المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

البحث عن وزير (1): لوبي هندسة القاهرة






من حقك أن تتساءل عن اختيار الوزراء: كيف ومن ولماذا؟
هذه التساؤلات تفرضها المفاجآت التي تصيب كثيرين كلما جرى الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة أو تعديل وزاري ما، لأنه في كلتا الحالتين تبرز على السطح أسماء جديدة قد تكون مجهولة بالنسبة إلى الجميع - حتى من يفترض أنهم يتابعون عن كثب التطورات المختلفة- أو قد تكون تلك الأسماء مثار جدل أو محل تحفظ لسببٍ أو لآخر
ولأن من حقنا أن نعرف إجابة شافية عن مثل هذه التساؤلات، فإن مصدرنا الوحيد في الإجابة حتى الآن، في ظل تراجع دور المواطن المصري في عملية صنع القرار -أو ضعف دوره لكي لا يغضب أحد- هو استقراء التاريخ ومراجعة الأحداث
وعملية البحث عن وزير تخضع لمجموعة من الاعتبارات سواء أكانت شخصية -هل نقول الاستلطاف؟- أو أمنية -التحقق من شخصية المرشح للوزارة من خلال الأجهزة الأمنية المعنية- أو سياسية أو اقتصادية - النشاط الواضح للمرشح، أو إمكان الاستفادة من خبراته في هذا الموقع للحاجة إلى مثل هذه الخبرات- وما إلى ذلك
ولكي نوضح ما نعنيه يمكن أن نشير إلى وقائع ربما تكون مفيدة في الكشف عن كيفية اختيار الوزراء في مصر
ولنبدأ من خط النهاية
ففي أحدث تعديل وزاري، ارتفعت أسهم هندسة القاهرة والمجلس القومي للطفولة والأمومة


وخروجاً على التقاليد التي جرت عند اختيار وزير الري طوال السنوات الماضية، جاء د. أحمد نظيف في 11 مارس آذار 2009 بوزير من خارج الوزارة، وهو د. محمد نصر الدين علام ابن هندسة القاهرة وأستاذ هندسة شبكات الري.. حيث اعتاد العاملون في الوزارة وقياداتها على تعيين وزير من داخل الوزارة وهو ما حدث مع د. عصام راضي ود. عبد الهادي راضي وأخيراً د. محمود أبو زيد
ونصر الدين أستاذ بهندسة القاهرة، التي تخرج فيها نظيف، وتردد أنهما ابنا دفعة واحدة. ومجموعة هندسة القاهرة باتت تشكل أبرز لوبي داخل الحكومة، حيث تضم د. نظيف ود. طارق كامل وزير الاتصالات ود. أحمد درويش وزير التنمية الإدارية ود. هاني هلال وزير التعليم العالي.. وبانضمام الوزير د. محمد نصر الدين علام وصل عدد أعضاء هذا اللوبي إلى 5 بينهم رئيس الوزراء
ويرجع اختيار د. نظيف للوزير الجديد إلى أنه من مجموعة هندسة القاهرة التي يرعاها، إلى جانب أنه متخصص في شبكات الري، وهو ما يناسب المشروع الجديد الذي يسعى رئيس الوزراء إلى تنفيذه وذلك بتحويل الري في أراضي الدلتا إلى الري بالتنقيط، بهدف إضافة 3 ملايين فدان إلى الرقعة الزراعية
ومن المجلس القومي للطفولة والأمومة الذي كانت تشغل منصب أمينه العام، جاءت مشيرة خطاب لتصبح وزيرة للأسرة والسكان في التغيير الوزاري المحدود الذي أتى بوزير الري د. محمد نصر الدين علام
مشيرة خطاب التي يرى البعض أنها تستمد قوتها من قربها من قرينة الرئيس المصري سوزان مبارك، لها حكاية مع الوزارة تعود إلى بضع سنوات. فقد كانت مرشحة لتولي وزارة الدولة للشؤون الخارجية في حكومة د. نظيف الأولى التي تشكلت في يوليو تموز 2004، غير أن وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط طلب بضم اختصاصات وزارة الشؤون الخارجية إلى وزارته، الأمر الذي أدى الى اتخاذ قرار إلغاء الوزارة برمتها. كما بذلت مشيرة خطاب جهوداً مكثفة بهدف ضم شقيقتها د. مديحة خطاب إلى الوزارة وذلك في التعديل الذي أجراه د. نظيف وجاء بحاتم الجبلي وزير الصحة في ديسمبر كانون أول 2005. وقتها استقبل د. نظيف ما يقرب من 8 شخصيات مرشحة لتولي المنصب وكان بينهم د. مديحة، إلا أن الأمر استقر في النهاية على د. الجبلي
ومنذ ذلك الحين بدأت مشيرة في التخطيط للوصول إلى كرسي الوزارة.. وكان كل هدفها هو تحقيق الحلم الذي كان وشيكاً معها ومع شقيقتها مديحة. ونجحت مشيرة في الوصول إلى كرسي الوزارة حتى لو كانت وزارة دولة ووزارة "فك وتركيب"
وقبل ذلك، هبت على الحكومة رياح رجال الأعمال

فعلى سبيل المثال، فإن حكومة د. نظيف الثانية ضمت كلاً من وزير السياحة زهير جرانة الذي يمتلك وأسرته شركة سياحة كبرى ومجموعة من الفنادق، ووزير النقل محمد لطفي منصور وهو وكيل عدة شركات أبرزها "جنرال موتورز" في مصر، ووزير الصحة حاتم الجبلي الذي يمتلك أكبر المستشفيات الاستثمارية في مصر "دار الفؤاد"، ووزير الزراعة أمين أباظة الذي يعد من أبرز مصدري القطن المصري، وظل رئيساً لاتحاد مصدري القطن حتى عام 2005
وفضلاً عن كونهم من رجال الأعمال البارزين، فإنهم أبناء أسر مصرية معروفة، كما أن بعضاً منهم أبناء لوزراء سابقين‏، فمثلاً وزير السياحة زهير جرانة، هو حفيد زهير جرانة باشا الوزير سابقاً في عهد الملك فاروق، ووزير الصحة حاتم الجبلي، هو ابن وزير الزراعة الأسبق مصطفى الجبلي، وأمين أباظة وزير الزراعة‏، هو سليل "الأسرة الأباظية" الشهيرة التي قدمت شخصيات مرموقة في السياسة والفن والأدب وهكذا ضمت حكومة د. نظيف الثانية أبناء ثماني عائلات عريقة، تأتي في مقدمتها عائلات أباظة ومحيي الدين (د. محمود محيي الدين وزير الاستثمار) وغالي (د. يوسف بطرس غالي وزير المالية)

وانضم هؤلاء إلى وزيري الصناعة والتجارة (رشيد محمد رشيد) والإسكان (أحمد المغربي) والذي كان مسؤولاً عن حقيبة السياحة في التشكيل السابق. إذ شغل رشيد قبل دخوله الوزارة منصب المدير المسؤول عن منطقة الشرق الأوسط وآسيا وشمال إفريقيا في شركة يونيليفر العالمية التي تعمل في مجال الصناعات الغذائية والمنظفات
أما المغربي، الرئيس السابق لاتحاد الغرف السياحية، فقد وقع اختيار د. نظيف عليه لشغل منصب وزير السياحة في حكومته الأولى بعد تردد بسبب جنسيته المزدوجة، حيث يحمل الجنسيتين السعودية والمصرية. وفي حكومة د. نظيف الثانية اختير المغربي وزيراً للإسكان

وفي ظل تشابك المصالح وشبكة المصاهرة والقرابة، تبدو الصورة أكثر تعقيداً من مجرد الحديث عن رجال أعمال في مواقع السلطة

نتوقف هنا قليلاً لنشير إلى زواج ابنة رشيد محمد رشيد في عام 2006 من أمين، نجل رجل الأعمال السعودي البارز عاكف المغربي، وهو بالمناسبة شقيق المهندس أحمد المغربي. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المغربي هو ابن خالة محمد لطفي منصور وزير النقل، وأن الأمر لا يقتصر على صلة القرابة، وإنما تجاوزه ليصل إلى الشراكة في الكيان الضخم "المنصور والمغربي"، الذي يجمع سلسلة شركات في مجالات كثيرة

وهكذا تصبح السلطة شركة عائلية بامتياز

ويمكن القول إن اختيار الوزراء في مصر يخضع لعوامل مختلفة ويأتي من مصادر متباينة، فقد اختير وزراء من الرجال الثواني في وزاراتهم، مثلما حدث مع د. طارق كامل وزير الاتصالات والمعلومات في حكومة نظيف. إذ كان د. كامل الأقرب للدكتور نظيف - قبل توليه رئاسة الوزارة- بين مستشاريه، وهو رجل المهام الصعبة، ودائماً ما كان يكلفه د. نظيف حينما كان وزيراً للاتصالات والمعلومات للمشاركة في المؤتمرات والمحافل الدولية نيابة عنه

د. كمال الجنزوري كان مديراً لمعهد التخطيط القومي قبل أن يصبح وزيراً للتخطيط في حكومة فؤاد محيي الدين الأولى. وصفوت الشريف كان رئيساً لاتحاد الإذاعة والتليفزيون قبل أن يصبح وزيراً للإعلام من ١٩٨٣ وحتى ٢٠٠٤، وحسن أبو باشا كان الرجل الأبرز في وزارة الداخلية بعد الوزير الشهير النبوي إسماعيل، فأصبح وزيراً للداخلية
بعد ثلاثة أشهر تكرر الأسلوب نفسه، فاختير الشيخ إبراهيم الدسوقي أقدم وكلاء وزارة الأوقاف ليصبح وزيراً للأوقاف. وفي يوليو تموز 1984 اختير رئيس هيئة البترول عبد الهادي قنديل ليكون وزيراً للبترول، واختير أحمد رشدي للداخلية

كذلك في مارس آذار 1985 أصبح د. سلطان أبو علي - نائب رئيس هيئة الاستثمار والشخص الثاني بروتوكولياً في وزارة الاقتصاد- لحقيبة الاقتصاد، وهو الوزير الذي نال فيما بعد جائزة "الملعقة الخشبية" الدولية التي تمنح لأسوأ وزير اقتصاد في العالم!
وفي سبتمبر أيلول 1985 أصبح منصور حسين نائب وزير التربية والتعليم وزيراً للتربية، وفي 20 مايو أيار 1991 جاء حمدي البنبي وزيراً للبترول، وكان قد تولى قبل الوزارة رئاسة الهيئة المصرية العامة للبترول لمدة ثلاث سنوات. وبشكل عام، فإن عدداً من وزراء البترول في مصر كانوا من أبرز رجالات الوزارة قبل أن تُسنَد إليهم حقيبة البترول. ومن هؤلاء المهندس علي والي، الذي شغل منصب أول رئيس لمجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة للبترول في عام 1968، قبل أن يتم تعيينه وزير دولة لشؤون البترول والثروة المعدنية في مايو أيار 1971

المهندس أحمد عز الدين هلال، شغل منصب رئيس المؤسسة العامة للبترول للتكرير (هيئة البترول حالياً) في 4 أكتوبر تشرين أول 1971، قبل أن يتولى أول وزارة مستقلة للبترول في مصر في أواخر مارس آذار 1973أما الكيميائي عبد الهادي قنديل، فقد تم تعيينه رئيساً لهيئة البترول في أكتوبر تشرين أول 1980 واستمر في الاحتفاظ برئاسته للهيئة بعد أن عين وزيراً للبترول في عام 1984 وحتى مايو أيار 1991
وفي يناير كانون ثانٍ 1996 اختير ظافر البشري - نائب د. الجنزوري- ليصبح وزير الدولة للتخطيط قبل الأخير. وفي نوفمبر تشرين ثانٍ 1997 كان حبيب العادلي تطبيقاً آخر لقاعدة الرجل الثاني، إذ اختير وزيراً للداخلية بعد استبعاد الوزير حسن الألفي. الأمر نفسه تكرر مع د. مختار خطاب الذي اختير ضمن حكومة د. عاطف عبيد في أكتوبر تشرين أول 1999

غير أن كبار التكنوقراط في الوزارات كان لهم نصيبٌ أيضاً في تذوق طعم المنصب الوزاري
وهؤلاء لم يشغلوا موقع الرجل الثاني في الوزارة على وجه التحديد، لكن قطار المنصب الوزاري توقف عند محطتهم. ومن الأسماء التي تضمها تلك القائمة وأوردها د. محمد الجوادي في عدد من كتبه وأبرزها "البنيان الوزاري في مصر (1878-2000)" نجد وزيري الأشغال د. محمود أبوزيد ود. عبد الهادي راضي، ووزير الصحة د. محمد راغب دويدار، والأخير كان يشغل منصب رئيس هيئة التأمين الصحي قبل توليه الوزارة
أما د. عبد الهادي راضي، الذي عمل مديراً فنياً لمكاتب ثلاثة من وزراء الأشغال السابقين هم عبد العظيم أبو العطا وعبد الهادي سماحة وعصام راضي، فقد أبلغته رئاسة الجمهورية بضرورة عدم مغادرة البلاد لمدة خمسة أيام. وأثناء تشكيل د. الجنزوري للحكومة في مطلع يناير كانون ثانٍ 1996 قال للوزير د. راضي: أنت الوحيد الذي لم نختر له بديلاً، بل لم نفكر في بديل لك لثقتنا فيك
وبعد وفاة د. عبد الهادي راضي إثر معاناة طويلة مع المرض، اختير د. محمود أبو زيد ليخلفه في المنصب. ود. أبو زيد واحد من أبرز العلماء على المستوى الدولي في مجال بحوث المياه والسياسات المائية، وكان يشغل قبل دخوله الوزارة منصب رئيس المركز القومي للبحوث المائية، واختاره د. كمال الجنزوري للمنصب في 8 يوليو تموز 1997. وكان من مقومات اختياره دراسة أعدها حول مشروع توشكى الذي تبناه الجنزوري
عنصر المفاجأة هو السمة الأساسية في اختيار الرئيس المصري حسني مبارك لرؤساء الحكومات، وهو ما حدث مثلاً مع د. علي لطفي (1985)، وتجسد في اختيار د. عاطف صدقي (1986) إذ ظل اسمه سراً لا يعلمه أحد حتى لحظة الإعلان عنه رسمياً، وبقي بعيداً حينئذ عن دائرة التوقعات، ثم تكرر الأمر مع د. كمال الجنزوري (1996)، وأخيراً د.عاطف عبيد (1999) أو "البيه عاطف الصغير" كما كان يصوره كاريكاتير كفر الهنادوة في جريدة "أخبار اليوم"، على اعتبار أن د. صدقي هو "البيه عاطف الكبير". وفوجىء كثيرون باختيار وزير الاتصالات والمعلومات د. أحمد نظيف (2004) رئيساً للحكومة، إذ كانت التوقعات تصب في خانة اختيار وزير اقتصادي قبل أن تؤول رئاسة الحكومة إلى رجل تكنولوجيا المعلومات
بعيداً عن المفاجآت، يلجأ مبارك إلى طريقة أخرى لاختيار الوزراء
تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة (18): الفلسطيني التائه






"لو كان آدم سعيداً في الحب لوفر علينا التاريخ"
("لو كان آدم سعيداً"، إميل ميشال سيوران، ترجمة: محمد علي اليوسفي، دار أزمنة، الأردن، 2008)




هذه روايةٌ عن الأمنيات الضائعة، الصدمات التي لا تستأذن، والدهشة المصحوبة بخيبة أمل
وفي رواية "أصل الهوى" (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007) تقدم حزامة حبايب عملاً أدبياً مهماً من حيث تقنيات السرد وأهمية القضايا والموضوعات الحساسة التي يتناولها. وهي تتخذ من الجنس وسيلة أو أداة لتعرية البؤس والتهميش اللذين يعانيهما البشر عموماً والفلسطيني خصوصاً، رابطة ذلك بوضوح بالقدر الفلسطيني في جوانبه المتعددة
تتعقب الرواية مسارات خمسة رجال وخمس هزائم (رمزي عيّاش 64 سنة، كمال القاضي 56 سنة، عمر السرّو 49 سنة، إياد أبو سعد 43 سنة، فراس عيّاش 37 سنة) في علاقاتهم مع المرأة ومع العالم
كلهم فلسطينيون، لا تستقر الأرض تحتهم
في الرواية جنسٌ كثير وعريٌ وفير، غير أنك قد تلحظ أنه يظل في نهاية الأمر جنساً، غاب عنه القلب في معظم الأحيان. إنها رسالة بعلم الوصول مفادها أن نداء الجسد لا يصنع حباً بقدر ما يرسم رغبة. أما الذين وقعوا في الهوى، فإننا نجدهم قد تعثروا وأصابتهم خيبات الأمل حتى أصبحت بينهم وبين متعة الجنس مسافة واضحة. فاديا على سبيل المثال، تزوجت إياد أبو سعد، وأسلمته كثبانها وبواديها، دون اكتراث يذكر، لريحه العاصفة. استفاضت، وأنجبت نسلاً، وأرضعت سنين، لكنها ظلت بكراً، بريئة، لا تتوهج عيناها بالشهوة
في المقابل، أكثر من امرأة في الرواية تشبه حال ليال مع إياد نفسه، إذ إن "شعورها أنها لا تستطيع أن تملكه سوى بالجنس، كما اكتشفت سريعاً، طالما أنها لم تمتلك قلبه" (ص 255)
نموذج أوضح هو عمر وحسنا
"هل تُحبينني؟" سأل حسنا بعد أسبوع من زواجهما مارسا خلاله الجنس في كل الغرف وفوق كل قطع الأثاث، وهي كثيرة، فضحكتْ حسنا لسؤاله، وظلت تضحك حتى انقطع نَفَسُها، ثم تعرّتْ ونطّتْ عليه. في آخر الليل وبعد مبارزةٍ جنسية حامية، استلزمت كل مهارة ومراوغة ومرونة جسدية ممكنة من حسنا، سألها ثانية: "هل تُحبينني؟" فأعطته حسنا، وكانت مستلقية على بطنها عارية، مؤخرتها التي ورّمتها صفعاته العنيفة المتتالية، ثم قوّستها إلى أعلى قليلاً مفرّجة ساقيها وقالت له: "ادخل" (ص 275)

في كل تجربة جنسية تتحدث الرواية بالتفصيل عن الرجل: حيوانه، عضوه، كائنه، طائره، عصفوره
وفي الوقت نفسه، لا تغفل الروائية قاموس جسد المرأة: وردتها، عُشها، مغارتها، ينبوعها، زهرتها، برعمها، ثغرها
إنها أوصاف وأسماء تحاول إغواءك لتقتنع بأن الإنسان خرج إلى الأرض، إلى التاريخ، إلى معرفة الجسد.. أصل كل معرفة، وغاية كل معرفة، ومنتهى كل معرفة
و"أصل الهوى" رواية طرزتها الروائية حزامة حبايب بخيوط متعددة الألوان عن أرواح معذبة وأجساد راغبة. والكتابة عن هذه الأرواح وتلك الأجساد بها قدرٌ من التورط، الاستنزاف، الاقتحام، والركض في متاهة غرف لا تنتهي، كلما شغلت واحدة فكرت بالمجاورة وبعد المجاورة
والنتيجة رواية عن رجال عاشقين، لا يمكن أن تكتبها إلا امرأة عرفتهم وأغرمت بهم وهجست بأحلامهم، واقتربت منهم وبكت لهزائمهم وتعذبّت على أيديهم ("أصل الهوى" كما تتبعته الرواية الجديدة لحزامة حبايب: نص عن رجال خمسة لا تقدر على تطريزه إلا امرأة، إنعام كجه جي، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 14 فبراير 2007). إنها رواية عن الفلسطيني التائه، ومحنة التشرد والاغتراب والبؤس والهجرات التي تقذف باللاجىء الفلسطيني إلى الخليج، وعن المصائر البائسة لهؤلاء الذين لم يبقَ لها إلا حكايات العشق والنساء اللواتي يعشقن غير أزواجهن، والرجال الذين يتزوجون مرات ولا يكتشفون الهوى

إنهم لاجئون هائمون بين الأردن ودمشق والكويت وأبو ظبي، يصوغون في حيواتهم المرتبكة مئات الوقائع الجسدية، عن فراس الذي تعاقبه عشيقته رُبى بحرمانه من التقام الثديين، ومغامرته مع امرأة السيارة التي يجهل اسمها؛ وعلاقة إياد مع ليال وزواجه بفاديا شقيقة الرفيق الثوري ولكن البرجوازي، ابن صاحب مصنع الشوكولاته؛ وعلاقة عمر السرو بهنادي في الجامعة ثم زواجه بـ "حسنا" أرملة شقيقه المتوفى التي كانت تداعبه طفلاً صغيراً فيرى عُريها ويتمنى عند زواجه أن يراها كما كانت في طفولته "بالشلحة السوداء ذات الدانتيل العريض، التي قد تكون مرتفعة حتى ما فوق ركبتيها بقليل، لتكشف عن فخذين متطرفتين في بياضهما" (ص 167)
والثيابُ الداخلية للنساء، تُلقي ظلالاً على أفكار الرجال كأنها السَحَر


هي أيضاً رواية عن نساء يمارسن هواهن في المخيمات البائسة، والشقق المستأجرة جماعياً، في غرف النوم وخلف الأرائك، أمام المرايا وفوق أسطح المنازل، على الهاتف وفوق ورق الرسائل وعبر البريد الإلكتروني ..رواية عن ليال التي تشاغب عشيقها على هاتفه الجوَّال قبل أن تمارس معه الجنس بسادية، ورُبى التي توصلت مع عشيقها إلى أن أفضل وضعية مناسبة لهما أثناء حملها هي أن تنحني بزاوية قائمة وتعطيه ثغرها من الخلف فيأتيها وقوفاً، وحسنا "العاقر" التي تزوجت شقيق زوجها فحبلت، وعن رُقيّة التي أحبت محمود، صبي الفران الذي كان يتناول عجينها قبل الجميع، لكنه لا يخبزه إلا بعد أن يخبز عجين الجميع، فيمتد بقاؤها في الفرن وسط النار وحمى الرغبة
أو ليست المرأة أرحب شيء في الوجود احتواء؟ أو لم تُسم الأنثى "حواء" لأنها تحوي كل شيء وتحتوي كل شيء
وفي الصميم، هي رواية عن الهوية الملتبسة للفلسطيني الذي "لم يحب الأردن، والأردن كذلك لم تحبه، أو لم تحاول" (ص 125)، ومعاناة الفلسطيني الذي "في الكويت كان لا يستطيع أن ينسى للحظة أو لجزء من لحظة أنه فلسطيني" (ص 125)، وعن الفلسطينيين الذين أجبرهم الجيش العراقي على ارتداء الدشاديش في منطقة حوَّلّي الكويتية ثم أرغمهم على أن يهتفوا: "صدام إنت السيف وإحنا ذراعك" (ص 129)
هائمون في مدن تشبه قمراً صغيراً عالقاً بين فكي سمكة قرش
ولكن، من يجرؤ أن يسأل الريحَ: من أين أتيت؟ ولا متى؟



تجدر الإشارة إلى أن الروائية حزامة حبايب وُلِدَت ونشأت في الكويت لأب فلسطيني وأم سورية، وهي تحمل اسماً مولوداً من خطأ لغوي، إذ أرادت أمها أن تسميها حذام، تيمناً بزرقاء اليمامة، لكنهم سجلوه حزام حسب اللفظ الشامي وأضافوا اليه التاء المربوطة. اضطرت حزامة إلى مغادرة مسقط رأسها، بعد حرب تحرير الكويت، إلى الأردن، قبل أن تستقر في الإمارات. استفادت الروائية من محطات تنقلاتها بين البلاد في رسم جغرافيا روايتها. وهي تقول إن تلك التنقلات المكانية التي كان معظمها قسرياً وغير مخطّط له، لعبت دوراً كبيراً في حالة الترحال التي تعيشها شخوص "أصل الهوى"
اشتُهرت حزامة بأنها قاصة متميزة، وكاتبة مقالة رشيقة وجريئة. وبعد أربع مجموعات قصصية هي: "الرجل الذي يتكرر" (1992)؛ و"التفاحات البعيدة" (1994)؛ و"شكل للغياب" (1997)؛ و"ليل أحلى" (2002)، نشرت روايتها الأولى التي تطأ أرضاً جديدة في الرواية العربية

ينقسم العمل الروائي إلى ثلاثة أجزاء، في كل جزء وجه من وجوه الشخصيات الخمس. تقدم في الجزء الأول ما آلت إليه الأمور من أزمات نفسية وجنسية لدى كل من هؤلاء الأشخاص. في الجزء الثاني تعود إلى طفولة كل من هؤلاء الأشخاص وشبابهم، لتختم في الجزء الثالث بما وصلت إليه مصائرهم
وما بين البداية والنهاية، تسترجع الرواية أزمنة تعود إلى نكبة فلسطين عام 1948 ونكسة يونيو 1967 والاجتياح العراقي للكويت في 1990. نغوص في سيرة وبدايات الأبطال الخمسة وصولاً إلى نهايات متباينة، يفقد أثناءها أكبر أعضاء المجموعة سناً حياته، إذ يعود فراس من الأردن بعدما دفن والده رمزي
ثلاثة عناصر تكررت كثيراً في الرواية التي تقع في 306 صفحات: المرآة، الدخان، قناة الجزيرة


رمزي عيّاش، ارتبط عنده الجنس بالمرآة. "لسنوات، ظل يفضل أن يمارس الجنس مع نعمة وقوفاً أمام المرآة. في كل المرات لم يكن يرى وجهها. وفي كل المرات كانت عينه على المرآة يتابع التحام نصفيهما. في بعض المرات، كانت نعمة تفتح فمها، تقول له إن ظهرها تعب من الانحناء أو أن ساقيها قد تتداعيان، وأن عليه أن يفرغ بسرعة، فيطلب منها أن تسكت. فإذا فتحت فمها ثانية كان يضع يده حول فمها، لتتأوه، ليستْ منتشية لزاماً. بعد عشر سنوات، اضطر، تحت إصرار نعمة، إلى شراء غرفة نوم جديدة بمرايا غطّتْ الأبواب الأربعة للخزانة، فتراجعت لديه ممارسة الجنس وقوفاً أمام المرآة، ضمن تراجع الجنس عموماً في علاقتهما، واكتفى بجسدها على السرير، معتماً، مغطى، صامتاً" (ص 200)
المرآة تلعب دوراً عند ليال عشيقة إياد، والمرأة الغامضة التي التقطت فراس ذات ليلة. ليال "كانت تحب جسمها. تقول له إنها كثيراً ما كانت تُستثار من مجرد تأمله في المرآة. في المرآة، كما تقول لا تنظر إلى وجهها، الذي تنسى شكله في أوقاتٍ كثيرة. تنظر فقط إلى جسدها إلى تقاسيم عريها. وتحب أكثر أن تتعرى أمام المرآة" (ص55)
"يذكر مرة حين استأجر غرفة في فندق، مزدحمة بالمرايا. كانت هناك مرايا على الجدران، وعلى الخزانة، وعلى السقف، ومرآة التسريحة. مارست الجنس مع المرآة أكثر مما مارسته معه" ( ص55)
أما المرأة الغامضة فقد تأملها فراس في المصعد من خلال المرايا التي كست جدرانه، وكانت عينه، أينما ولاّها، تقع على انعكاس هيئتها في كل الأسطح. "بدورها، سهّلت له التفرس غير المباشر فيها، فأعطت وجهها للمرايا التي حاصرتها بزاوية مكنته من الإحاطة بملامحها" (ص32)
وحين تعرّت، فإن فراس "من المرايا التي لبستها أبواب خزانة الملابس الأربعة على طولها، استطاع أن يقيس محيط مؤخرتها التي عبّها نظره" (ص 36)
سمر ابنة رمزي عيّاش، كانت في مرحلة المراهقة "ترقص بالشورت أمام المرآة" و"كانت تنظر إلى جسدها في المرآة، وكانت تبرم بوزها إذا تكشفتْ لها تفصيلة فجة هنا أو عيب هناك، وتبحث عن الحركة الراقصة الأنسب لمداراته" (ص 92)
رُقيّة، أم كمال القاضي، كانت تقف أمام مرآة الخزانة لتتفحص قوامها، لكنها "غضبت من مرآتها لأنها لم تُرِها، بعد الولادة، جسدها الذي كان عليه ما قبل الحبل، فعصرت ثدييها بكفيها ليرشق حليبها سطح المرآة" (ص 99). "كانت تأتي مرآتها برغبةٍ فتهبها جسدها عن طيب شهوة، مستطلعةً تضاريسه، التي تفرد أمامه بوفرة، نابشةً مجاهيله غير هيّابة، لاكزةً كائنات كهوفه المظلمة فتوقظها من سباتها الطويل" (ص 101). وقبل ذهابها إلى السوق في الصباح، كانت رُقيّة "تطيل التحقق من هيئتها التي تنتعش في مرآة خزانتها، بالثوب الأسود ذي التطريز الواهي" (ص 101)

أما السجائر فهي عنصر ارتبط بالقلق والتوتر والترقب: "ملأوا فضاء الغرفة الضيق بسُحب دخان سجائرهم، التي أثقلتها أمزجتهم" (ص7)؛ و"غصت منفضة السجائر في السيارة بأعقاب السجائر" (ص31)؛ "رمى السيجارة التي احترقت حتى منتصفها فقط، من النافذة التي سرّبت هواء رطباً" (ص32)؛ "أشعل سيجارة ثانية. راقب سحابة الدخان يتمطّى عريها في الجو. كانت كأنها مستلذة بنفسها، متباهية بجسدها" (ص41)؛ "تغلّف معظمهم برائحة ورق مسودّات الكتابة الخشن وعطنة "الموكيت" الذي ينضح بالتقشف وسحب دخلن سجائر "الجيتان" و"الغلواز" التي استعاضوا بها عن "المالبورو" (ص 45)؛ "ألقى بالسيجارة التي احترقتْ حتى ربعها الأخير على الأرض. توقف بصره عند بقايا اللهب الأحمر الراعش. راقبه يتقلص تدريجياً" (ص 48)؛ "وقف عند مدخل الباب. أشعل سيجارة. من خلال سحابة الدخان التقت عيناه عينيها".."أحرق ما تبقى من سيجارته بنفسٍ واحد طويل، وغادر الشقة مسرعاً" (ص 58)؛ "أشعل سيجارة. سحب نفساً عميقاً وانتظر الشعور الوشيك الذي سيمتطيه" (ص61)؛ "الرجفة التي استوطنت قدميه استجابت لها يده فأفلتت السيجارة. نفض الرماد من على رسائل اليائسين والمحبطين" (ص61)


مدخل الرواية يضم صورة الأصدقاء الخمسة أمام شاشة قناة "الجزيرة"، وهم يجتمعون "في الصالون الذي يرتطمون بتفاصيله الشديدة الازدحام"(ص7). تتسلل الروائية إلى عوالم أبطالها في تلك اللحظة المشحونة بالتوتر
"استسلمت قناة "الجزيرة" للصمت، وإن كان صمتها متحفزاً، ينطوي على غدرٍ مُقبِل جداً. صورُها فقط كانت تتحرك، متنقلةً بين علامتها الذهبية التي تغوص في بحر الشاشة الأزرق وخرائب متجددة لمدينة عربية" (ص7)
"علا الوجوه اهتمام مفاجىء. توجهتْ العيون نحو مذيعة الجزيرة البكماء
"أسفل الشاشة، على اليمين، ظهر إطارٌ أحمر ناري في داخله كلمة "عاجل" (ص8)
تظهر كلمة "عاجل" من دون أن يعرف القارئ ما هو العاجل إلا في نهاية الرواية، وهو الخبر الذي تسمر الأبطال أمام الشاشة في انتظاره: رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات
ربما ترمز تلك اللحظة إلى المصائر الفاجعة لأبطال الرواية، ولجيل كامل من الفلسطينيين رفع راية الأمل ثم عاد ليتبدد مثل غبار الطلع

ولا تخلو الرواية من لحظات ساخرة قد تدفعك إلى الابتسام إذ تقول ختام لزوجها كمال القاضي، تعبيراً عن ازدحام الصالون بأوراقه وحاجياته، إن "البيت ضيق والحمار رفّاس". ولا يحتاج إلى كبير ذكاء ليدرك أنه هو الحمار؛ فأبناؤه يرفسون في غُربة أخرى غير غربته" (ص 14)
ويرتبك عمر السرّو وهو في الطريق إلى البوابة الأمنية في المطار؛ لأنه خشي أن يفتضح جهاز كشف الأمتعة سر "الأشياء" الملفوفة بورق الصحف التي يحملها عائداً من لوس أنجليس إلى مطار أبو ظبي، بناء على طلب صديقه كمال: مُجَسم مصنوع من مادة لدائنية لعضو امرأة، وعضو ذكوري بلاستيكي، وثديان بلاستيكيان يهتزان ويرتجان بالتعبئة الآلية. ارتباكه هذا دفعه إلى التخلص من هذه "الأشياء" في دورة مياه المطار، قبل أن ترصده كاميرا المراقبة ويستجوبه رجال الأمن متسائلين في ارتياب: "لماذا تركت أشياءك في الحمام؟" (ص 184)
أما فراس عيّاش فقد "همّ بأن يرخي السحاب، وكانت الاستثارة المباغتة قد صعدت إلى رأسه، فصفعته على وجهه" (ص29)
نعود إلى كمال، الذي يشعر بالإثارة عبر فيلم جنسي في حضور بائعة أفلام صينية، "استشعر توترها وتيبس جسدها، فخف توتره وانبسط جسده" (ص15)
الصينية بائعة أقراص الأفلام الإباحية المستنسخة التي أثاره فيها شيء واحد: أصابع قدميها؛ "كانت دقيقة ونمنمة، كأصابع طفلة لم تتجلد ولم تتحرشف بعد" (ص17)
"لفت انتباهه أيضاً أن قدميها كأنهما "غير مستخدمتين"، إذ لا أثر لأي خطوط أو شرايين نافرة عليهما. كانتا، في صفائهما، قريبتين إلى أقدام دُمى عرض الملابس النسائية في المحال التجارية. وهو يحب أقدام تلك الدمى التي تقف مائلة أو تلك التي تكون مستلقية على أرضية واجهة العرض" (ص17)
صفحات كثيرة تبدو مملة عن كمال وهو "يعاين" أقراص "دي في دي" إباحية، ويتفرج على أحدها بتفصيل شديد - لعله الجزء الأضعف في الرواية- في حضور البائعة الصينية، قبل أن يهرع إلى الحمام ليفرغ شهوته وسط خيالاته، مستعيناً بقليل من شامبو "بيبي جونسون" الذي تستخدمه زوجته

غير أن متابعة القراءة ستكشف لنا عن أزمة حقيقية في شخصية كمال، ناجمة عن شعورٍ بالبؤس والهامشية
إنه ابن الهزائم التي تقتل المتع
والرجل المشغول في كهولته عادة بتحميل أفلام "رسوم متحركة"، كما يصف أفلام وكليبات البورنو، عبر الإنترنت، عاش في مراهقته تجربة حسية مع الجارة صباح، التي كان يعطيها في الصالون ذي الباب نصف المفتوح دروساً خصوصية في النحو وقواعد اللغة العربية، فيما جسداهما يتعلمان لغة أخرى
"كان يبدأ بإعراب مبتدئها وخبرها، ما تقدم منهما وما تأخر. يضع يده على يدها رافعاً فستانها الطويل إلى الأعلى كاشفاً عن ذراع ذات بياض خام يفور مع الضغط. وإذا تأكد أنها فهمت الدرس الأول، انتقل إلى الأفعال اللازمة والمتعدية، متعدياً على أزرار الفستان، زراً زراً، فيتدفق ثدياها، كرتي ثلج ولهب، تتمطى حلمتاهما فيأمرهما وينصبهما ويجزمهما، ثم يمتد فعله المضارع من صدرها، جامعاً بياضه الذي اندلق على كفيه، منحدراً إلى صفحة بطنها المستوية، مُعليّاً صوته بالشرح الوافي، إلى أن يبلغ حافة سروالها فتنزلق يده على المفعول به والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول لأجله والمفعول المطلق، ولا يتوانى عن تشكيل أحرفها الملساء بحركات الفتحة والضمة والكسرة والسكون، الوثّاب التوّاق، برأس إصبعه المستدفىء بجُملتها الممتعة، والمفيدة. حين ينتهي من شرحه يسألها ما إذا فهمت الدرس، تهز رأسها بنعم واثقة، أقل توتراً عن "النَّعم" في البدايات. لكن الأمر لا يعدم طرح بضعة أسئلة أخرى، لمزيد من الاستيضاح. ثم في الإعادة، في أحايين كثيرة، متعة وإفادة" (ص 110)

والجسدُ المُغوي خطأ املائي، لا يمكن تصويبه إلا بالقُبل

المرأة الغامضة التي بلا اسم ولا كلام، التقطت فراس عيّاش من الطريق في الساعة الثانية صباحاً، فأصيب برهاب من البذخ الهائل والفجائي الذي أحاط به في سيارتها الفارهة
يخوض معها مغامرة جنسية بكثيرٍ من الصمت، في شقة تقوده إليها، إذ تتعرى قبل أن تدفعه نحو الحائط وتنزع عنه ملابسه، "لم تحتج شهوته إلى من يرشدها إلى ثغر وردتها، فالوردة تفتحت بالكامل، وانبسطت بتلاتُها نابضة، مرحبة. التحما. أغمضتْ بتلاتها على شهوته حتى أطبقتْ عليها تماماً. لعبا لعبة اللذة، متفقين على قواعدها دونما تصريح؛ فحين كان يحاول مغادرة مغارتها كانت تُحكم إيصاد بابها، تقبض وردتها على عضوه، فتستبقيه بقوة، تستنزّه دون أن تستهلكه بالكامل. وحين كانت تحاول أن تقذفه خارجاً كان عضوه يتوسل إلى وردتها، مستدفئاً بها، يرجوها أن تغمره بأريجها وعطفها وأن تلبي اشتهاءه لها" (ص38)


والنار لا تأخذها رأفةٌ بعشب يحترق

توسد فراس أثداء كثيرة في لياليه القديمة والجديدة، لكنه احتفظ في ذاكرته بجسد وصال، ابنة عمه حسن، التي تعرف إلى ثدييها في سن السادسة عشرة. رآهما "وهي تمسح حوش بيتهم على أربع، وقد تدلى ثدياها العملاقان من فتحة فستانها الدالعة" (ص 235). في اليوم التالي، كانت مع شقيقاتها تساعدان والدته نعمة في تنظيف أثاث البيت المغلق منذ إجازة الضيف الماضي. خلف كنبة الصالون، داعب ثدييها لأول مرة. "كانا ماردين، مكتنزين باللحم الفوّار. كانت تلك المرة الأولى التي يلمس فيهما ثديين حقيقيين، والمرة الأجمل" (ص 237)
موجتان عاليتان، كان يركبهما، قبل أن يغوص في قاعهما أطول وقت ممكن
في موجتيها مساحة من الغرق، وليس هناك من جهة
أما إياد أبو سعد فإننا أول ما نلقاه في الرواية نجده مستغرقاً في تقليب صفحات مسجاته على هاتفه الجوَّال. كانت صفحات كثيرة، تطنّ بتلاحق، صنع معها وجوهاً كثيرة في وجهه. ما إن تُبرق رسالة، حتى تصله رسالة أخرى. فيبدو أنه فرحان، وقد يبدو أنه غضبان، وقد لا يبدو عليه شيء، ولا يتواصل أحد مع غضبه أو فرحه أو مشاعره الكثيرة المتحوِّلة المتبدِّلة بين برقية وأخرى. في النهاية، ظلت انفعالاته محصورة في المسافة بينه وبين شاشة الموبايل" (ص8)
عشيقته ليال التي تشاغبه على الهاتف المحمول "عبر رسائلها التي تُضمنها كثيراً من مفاجأة، وكثيراً من مشاكسة، وقدراً محتملاً من الاستفزاز" (ص 46)
إنها "لا تعرف أن تتكلم، كما يتكلم البشر المحبون. هكذا قالت له، وهكذا اكتشف بنفسه سريعاً. تقول دائماً ما لا تريده وما لا تعنيه. وحين تحاول أن تفسر وتشرح قصدها الحقيقي، غير ذاك الذي بان أنها قصدته، وتذهب بعيداً في استحضار كل الكلمات التي لا تريدها، والجُمل التي تبدو حتى على سمعها حين تنطقها غريبة وشاذة تماماً"
يتردد في علاقته بها ويردد لنفسه باستمرار قراره المؤجل بأن "غداً سوف أنهي الأمر"..لكن هذا الغد لا يأتي

سيدة الرسائل النصية، تلاحقه بكلمات قليلة تختزل كماً هائلاً من الرغبات والأحاسيس، وتثير في نفسه ما يجعل الدماء تصطخب في عروفه
"وحين طن الموبايل ب"بديّاك"، كانت إثارته قد وقفت على قوائمها الأربع، متنبهةً" (ص48)
"كان يعترف لها دوماً بطاقتها البدنية الهائلة التي تفوق طاقته بما لا يُقارّن. كانت على استعداد لأن تتلوّى وتتأرجح وتئنّ وتتأوه وتقفز وتهتز وتنتفض وترتج فوقه وتحته لساعات، وحتى لدهور، دون أن يصيبها إعياء، أو تخمد حماستها أو تبرد استثارتها" (ص 57)
اعتادا اللقاء في أماكن مختلفة: غرفة في فندق، أو شقة مفروشة، أو شقة استعار مفاتيحها من صديق
وفي لقائهما الأول في شقتها، تختلط مشاعر الرغبة بالرهبة، فالشقة مشتركة بين مجموعة من الفتيات
"فتحت له الباب. كانت تلبس عريها الفضفاض. ذُعر. ابتسمت. طوّقت عنقها بقلائد كثيرة من خرز ملون، قلائد قصيرة وأخرى طويلة، فأطول وأطول. بعضها لامس ثدييها المشرقين وأخرى تدلت تحتهما، وثمة عقد طويل جداً من الخرز الأخضر الفيروزي استقر أسفل بطنها. أشارت له بمرح طفولي تناقض والمرأة المشرعة الجسد، وهو تناقض لم يبدُ شديد الفجاجة، إلى وشم الوردة المنقوش بالحنة السوداء على إليتها اليمنى" ( ص52)
"تسارع نبض ينبوعها. شعر به لسانه، يقذف ماء وناراً. صعد بلسانه إلى أمواج بطنها، فثدييها المزينين بالقلائد الملونة. تفتحت كل منافذ الشهوة لديه على إيقاع كلماتها المُلحّنة. ارتقى لسانه وجهها. استحالت كلماتها غمغمة منكّهة بالآه. ثم فجأة.. فتحت عينيها على آخرهما، وغرزت أسنانها في خده. كان الألم شديداً. خال قطعة من لحمه انتُزعت منه. صرخ" (ص 56)
صفعات متلاحقة، وتمزيق أزرار، وقلائد تنقطع لتنهمر الخرزات على السرير وتتساقط على الأرض..قبل أن يأتيها
وبعد أن أفرغا رغبتهما، "تفحّص خدّه في مرآة الحمام. آثار أسنانها علّمت فيه. كيف سيشرح الأمر لفاديا؟" (ص57)
في الطريق إلى الباب، مرت في خاطره الفكرة التي تمر في خاطره دوماً بعد كل لقاء بينهما: "العلاقة يجب أن تنتهي" (ص57)
لكنها في كل مرة، تبعث نزواته من الرقاد وتؤلف بينها، لتبعث بجسدها تحية دافئة إليه
نأتي إلى عمر السرّو، الذي نلقاه في البداية غارقاً في بريد "مرسال القلوب" وتفسير الأحلام في ركن "ورأيتُ في المنام"، إلى أن تصله رسالة من الماضي البعيد، تقول كلماتها: "حلمتُ بك. اتصل بي. هنادي"
يعود بذاكرته ثمانية وعشرين عاماً إلى الوراء، فيتذكر علاقته بزميلته في الجامعة هنادي، التي كانت تمرر له أثناء المحاضرات رسائل مطوية من موقعها في الصف الخلفي من المدرج إلى حيث يجلس عادة في الصف الثاني أو الثالث. "يشعر بالرسالة، وما يرافقها من همس وهمهمات، تتنقل بين أيدي الزملاء والزميلات، تنزل إليه من علٍ، كمطرٍ منهمر بخفة وحذر" (ص65)
ها هو يمارس الجنس في مكتبه خلسة أثناء محادثاته الهاتفية مع حكي، تلك القارئة التي تشكو له من خياناتها المتكررة مع زوج شقيقتها، فيما هو ينصت إلى التفاصيل وهو في حالٍ من الاستثارة الشديدة
"أطل طائره برأسه من تحت المكتب، وقد خلع انكماشه، متمطّياً بحذر. حشاه في كفّه التي كوّرها فأغلقت عليه تماماً، مستشعراً النبض المتسارع للدماء التي كانت تتجمع فيه" (ص70)
جوعٌ حارٌ يسلخ الذات والنفس، حتى يلعق الجائع بلسانه زوايا المساء
زواج المصلحة، الذي يفرضه والده ووالدته حتى لا يضيع البيت الذي سجله شقيقه باسم "حسنا"، يُغرق عمرو في حياة جنسية تجتاحه اجتياحاً
"دخل جنتها في الليل والنهار. دخلها في النهار مرات وفي الليل مرات ومرات. دخلها على السرير، على المقعد في غرفة النوم، على الطربيزة في الصالون، على طاولة السفرة، على الكنبة في غرفة التليفزيون، على الأرض، وعلى الحائط، دخلها معلَّقين في الهواء. وفي كل مرة، كان كأنه يذوق طعم الجنة لأول مرة" (ص 172)

والعاشقة غالباً ما تكون غاية في الدفء، تذكّركَ بخبز التوست والزبدة ذائبةٌ فيه
امرأةٌ، يقول لك لسانُ حالها: أنا كأسُكَ الفادِحَةُ، اشْرَبْها لِتَفيضَ بي
"مع حسنا، عرف جسده متعته، وعرف كيف يتحكم بهذه المتعة" (ص 173) في حين أنه مع هنادي "..كان يقذف في أي وقت وفي أي مكان، ويضطر أن يقضي ما تبقى من لقائهما المحبط في الاعتذار، ومساعدتها في تنظيف آثار سائله من على السجادة أو الكنبة" (ص 173)
هكذا طوى عمر السرّو صفحة هنادي زمناً طويلاً، ونسيها كما ينسى جندي يُحتضَر حب الوطن وأوسمة الشجاعة

نقطة البداية عند رمزي عيّاش هي موت زوجته، أما نقطة النهاية فتكون موته هو
"ماتت نعمة فجأة. لم تخطره بموعد رحيلها. لم تحذره أو تنذره. لم تكن ثمة إشارات صريحة أو مبطّنة توحي بالنهاية" (ص80)
ماتت نعمة فجأة، بعد أن استرضت ذات مساء، هوسها الدائم بتنظيف وتغيير الملاءات وأغطية الوسائد وبشاكير الحمام "لتستسلم بإرداتها الكاملة مع آذان الغروب لنوبةٍ قلبية، أكد الطبيب أنها أخف بكثير من نوبات سابقة ألّمت بها، وتموت على الكنبة أمام التلفزيون" (ص 80)
لعل القارىء يتوقف طويلاً عند العلاقة الملتبسة بين الأب رمزي والابنة سمر
"في الليل، نامت بقربه. آخر مرة نامت إلى جواره كانت في الثالثة عشرة. مرت خمس سنوات على ليلتهما الأخيرة" (ص 84)
"كانت أول ليلة لها تنام فيها امرأة، بيولوجياً، وأدرك أنها كانت ستكون آخر ليلة، وهو ما أدركته أيضاً نعمة التي ابتهجتْ لمغادرة سمر سريرها الزوجي أخيراً
"كان سعيداً على غير المألوف. بلعتْ نعمة، التي أخلت لهما الفراش برجاءٍ حارٍ منه، غيظها. هي نزوة بعد خمس سنوات من هجره تلك العادة التي لطالما مقتتها علانية. هكذا أقنعتْ نفسها. دفنت سمر رأسها في صدره. داعب شعرها الولادي بكفه. ارتدت البيجامة الزرقاء السماوية المليئة بالدببة العسلية الصغيرة. كالعادة، كانت نصف أزرار الجاكيت على الأقل ليست في عراويها المخصصة لها. أعاد تزريرها لها. وحين ارتطمتْ يده، دون قصد منه، بانحناءات صدرها النائم إلى جواره قرصه حزنٌ خفي. لكنه كان سعيداً تلك الليلة بسمره التي في الثامنة عشرة، وبالولد المشاكس الذي تشاقى في جسدها بعد قصة "الجرسون"، غادرت فراشها وأتته كما كانت تأتيه زمان، في ليالٍ كثيرة، لتنام ملتصقة به" (ص 84)
والحقائقُ الخفية مرعبةٌ مثل ترابٍ بلا بيت
بعد أن تزوجت سمر وأصبحت أماً، أخذ يراها في حلم يشبه الكابوس "رآها عارية ممزقة الجسد، استلقت على الشارع بساقٍ واحدة وذراع واحدة. تدلّت من خاصرتها إحدى كليتيها. مدّت ذراعها الوحيدة نحو ثدييها اللذين استلقيا، كرتين منبعجتين، بعيداً عنها. أوشكتْ يدها أن تلامس أحدهما حين مرت فوقهما سيارة مسرعة، لتهرسهما. بدا سطح صدرها المنزوع الثديين كوجه مفقوء العينين" (ص79)..لكن المسافة بينهما، حالت دون اطمئنانه عليها، فقد كانت تقيم في الشارقة (الإمارات)، وهو يقيم في الزرقاء في الأردن

علاقةٌ أخرى غريبة نجدها بين كمال القاضي، في طفولته، وأمه رقية، إذ "في العصريات الكسول، كان يزحف تحت سريرها، ينتظرها تخرج من الحمام، يقطر الندى من جسدها، بشعرها المبلول ملتصق بظهرها، تنفضه في الهواء فينتثر ماؤه على صفحة المرآة، وقد تغمر وجهه الحار بضع نقاط باردة، تغافله وهو حابس أنفاسه تحت السرير، فيلعقها مُستبرداً، لكنه لا يتحرك، كما لا يتنفس، كي لا يُباغت عريها المفروش في خياله، فينتفض عندئذٍ متبدداً" (ص 105)
"كان يختبىء تحت سرير رُقيّة الزنبركي العريض، مأخوذاً بجسدها المُغطّى بغبار الماء حين تخرج من الحمام دون منشفة تُعانق عريها الفوّاح، يطلع الدخان من كتفيها الساخنتين، كما يشتعل ظهرها، الذي تبدو علامات الفرك بالليفة الخشنة جليّة عليه، باحمرار متوهّج" (ص 101)
وحده النبيذ يقاوم الغرق في الثلج
أما كيف انتهى الأصدقاء، فأربعة منهم في الإمارات، يعملون في الصحافة، في هذا البلد الذي تقيم فيه الروائية حزامة حبايب
"أصل الهوى" رواية تؤكد لك أن قوة الرجل أنه يتحول في حضن أو رحم المرأة إلى وردة

أما نقطة ضعفه فهي أنه لا يعرف أنه سيذبل يوماً في هذا الإناء
تابع القراءة

gravatar

آخر الوزراء المحترمين



بخروج د. محمود أبو زيد وزير الموارد المائية والري من حكومة د. أحمد نظيف، في 11 مارس آذار 2009، فقدت الحكومة المصرية واحداً من آخر وزرائها الذين يحظون بالتقدير والاحترام
وفي اللحظة التي أخلى فيها د. أبو زيد أدراج مكتبه لوزير الري الجديد د. محمد نصر الدين علام، شعر كثيرون من الموطنين بأنهم خسروا عالماً جليلاً ووزيراً يملك القدرة على الحديث باسمهم
سيلٌ من الأسئلة والسيناريوهات بشأن التعديل الوزاري المحدود الذي أطاح د. أبو زيد، بموجب قرار جمهوري أصدره الرئيس المصري حسني مبارك. الأنباء تضاربت حول أسباب إقالة وزير الري، حيث أعلن المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية السفير سليمان عواد أن د. أبو زيد طلب إعفاءه من منصبه لظروف صحية، إلا أن د. أحمد نظيف قال في تصريحات له إن معدلات نصيب الفرد من المياه بدأت في التراجع، وهناك مشروعات طموحة لزيادة الرقعة الزراعية تقوم على تدبير نحو ٩ مليارات متر مكعب من المياه لزراعة نصف مليون فدان، وبالتالي كان يجب ضخ دم جديد
وعلى الرغم من أن الوزير مريض فعلاً، وسافر للخارج أكثر من مرة للعلاج، فإنه لم يطلب الإعفاء، وأغلب الظن أن تصريح الرئاسة جاء لحفظ ماء الوجه والخروج من المأزق الذي لم يكن محسوباً. فقد نفى أبو زيد أن يكون قد قدم استقالته لأسباب صحية، وقال: إن د. نظيف، أبلغه بتغييره، كما أبلغه باختيار د. محمد نصر الدين علام، الأستاذ بهندسة القاهرة، التي تخرج فيها نظيف، مشيراً إلى أنه كان يستعد للسفر إلى تركيا لرئاسة وفد مصر في المنتدى العالمي للمياه يوم ١٥ مارس آذار 2009
فريقٌ من العقلاء رأى أن د. أبو زيد بصفته واحداً من أهم خبراء المياه في العالم، كان حريصاً على ثروة مصر المائية، سواء في المشروعات الإفريقية أو المؤتمرات الإقليمية أو عبر تصديه لتبديد ثروات مصر من الأراضي والمياه لحساب شخصيات وشركات عربية نافذة، أو لـ "حيتان" الطريق الصحراوي من الذين رأوا في الماء ثروة لري ملاعب الغولف أولاً وقبل أي شيء آخر
ويشير آخرون إلى أن أبو زيد وإن كان يتمتع بخبرة أكاديمية واسعة بالإضافة إلى أسلوبه المهذب وأخلاقياته الرفيعة، فإن ما ينقصه هو الحسم والحزم في الإدارة، وهو ما تسبب في فوضى كبيرة داخل الوزارة امتدت إلى جميع قطاعاتها. ويرى هؤلاء أن حالات التعدي الصارخة على النيل وصلت في عهده إلى وضع لم يسبق له مثيل، وأن أبو زيد وقف مكتوف الأيدي عاجزاً عن مواجهة المعتدين، خاصة أن معظمهم كانوا من أصحاب النفوذ من رجال الأعمال وأعضاء البرلمان. وهو ما دفع القيادة السياسية إلى توجيه لوم شديد للوزير بسبب هذه الحالات التي انتشرت من نيل المعادي إلي فرع رشيد من كفر الزيات حتي بسيون ودسوق وصولاً إلى خط الصعيد
ويضيف هذا الفريق أنه خلال الفترة التي قضاها الوزير في منصبه التي تقترب من 12 عاماً ظهرت مشكلات، خاصة في ترعة الحمام ومنطقة الشط بترعة الشيخ زايد بشرق السويس، وتعدى أصحاب النفوذ على آلاف الأفدنة الواقعة علي جانبي ترعة الشيخ زايد. وقد رأت القيادة السياسية في مصر أن التعديات على النيل ومشكلات المياه في سيناء والحمام وغيرهما من المناطق تحتاج إلى وزير أكثر جرأة وقوة
والشاهد أن خلافات نشبت بين أبو زيد وشخصيات رفيعة المستوى في السلطة ساهمت في خروجه، كان أبرزها الخلاف حول السياسات المائية مع دول حوض النيل، وظهر ذلك واضحاً في أكثر من مناسبة
أربعة أسباب إذاً ترددت لتفسير إقالة أبو زيد تتلخص في عدم رضا مؤسسة الرئاسة، وخلافاته مع وزارة الزراعة، وتعسفه مع المستثمرين، وأخيراً ملف حوض النيل ولجوئه إلى بعض القبائل في جنوب السودان ليتمكن من تنفيذ مشروعات المياه هناك
أُبعِدَ أبو زيد في ظروف غامضة، وغادر الوزارة، رافضاً الحديث عن الأسباب الحقيقية لإقالته، ومكتفياً بعبارة وحيدة مُلغزة: "مش وقت الكلام"
غير أن أبو زيد ترك وراءه أحاسيس متدفقة لدى العاملين بمقر وزارة الري، تحولت إلى دموع حين أصر في زيارته الوداعية على ألا يستقل مصعد الوزير، مكتفياً بمصعد الموظفين، وعندما حاول الموظفون تركه لـ"وزيرهم" منفرداً، أصر أبو زيد على أن يستقل المصعد وسطهم، رغم إلحاح الوزير الجديد د. محمد نصر الدين علام على مغادرة أبو زيد في المصعد المخصص للوزير
الدقائق الخمس عشرة، قضاها الوزير أبو زيد في وداع العاملين بديوان الوزارة، ثم جلسة سريعة مع الوزير الجديد، قبل أن يطوي صفحة الوزارة

وأبو زيد زمانه قد يكون آخر العنقود في قائمة الوزراء المحبوبين الذين تركوا مناصبهم لسببٍ أو لآخر
عمرو موسى رحل هو الآخر عن وزارة الخارجية وفي نفوس كثيرين غصة
وإذا كان موسى قد جمع بين النجاح في أداء المهام الموكلة إليه وتمكن من قيادة دفة العمل الدبلوماسي باقتدار، فإن النجاح ليس شرطاً أساسياً – أو بكلمة أدق، ليس الشرط الوحيد- لكي يكون الوزير محبوباً على المستوى الشعبي..فهناك وزراء أو حتى رؤساء حكومات –مثل د. عاطف صدقي رئيس الوزراء سابقاً- أدوا عملهم بكفاءة في حدود المطلوب منهم، لكنهم في النهاية لم ينجحوا في فك شفرة التقدير الشعبي، ولم يصلوا إلى قلوب المواطنين وذاكرتهم
قائمة الوزراء المحبوبين شعبياً تضم إلى جانب أبو زيد وموسى أسماء من عينة أحمد رشدي وزير الداخلية سابقاً ود. أحمد جويلي وزير التجارة والتموين سابقاً والمهندس حسب الله الكفراوي الذي تولى وزارة الإسكان من قبل.. فما الذي يجمع إذاً بين وزارات الري والخارجية والداخلية والتموين والإسكان؟
الإجابة المنطقية تنفي وجود علاقة بين تلك الحقائب الوزارية، ولذا فإن شعبية الوزير ترتبط بعوامل وعناصر أخرى، بينها طبيعة القرارات التي يصدرها والمواقف التي يتخذها والتصريحات التي ترد على لسانه. الأمر قد يتعلق بجانبٍ آخر ليس للوزير نفسه دورٌ فيه، وإنما تتأثر شعبية الوزير صعوداً وهبوطاً بمدى إعجاب أو كراهية المواطنين لشخص الوزير الذي تولى المنصب قبله أو الذي يأتي بعده في المنصب نفسه

وموسى جاء إلى الوزارة في 20 مايو أيار 1991 وفق تعديل وزاري محدود، ليحل محل د. أحمد عصمت عبد المجيد الذي كان نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية في حكومة د. عاطف صدقي الثانية (13 أكتوبر تشرين أول 1987) وذلك بعد اختيار عبد المجيد في مارس آذار 1991 أميناً عاماً لجامعة الدول العربية
ولأن وزير الخارجية في الحالتين انتقل من منصبه الوزاري إلى مقر جامعة الدول العربية لشغل منصب الأمين العام للجامعة، فإننا نلاحظ تكرار السيناريو نفسه، حيث تأخر اختيار وتحديد اسم وزير الخارجية الجديد حتى 20 مايو أيار، فيما واصل موسى أداء مهامه كوزيرٍ للخارجية إلى أن وقع الاختيار على أحمد ماهر لشغل المنصب
مرة أخرى، نقول إن الترتيب له تأثيره على شعبية الوزير، فشخصية موسى التي تميل إلى الحسم والحزم تختلف عن شخصية عبد المجيد التي تميل إلى الدبلوماسية وتتجنب المواجهة الحادة، وهو ما يمكن رصده بوضوح في مذكراته "زمن الانتصار والانكسار"، وفيه أسباب تحفظ عدد من مندوبي الدول الأعضاء في الجامعة على التجديد له في منصبه
شعبية موسى أيام الوزارة جاءت نابعة من تصريحاته التي تصدى فيها بحسم لتصريحات وسياسات إسرائيلية تعرقل مسيرة السلام أو تهدد خصومها بالويل والثبور، سرعة البديهة وحضور الذهن وتكثيف الرد في كلمات ظاهرها الدبلوماسية وباطنها العذاب لإسرائيل، جعلت نجم موسى في ارتفاع، على الأقل بالنسبة للرأي العام داخل مصر الذي رأى فيه حائط صد منيعاً ودرعاً قوية من التصريحات تفند المزاعم والافتراءات الإسرائيلية
التقط موسى إذاً النبض الشعبي وعرف متى ترتفع سخونة التصريحات ومتى تهدأ حدتها، والأهم من ذلك أين تقال تلك التصريحات
ولا بد أن نشير إلى أن ردود موسى على حكاية "الهرولة" في مؤتمر عمان الخاص بالشرق الأوسط، وتفنيده ادعاءات وزير الخارجية الإسرائيلي سابقاً شلومو بن عامي، وكذلك جمله الساخنة عن إعلان دمشق (الذي ضم دول الخليج الست ومصر وسوريا) بأنه "يحتضر" تارة و"يترنح" تارة أخرى..كل ذلك رسم صورة ذهنية معينة لدى الجماهير حول هذا الوزير الذي كان يعرف كيف يرد الصاع صاعين من دون أن ينسى تغليف هذه التصريحات الحادة بغلافٍ دبلوماسي مكتوب عليه: "مع أرق تحياتي"!
صحيحٌ أن تصريحات موسى تبقى تنفيذاً لسياساتٍ قائمة ورؤى ثابتة، لكن الأهم من ذلك أن الأداء الجيد يعتمد على التصرف في النص وإجراء التعديلات اللازمة عليه من دون المس بجوهره أو مضمونه، مع استغلال أي هامش متاحٍ بما تتطلبه الكياسة وتفرضه الفطنة
طول مدة البقاء في الوزارة قد يسهم في زيادة شعبية الوزير، وقد يسحب من رصيده. وفي حالة موسى فإنها صبت في مصلحته، فقد أمضى في منصب وزير الخارجية عشر سنواتٍ بالتمام والكمال، وهو رقم قياسي لوزير خارجية في مصر، خاصةً أنه جاء على مصر وقتٌ لم يكن وزير الخارجية يقضي في منصبه سوى فترةٍ قصيرة، فقد بقي محمد إبراهيم كامل في المنصب أربعة شهور، وقضى د. محمد مراد غالب ثمانية شهور في المنصب، وظل د. محمد حسن الزيات وزيراً للخارجية لمدة 13 شهراً

أحمد رشدي تولى وزارة الداخلية في حكومة د. كمال حسن علي في 16 يوليو تموز 1984 وظل في منصبه حتى قُبِلَت استقالته في 27 فبراير شباط 1986، وهو جاء إلى المنصب بعد حسن أبو باشا وقبل زكي بدر، وربما كان هذا أحد أسباب شعبيته الكبيرة والنادرة أيضاً، حيث إن المصريين ظلوا دائماً في حالة عدم وفاق مع الرجل الذي يمسك دائماً بحقيبة الأمن، اعتقاداً منهم أن داخل هذه الحقيبة هراوة ضخمة كُتِبَ عليها "العصا لمن عصى"، لكن أحمد رشدي الذي لمس كثيرون جديته وانضباطه ونزاهة يد، ورأى العامة كيف أجبر كبار قيادات الأمن على النزول إلى الشارع لتحقيق الانضباط المروري المطلوب ومحاسبة من يخرج على القانون على القانون بغض النظر عن شخصه ونفوذه
أضف إلى ذلك، أنه نجح في القضاء على إمبراطورية تجار المخدرات في حي الباطنية، وقاد جهود تطهير إدارة مكافحة المخدرات بالوزارة وضم عناصر نشطة جديدة إليها يجهلها المهربون، كما أعاد تشكيل وتخطيط أسلوب رقابة المنافذ التي تأتي المخدرات عبرها. وانطلقت قوات الشرطة والمكافحة تغلق الطريق أولاً في وجه الزراعة الداخلية لنبات الخشخاش والتي تركزت في سيناء بشكل أساسي ..ومن ناحية المطارات والمنافذ البرية والبحرية، أدخل أحمد رشدي لأول مرة أسلوب استخدام الكلاب البوليسية المدربة في التفتيش والفحص
تصدى أحمد رشدي بقوة لمؤامرات خارجية لهز أمن واستقرار البلاد، ولعل أبرزها مخطط اغتيال عبد الحميد البكوش رئيس الوزراء الليبي سابقاً، وكان آنذاك لاجئاً سياسياً في مصر. وبناء على خطة خداع مبهرة، أوهمت أجهزة الأمن المصرية عميلي التنظيم اللذين جاءا إلى مصر بأنهما تم تنفيذ المهمة، بل إنهما حصلا من رجلي أمن متخفيين في صورة قاتلين محترفين على صورٍ للبكوش صريعاً وقد سالت منه الدماء
وهكذا أعلنت الصحف عن نجاح عملية الاغتيال وتم نشر صور "الضحية" بالفعل
وفى مؤتمر صحفي وتليفزيوني لوزير الداخلية اللواء أحمد رشدي، احتشد الصحفيون والمراسلون لسماع خبر وأسباب اغتيال البكوش. غير أن الوزير رشدي فاجأ الجميع بابتسامة هادئة، قبل أن يمد يده إلى باب مجاور ويقدم للحاضرين عبد الحميد البكوش سليماً معافى، ليتبين للجميع أن الأمن المصري اعتقل الضالعين في مخطط الاغتيال، وأنه هو الذي أوهمهم بأن الخطة نجحت، قبل أن تتضح الحقيقة
غير أن أحداث أمن المركزي في فبراير شباط 1986 وما صاحبها من تطوراتٍ مؤسفة أدت إلى نزول الجيش إلى الشارع لفرض الأمن، دفعت الرجل الذي يحترم نفسه إلى الاستقالة، فزادت شعبيته وأسهمه في عيون المواطنين، حتى إنه حين خاض انتخابات مجلس الشعب في الدورة التالية لاستقالته لم ينفق من جيبه مليماً واحداً للدعاية الانتخابية، واكتسح منافسيه في دائرة بركة السبع في محافظة المنوفية
والشيء المؤكد أن شعبية أحمد رشدي زادت بعد خروجه من السلطة لظروف استقالته من جهة، ولاختيار زكي بدر خلفاً له في هذا المنصب من جهة أخرى
ويتعين هنا أن نشير إلى قضية مهمة في هذا المقام، فالشعب حين يحب وزيراً يرفعه إلى عنان السماء، ويبدأ في الدفاع عنه والتغاضي عن أخطائه والتصدي لأي اتهامات قد تُوجه إليه، بل إن البعض قد يضيف إليه من نسج الخيال قصصاً شعبية تزيد من حجم الهالة الشعبية التي تحيط به، على شاكلة "ده بيقولوا إنه عمل كذا وكذا"
وحسب الله الكفراوي الذي تولى منصب وزير الإسكان والتعمير في 26 أكتوبر تشرين أول 1977 وخرج من تشكيل حكومة د. عاطف صدقي الثالثة في 4 أكتوبر تشرين أول 1993، اهتم بالإسكان الشعبي وبناء المدن الجديدة حتى اعتبر البعض أنه "أبو المدن الجديدة"، إذ أسس 17 مدينة طوال 17 سنة قضاها وزيراً (6 أكتوبر، العاشر من رمضان، السادات، دمياط الجديدة، مراقيا، إلخ). وعُرف عنه نظافة اليد وعدم الوقوع في فخ فساد الذمم، ما جعله وزيراً محبوباً ورمزاً للوزير المجتهد الذي يحترم نفسه فيحترمه الآخرون
الكفراوي الذي أُوكِلَت إليه مهمة استصلاح الأراضي إلى جانب عمله وزيراً للتعمير والإسكان في مايو أيار 1980، انسلخ عنه الإسكان في حكومتي كمال حسن علي ود. علي لطفي، فيما تبًّقى استصلاح الأراضي معه، حتى خرج من الحكومة في 1993 وأُسنِدَت مهمة استصلاح الأراضي إلى د. يوسف والي الذي شغل منصب وزير الزراعة
الكفراوي، هذا الرجل البسيط ببدلته الصيفية وشقته البسيطة التي احتفظ بها منذ سنوات ما قبل الوزارة، قاد جهود إقامة عدد من المشروعات الإسكانية المهمة، وأسس بنك الإسكان والتعمير في عام 1978 بهدف تمويل مشروعات بناء الوحدات السكنية للشباب، وأثمر ذلك عن بناء مليوني وحدة سكنية لمحدودي الدخل. كما وقف وراء مشروع ميناء دمياط الجديد الذي افتُتِحَ رسمياً في 26 يوليو تموز 1986، وبدأ في إنشاء ميناء الدخيلة في محافظة الإسكندرية، وعمل على تنشيط الجمعيات التعاونية للإسكان
كان حسب الله الكفراوي مقرباً إلى أذهان وقلوب العامة لبساطته وتواضعه ووضوحه، ولأن الناس لمسوا ما أنجزه وشعروا بأنه ليس من هواة إطلاق عصافير الوعود الزائفة في الهواء، لتطير هذه الوعود وتتبخر من الذاكرة سريعاً
ربما لهذا السبب أصيب الكفراوي بإغماءة وتعرض لوعكةٍ صحيةٍ ألزمته الفراش في أواخر عهده كوزير حين احتد مع وزير وزراء سابق، فما كان من الأخير إلا أن اتهم الكفراوي بالفساد المالي. لم يتحمل وزير الإسكان هذه التهمة فسقط مغشياً عليه
على أي حال، فإن الكفراوي هو أيضاً الوزير الذي أقام مدن الساحل الشمالي وهو الذي أنشأ مارينا وخصص العديد من الوحدات الممتازة للوزراء وكبار المسؤولين. أما الكاتب الصحفي صلاح حافظ فقد كتب في ‏7‏ فبراير شباط ‏1990‏ عن حسب الله الكفراوي قائلاً: إنه أعف الناس يداً وأكثرهم إخلاصاً وصدقا‏ً,‏ وقضية حياته هي بالفعل أن يتيح سقفاً لكل مواطن‏,‏ والمدن الجديدة بالنسبة إليه معركة حياة أو موت‏,‏ ولكنه لا يجد وقتاً يراجع فيه شؤون بيته ويكتشف الذين معه والذين ضده‏
لكن الناس غفروا له ذلك لأنه هو أيضاً الذي بنى لهم مساكن بأسعار معقولة تناسب دخولهم، ولم يفعل على سبيل المثال كما فعل المهندس صلاح حسب الله الذي جاء بعده فقدم حلولاً إسكانية تغفل حدود إمكانات وقدرات محدودي الدخل في مصر
قضى الكفراوي في الوزارة خمس سنوات في عهد السادات، وبقي وزيراً في عهد مبارك لمدة 12 عاماً. غير أنه يصف سنوات عمله وزيراً في عهد مبارك فيقول: "الثماني الأولى كانت امتداداً لسياسة السادات في كل أجهزة الدولة، أداء مجلسي الشعب والشورى، دور دولة المؤسسات، وغيرها، حتي عام ٩٠، لذا كنت مرتاحاً في العمل معه، ولكن السنوات الأربع الأخيرة كنت "أتعشى لبن وزبادي أتقيأهم دم"..وأذكر يوماً ما قال لي فيه الصحفي موسى صبري "إنت مفتوح عليك ٦ جبهات" (حسب الله الكفراوي وزير التعمير الأسبق: "١ ـ ٢" نحن أسوأ على أنفسنا من القوى الخارجية، المصري اليوم، 22 مارس 2008)
وبوضوح أكبر، فإنه يتحدث باستياء عن سنوات عمله مع رئيس الوزراء د. عاطف صدقي، إذ يقول في الحوار المذكور رداً على سؤال عن رئيس الوزراء الذي كان على خلاف دائم معه: "عاطف صدقي، وكانت العلاقة بيننا "واحد بيتكلم عربي والتاني بيتكلم صيني". ويضيف الكفراوي قائلاً إنه أمرٌ طبيعي أن يكون د. صدقي ضمن الجبهات الست التي قال إنها حاربته في السنوات الأربع الأخيرة كوزير


د. أحمد جويلي أصبح وزيراً للتموين والتجارة الداخلية في حكومة د. عاطف صدقي الثالثة في 18 أغسطس آب 1994، وذلك قبل أن يتوفى د. محمد جلال أبو الدهب الذي كانت حالته الصحية قد منعته من أداء مهام وظيفته منذ تشكيل الوزارة. ود. جويلي ظل وزيراً للتجارة والتموين في حكومة د. كمال الجنزوري (4 يناير كانون ثانٍ 1996) حتى اعتذر عن عدم الانضمام إلى حكومة د. عاطف عبيد في أكتوبر تشرين أول 1999؛ لأنه لم يقبل سحب اختصاصات التجارة منه وضمها إلى د. يوسف بطرس غالي، وهو تعرض أثناء تلك الفترة لهجمات وحروبٍ شرسة، حتى إنه صرح في الانتخابات العامة التي خاضها لدخول مجلس الشعب عن إحدى دوائر محافظة الجيزة واضطر فيها لخوض جولة إعادة، بأنه لا يحظى بمساندة كافية من جانب الحزب الوطني، في إشارةٍ لا تخطئها العين إلى أن هناك من يريد تقليص نفوذه وتحجيمه وربما التخلص منه
د. جويلي الذي حارب السلع مجهولة المنشأ وأعاد تنظيم وتفعيل وزارة التموين، وقضى على ظاهرة اختفاء بعض السلع الأساسية من الأسواق وضرب الاحتكار في مقتل، واتسم بالهدوء والتعقل، ما جعله محبوباً من جانب المواطنين الذين تخلصوا من عذابات البحث عن سلعةٍ أساسية في السوق السوداء أو الوقوف في طوابير طويلة انتظاراً لحصة تموينية ضرورية
وفي تصورنا أن هؤلاء الوزراء الذين اخترناهم كنموذجٍ للوزراء الشعبيين أو الذين يلقون احترام وتقدير رجل الشارع، تجمع بينهم صفاتٌ أو مواصفاتٌ معينة أضيفت إلى رصيدهم الجماهيري، فهم بدأوا السلم الوظيفي من أوله فصعدوا صعوداً تدريجياً إلى قمة السلم، كما أن هؤلاء الوزراء أصبحوا وزراء وهم دون الستين، ويبدو أن هناك تعطشاً لدى رجل الشارع لفكرة ضخ دماء شابة - نسبياً- وجديدة في الحكومة. أي حكومة
وعلى الرغم من أن هؤلاء الوزراء لم يستهلكوا أنفسهم إعلامياً ودعائياً ولم يحاولوا أن يصنعوا لأنفسهم نجومية زائلة، أو يصطدموا مع النقد الإعلامي الموضوعي، فإن رجل الشارع حفظ أسماء هؤلاء الوزراء وأسقط من حساباته كثيرين جاؤوا ورحلوا.. كأن شيئاً لم يكن

نظرة واحدة إلى هذه النماذج التي أوردناها تشير إلى أن انتهاء عملهم الوزاري لا يعني بأي حال نهايتهم وعزلتهم وتكثيف الحراسة عليهم خوفاً من رصاص الإرهاب، فحتى جماعات التطرف تدرك أنه من الغباء والسخف بمكان أن تغتال وزيراً يتعلق به رجل الشارع، بل إنهم واصلوا رحلة الصعود، فموسى أصبح الأمين العام لجامعة الدول العربية، وأحمد رشدي انتخب لعضوية مجلس الشعب قبل أن يقرر عدم خوض التجربة مرة ثانية، ود. أحمد جويلي أصبح الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، وحسب الله الكفراوي عمل لدى شركة خاصة قال في تصريح صحفي إنه يتقاضى منها أضعاف أضعاف ما كان يتقاضاه كوزير
وبطبيعة الحال فإن هناك فرقاً بين الوزير المحبوب شعبياً الذي يقع عليه الاختيار في أعقاب خروجه من الوزارة تقديراً لخبراته وكفاءته، وبين الوزير السابق الذي تتم الاستعانة باتصالاته وعلاقاته بهدف "تسليك" الأمور في هذه المصلحة أو تلك الوزارة

تابع القراءة

gravatar

كتاب الرغبة (17): سِحر اللعب





"أن نخترع يعني في الحقيقة أن نتذكّر"
جيرار دو نيرفال (1808-1855)

النساء حُبلى بالحكايات، والحكايات حُبلى بالنساء

هذا على الأقل ما تشعرُ به حين تفرغُ من قراءة رواية اللبنانية علويّة صبح "مريم الحكايا" (دار الآداب، بيروت، ط2، 2004)

إنها روايةٌ عن مثلث متساوي الأضلاع، وربما يكون متساوي السيقان: مريم، ابتسام، وعلوية صبح نفسها
علوية صبح في الرواية هي الغائب الحاضر: شخصية ضائعة، تبني الحكايات ثم تهدمها، وهي في الحالتين تجيد لعبة التجريب الروائي، ترسم الأحداث ثم تشطبها، تحكيها ثم تتبرأ منها أو تشكك في وقوعها أصلاً
الأكيد أنه ليس للحياة إلا سحرٌ حقيقي واحد: سحر اللعب
بل إن علوية تذهب أبعد من ذلك، فتشير في الصفحات الأولى من الرواية إلى أن المخطوطة وقعت في الماء، ولم يبق منها "سوى آثار حبر ممرّغ لحروف ضائعة ولكلمات تاهت في الماء والوحل على الأوراق التي بعثرتها الرياح على امتداد الشارع كله" (ص18)
وحدهما "المطر والرياح أكملا نهاية الرواية" (ص18)
تغدو "مريم الحكايا" رواية جيل ضائع في بيروت الحرب
وتحت جحيم القصف، تتداعى الأحلام وتتناسل خيبات الأمل: مريم الراوية تعود إلى أمين بعد خمسة وعشرين عاماً لتتزوّج منه وتهاجر إلى كندا, ابتسام تجهض روحها الثائرة وتخضع لزواج تقليدي, ياسمين الفتاة الثورية والمتحررة تتحجب وتصبح غريبة عن المدينة, زهير الطبيب الذي حاول أن يكون كاتباً مسرحياً يختفي بشكل غامض, كريم زميل مريم في كلية الحقوق يصبح طائفياً وينادي بـ(العِرق) والقرابة
ما من شخصية في "مريم الحكايا" تفلتُ من التحوّل أو تنجو من التشوه
بذكاء شديد، تدفع علوية صبح بطلتها مريم إلى الضوء وتقبع هي في الظلّ، ربما حتى تتحرّر من أسر السيرة الذاتية في رواية تتحدث عن نساء يُلبسن جوع أحلامهن بالحكايات
تبدو علوية صبح كأنها ترى في شخصيات روايتها جزءاً من صورتها، فيما الحقيقة تتدلى من أرجوحة الشك: "صدّقتهم وكذّبت نفسي بعدما كادوا يصيبونني بالجنون لإقناعي بأنهم أبطالٌ في كتابي، وبأنني لست سوى بطلة هامشية فيه" (ص301)
فهي تكتب رواية مشتركة مع ذاتها الثانية (زهير) وذاتها الثالثة (مريم) لكنها تظل محجوبة عن الأنظار، شخصية غريبة غامضة، تائهة في البحث عن الرواية نفسها ولا تعثر عليها
"تغير النقاط والحروف والفواصل والواوات لتعثر على ذكرياتها ووجهها بين الوجوه والذكريات، ليصير لها اسم ووجه وذكريات (...) لتعثر على جواب. لمست يدها اليسرى، التي تكتب بها، فأحسّت بحرارتها، ولكنها لم تتأكد من شيء. لم تتأكد من شيء"
وحين تقرأ الرواية لا تشغل بالك بما هو حقيقي وما هو زائف، فالأهم هو أنك الآن تدخل عالماً سحرياً وغرفاً مليئة بالمرايا، التي لا تعكس شيئاً
تعلن الراوية مريم في مستهلّ الرواية: "المسألة انتهت بالنسبة إليّ" (ص 5). أما الختام فينتهي في الشكّ: "لم تتأكد من شيء" (ص 426)
من هنا تُولد الأسئلة الوجودية: "هل كانت أمي تخترع الحكايات لتصدّقها، وهل علوية تخترع نهاية القصة لتصدقها؟" (...) "كل العتبات تفضي إلى أسرار تخيف أمي. كل انتقال أو تغيير يعني وصولاً إلى مجهول يخيف" (...) "بئر كانت تبتلعني وتهوي بي إلى أسرارها المغلقة، فابتلع ماء موتي وابتلع الفراغ داخل عظام جمجمتي" (...) "لا. أنا متأكدة أنها لم تمت قبل عام 86 على الأقل، فأنا قرأت لها آنذاك كتابها "نوم الأيام" الذي صدر في ذلك العام" (...) "لا أدري ما الذي مات فيها حتى انقطعت عن الكتابة، ولا أدري ما الذي بدّلها وغيّرها" (ص 14)
تبدأ مريم سرد وقائع ما جرى، وهي تتساءلُ عن مصير تلك الحكايات التي رواها الجميع لعلويّة صبح قائلة: "أذهبُ إلى المكتبات كلما سمعت بأن رواية جديدة صدرت. أتفّصى بعينيّ عناوين الروايات وأسماء المؤلفين، فلا أعثر لا على اسمها ولا على حكاياتنا. بل وأحياناً أشتريها كلها، موهمةً نفسي أنها ربما كتبت روايتنا باسم مستعار. ولكن ما إن أبدأ القراءة حتى أتأكد من اختفائها واختفاء قصتنا" (ص 6)
غرفة الاعترافات لم تكن سوى غرفة مريم
"كانت غرفتي ملجأً لحكاياتهن وأسرارهن. أستقبلهن فيها ويتوزعن جلوساً على الأرض وعلى الصوفا التي ما زالت تبدو حتى الآن حرائق سجائرهن عليها بقعاً صغيرة دوائرها سود. أغلي لهن القهوة في الركوة الكبيرة الحجم، وتتصاعد الحكايات من أفواههن بحرارةٍ أعلى بالتأكيد من حرارة البخار الذي يتصاعد من الركوة. كنا نحتاج أن نحكي لبعضنا كل شيء، حتى عن حميمياتنا. تحتاج الواحدة أن تحكي بحضرتهن، لتكون الأخريات مرايا تكتشف فيهنّ وجوهها ووجوه الآخرين" (ص 9)
تحكي الراوية عن الأم بطريقة فريدة، فهي تتحدثُ عن أمّها التي "كانت دوماً ذلك الكائن الغامض، نبع أمومي أجهل ماءه" (ص 76-77). سنعرف أن "كل العتبات تفضي إلى أسرار تخيف أمي. كل انتقال أو تغيير يعني وصولاً إلى مجهول يخيف" (ص 27)
هذه الأم تعيش في عالمها الذي تتقيد بتعاليمه وتقاليده وطقوسه. "كانت أمي تحتفظ بشهادات عذرية كل بناتها المتزوجات في خزانتها. آثار دماء عذريتهن كانت تحفظها في صندوقٍ خشبي كي تُسكّت بها كل من يحاول أن يطال شرف بناتها، ولو بعد سنوات طويلة من الزواج" ( ص 214)

أمّ مريم تمثّل شريحة تعرضت للظلم الذكوري، ويتمثّل ذلك بزواج "الغصيبة" الذي أحالَ حياة أم مريم إلى حياةٍ ملؤها الظلم والجهل والرغبة في الانتقام من العم الذي أرغمها على الزواج وعمرها لا يتجاوز أحد عشر عاماً
هذا القهر الجنسي وتلك السطوة التي يمارسها الذكر تتكرر في علاقة أبو طلال وأم طلال, وأبو يوسف وزوجته, وعباس ومريم, وابتسام وجلال. أمثلة لا تنتهي على استقواء الرجل على أنثاه
تقول مريم إن عباس "كان يعشقُ ضعفي ليعيش إحساسه بقوته (...) أحب الحاجة إليّ ليرسم صورته التي يريدها لنفسه بعيني" (ص 36). وفي موضعٍ آخر، تقول عن علاقتهما: "كنتُ أحياناً أضيعُ في الصورة التي يريدُها لنفسه في عينيه وفي عينيّ" (ص 322)
إنها اعترافاتُ امرأة، حين تفجأها سورة العشق والشهوة الراعفة

وحين تموتُ أم يوسف يموتُ زوجها بعدها بشهور, وتبرير ذلك في الرواية "لأنه كانت شبشبته ونشاطه جايين من جبروته عليها.. يفقع قلبها من القهر ليحس حاله إنه سبع البرمبا. ولما ماتت فرط المشحر وحس إنه ما بيسوا خرية مرمية بعين الشمس" (ص 256)
غير أن البطلة في الرواية تحاول أن تتمرد، لتكون امرأة و"لستُ ظلاً لحائط جسدي". وهي تملك ذاكرة تداوي جراح القهر في الفراش، وتربتُ بحنان على مأساة فقد الأجنة، وتطلقُ ألعاباً نارية فرحاً بالحب ونشوة نداءات الجسد، وتندبُ حظ من يذهبن للقبر وحيدات
كأن علوية صبح في هذه الرواية عن العُمر المسروق وبتلك الجرأة الكاشفة، تبغي أن تعيش حياتها الضائعة
وهي تبوح حتى الاختناق والهذيان وفقدان البوصلة والذات
الراوية مريم, تصور بدقة تفاصيل علاقاتها الحميمة مع كل من علي ومصطفى وعباس
تحكي عن بدء علاقتها الجسدية مع عباس فتقول: "حين اقتربتُ ووقفتُ إلى جانبه لأسكبَ له القهوة في فنجانه بعدما فرغ، رفع رأسه المُنكس أمام الطاولة وصار ينظر إلى السقف وهو يمد يده لملامسة دفء ما بين فخذيّ
"يده تمتد وتلامس فضاء جسدي المغلق وتفتح فضاءات جديدة دون أن ينظر إلى ما يلامسه. يتطلع إلى السقف كأنه لا يريد أن يرى ما يفعله، فضاءات بلا سقف جلديّ تحت يده
"عرق دبق كان ينزّ من داخلي ويخرج من فراغات جسدي ومسامه، ويلتصق به لزجاً كأنه ليس عرقاً عادياً. بيدي أمسح العرق عن وجهي ورقبتي وظاهر زندي نزولاً إلى معصمي، لكنه كان يشبه الزيت، يلتصق سائله الكثيف الجامد بيدي، ساداً فراغات جسمي كلها بزيت خيّل إلي أنه زيت الخوف من الموت أو ربما كان زيت الموت
"وحين امتدت يد عباس لتلعب بما فيّ وكأنه يلعب بساقيّ دمية، استهوتني اللعبة كما لو أنني أريد أن العبها. طوال حياتي لم ألعب، ولم أعد أطلب الكثير. في تلك اللحظة لم أفكر بالطبع بكل هذه الأشياء، لكن مناخاتها في هواء أنفي كانت تدفعني للّعب بجسدي كما كنا نلعب بموت المدينة..
"لا شيء غير اللعب للهروب من الموت
"حين مد يده إليّ، حولّت حرارة يده الزيت إلى ماء يتساقط على الأرض. ماء لا يشبه ماء الآبار، وغنما ماء بحار مفتوحة على فضاء السماء العالي إلى ما فوق السقف الذي ينظر إليه عباس. بصمت، يمسِّدُ فخذيّ فتتحرك رجلاه كأنما تريدان تعلم المشي من جديد. تخيّلته قبالتي يمد يديه إليّ كي يتلقاني بهما ولا أقع أرضاً
"لكن عباس لم يتخيل ذلك
"كان يشعر لحظة دخوله بي أن عضوه يخترق بئر ما بين فخذيّ. يهبط إلى قاعه الذي لا قاع له، مع وصوله للرعشة. لكنه حين يزم ويرتخي بعد الوصول، يكتشف خوفه من الأسرار المجهولة في اختراق الفراغ والموت. وحين يعود ويطفو هامداً فوق مائه، يبتلع خوفه من أن يخرج من بئري ومنّي، وخوفه أيضاً ألا يخرج أبداً
"لا شيء غير اللعب للهروب من الموت" (ص 34-35)
هزة الجماع، ذروة.. واليأس أيضاً. أحدهما يدوم لحظة، والثاني يدوم حياة
وفي لعبة الرغبة، نرى الأشياء بالصورة التي نريدها، لا بالشكل الذي تكون عليه فعلاً
في علاقة مريم بعباس "يضحك وأضحك وتنفرج أسارير وجهه في اللحظة التي ينتصب فيها عضوه، فرحاً بسلطته عليّ وفرحاً بامتداد عضوه ليحتل مساحة أكبر في الدنيا
"أراه جميلاً في عينيّ فنبتسم، ونحن نحكي
"نتعرّى أمام العري أكثر، ونكتشف الجمال في الأشياء القبيحة فينا، بل لا نرى ولا نشمّ الرغبة إلا في ما يسمى بالعيوب الجمالية فينا، لتصير الثغرات فينا بؤرة شهواتنا
"يقبّل الشامة السوداء الكبيرة المزعجة في رقبتي أكثر مما يقبّل الأشياء الجميلة بي، يقبّل أسناني المدفوشة إلى الأمام ويقول لي:
- يا الله ما أحلاهن. أوعي شي يوم يخطر ببالك تروحي تجلّسيهن وتحطّي جسر، بتتبشعي بنظري
"يقبّل ركبتيّ المقوستين كما لو أنهما لوحان من الشوكولا والسعادة
"وتحلو عيوبه الجمالية في نظري وتتوهّج لذة. أقبّل النتوءات اللحمية في ظهره وأقول له:
- يا لطيف ما أحلاهن" ( ص 320-321)
هكذا يتيه الجسدان اللهوفان في غابة من رماد الكلام
والجنس ليس ممارسة فقط. إنه كلماتٌ تمهد بفن المراوغة والمراودة ونظرات تغوص من أجل الدُرة المقفلة في محارة موت طويل, وكبت عريق
وفي "مريم الحكايا" نقرأ ونضحك ونندهش مع عبارة "بلا معنى"
العبارة التي تستعملها بعض النساء حتى لا يفهم من كلامهن أية دلالات جنسية, تبدو هنا لغة جنسية مكشوفة. فنبيهة التي سيتزوجها أبو يوسف "زواج متعة" قادته إلى هذا الزواج بكلام مليء بعبارات "بلا معنى", فهي تقول له وهي تطلب منه كيلو من اللحم "إنت بتعرف اللحمة الطرية وين بتكون, بلا معنى. المهم تفوت سكينك محل الهبرة الطرية وتشيل شقفة منها لأنبسط بأكلها, بلا معنى" (ص 243). ثم تكشف الرواية عن نظرة نبيهة إلى الجنس, بلغة مكشوفة, حين تجعلها تمارسه مع "كميل الأخوت"بعد أن تحممه وتهيئه لنفسها (ص 247 و 248)
وتتوقف مريم عند الحوار بين أمها والولد "السمكري"الذي يقوم بإصلاح عُطلٍ في "البيديه", ويحتشد كلامهما بـ"بلا معنى" هذه، من عينة:
"- بس يا حجّة هيدا ما فيني فوّته بهيدي لأنه البخش لازم يكون أكبر، بلا معنى
- بلا معنى يا زلمة شوف كيف بتدبره
- إذا هيدا الذكر ما فات بالأنثى ما بيجي مضبوط وبتصير الميّ تنز من النبريش لبرّا بلا معنى
- يعني كيف فيك تدخله لجوّا بلا معنى
- إذا ما جبت نبريش حديد جديد بظبّط لك القديم، بس بيصير بدي وقّفه طلوع ليفوت فيه، بلا معنى" (ص 45)
والحوار الذي "بلا معنى" يستدعي ذكرى استثارة أخرى
"وأنا رائحتي بين فخذيّ تغيرت في المدة الأخيرة، صارت رائحتي من تحت نظيفة، خفيفة، مثل رائحة الهواء النظيف، بعد أن خفّت هرموناتي. أحياناً حين أشتمُّ إصبعي بعد ممارستي العادة السرية، أحس وكأنني أشتمُّ جلداً نظيفاً بلا رائحة
"لم يعد لكيلوتي تلك الرائحة التي لا أدري إذا كانت السبب الذي جعل السنكري حين دخل ذات يوم حمّامنا لإصلاح عطل في "البيديه"، يقوم بتصليح ذلك العطل مغلقاً باب الحمام على نفسه على نفسه
"هل كان السبب رائحة الكيلوت أم مشهده المتسخ على الأرض، أم اللغة التي دارت بينه وبين أمي؟" (ص 44)
وحين كانت مريم تلتقي صديقها عباس كل أحد، أيام الحرب، كان لا يكف عن شمها كما تشمشم القطة المولودة أمها. "لم أكن أفهم لماذا كان عباس يحب أن يشم كالقطط، إلى أن حكى لي مرة أنه لا يحب رائحة الكيلوت النظيف الذي تفوح منه رائحة الصابون. رائحة المواد العضوية هي التي تثيره، وليس رائحة "الكاميه" أو أي صابون آخر" (ص 47)
مريم تتحدثُ عن أول لقاء جسدي مع صديقها مصطفى فتقول: "كانت المرة الأولى التي أتعرى فيها أمام رجل
"لون جسدي المغبر، كأنني أراه للمرة الأولى. كأن غيوماً بيضاء كثيفة تتجمع حوله، وتنزاح لينقشع أمامي ويصير جسدي في لحظة التعري الأولى أمام عيون الرجل وكأنه سقط فجأة من السماء وصار حقيقة أمامي، فيما قبل تلك اللحظة لم أكن أحسبه موجوداً
"وحين بدأ يمرر شفتيه على جسدي كنتُ كأني أعثر فجأة عليه وعلى زوايا واستدارات ونتوءات وهضاب لم أنتبه إليها من قبل. لكن هذا الاكتشاف لجسدي بفمه الغريب وعينيه ويديه الغريبتين كان يولِّد فيّ بالمقابل إحساساً بالأذية من مصطفى والغربة عن جسدي
"أعاد مصطفى غربة جسدي إليّ وهو يعرّيه ليصير أمامي مجرد قطعة من لحم، وليس جسداً" (ص 56)
ها هي تستسلمُ بوجعٍ رَخوٍ لعناقٍ حميمي مُهلِك
وفي لحظات الفضول الساذج نتفرس كل ما يصل إلى حواسنا، ربما ننجح في الاستسلام للغرام
لكننا مازلنا نحب على أية حال، وهذه الـ"على أية حال" تغطي ما لا نهاية
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator