور العلاقات بين صديقي العمر جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر إذ بدأ جمال يشكو لكل من يقابله من عبد الحكيم عامر قائلاً إن عبد الحكيم عزله عن القيادة العسكرية، وإنه لا يضعه في الصورة عما يجري من أمور الحرب، بالرغم من أنه المسؤول الأول عن حماية البلاد وأمنها"

"والواقع أن هذه الشكوى تجنٍ كبير، ف"عبد الناصر" كان موجوداً دائماً منذ بداية عدوان إسرائيل في القيادة العامة، وهو الذي ابتعد بعد ذلك عن القيادة بعد أن تبين خطورة الموقف"


وكان عامر قد بادر مع هيئة أركانه بإعادة توزيع القوات لتعزيز محور الإسكندرية- القاهرة اعتقاداً أن اتجاه الغزو قادم من هناك، لكنه فوجىء بأن قواتٍ إسرائيلية انطلقت عبر سيناء في اليوم التالي مع إنزال مظلي على خط الدفاع الثالث- مضيق متلا. ارتبك عامر وهو الذي لم يتوقع هجوم إسرائيل على سيناء وإنما على الضفة الغربية


وهكذا قرر الدفع بقوات كبيرة إلى سيناء: أولاً بهدف تدمير اللواء المظلي في متلا..وثانياً بهدف الاشتباك وسط صحن سيناء مع قوات الهجوم الإسرائيلية كانت أيام 29 و 30 و 31 أكتوبر تشرين أول أيام اشتباك بري وجوي شامل بين قوات مصر وإسرائيل

كانت هناك مظلة جوية فرنسية فوق إسرائيل وحماية بحرية فرنسية لسواحل إسرائيل. تكفل هذان العاملان في إفشال أي اختراق جوي أو بحري مصري ذي قيمة لحدود إسرائيل. من هنا سقطت المدمرة إبراهيم - فخر البحرية المصرية- في الأسر أمام ميناء يافا أثناء محاولتها الاقتراب منه تمهيداً لقصفه


لم تستطع القوات المصرية زحزحة لواء شارون المظلي عن ممر متلا ولا الوصول إلى قلب سيناء بحجمٍ كافٍ لإدارة معركة للمواجهة والتصدي


ثم ما إن بدت ملامح بعض من حشد مع نهاية اليوم الثاني للحرب حتى داهم القيادة المصرية خبر الإنذار البريطاني-الفرنسي المشترك مساء 30 أكتوبر تشرين أول عند ذاك المنعطف الخطير للحوادث أصاب الشلل تفكير عامر بدرجة كبيرةكان قرار عبد الناصر في ضوء الإنذار هو انسحاب كامل القوات من سيناء في غضون يوم وتجمعها في منطقة القنال لتقاتل معركة تعويق ضد الإنزال البريطاني – الفرنسي المرتقب فيها


عاند عامر في رفضه هذا الانسحاب وفي تصميمه على الاستمرار في قتال إسرائيل داخل سيناء، مبدداً ساعاتٍ ثمينة كان يمكنها أن تيسر انسحاباً عاجلاً قبل نفاذ موعد الإنذار وبدء القصف الجوي المعادي


فرض عبد الناصر الانسحاب على عامر وهيئة أركانه ولكن بثمنٍ باهظ بعض الشيء، إذ تعرضت الفرقة المدرعة الرابعة - جوهرة العسكرية - إلى قصف جوي مركز وهي تعبر ممر الجفجافة ومن ثم كوبري الفردان عائدة لمنطقة القنالما انتهى إليه الحال هو وحدات مشتتة وممزقة ترتع خسائرها على طرق سيناء، وكذلك طريق الإسماعيلية – القاهرة، بما دفع عبد الناصر يوم 2 نوفمبر تشرين ثانٍ على القول وهو يعاينها في طريقه من القاهرة للإسماعيلية: "لقد هزمني جيشي"


والقاطع أن إدارة عبد الحكيم عامر للمعركة كانت على درجةٍ من الهزال لم تكن خافيةً على أحد من أعضاء مجلس القيادة القديم الذين تجمعوا في مقر القيادة العسكرية بين الفينة والأخرى


ويرى البعض أنه من دلائل سوء قيادة عبد الحكيم هو أنه توفر للطيران المصري مدة 24 ساعة إنذار ليقوم بعملية إخلاء سريعة للقواعد الجوية ناجياً بنفسه إلى السودان والسعودية وأعماق الصعيد... لكن ما حدث هو أنه ربض في قواعده بأمر قيادته – صدقي محمود – المحسوبة على عبد الحكيم عامر، مكشوفاً في العراء وعرضة للتدمير الساحق، وهو فعلاً ما جرى منذ غروب 31 أكتوبر تشرين أول

أسفرت حرب السويس عن شرخ صامت في العلاقة بين "الأخوين" ناصر وعامر سرعان ما تبدى في طلب الأول تبديل القيادات العسكرية الكبيرة، وليس فقط قيادة بور سعيد الفاشلة

انتفض عامر معارضاً وبحزم لهذا الطلب بحجة أن هذه القيادات ما كان في مقدورها أن تؤدي بأفضل في وجه حملة ثلاثية عاتية، وأن الإنصاف يقضي بإعطائها فرصة أخرى لتستوعب السلاح والعقيدة السوفيتية فتتفادى في مواجهات المستقبل أخطاء الماضي

ويقول عضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف البغدادي في مذكراته: "الحقيقة أن مستوى قادة القوات المسلحة جميعاً لم يكن فوق مستوى النقد، بل إنه تقرر في هذه الفترة إخراج صدقي محمود قائد القوات الجوية، ولكن عبد الحكيم عامر قاوم ذلك بحجة اعتماده عليه، وأنه إذا كان قد أخطأ فهو كذلك قد أخطأ معه"

ويؤكد الأمر نفسه عضو مجلس الرئاسة كمال رفعت، إذ يقول: "أراد جمال عبد الناصر إخراج الفريق صدقي محمود قائد القوات الجوية بعد تدمير الطائرات المصرية على أرض المطارات، ولكن عبد الحكيم عامر تشبث به وقاوم فكرة إخراجه

"الواقع أن النصر الذي حققته مصر عام 1956 كان سياسياً وشعبياً أكثر منه عسكرياً، فإن القوات المسلحة لم تؤدِ واجبها كما تقضي الأصول والتقاليد العسكرية"




خضع عبد الناصر لضغط عامر بل ورفعّه لرتبة الفريق عام 1958 رمزاً للتوافق وطي الصفحة. وبالفعل قُسّم مكتب القائد العام إلى قسمين: الأول للشؤون العسكرية على رأسه ضابط قدير هو العميد حافظ إسماعيل، والثاني للشؤون العامة (التأمين السياسي) على رأسه عباس رضوان (بعد خروج صلاح نصر منه إلى المخابرات العامة) ومعه توفيق عبد الفتاح وشمس بدران

يقول السادات في كتابه "البحث عن الذات": "عقب الانفصال قلنا لعبد الناصر: إن عزل عبد الحكيم عامر كان يجب أن يتم سنة 1956، لا في 1961 فقط، لأنه لا يصلح من ناحية العمل العسكري" (ص 307)

إلا أن جمال عبد الناصر داوى جراح خلافاته مع صديقه عبد الحكيم عامر..لتتوالى فصول أخرى أكثر مأساوية في تاريخ مصر

تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (6): العُمدة يقود الجيش





تولى عبد الحكيم عامر منصب مدير مكتب القائد العام اللواء محمد نجيب، في أعقاب نجاح ثورة 23 يوليو 1952، وجاء تعيينه لمتانة علاقته مع محمد نجيب، وليكون عيناً عليه في الوقت نفسه

ولعامٍ كامل استمر عبد الحكيم عامر في منصبه إلى أن قرر مجلس قيادة الثورة إعلان الجمهورية وتعيين محمد نجيب كأول رئيس لها في يونيو حزيران 1953


فقد صدرت جريدة "الأهرام" صباح الخميس 18 يونيو حزيران 1953 وعلى صفحتها الأولى تصريح لجمال عبد الناصر يقول فيه: "الجمهورية آتية ولكن موعد إعلانها لم يتقرر بعد"

غير أن مساء اليوم نفسه قطع الشك باليقين

وفي أعقاب اجتماع مجلس قيادة الثورة، عقد وزير الإرشاد صلاح سالم اجتماعاً مع مندوبي الصحف ووكالات الأنباء، أدلى فيه ببيانٍ قال فيه إنه سيتم في ذلك اليوم إلغاء النظام الملكي وإنهاء حكم أسرة محمد علي وإعلان الجمهورية وتولية اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية. وأضاف قائلاً: "وقد قرر مجلس الثورة تعيين البكباشي جمال عبد الناصر نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخلية، وتعيين قائد الجناح عبد اللطيف البغدادي وزيراً للحربية، والصاغ صلاح سالم وزيراً للإرشاد ووزيراً للدولة لشؤون السودان

"كما تقرر تعيين الصاغ عبد الحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة"

وفي تلك الليلة أذاع محمد نجيب بياناً إلى الشعب أعلن فيه إلغاء النظام الملكي وحكم أسرة محمد علي مع إلغاء الألقاب من أفراد هذه الأسرة، وإعلان الجمهورية بتولي نجيب رئاسة البلاد

وهكذا نجح عبد الناصر في ترفيع صديقه عامر لرتبة اللواء وتعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة خلفا لنجيب. وعلى مضض وافق نجيب على هذه الخطوة بالرغم من عدم اقتناعه بصواب التعيين، وذلك لحرجه أمام صفيه عامـر، ولعدم قدرته – عند تقدير موازين القوى – على رده


ويقول محمد نجيب في مذكراته ("كلمتي للتاريخ"، دار الكتاب النموذجي، القاهرة، 1975): "ثُرتُ في المجلس ثورةً عنيفةً معارضاً ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء دفعةً واحدة، وتعيينه قائداً عاماً لكل القوات المسلحة، مبيناً أن ذلك سوف يخلق نقمةً عامة في الجيش قد تكون صامتةً ومطويةً في الصدر، ولكنها ستكون قابلةً للانفجار في أية لحظة

"قلت لهم – أي لأعضاء مجلس قيادة الثورة- إني اعترضت على تعيين الفريق محمد حيدر رغم أقدميته لأنه كان بعيداً عن صفوف الجيش، وأنا اليوم أعترض على ترقية عبد الحكيم عامر وتعيينه قائداً عاماً للجيش لأنه ليس مهيأً لذلك، ولم ييأس المجلس من الوصول إلى غرضه، تكرر عرض الموضوع أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أرفض وأثور وحدي بلا نصير يقف معي، وهددت بالاستقالة فتأجل الموضوع ثلاثة أسابيع"



ويضيف محمد نجيب قائلاً: "لم أعترض فقط على ترقية عبد الحكيم عامر أربع رتب مرة واحدة مما ليست له سابقة في الجيش المصري، ولكني اعترضت أيضاً على إعلان النظام الجمهوري. لم أعترض لأني ضد النظام الجمهوري ومؤيداً للنظام الملكي، ولكني اعترضتُ لإيماني بأن تحويل نظام البلد السياسي يجب أن ينص عليه في الدستور، وأن يكون ذلك موضع استفتاء شعبي عام

"لم يُغرني ما عرضوه من تعييني رئيساً للجمهورية، وعبد الحكيم عامر "قائداً عاماً للقوات المسلحة"، فقد كنت أوثرُ أن يظل عامر في موقعه مديراً لمكتبي لشؤون القوات المسلحة


"ولاحظتُ أن العلاقة مع أعضاء المجلس في هذه الفترة بدأت تأخذُ طابع المجاملة والاحترام الشديد لي. وأذكرُ قبل ذلك بأسابيع أننا كنا في زيارةٍ لقرية جمال عبد الناصر (بني مُر) وأنه وقف يخطبُ قائلاً كلماتٍ أسجلها هنا للتاريخ وهو يوجهها لي:



"باسم أبناء هذا الإقليم أرحبُ بك من كل قلبي وأعلنُ باسم جميع الفلاحين أننا آمنا بك فقد حررتنا من الفزع والخوف وآمنا بك مصلحاً لمصر ونذيراً لأعدائها"



"سيدي القائد.. باسم الفلاحين أقولُ سر ونحن معك جنودك، فقد حفظنا أول درسٍ لقنتنا إياه وهو أن تحرير مصر وخروج قوات الاحتلال عن بلادنا أمرٌ واجبٌ وأصبحت أملاً في أن نحقق لمصر حريتها على يديك، إن مصر كلها تناصرك للقضاء على قوات الاحتلال"

ويضيف اللواء محمد نجيب قائلاً: "رنت هذه الكلمات في أذني وأنا أجدُ نفسي محاصراً ومُطَالباً بإعلان النظام الجمهوري وتعيين عبد الحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة، وأشهدُ أني قبلتُ تحت ضغطٍ وإلحاحٍ استمر ثلاثة أسابيع بعد أن فكرتُ كثيراً في الاستقالة، وأعترفُ الآن أن هذا كان خطئي الكبير الذي وقعتُ فيه، فقد شعرتُ بعد قليل أنني أصبحتُ في مركزٍ أقل قوة بعد أن تركتُ قيادة الجيش.."





وبدا أن هدف عبد الناصر هو إبعاد كل أعضاء مجلس الثورة – وليس فقط نجيب – عن القوات المسلحة وتسليم كل مقاليدها لعامر ليكون القناة الوحيدة للاتصال بها. لم يكن هناك أجدر من عامر لتأمين القوات المسلحة سياسيا فهو الأقرب والأوثق إلى عبد الناصر وهو الأكثر شعبية بين الضباط وخصوصا متوسطي وصغار الرُتب

ولعل شهادة رئيس تحرير صحيفة "المصري" أحمد أبو الفتح تكتسبُ أهميتها من علاقته القوية بعبد الناصر ومعرفته بما كان يجري في كواليس الثورة في تلك الفترة. يقول أبو القتح: "كما اقترح عبد الناصر أن يتولى عبد الحكيم عامر منصب القائد العام للقوات المسلحة، وقد أثار هذا القرار ضجة داخل مجلس القيادة، إذ إن عبد الحكيم كانت رتبته في الجيش (صاغ)، فكيف يصبحُ قائداً ورئيساً على كل الرتب الأعلى منه. عندئذٍ اقترح عبد الناصر أن تصبح رتبة عبد الحكيم (لواء) وبذلك يستطيع أن يرأس القوات المسلحة


"ولكن هذه كانت خطة عبد الناصر. إذ يصبح هو نائب رئيس الوزراء، وعن طريق هذا المنصب يسلب من محمد نجيب تدريجياً سلطاته ويصبح عبد الحكيم عامر صديقه الصدوق في ذلك الوقت القائد العام للقوات المسلحة، وبهذا يضمن السيطرة على الجيش، وبتعيينه صلاح سالم وجمال سالم وعبد اللطيف بغدادي وزراء يكون قد أرضى المناكفين الذين يثيرون نقاشاً داخل مجلس قيادة الثورة"

في صباح يوم 19 يونيو حزيران 1953، ذهب اللواء أركان حرب عامر القائد العام للقوات المسلحة إلى مكتبه في مقر القيادة بكوبري القبة. وبحسب جريدة "المصري"، فقد كان في استقباله كبار قادة مختلف الأسلحة وضباط الجيش الذين قدموا لتهنئة قائدهم العام بمنصبه الجديد. كما قدم رئيس هيئة أركان حرب الجيش لتهنئته على هذا المنصب


وقالت جريدة "المصري": "والمعروف أن اللواء عبد الحكيم عامر كان عضو مجلس قيادة الثورة المختص بشؤون الجيش، وهو يمثل في الوقت نفسه مركزاً ممتازاً في قلوب إخوانه من مختلف ضباط الجيش..هذا ولما كان بترقيته قد صدر في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، فقد أهدى الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس الجمهورية إلى عبد الحكيم عامر قبعته "الكاب" المُحلاة بالقصب المذهب والشريط الأحمر، والتي يلبسها لواءات الجيش، فضلاً عن علامة رتبة اللواء التي تُوضَع على الكتف، ليستطيع عبد الحكيم عامر لبسها عند حضوره أمس"

يضيف أبو الفتح أنه عندما تعالت أصواتُ معارضة داخل المجلس لتعيين عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة، رد عبد الناصر بالقول: "إننا لا نستطيع أن نترك الجيش دون رقابتنا وإن الخطر سيهددنا جميعاً إذا لم نشرف إشرافاً فعالاً على الجيش، وإنكم تلاحظون أن تذمراً وراء تذمر بدأ يظهر، وإنه لا بد من إحكام الرقابة على الوحدات وأنا لا أستبعد أن يقوم فريق من الجيش ذات ليلةٍ قيلقى علينا القبض ونصبح نحن جميعاً في السجون، والجيش كله يحب عبد الحكيم ولذلك أُصِرُ على تعيينه قائداً عاماً للجيش"


"وقال عبد الحكيم عامر إنه على استعداد للتفرغ لشؤون الجيش وإنه سيعمل على توطيد علاقته بجميع الوحدات ومراقبتها دون حاجةٍ إلى تولي هذا المنصب، ولكن جمال أصر وعاد يهدد بالتخلي عن العمل، وتكاثر الضباط على عبد الحكيم، إذ كانوا قد اقتنعوا بما قاله جمال من ضرورة الإشراف على الجيش ومراقبة حركاته مراقبة دقيقة

"وقف محمد نجيب وحيداً في صفوف المعارضة، ولم يؤيده من أعضاء مجلس قيادة الثورة سوى خالد محيي الدين الذي كان يسعى إلى إعادة الحياة النيابية

وفي 18 يونيو 1953 أصبحت هذه القرارات أمراً واقعاً. وعند إعلان ترقية عبد الحكيم عامر إلى رتبة لواء وتوليه رئاسة القوات المسلحة، قدم قائد سلاح الطيران اللواء حسن محمود استقالته، ورفض كل المساعي لسحبها، وتم تعيين اللواء محمد صدقي محمود مكانه


أما حلمي سلام –الذي كان يُنظرُ إليه على أنه رجل عبد الحكيم عامر في عالم الصحافة كما كان محمد حسنين هيكل رجل عبد الناصر- فيقدم شهادة على قدرٍ من الأهمية بشأن تعيين عامر قائداً عاماً للجيش، إذ يقول:

"عندما رُقي عبد الحكيم عامر في يونيو 1953 من رتبة (الرائد) إلى رتبة (اللواء) وعين قائداً عاماً للقوات المسلحة، تملك كثيرين الظن بأن هذا التعيين لم يتم إلا لأن عبد الحكيم هو أقوى زملائه أعضاء مجلس الثورة بعد عبد الناصر، وأن هذه الترقية إلى هذا المنصب الخطير جداً، والحساس جداً، لم تجئه إلا كإقرار من هؤلاء الزملاء بقوته. وليس هذا الظن الذي تملك كثيرين صحيحاً، فلم يكن عبد الحكيم عامر هو أقوى الرفاق بعد عبد الناصر، وإنما المؤكد أنه – من وجهة نظر عبد الناصر الخاصة، وأيضاً بمقاييسه الخاصة- كان أصلحهم لتولي هذا المنصب الخطير، إذ كان عامر بلا أدنى شك هو أشد الرفاق وفاءً لشخص عبد الناصر، وأكثرهم بعثاً للطمأنينة في نفسه بأن (خطراً ما) من ناحية القوات المسلحة مستحيل أن يأتيه، ما دام بقي على رأسها هذا الصديق الذي عرفه يسري الوفاء بين أضلعه، مسرى الدماء في العروق"






ويضيف حلمي سلام قائلاً: "المسألة إذن وبكل تأكيد كانت مسألة ثقة من جانب عبد الناصر في شخص عامر، ولم تكن مسألة قوة تميز بها عامر على بقية رفاقه، لكن اقتراح عبد الناصر بتعيين (صديق عمره) قائداً عاماً للقوات المسلحة لم يمر في مجلس الثورة بغير اعتراض، فلقد اعترض عليه عبد اللطيف بغدادي الذي شعر بأن عبد الناصر إنما يهدف من وراء تعيين عامر في هذا المنصب الخطير إلى إحكام قبضته الشخصية من خلال صديق عمره على القوات المسلحة، فتصبح من بعد ذلك طوع أمره ورهن إشارته كأداةٍ في (لعبة السياسة) التي كان من رأي البغدادي أنه يتحتم استبقاء القوات المسلحة بعيداً عنها تماماً، ولم يتردد الرجل يومها في أن يقولها لزملائه صريحةً: "إننا إذا سمحنا بأن يتدخل الجيش في السياسة فسوف يفسد الجيش وتفسد السياسة"

"لكن عبد الناصر بقي متمسكاً باقتراحه، وبرر هذا التمسك بقوله: "مستحيل أن أسلم أمر الجيش لشخصٍ يكون غريباً عنا، لأن هذا معناه أننا نسلم رقابنا لهذا الغريب"

"وانتصرت وجهة نظر عبد الناصر، وأصبح رفيق العمر قائداً عاماً للقوات المسلحة، وبذلك اطمأن قلب عبد الناصر إلى أن (رياح الخطر) لن تهب عليه في يومٍ من الأيام

"إن وجود عامر على رأس هذه القوات سوف يشدد من قبضة عبد الناصر الشخصية عليها ويجعلها رهن إشارته وطوع يمينه"


ويروي عضو مجلس قيادة الثورة كمال الدين حسين ما جرى، فيقول: "عرض علينا عبد الناصر في سنة 1953 أن يكون هناك قائدٌ عام للقوات المسلحة، يكون مسؤولاً أمام مجلس الثورة عن جميع الأسلحة، ويتفرغ كلٌ منا إلى ناحيةٍ أخرى من شؤون البلاد، ووافقنا على الاقتراح، وقدم لنا اقتراحه الثاني أن يتولى عبد الحكيم عامر هذه المسؤولية. ورغم أنه لم يكن هو المناسب لهذا المنصب إلا أننا وافقنا بالإجماع، فقد كان عبد الحكيم أقربنا إلى قلب عبد الناصر ومن أجل ذلك اختاره لثقته فيه، ومعارضتنا قد يفسرها تفسيراتٍ شتى نحن في غنى عنها، منها مثلاً أن من سيعارض سيقال، إنه يريد المنصب لنفسه. وكنا جميعاً نعمل دون النظر إلى منصب معين، فوافقنا بالإجماع"

وفي مذكراته ("والآن أتكلم"، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1992) يقول خالد محيي الدين إن محمد نجيب قاوم بشدة مسألة إعلان الجمهورية، خصوصاً أن المشروع الذي قدمه عبد الناصر يقضي بأن يعين شخصٌ آخر قائداً عاماً للقوات المسلحة. وفي المقابل، شعر عبد الناصر بالقلق من الجماهيرية الواسعة التي أخذ محمد نجيب في اكتسابها





ويحكي خالد محيي الدين عن اختيار عبد الحكيم عامر قائداً للجيش، فيقول: "كان اختيار عبد الحكيم عامر قائداً للجيش مثاراً لمعركة صامتة بين الزملاء في مجلس الثورة، فبغدادي اعتبرها مناورة من عبد الناصر لتعزيز نفوذه الشخصي في مواجهتنا جميعاً، فعامر صديقه الحميم، ولا بد أنهما معاً يستقويان ببعضهما البعض ضد الجميع، وربما كان هذا هو ما حدث فعلاً فيما بعد

ويتابع حديثه قائلاً: "كذلك أحدث تعيين عامر حالة من عدم الرضاء بين قادة القوات المسلحة فكيف لضابط أن يقفز من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء دفعةً واحدة ليقودهم جميعاً؟!

"وبدأ الإعراب عن عدم الرضا هذا باستقالة حسن محمود قائد سلاح الطيران الذي أكد لنا جميعاً أنه يحترم عبد الحكيم عامر لكنه يستقيل لأنه يعتبر أن رتبة اللواء رتبة محترمة وأنه لا يجوز التلاعب بالرتب العسكرية، والقفز عبرها بهذه السهولة. وحدثت استقالات مماثلة، وأدى ذلك إلى قلقٍ مضاعف لدى محمد نجيب فقد كان يعتمد في علاقاته بالجيش على هذه القيادات التقليدية، وخاصةً أن غيابها سيتيح ل"جمال" و"عامر" أن يحلا رجالهما محل المستقيلين!"

ويضيف خالد محيي الدين في كلامه عن عامر: "صديق قديم وعزيز أيضاً، ولعل الخطأ الأول في حق عامر هو أنه عُين قائداً للجيش، لقد فعلها عبدالناصر لأنهما كانا صديقين حميمين، فأراد أن يضمن به (أي بعامر) ولاء القوات المسلحة، لكن عامر لم يكن رجلاً من هذا النوع، فهو "عُمدة" طيب القلب يحبُ أن يقيم علاقاتٍ حسنة مع الناس، وأن يتباسط معهم، وهو لا يهتم كثيراً بالضبط والربط، فحياته ذاتها لم تكن منظمة، فقد كان يسهر كثيراً ويصحو متأخراً

"لقد ظلموه عندما عينوه قائداً للجيش، فهو شخصٌ "جماهيري" ولو أنه كان قد عُينَ نائباً لرئيس الجمهورية وتفرغ مثلاً لهيئة التحرير لكان قد حقق نجاحاتٍ مبهرة فهو شخصٌ مرحٌ وطيبٌ وقادرٌ على إقامة علاقاتٍ شخصية حميمية، وآخر ما كان يصلح له هو أن يتولى مسؤولية الضبط والربط، وأن يتابع عمليات قيادة القوات المسلحة البالغة التعقيد والحساسية، وأن يتابع معها التسليح وتطور الأسلحة والتدريب وما إلى ذلك

"ولعله لم يهتم بهذا كثيراً، بل غلبت عليه روحه الطيبة وشخصية العنيدة، فكان سخياً على الضباط، وكسب حبهم إلى درجةٍ كبيرة، ولكن النتائج النهائية لم تكن مفيدة لأحد، لا لمصر، ولا للجيش، ولا له هو شخصياً"



أما عضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف البغدادي والذي اعترض في البداية على اقتراح عبد الناصر بشأن تعيين عبد الحكيم عامر قائداً للجيش، فإنه يقول في كتابه ( مذكرات عبد اللطيف بغدادي (جزءان)، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 1977 ): "وكان من نتائج تعيين عبد الحكيم عامر قائداً للجيش أن أبعد باقي أعضاء المجلس عن وحداتهم العسكرية تدريجياً بحجة أن نترك حرية العمل لعبد الحكيم عامر حتى لا نتسبب في سوء تفاهمٍ بيننا لو استمرت علاقتنا بزملائنا الضباط، وعمل على إبعاد زملائنا عنا بواسطة ضباط مكتب عبد الحكيم، وكان ذلك يجري بتهديدهم أو بحجة ابتعادهم عن حتى لا يُضاروا. وكان يعمل في الوقت نفسه على تقربهم من عبد الحكيم بخدماتٍ تُقدم إليهم حتى أصبح لا هم للكثير من الضباط إلا التقرب من عبد الحكيم وجمال عبد الناصر، أو إلى من هم قريبين منهما طمعاً في منصب أفضل أو خدمة تؤدي لهم. وأصبح الجيش بذلك مع مرور الوقت أداة في يد جمال وعبد الحكيم، وانعزلنا نحن نهائياً عنه، ونتج عن هذه السياسة فساد الجيش مما ترتب عليه نتائج وخيمة عسكرية وسياسية"



وبعد عشرة أيام، زار وزير الإرشاد الصاغ صلاح سالم المحلة الكبرى، وخرجت صحيفة "الأهرام" بمانشيتات بينها ما يلي:


"خطاب خطير لوزير الإرشاد في المحلة يشرح فيه أسباب إعلان الجمهورية واشتراك رجال الثورة في الوزارة"
"اللواء عبد الحكيم عامر كان القائد الحقيقي للجيش منذ سنة"


وأخذ صلاح سالم يشرح حكاية ترقية عبد الحكيم عامر، وكان بين ما قاله: "لقد كان محمد نجيب منذ اليوم قائداً عاماً، وكل منكم يشعر أنه يقود هذه الأمة ويشرف على مجلس الوزراء، ومجلس الثورة، ويزوركم في كل منطقة، فلم يكن محمد نجيب يستطيع أن يتفرغ لقيادة الجيش وهو القوة التي تسند هذا العهد، وقد فطنا إلى هذا الوضع منذ اليوم الأول واتفقنا على أن يشرف أحدنا فعلاً على قيادة هذا الجيش، فكان عبد الحكيم عامر يذهب إلى مكتب القائد من اليوم الأول يصدر الأوامر للوحدات، ويشرف على نهضة الجيش وتدريبه وتسليحه. لأن الجيش لا يمكن أن يسير بدون قيادة يوماً واحداً، ولا يمكن لمحمد نجيب الذي يعمل 17 ساعة يومياً أن ينتقل من مكانٍ إلى مكان يؤدي واجبه الشعبي والرسمي، ثم يقود الجيش أيضاً ويسخر وقته لهذا الجيش، وكلنا نشعر أن الجيش يجب أن ينهض لأن الأمة لا تساوي شيئاً بدونه


"يجب أن يكون هناك قائد، وكلنا يعرف أن محمد نجيب لم يستطع أن يترك البلاد ويدير الجيش فكان عبد الحكيم عامر من أول يوم يدير دفة هذا الجيش"


ويتساءل صلاح سالم أمام الجماهير قائلاً: "ومن هو عبد الحكيم عامر؟!"

ويقول صلاح سالم في معرض إجابته على هذا السؤال: "إنه الشاب الذي لا يطمع في مئة جنيه مرتب اللواء، وتحت يده الآلاف والملايين لو أنه خرب الذمة لاستطاع أن يستولي عليها ويأخذها كما كان يفعل اللواءات الذين تعرفون عنهم الكثير


"لقد كان عامر يصدر الأوامر للجيش ويشترك في نهضته فقررنا وضع كل شخص في مكانه حتى نظهر أمام الشعب بالوضع الطبيعي والنهائي فقلنا إن محمد نجيب رئيس هذه الدولة فهو رئيس للجمهورية، كما أننا مفروض فينا أن نتحمل التبعات..وإذا كان عبد الحكيم عامر يقود الجيش فعلاً طوال هذه الفترة، فلا يكون الوضع طبيعياً إذا ما أعلن برتبة الصاغ قائداً للجيش، ويشرف على رتب قائمقام وأميرالاي ولواء، ولو أنه كان يتولى ذلك طوال السنة، إذن يجب أن يأخذ عبد الحكيم عامر الوضع الطبيعي والشكل الرسمي ويحمل هذه الرتبة التي لا تشرفه وإنما يشرفه العمل على رفعة شأن الجيش إلى الوضع الذي ستفخرون به"

ولا شك أن الوضع الذي آل إليه الجيش بعد أربعة عشر عاماً من هذه التصريحات، أي في حرب يونيو حزيران 1967، يكشف بوضوح ما قام به عامر كقائد للمؤسسة العسكرية المصرية

تابع القراءة

gravatar

"هكذا جاء قدري"



14 أكتوبر تشرين أول 2008

قد يبدو يوماً عادياً من أيام تجرها مصر ويجترها المصريون.. لكن تاريخ 14 أكتوبر لم يكن قبل 27 عاماً بالضبط مجرد يومٍ آخر في ذاكرة هذا الوطن

ففي الساعة الثانية عشرة وست عشرة دقيقة من ظهر يوم الأربعاء الموافق الرابع عشر من أكتوبر عام 1981، وبعد استفتاءٍ شعبي خرج بنتيجة تأييد 98.46 بالمئة لاختيار محمد حسني مبارك رئيساً للجمهورية، وقف مبارك وإلى يمينه الرئيس السوداني جعفر نميري، وإلى يساره د. صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب..أخذ مبارك يتلو من ورقةٍ صغيرة اليمين الدستورية لتبدأ قانونياً فترته الرئاسية

استعرض مبارك بعد ذلك أمام مجلس الشعب طبيعة الموقف بعد ثمانية أيامٍ من اغتيال الرئيس أنور السادات في حادث المنصة

فلسفة الرئيس مبارك في الحكم قامت منذ البداية على فكرة أن الحكم قدر، وأنه مطلب شعبي يجعله متمسكاً بالسلطة حتى النفس والنبض الأخير، إذ قال في خطابه أمام الاجتماع المشترك لمجلسي الشعب والشورى في بدء الدورة البرلمانية يوم الأحد الموافق 26 نوفمبر تشرين ثانٍ 2006:
"سأواصل معكم مسيرة العبور إلى المستقبل، متحملاً المسؤولية وأمانتها، ما دام في الصدر قلبٌ ينبض ونفسٌ يتردد، لا أهتز ولا أتزعزع، ولا أفرط في مصالح الوطن"
هو إذاً رئيس مدى الحياة

أو هكذا نفهم كلمات مبارك الذي يُفترض أن تنتهي فترته الرئاسية الخامسة عام 2011

في خطاب تنصيبه رئيساً، قال مبارك الذي أصبح أكبر رئيس مصري جلس على مقعد الحكم وثاني أطول رئيس مصري على مقعد السلطة منذ محمد علي باشا والي مصر:

"إن قرار الشعب بتكليفي بمسؤوليات رئيس الجمهورية ..هو أمر من الشعب ..وقد أقسمت اليمين الدستورية يمين الطاعة لهذا الأمر ..لقد كانت كلمتي للقائد والمعلم والزعيم منذ اللحظة الأولى التي شرفني فيها باختياري نائبا لرئيس الجمهورية ..كانت كلمتي له أنني لن أتولى هذا المنصب إلا مع أنور السادات رئيس الجمهورية ..ويوم أن يقرر الاعتزال بانتهاء المدة الدستورية أو بإرادته فسيكون قراري أيضا هو الاعتزال"
وهذا يعني ببساطة أن الرئيس مبارك الذي تجاوز سن الثمانين، تحدث في خطاب تنصيبه رئيساً عن رغبة السادات في الاعتزال لو أن الله أمد في عمره وبلغ سن الرابعة والستين. إلا أن السادات رحل عن دنيانا وهو في الثالثة والستين من العمر بعد 11 عاماً قضاها في الحكم، مثلما رحل قبله الرئيس جمال عبد الناصر وهو في سن الثانية والخمسين بعد أن قضى في الحكم 16 عاماً

مبارك أبدى في الخطاب الذي نحن بصدده ذلك الارتباط العضوي بين الحاكم ومن يليه في السلطة..نرصد في كلامه مفهوم الرجل رقم واحد، الذي لا يوجد بعده رقم اثنان أو ثلاثة..إذ يتوقف العد عند رقم واحد وحيد: الأول

"لم يدر في خلدي لحظة واحدة ما شاءت به إرادة الله من أن أصير إلى هذا الموقف ..بل إنه عندما صارحني منذ أشهر قليلة بأنه قرر أن يعتزل في العام المقبل بعد أن يطمئن إلى سلامة الأساس الذي أرساه لمسيرة مصر نحو الديمقراطية والرخاء والسلام.. أجبته بكل الإخلاص وصارحته بكل الصدق بأن اعتزاله هو أمر مستحيل ..وسوف يرفض الشعب لأول مرة قراراً يصدره ..وسوف أرفض لأول مرة أمرا يصدر لي بالترشيح لمنصب رئيس الجمهورية"

وفي لحظة وفاءٍ أو تأثرٍ، لم يتمكن من حبس دموعه وهو يقول إنه لم يَدُر بخلده لحظة واحدة ما شاءت به إرادة الله أن يقف هذا الموقف بعد السادات وبالصورة التي جرت بها الأمور
"ولكن هكذا جاء قدري أن أقف أمامكم في هذا المقام في غيبته ..لقد صدر لي الأمر من الشعب ..شعب مصر ..وهنا أستلهم مواقف السادات التي اختار منها قدره ..أو اختارها له القدر ..أستلهم القوة والإرادة من مواقفه ..أعلن أنني بعون الله وبعونكم أواجه قدري في هذه المسؤولية الضخمة الهائلة ..بمبادىء وأخلاقيات القائد والمعلم والزعيم محمد أنور السادات"
ولم ينس مبارك أن يقدم يومها برنامج عمله إلى الأمة، فكانت وعوده براقة مثل الأضواء التي تحيط ببرج الجزيرة ليلاً، إذ قال: "ولعل أهم ما يتعين أن نوفره للعمل الوطني في هذه المرحلة هو ما كان القائد الراحل يسعي لتحقيقه في عهد السلام وهو الجدية والطهارة..فلا هزل ولا جدل ولا تضليل ولا استخفاف بعقول الجماهير..ولا تناقض بين القول والعمل..ولا نفاق ولا رياء ولا فساد واتجار بقوت الشعب..ولا حاكم ولا محكوم..فكلنا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات..لا فضل لأحدنا إلا بالتقوى والعمل الصالح..ولا عصمة لأحد من سيف القانون القاطع الذي لا يفرق بين قوي وضعيف..وبين غني وفقير ..وقريب وبعيد..وأن يشعر كل مواطن بأنه يستطيع الحصول على حقوقه دون وساطة أو شفاعة..ويؤدي ما عليه من واجباتٍ دون ملاحقة أو مطالبة..لأن الجهد القومي العام هو محصلة عمل الأفراد والجماعات بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات"
واليوم: تبخرت الدولة، وعمت الفوضى، وانتشر الفساد، وانطفأت الأنوار بعد أن حُورِبَ القضاة وحُوكِم الصحفيون وغُيبت القوى السياسية، وتوحش كبار رجال المال فأخذوا يبذرون ملايين الدولارات سعياً وراء الثأر العاطفي، وتزوج أصحاب الأعمال من السلطة، وأصبحوا مُشرعين لقوانين معيبة تعد ثمرة التضارب بين مواقعهم في النظام ومصالحهم الخاصة
وهكذا مَنْ عاش في عصر مبارك قُدر له أن يشهد الموت غرقاً في العبَّارات منتهية الصلاحية، وحرقاً في القطارات المنسية وقاعات المسارح المهملة، ودفناً تحت صخور المقطم في الدويقة، أو بسبب أمراضٍ تبدأ من التهاب الكبد الوبائي ولا تنتهي بإنفلونزا الطيور، أو دهساً تحت الأقدام تحت مُسمى "شهداء طابور رغيف العيش"، أو عطشاً بعد أن جفت صنابير المياه وتشققت أراض كان النيل يرويها لسنين، وبات ماؤنا غوراً فخرج الناس بحثاً عن قطرة ماء حتى وإن كانت ملوثة بمياه الصرف
في خطابه يوم تنصيبه رئيساً لمصر، ختم مبارك خطابه بدعاء واضح الملامح والمواقف قال فيه:"ربِ، إني نذرت لك نفسي وكفاحي، فتقبل مني ..إنك أنت السميع العليم"

آمين
تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (5): جيمي.. وروبنسون كروزو


كان اللقاء الأول بين عبد الناصر وعامر في الكلية الحربية عام 1937

وقبل ذلك، انضم عبد الناصر إلى كلية الحقوق ودرس بها لمدة ستة شهور، ثم قرر الالتحاق بالكلية الحربية في 17 مارس آذار 1937.. وكذلك فعل عامر، الذي التحق بكلية الزراعة وظل بها ستة شهور، قبل أن يتركها للالتحاق بالكلية الحربية في أكتوبر تشرين أول 1937..وكان آخر يومٍ لتقديم الطلبات

وفي تحقيقٍ صحفي أجرته إيزيس نظمي في مجلة "آخر ساعة" في 12 مايو آيار 1954 تحت عنوان "مواقف من ليلة 23 يوليو"، يقول عبد الحكيم عامر إنه "نجح في الكشف بطريق الصدفة البحتة"

وطوال فترة الدراسة في الكلية الحربية، كان عبد الناصر مسؤولاً عن عامر

عن بدايات هذه الصداقة، نقرأ تفاصيل مهمة أوردها المؤرخ السويسري جورج فوشيه في كتابه "عبد الناصر وفريقه: بناء الجمهورية العربية المتحدة"

Georges Vaucher, Gamal Abdel Nasser Et Son Equipe, 2 vol.: L'Edification De La Republique Arabe Unie, Paris, Julliard, 1959

يقول فوشيه: "دخل جمال الكلية الحربية لأول مرة في 17 مارس آذار 1937 مع الدفعة الثانية للضباط المستجدين، ومر بما يسمونه فترة الاختبار، وهي فترة لا تتجاوز خمسة أشهر، يُلَقن فيها الطالبُ مبادىء الحياة العسكرية، ويُراقَبُ سلوكه من الناحيتين الأخلاقية والرياضية، وفي نهاية الاختبار هذه أصدرَ مجلسُ الكلية قراراً بصلاحية الطالب جمال للحياة العسكرية وقيد اسمه بالقسم الإعدادي بالكلية ثم بالقسم المتوسط

"وعلى الرغم من التحاقه بالكلية الحربية بعد مرور ثلاثة أشهر على بدء الدراسة فيها، أظهر من الكفاية العسكرية ما أهلَّه لأن يُنقل إلى القسم النهائي، ولأن يصبح "رئيس فريق" وأُسنِدَت إليه منذ أوائل سنة 1938 مهمة تأهيل الطلبة المستجدين


"ومن الطلبة الذين استجدوا عندما كان جمال عبد الناصر رئيس فريق في الكلية، الطالب محمد عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة


"وكان جمال مسؤولاً عن تأهيله عسكرياً مع المستجدين الذين كان مكلفاً بإرشادهم إلى طريقة ارتداء الزي العسكري على الوجه الصحيح، وتحية رؤسائهم والقيام بتدريباتهم العسكرية الأولى"


ويتابع جورج فوشيه قائلاً: "وتوثقت عُرى صداقةٍ حميمة بينهما، وكان الاثنان شغوفين بالمطالعة، وأطلق على عبد الحكيم اسم "روبنسون" لشغفه بقصص الأسفار وبالمغامرات الفذة كمغامرات روبنسون كروزو


"كان عبد الحكيم عامر ورئيس فرقته جمال عبد الناصر من الطلبة المثاليين في الجد والمثابرة، وفي احترام اللوائح والنظم العسكرية، وكانت الحياةُ العسكريةُ تروقُ لهما تماماً


"واشتهر في الكلية باسم "الأومباشي جيمي" وكانت صداقته ل"روبنسون" معروفة، وكنتَ إذا رأيتَ "جيمي" فسرعان ما يظهر روبنسون" والعكس بالعكس، وكانت مكتبة الكلية المكان المفضَل للقائهما"


غير أن الوضع الاجتماعي لعبد الناصر وعائلته - كان والده موظفاً في مصلحة البريد في قرية الخطاطبة، إحدى قرى دلتا مصر- ظل جداراً قائماً بينه وبين آخرين، بمن فيهم عامر الذي ينتمي إلى عائلةٍ من أثرياء المنيا، وكان والده عمدة أسطال يمتلك نحو خمسمئة فدان


في موضعٍ آخر من كتابه، يقول جورج فوشيه: "ظل الطالب جمال عبد الناصر في الكلية الحربية بعيداً عن زملاء دفعته. كان فقيراً ووقف أصله المتواضع حجر عثرةٍ في طريقه، فانكب على مطالعة المؤلفات التي كشفت له عالماً جديداً بالنسبة إليه، عالم العلوم العسكرية، والسياسة الدولية، ولم يجد زميلاً يشاركه أحقاده وحماسته وعاطفته الوطنية إلا عندما أصبح "قائد جماعة" في الكلية وأصبح مسؤولاً عن تأهيل الطالب المستجد عبد الحكيم عامر عسكرياً"

مزيدٌ من الضوء على تلك الفترة يلقيه وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية أنتوني ناتنغ في كتابه "ناصر"
Anthony Nutting, Nasser, London, Constable, 1972


وهذا الكتاب توجد له ترجمة باللغة العربية (أنتوني ناتنغ، ناصر، ترجمة شاكر إبراهيم سعيد، مكتبة الهلال، القاهرة، 1985)


يقول ناتنغ: "وسرعان ما أثبت عبد الناصر إلى جانب سعة اطلاعه وعمق بحثه، أن لديه موهبةً طبيعية للزعامة، وفي نهاية عامه الأول اصبح مسؤولاً عن مجموعة جديدة من المرشحين بينهم عبد الحكيم عامر، وهو شاب طويل نحيل، وكان خاله الفريق محمد حيدر آخر قائد عام للقوات المسلحة قبل ثورة 1952. وعلى الرغم من الفارق الكبير في خلفيتهما الاجتماعية، تطورت الصداقة بين عبد الحكيم عامر وعبد الناصر، تلك الصداقة التي دامت قرابة ثلاثين عاماً"


ومن تعارفٍ في القاهرة إلى صداقة في الإسكندرية، كما يقول الكاتب الصحفي الأمريكي روبرت سانت جون في كتابه "الرئيس: قصة جمال عبد الناصر"
St. John, Robert, The Boss: The Story of Gamal Abdel Nasser, New York, McGraw-HiII, 1960

يقول سانت جون: "وفي الليلة التي وصل فيها جمال عبد الناصر إلى الإسكندرية رحب به ملازم آخر كان نوبتجياً في تلك الليلة ولديه عِلمٌ بوصوله، وأعد له شخصياً حجرةً له وقدم نفسه لجمال برشاقةٍ قائلاً:
"الملازم عبد الحكيم عامر يا سيدي"
"وابتسم جمال..كانت معرفتهما ببعضهما البعض سطحية في الكلية. ذلك أن عامر كان في الفرقة التالية مباشرة لفرقة جمال. وتذكر أن هذا الرجل الشاب الرقيق المتسرع كان يطلق عليه "روبنسون" نظراً لإعجابه بالقصص التي من نوع قصة "روبنسون كروزو"


"ويمتد أصل عامر إلى جذورٍ أعمق من جذور ناصر في تربة الوجه القبلي ذلك لأنه وُلِدَ في قريةٍ في منتصف الطريق بين القاهرة وبني مر..كانا مختلفين في كثيرٍ من النواحي، ومع ذلك أعجبا ببعضهما البعض بشكلٍ غريزي، وفي تلك الليلة بينما كانا يتحدثان بدأت صدقةٌ بينهما"

مكث عبد الحكيم عامر 18 شهراً في الكلية الحربية


ثم أُعلِنت الحرب العالمية الثانية في عام 1939، فتم تخريج الطلبة على عجل، وكان من نصيب عبد الحكيم عامر تعيينه في باتانيا، على مقربةٍ من الإسكندرية


وفي باتانيا كان اللقاء الأول بين عبد الحكيم عامر، وجمال عبد الناصر، الذي قال عنه أنور السادات: "هذا اللقاء لم يكن شيئاً، لم يكن اللقاء الحقيقي بين الصديقين اللذين لم يفترقا بعد ذلك كثيراً في حياتهما"


لكن عبد الحكيم عامر يتحدث عن هذا اللقاء باعتباره نقطة بدايةٍ في تلك الصداقة. ويروي عامر لمجلة "آخر ساعة" ما جرى قائلاً: "كنتُ هناك في باتانيا وذات ليلةٍ وأنا في نوبتي الليلية، مر بنا عبد الناصر وقضى الليلة معنا. وتحادثنا مع بعضنا، وسرعان ما بدا لنا أن أفكارنا ووجهات نظرنا متشابهة وأصبحنا صديقين


"ومضت شهور ونُقِلتُ إلى السودان في يناير عام 1940، وهناك التقيتُ بجمال عبد الناصر ثانيةً، وكنا في أورطة واحدة، وتوطدت أواصر الصداقة بيننا، وسارت أفكارنا في طريقٍ واحد. ولم نكن مرتاحين للظروف والأحوال التي نعملُ فيها، وكنا نتألمُ للمعاملة التي يُعامِلُ بها كبارُ الضباط من هم أدنى منهم في الرتبة من الضباط الآخرين. ولمسنا حاجة الجميع إلى مراعاةِ القيم الإنسانية المقررة لجميع الآدميين وشعرنا بخيبة أملٍ مُرة لما نحن فيه من أوضاعٍ اجتماعية"


ويشير عبد الحكيم إلى واقعةٍ تكررت معه ومنه لاحقاً أكثر من مرة وتكشف جزءاً أصيلاً من شخصيته: الغضب..وقرار الاستقالة


إذ يقول: "ووقع خلاف شديدٌ ذات يومٍ بيني وبين قائد الفرقة في الخرطوم، بسبب بعض الترتيبات الخاصة بزيارةٍ للحاكم العام، وكان المسؤول عن هذه الإجراءات أربعة من الضباط، لم أكن أحدهم ولكن القائد أشركني في المسؤولية من غير مبررٍ لذلك، فقد كان يريد معاقبتي فحسب، ورفضت بعنادٍ قبول ذلك، وحاول إرغامي على الخضوع بكل الوسائل بالنصيحة والوعيد، وبكل ما في وسعه من حيلة!


"وقدمت استقالتي من الجيش، وكان جمال عبد الناصر يرقب هذا الموقف بهدوئه المعروف، وكان شديد الاهتمام بأمر مستقبلي، ووافق على أن لي الحق في رفض العقاب، ولكنه أيضاً كان قلقاً لاستقالتي وامتناعي عن العمل


"ومرت هذه العاصفة من تلقاء نفسها بعد أيامٍ قليلة، ولم يوقَع عليَّ عقاب، ولم يبرد القائد على كتاب استقالتي"



وفي كتابه الذي يحمل عنوان "حياة المشير محمد عبد الحكيم عامر" (دار الخيَّال، القاهرة، 2002) يقول رشاد كامل إن عامر طلب نقله من الخرطوم، وفي عام 1941 نُقِلَ إلى مركز التعليم في منقباد، وبقي هناك لمدة سنة ونصف السنة



ومن الخرطوم انتقل عبد الناصر وعامر إلى جبل الأولياء على النيل الأزرق في اتجاه الجنوب بمسافة خمسة وأربعين كيلومتراً، حيث أقامت مصر سداً كانت تحرسه بقواتها


وينتقل بنا روبرت سانت جون إلى تلك الفترة فيقول: "كان عامر وناصر الضابطين الوحيدين هناك، فكانت لهما حجرتان متجاورتان وكانا يأكلان معاً، ويصيدان الطيور البرية معاً وتشاركا في كتبهما وصحفهما. ونمت الصداقة بين عامر المتسرع الذي لم يكن من الممكن التنبؤ بشيء عنه وناصر الذي كان يتسم بالهدوء بصورة أقوى"


ويؤكد الكاتب الأمريكي أن ناصر وعامر خصا كثيراً من وقتهما في التحدث عن مستقبل مصر، واقترح عامر ضرورة محاولتهما التأثير على هذا المستقبل بالعمل بطريقةٍ ما داخل نطاق الجيش


"وحذر عامر ناصر بقوله: "ولكن فلنتذكر أننا لسنا سياسيين"!
فرد عليه وقال: "وأنا لستُ متأكداً من أننا نريد ذلك"
وقال عامر: ولكن إذا استطعنا أن نجعل عدداً كافياً من ضباط الجيش الشبان يفكرون كما نفكر، فقد نخرج من ذلك بشيء"

هذا التقارب الفكري والتنظيمي كان محور اهتمام الكاتب الصحفي الإنجليزي ويلتون واين في كتابه "عبد الناصر..قصة البحث عن الكرامة"
WYNN, WILTON Nasser of Egypt: The Search for Dignity,USA, Arlington, 1959

يقول واين: "ولعل أهم حادثة وقعت له (يقصد جمال عبد الناصر) خلال السنتين اللتين قضاهما في السودان كانت اجتماعه بملازم شابٍ آخر ذي عقليةٍ سياسية يدعى عبد الحكيم عامر الذي أصبح اليوم مشيراً وقائداً عاماً للقوات المسلحة ونائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة. لقد شكلت صداقة عبد الناصر لعبد الحكيم عامر "حجر الزاوية في حركةٍ نُظِمَت ببراعةٍ داخل الجيش المصري عُرِفَت بلجنة الضباط الأحرار"


وشغلت قصة لقاء عامر وناصر صفحاتٍ من كتاب أنور السادات "صفحات مجهولة"، الذي صدر لأول مرة ضمن سلسلة "كتب للجميع" في نوفمبر تشرين ثانٍ 1954، ثم أعيد طبعه تحت عنوان "أسرار الثورة المصرية.. بواعثها الخفية وأسبابها السيكولوجية" ضمن سلسلة "كتاب الهلال" في يوليو تموز 1957

وتحت عنوان "اللقاء الأول بين عبد الناصر وعامر" يقول السادات في كتابه الذي نُشر مسلسلاً في جريدة "الجمهورية": "في خلال الأعوام التي كنا فيها نظهر لنختفي ونختفي لنظهر..كانت عينا جمال الفاحصتين تبحثان عن الرجال والأعوان، ولعل انتصاره الأول في هذا الميدان كان لقاؤه بعبد الحكيم، وبقصة هذا اللقاء يبدأ هذا الطور من أطوار التمهيد للثورة"

ويشير السادات إلى أن اللقاء الحقيقي والتعارف الكامل بين عبد الناصر وعامر بدأ في الخرطوم، موضحاً أن هذا التقارب استغرق بعض الوقت لأنهما كانا نقيضين في كل شيء، إذ يقول:
"كان جمال شيد التحفظ
وكان عبد الحكيم شديد الاندفاع
وكان جمال هادىء الأعصاب دائماً..مهما حدث ومهما رأى..وما أكثر ما كان يرى مما يشقي النفس الأبية
وكان عبد الحكيم سريع الانفعال، سريع الغضب تستفزه الصغيرة والكبيرة على حد سواء"


ونقرأ في كتاب السادات المذكور عن مرحلة تالية من صداقة عبد الناصر وعامر، إذ يقول: "وفي جبل الأولياء زادت الصداقة عمقاً بين الزميلين، واكتمل التفاهم بينهما في كل شيء..كانا يقضيان معاً سهراتهما يلعبان الشطرنج وكان يقضيان معاً أيامهما في رحلات الصيد
"وعندما يذكر أحدهما تلك الأيام وتلك الليالي، لا يكاد يذكر الشطرنج، ولا الصيد بقدر ما يذكر المشاجرات الكبيرة التي تقع بينهما..فليس يسيراً أن تقوم صداقةٌ حقيقية بين هذين الرجلين دون أن يسبقها عددٌ كبيرٌ من المشاجرات، ولم يكن في جبل الأولياء من الضباط سواهما..فكان جمال هو القومندان، وكان عبد الحكيم ضابطه الوحيد!

"ولم يكن بدٌ إذا تشاجرا صباحاً أن يصطلحا في المساء..وإذا تشاجرا مساء أن يصطلحا في الصباح، ولكن هذه الفترة قد انتهت بالتفاهم التام بينهما وبالتفكير المتصل الموحد في حالة الجيش، فقد اقتنعا تماماً أن المشكلة ليست مشكلة الكتيبة ولا القومندان ولا الرؤساء الإنجليز ولكنها مشكلة الجيش كله..والبلد كله.."

على المستوى الإنساني، نمت تلك الصداقة أكثر حتى إنهما سكنا لفترةٍ معا في شقةٍ واحدة قبل الزواج


ويروي السفير عبد العزيز جميل في مجلة "صباح الخير" 28 مايو آيار 1983 ذكرياته أيام كان ضابطاً مع عبد الناصر وعامر، فيقول إنه حدث ذات مرة أن دخل مع عبد الناصر وعامر مكتبة ليجد ناصر فيها كتاباً كان يبحث عنه، لكنه فوجىء بأن سعر الكتاب 120 قرشاً في حين أنه لم يكن في جيبه سوى خمسين قرشاً، فإذا بعامر يتسلل خارجاً من المكتبة ليعود إليها بعد قليل طالباً شراء الكتاب بعد أن باع طربوشه "النسر" - وكان من أشهر ماركات الطرابيش- حتى لا يحرم صديقه ناصر من كتاب يريده


وعندما قرر عبد الناصر الزواج من تحية كاظم في عام 1944، كان عامر أول من يعلم بأمر هذا الزواج، وما لبث الأخير أن تزوج بعد ذلك بشهور من زينب عبد الوهاب. وبعد أن نمت العائلتان وزاد عدد أفرادهما، تزوج حسين شقيق عبد الناصر من آمال ابنة عامر، كما أطلق عبد الناصر اسم عبد الحكيم على أحد أبنائه، في حين أطلق عامر اسم عبد الناصر على أكبر أنجاله


وفي حوارٍ صحفي، قال جمال عبد الحكيم عامر: "حتى عام 1967 كانت العلاقة العائلية جيدة جداً، لأن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لم يكونا يفترقان أبداً، فمن الطبيعي أن تلتقي أسرتاهما باستمرار وخصوصاً في إجازة فصل الصيف التي كنا نقضيها في المعمورة حيث كان لكلٍ من أسرتي الرئيس والمشير بيتان متجاوران ومتشابهان أيضاً، وكان الرئيس جمال ووالدي يقضيان معنا إجازات الأسبوع وعندما يذهبان إلى القاهرة في بقية أيام الأسبوع كنا نحن وأسرة عبد الناصر نقضي هذه الأيام وكأننا أسرة واحدة"


ويتعين القول إن كلاً من جمال وعبد الحكيم وخالد محيي الدين بعد العودة من السودان وفي أعقاب أزمة 4 فبراير 1942 جربوا مسار الإخوان المسلمين عبر صلتهم بالضابط الإخواني المتقاعد محمود لبيب الذي وصلهم بالمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا والذي أقرّ لهم عضوية التنظيم السري الخاص في شعبة مستقلة للضباط. كان معهم في ذاك التنظيم عبد المنعم عبد الرؤوف ومعروف الحضري وحسين حمودة وأبو المكارم عبد الحي وصلاح خليفة، وهم من بقوا فيه حتى بعد يوليو 1952، وكذلك كمال الدين حسين وحسين الشافعي وغيرهم ممن أوقف علاقته بالتنظيم عشية حرب فلسطين كما فعل عبد الناصر وصحبه


ثم جاءت حرب فلسطين 1948، التي زادت من عمق الصداقة بين عبد الناصر وعامر


وروى عبد الناصر بالتفصيل ذكرياته عما جرى على أرض فلسطين في كتابه "يوميات عبد الناصر عن حرب فلسطين" الذي نُشِرَ مسلسلاً على صفحات مجلة "آخر ساعة" شتاء 1955، وتولى إعداد اليوميات وكتابتها رئيس تحرير "آخر ساعة" آنذاك محمد حسنين هيكل


وبعد الهزيمة في حرب فلسطين، شعر عبد الناصر ورفاقه أن الثورة أصبحت ضرورة ملحة. ويروي عبد الناصر كيف أن قائد قوات الفدائيين في حرب فلسطين المقدم أحمد عبد العزيز همس له في أذنه قبل أن يموت قائلاً:
"جمال. المعركة الحقيقية ليست هنا، إنها في مصر"

لقد عاد هؤلاء الضباط من حرب فلسطين مهزومين مكلومين يغلي في داخلهم غضبٌ ضد الملك ونظامه أكثر من العدو. بدا رفاق عبد الناصر مصممين على إنشاء تنظيم للضباط يحتفظ باستقلاله عن الأحزاب – ومنها الإخوان – ويجمع كل التنظيمات العديدة المتناثرة في أوساط الضباط، وكلها تشترك في معاداة الاحتلال البريطاني وفي النقمة على سلوك الملك فاروق، شخصاً كان أم حاكماً، خصوصا في حرب فلسطين

في تلك الفترة، بحث عبد الناصر عن حلفاء جدد وأفكار أخرى للمعركة، وهكذا أقام اتصالات مع الحركات الماركسية وبخاصة منظمة "حدتو" بواسطة أصدقائه التقدميين خالد محيي الدين ويوسف صديق. من جهة الوفد كان لناصر صديق عزيز هو أحمد أبو الفتح نقيب الصحفيين وصهر المخلص له ثروت عكاشة


ويقول ثروت عكاشة في كتابه "مذكراتي في السياسة والثقافة" (مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988) والذي أعادت دار الشروق طبعه عام 2000: "بعد عودتنا من حرب فلسطين عينت برئاسة هيئة أركان حرب الجيش، وعين جمال مدرساً بكلية أركان الحرب، وعبيد الحكيم عامر برئاسة سلاح المشاة، وبدأ كلاهما يدعو إلى تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، وانضممت إليهما بصورةٍ تلقائية نظراً للصلات القوية بيننا"


وظهرت اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار التي انتُخِبَ عبد الناصر رئيساً لها


لقد كان عامر أحد الذين وهبوا عبد الناصر كل اهتمامهم وصداقتهم، حتى يمكن القول بأنه ذاب في شخص عبد الناصر حقيقة وواقعاً. وكان عبد الناصر يسند إلى عامر مهمة البحث عن ضباط يصلحون للانضمام إلى خلايا التنظيم السري للضباط الأحرار. ونجح عامر في تلك المهام لارتباطه بصداقاتٍ قوية مع زملاء الكلية الحربية وسلاح المشاة الذي انضم إليه وضباطٍ آخرين في أسلحة أخرى مختلفة، حملوا كل التقدير للصاغ عبد الحكيم عامر، ذلك الصعيدي الشهم المعروف عنه سخاؤه وكرمه، فضلاً عن مشاعره الريفية الصادقة وسلوكه الإنساني دائماً الذي يتسم بالفروسية والود

وفي الجزء الأول من مذكرات صلاح نصر بعنوان "الصعود" (دار الخيَال، القاهرة، 1999) يقول المؤلف: "وللتاريخ فقد كان عبد الناصر هو العقل المدبر للتنظيم بينما كان عبد الحكيم عامر هو الدينامو أو المحرك لنشاطه، وبلا شك كان له الفضل في تجنيد أكبر عدد من الضباط الأحرار"


بل إن عامر وقف وراء تجنيد اللواء محمد نجيب نفسه، وكانت نقطة البداية أثناء حرب فلسطين


يقول محمد نجيب: "ولم أترك يوماً واحداً يمضي دون الاتصال بمن أثق في رجولتهم من الضباط.. أحرضهم على إجادة القتال، واحرضهم في الوقت نفسه، على الاهتمام بما يدور في العاصمة. وكان الصاغ أ. ح. عبد الحكيم عامر قد عين أركان حرب للوائي، وقد وجدت فيه ضابطاً ذكياً دقيقاً..وعندما سمعني أردد هذه الآراء ذهب إلى صديقه البكباشي أ. ح. جمال عبد الناصر وقال له –كما أخبرني فيما بعد- "لقد عثرت في اللواء محمد نجيب على كنزٍ عظيم"

وكان عبد الناصر قد أقنع رفاقه بضرورة اختيار شخصية عسكرية كبيرة تعلن الثورة باسمها حتى تبدو أكثر إقناعاً للجماهير، وعندما بدأ اقتراح الأسماء كان محمد نجيب مرشحاً من عبد الحكيم عامر، فيما رشح الباقون اللواء فؤاد صادق


بدت الاعتبارات التي رجحت اختيار محمد نجيب موضوعية لاعتباراتٍ عدة، لكن الفريق الآخر رأى في اختياره نصراً شخصياً لعبد الحكيم عامر وهزيمة لهم، واعتبروا أن عبد الناصر مال إلى هذا الاختيار مجاملة لصديقه..ثم لم يلبث هذا الإحساس أن تفاقم بعد الثورة

وفي 22 يوليو تموز 1952 كان فاروق على شاطىء الإسكندرية برفقة حاشيته وحكومته كما هي عادته في كل عام، ولكن بعد أكثر من 200 كيلومتر، كانت ساعة الصفر قد حانت بالنسبة للضباط الأحرار

وهكذا ولدت ثورة 23 يوليو
تابع القراءة

gravatar

ثمن الصداقة في حكم مصر (4): الرجل الأول..والأول مكرر




كانوا يطلقون عليه سراً اسم الرجل الأول "مكرر"

ارتبط اسمه برتبته العسكرية: "المشير"، واختارت دائرته المقربة أن تناديه "يا ريس".. لكن نفوذه الأبرز ظل حتى النهاية مستوحى من صفته الأهم: صديق الرئيس

وصداقة الرجل الأول في بلادنا تعني الكثير

كانا معاً في كل مكان: الكلية الحربية في القاهرة عام 1937، السودان عام 1941، حرب فلسطين 1948، إنشاء وتكوين تنظيم الضباط الأحرار الذي قاد ثورة 23 يوليو 1952
مدنٌ وشوارع ومنازل لا تُنسى، التقت فيها مصائر الرجلين الأول و"الأول مكرر"، حتى انتهى الأمر بينهما بموتٍ مأساوي

الفراق بين الصديقين حمل عنواناً لافتاً: الحب..والحرب
وما بين الحب والحرب حرف واحد..وعلاقة من أخطر ما يكون

الحب كان اسمه برلنتي..والحرب كان قناعها حرب السويس 1956 وجوهرها حرب يونيو حزيران 1967
والأكيد أن ما أقامته الصداقة بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر في سنوات، هدمته حرب يونيو 1967 في ساعات
لقد ابتلعت الهزيمة العسكرية كل ما أمامها، وتدحرجت رؤوس على مذبح السلطة..وكانت رأس عبد الحكيم عامر أبرز تلك الرؤوس التي أسقطتها حرب 1967
وتبقى قصة المشير عبد الحكيم عامر مأساةً تستحق أن تُروى، فالصداقة القوية بين عبد الناصر وعامر دفعت الأول
للتراجع في أكثر من مناسبة كلما احتدم الخلاف مع المشير لحرصه على العلاقة الشخصية بينهما، الأمر الذي أعطى عامر حقوقاً يرى كثيرون أنها أكثر مما يستحق

وفي المقابل، يؤمن أنصار المشير عامر بأنه تحول إلى كبش فداء في محرقة ما بعد حرب يونيو 1967، وإنه ليس المسؤول الأول أو الوحيد عن تلك الهزيمة العسكرية لمصر والعرب

كان عامر يقولُ عن نفسه: "أنا لا أفهم في السياسة..أنا أفهم فقط أن الخط المستقيم أقصر مسافةٍ بين نقطتين"
وبالرغم من ذلك، فقد تنقل عامر بين أرفع المناصب السياسية، وقاد المؤسسة العسكرية لكي تكون درعاً للسلطة التنفيذية

وإذا كان عامر قد نجح في أن يصبح السند الأساسي والأمين للنظام طيلة السنوات الأربع عشرة التي قاد خلالها القوات المسلحة، فإن الأكيد بالمقابل هو أن ثمن ذلك كان باهظا على تركيبة النظام وسمعته وأدائه

والشاهد أن عبد الناصر كرر خطأ الملك فاروق، وكأن الجمهورية في مصر تسير على خُطى الملكية..حتى في أخطائها


يقول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل إن المشير عامر لبعض الفترات ونتيجة للظروف كان أحبَ أعضاءِ مجلس قيادة الثورة إلى جمال عبد الناصر. ويرى هيكل أن جزءاً من مأساة 1967 كان نتيجة حب عبد الناصر لعامر، ذلك أن هذا الحب حال دون أن يقتنع عبد الناصر بدرجةٍ كافية بأن عبد الحكيم عامر لا يصلح للقيادة

وبكلماتٍ دالة، يقول هيكل: "إن عبد الحكيم عامر كان نصف فنان ونصف بوهيمي، ولطيفاً جداً، ولكنه عسكرياً توقف عند رتبة الصاغ، أي أنه يستطيع أن يقود كتيبة لكنه لا يستطيع أن يقود جيشاً"

ويأخذ المؤرخون على الملك فاروق عجزه عن اختيار قائد محترف للجيش، إذ استند إلى حيدر باشا، الذي كان موضع ثقته ويدين بالولاء المطلق له، لكنه لم يكن يعرف كثيرا عن الجيش ولا اهتم بتدريبه وتسليحه، كان في الأصل ضابط مطافئ ونجح مدير مكتبه أو سكرتيره صلاح سالم في أن يحجب عنه ما يريد من معلومات ووقائع، وكان أن ظهر ضعف الجيش في حرب ١٩٤٨، والتي سميت النكبة

ويبدو أن عبد الناصر وقع في الخطأ نفسه، فقد أسلم الجيش لموضع ثقته المطلقة المشير عبد الحكيم عامر، الذي توقفت معلوماته وتدريباته العسكرية عند رتبة "رائد" وكان أن ترك الجيش لمدير مكتبه شمس بدران، وكانت النتيجة أن وقعت الهزيمة في ١٩٦٧ وسميت هذه المرة "النكسة"

وفي 17 يوليو تموز 2007 وتحت عنوان "اللواء فؤاد نصار يواصل حواره لـ "المصرى اليوم": (٢-٤) أمريكا شاركت في القتال خلال حرب أكتوبر .. وأسقطت طائرة مصرية" نشرت جريدة "المصري اليوم حديثاً حملَ فيه اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية أثناء حرب أكتوبر ومدير المخابرات العامة الأسبق، المشير عبد الحكيم عامر والرئيس جمال عبد الناصر مسؤولية الهزيمة، مؤكداً أن تعيين عامر الذي كان مجرد رائد رئيساً للأركان رسَّخ عادة مصرية استمرت بعد ذلك وهي تعيين أهل الثقة وليس أهل الخبرة


وبالحرف الواحد قال اللواء نصار عن النكسة: "نعم.. عامر هو المسؤول عنها. كيف يتحول رائد شاب إلى مشير بقرار واحد وليكون قائداً للقوات المسلحة.. عملية الترقية هذه كانت ذات دوافع شخصية كاملة"


لم تصمد الصداقة أمام نيران القصف الخارجي، فتحولت إلى قصف داخلي
الصداقة التي بدأت بالأحضان، انتهت بلعبة لي الذراع
ومن صداقةٍ أذهلت الجميع بقوتها ومتانتها، إلى نهاية غامضةٍ قيل إن سببها سمٌ داخل علبة جوافة


إنها صداقة عُمرٍ ولدت عام 1937 وماتت عام 1967.. 30 سنة هي عمر تلك الصداقة التي جمعت بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير محمد عبد الحكيم عامر

لم يتجاوز فارق السن بينهما عامين، إذ ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918، في حين ولد عبد الحكيم عامر في 11 ديسمبر كانون ثانٍ ١٩١٩.. غير أن شهر سبتمبر أيلول جمع بينهما عند الرحيل، فقد مات عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، فيما فارق عامر الحياة في 14 سبتمبر 1967
كلاهما من أبناء الصعيد، الأول من بني مر، مركز الفتح بمحافظة أسيوط، والثاني من أسطال مركز سمالوط بمحافظة المنيا..لكن القاهرة شهدت لقاءهما الأول والأخير
صداقة ربما تكون ابنة واقع تكامل الشخصيتين: جمال الجاد القارئ والساحر بغموضه.. وعبد الحكيم المرح الدافئ والآسر للقلوب

ويذكر أمين عام رئاسة الجمهورية عبد المجيد فريد أن: "علاقته (أي عبد الناصر) مع المشير عامر علاقة خاصة وتحتاج إلى دراسة، لأنه هو الوحيد الذي كان تتميز علاقته مع الرئيس بحاجة خاصة، وقال لي مرة الرئيس في جلسةٍ من الجلسات: "إحنا أصلاً صعايدة سوا، وطلعنا ضباط سوا ..وأخذنا شقة مع بعض في القاهرة.. وهو اللي علمني السجاير.. ورحنا سوا مع بعض في منقباد وجه قبلي، وعبد الحكيم أنا الوحيد اللي أدخل بيته، وأدخل أسرته حتى لو ما كانش موجود..والعكس عندي بييجي ويدخل عندي وعند أسرتي دون إذني.. الوحيد".. فكانت علاقته مع عبد الحكيم علاقة خاصة جداً"


والثابت أن ما غلب على عامر من شعور طوال نحو ثلاثة عقود من العلاقة مع عبد الناصر - بمدها وجزرها - هو خليطٌ من إعجاب وولاء ومحبة، متراكبة مع بعض من غيرة، ومن سعي حثيث للندية
يقول عضو تنظيم الضباط الأحرار أحمد لطفي واكد: "قبل أن ألتقي بعبد الحكيم عامر لأول مرة في أوائل عام 1951، كان عبد الناصر قد حدثني عنه بكثيرٍ من المحبة والثقة حتى تصورتهما "توأمين"، ولما عرفت عبد الحكيم اكتشفت أن ما بينهما من علاقةٍ يتجاوز الالتقاء الفكري والوطني والسياسي إلى حبٍ أخوي صوفي"
وكان عبد الناصر يقول: "إذا أردت أن أفكر في أي موضوعٍ أو أحل أية معضلة فإنني أتكلم بكل حريةٍ مع عبد الحكيم إلى أن تتبلور أفكاري"

صداقة تشبه اللغز

الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين يقول: "في تقديري أن فك لغز شخصية جمال عبد الناصر الشديدة التميز والتفرد في التاريخ المصري، والعملاق الذي خرج من تراب مصر بعد قرونٍ من الرقاد كفرعون جديد جبار، لا يمكن أن يتم فهمه إلا إذا أمكن فك لغز علاقته بثلاث شخصياتٍ وصداقات كان لها أكبر الأثر في حياته. علاقته ب"عبد الحكيم عامر" الذي سلمه الجيش بكامله، وانشق عليه وصار نداً له دون أي ند منذ الستينيات، ومع ذلك ترك له كل هيلمانه وتأثيره في أهم أحداث حكمه حتى النهاية المُرة
"وعلاقته ب"أنور السادات" الذي كان يبدو أنه يختلفُ عنه، في كل شيء، ومع ذلك فقد اختاره لأن يكون خليفةً له. ولستُ من أنصار النظرية أو النظريات التي تعتبرُ هذا من باب الملابسات غير المقصودة، ولكن أعتقد أنه كان اختياراً مدروساً ومقصوداً، رغم التشهير الذي لا مثيل له الذي قاده السادات بحنكةٍ ومهارةٍ وشراسة ضده بعد وفاته
وعلاقته ب"محمد حسنين هيكل" الصحفي الذي لم يكن من أقرب الناس إليه في أول الثورة، ولكنه صار بعد ذلك أقرب الناس إليه على الإطلاق، فجعله شريكاً في الحكم على أعلى مستوى"

لقد لاحظ عبد الناصر بذكاء أن عامر يجيد مد جسور الصداقة بسرعة آسرة، وعززت ذلك قدرته الفذة على تجنيد أعضاء في تنظيم الضباط الأحرار. كل هذه العوامل البدئية كونت له في نفس ناصر مساحة لم ينافسه فيها أحد. في المقابل، أيقن عامر منذ بدء تقاربه مع ناصر أنه وجد ضالته في عقل هادئ وقماشة قائد يضمه تحت مظلته ويعامله بتكامل لا تفاضل
ويصف وزير الداخلية السابق عباس رضوان علاقة الرئيس والمشير منذ بداية التعارف بينه وبينهما في عام 1949 بأنها "صداقة ليس لها مثيل، ووصلت إلى حد الوفاء النادر الذي لا يشكك فيه أحد بأي شكلٍ من الأشكال، بل الذي يحاول أن يشكك فيه فهو الخاسر"


ويضيف عباس رضوان قائلاً: "قال لي جمال عبد الناصر أكثر من مرة إن الوحيد الذي يمكن أن يتقبل عني الرصاص هو عبد الحكيم عامر ، الوحيد الذي يمكن أن يفديني بروحه هو عبد الحكيم عامر"
ويشير عباس رضوان إلى الخلافات في الرأي التي تزايدت بين الصديقين، قبل أن يقول: "ولكن للأسف أستطيع أن أقول إن هناك أناساً حاولوا بقدر المستطاع أن يزيدوا من سعة هذه الفجوة حتى لوعادت الأمور لوضعها الطبيعي ويترقبوا وينتهزوا فرصة أي خلاف ليزيدوا من اتساعه إلى أن وصلت الأمور إلى ما حدث بين الصديقين"

وفي حديث لمجلة "الوادي" في أغسطس آب 1982 سُئِلَ الفريق أول متقاعد صدقي محمود قائد سلاح الطيران عن الصراع بين عامر وعبد الناصر ، فقال: "هذا الصراع لم ألمسه إطلاقاً رغم صلتي الشديدة بهما وبحكم العمل وبحكم الصداقة، ولكن حدث مرةً أو مرتين خلافٌ بين عبد الناصر والمشير، وأراد المشير أن يستقيل ولكنني تدخلت ومنعته من تقديم استقالته"
وحتى آخر يوم لي في الخدمة كنت أعتبر عبد الناصر والمشير توأمين"
ويضيف صدقي محمود قائلاً: "أذكر أنه في حفل قران حسين عبد الناصر شقيق الرئيس جمال عبد الناصر على ابنة المشير، كنتُ أقف مع الرئيس ثم جاء حسين وسلم علينا ثم قلت لعبد الناصر: لو كان عندي 30 % في القوات الجوية من الضباط الذين في رتبة حسين في كفاءته وأخلاقه لكنت سعيداً جداً، وهذا ليس لأنه شقيق سيادتك
فقال لي عبد الناصر:
فعلاً يا صدقي..حسين هو الهدية الكبيرة التي أقدمها لعبد الحكيم عامر"



ويحكي الفريق أول متقاعد صدقي محمود قصة أخرى عن متانة الصداقة بين عامر وعبد الناصر، فيقول: "في زيارة لنا لموسكو كنت أنا والمشير والمرحوم الفريق أول سليمان عزت (قائد القوات البحرية) دعانا السفير مراد غالب على عشاءٍ خاص جداً في منزله، وكان حاضراً معنا المرحوم علي شفيق (مدير مكتب المشير أيامها وزوج الفنانة مها صبري) ثم تطرق الحديث عن الحب، ثم قال المشير:
ما هي أسمى درجات الحب؟
فقال كلٌ منا إجابته، فقال المشير:
لا..إن أسمى درجات الحب هو حب الصديق للصديق!
فقلت له: تقصد علاقتك بالرئيس جمال عبد الناصر؟
فقال المشير عامر: بالضبط"


واختتم الفريق أول صدقي محمود شهادته بقوله: "لذلك فأنا مندهش لأن يقال إنه كان هناك صراع على القمة بين عبد الناصر والمشير فذلك شيء لم أشعر به مطلقاً"


ويؤكد الفريق عبد المحسن مرتجي إن "عبد الحكيم عامر ده ظل لعبد الناصر"


هذا الظل لم يكن شبيهاً في جوانب عدة من الأصل


وإذا كان عامر شخصية وطنية تؤمن بالقومية العربية وتتسم بالأريحية ونزاهة اليد وتملك القدرة على كسب صداقة وولاء من حوله، فإن هناك من نظر إليه أيضاً على أنه رجل ملذاتٍ، يخلط العام بالخاص، منساق وراء عاطفته أكثر من عقله، يحيط نفسه ببطانة سيئة الخلق والسيرة، وينشغل بالشللية على حساب كفاءة الجيش


وفي حديثه للكاتب الصحفي عبد الله إمام، رسم سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر لشؤون المعلومات ملامح شخصية المشير عامر، إذ قال: "رؤيتي لشخصية المشير عامر إنه كان دمث الخلق، شهماً، لطيف المعشر، ضاحكاً، حبوباً، لا يرفض طلباً لأحد. تلك هي الصورة التي كونتها عن عبد الحكيم عامر خلال ثمانية عشر عاماً كنت إلى جواره ومشاركاً في جميع مهامه بالخارج كمستشارٍ له، ومتصلاً به كل يوم ربما أكثر من مرة، فقد كانت تعليمات الرئيس أن كل ورقةٍ تُعرَض عليه تُرسَل إلى المشير في نفس اللحظة دون استشارة، والقرارات التي تصدر دون أن يكون شريكاً فيها يكون أول من يعرفها
"كان عبد الحكيم هو الوحيد الذي يعرف تحركات الرئيس السرية
"هذه مقدمة ضرورية حتى أوضح ما أطلق عليه اسم علاقة "التوأمة" التي كانت تربطهما، ولم يكن عبد الحكيم يقول إن صوته في جيب عبد الناصر، لأن عبد الناصر لم يكن يحتاج إلى من يضع صوته في جيبه"

ولكن ما الذي حدث بالضبط وأدى إلى إنجاح عملية فصل التوأمين السياميين: ناصر وعامر؟
كيف بدأت هذه الصداقة، وكيف استمرت، وكيف تحطمت، وما هي المطبات التي اعترضتها، والأحداث التي كانت تدور خلف الكواليس، وكيف تحدى عبد الناصر جميع رفاقه أعضاء مجلس الثورة بعامر، وانتصر له، وأيده، وفرضه قائداً للجيش؟

للإجابة على ذلك، ربما يتعين أن نبدأ من داخل أسوار الكلية الحربية
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator