المحروسة

تدوينات من الأرشيف

gravatar

حفلات الإهانة





إنها الحرب الكروية، التي تستبيح الخصم ويربحها الإعلام

ويرى الكاتب المغربي ياسين عدنان أن الصحافة المكتوبة في الجزائر انتبهت لحاجة الجمهور بمعناه الغوغائي إلى صوت فانتهزت الفرصة وحاولت أن تملأ الفراغ من أجل الدفاع والرد لاعتبارات ودواع "وطنية" ربما، لكن أيضـًا - وربما أساسـًا- من أجل رفع  أرقام التوزيع. وهكذا انخرطت "الشروق" و"الخبر" و"الجزائر نيوز" وغيرها من كبريات الصحف الجزائرية في المعركة. وفي مثل هذه الحالات، تحل الشتائم والكلمات النابية محل الوصف والتعليق، وتتم الاستعاضة عن نقل الأخبار ومتابعتها باختلاقها والتهويل من شأنها. بل إن المجال يصير متاحـًا للنيل من "الخصم" بكل الوسائل[1].

وفي هذا السياق، نشرت جريدة "الجزائر نيوز" تركيبـًا صادمـًا لصورة الزفاف الجارحة التي ظهر فيها المدير الفني لمنتخب مصر حسن شحاتة وهو يرتدي ثوب عروس وإلى جانبه صورة للمدير الفني لمنتخب الجزائر رابح سعدان في زي العريس. ودافع مدير تحرير "الجزائر نيوز" حميدة العياشي عن الصورة الصادمة والعبارة المثيرة التي كتبتها يوميته "سنتزوج مصر في اليوم المشهود" بالقول إن ذلك "كان نوعـًا من محاولة إعادة الأمور إلى نصاب مقابلة في كرة قدم، ما قمنا به عبارة عن حملة إعلامية مضادة للمس بكرامة المصريين"، و"أردنا من ذلك أن ندخل معركتهم الهجومية لوسائل إعلامهم لنحولها إلى معركة دفاعية، وأعتقد أننا نجحنا إعلاميـًا في ذلك منذ صدور الصورة"[2].

وفي عموده الصحفي "حق الرد" كتب جمال لعلامي تحت عنوان "يا خرابي.. على أبوالهول وخطة الفول" قائلاً: "الآن تأكدنا أن المصريين "زي بعضهم" وأن الذي حصل في الحرب الإعلامية الخطيرة والحقيرة، ما هو إلا هو جزء من جبل الجليد"[3].

ونشرت صحيفة "الخبر" بتاريخ 16 نوفمبر تصريحات سياسية للاعبين قائلة: "الآن فهمنا لماذا لم تتحرر فلسطين"، وقال لاعبون جزائريون في جريدة "الهداف": "كنا نلعب في ملعب تل أبيب بإسرائيل، وليس في ملعب دولة عربية مسلمة"[4].

واتخذت جريدة "الهداف" النهج نفسه في التغطية غير الأمينة، واتهمت الشرطة المصرية بأنها هتكت عرض سيدات جزائريات، قائلة: "قامت الشرطة المصرية بتفتيش السيدات الحوامل، وطالبتهن بخلع بعض من ملابسهن حتى يظهرن مثل راقصات شارع الهرم"[5]. هذا الاتهام كررته صحيفة "الشروق" حين انتقد أحد كتابها أن "تصل الوقاحة إلى تعرية نساء جزائريات في الشارع أمام أعين الأمن المصري" قبل أن يخاطب المصريين قائلاً: "لقد تجاوزتم الخطوط الحمر ولا تهدئة بعد اليوم"[6]. وأفردت "الشروق" مساحات واسعة وصفحات كاملة لنشر ما قالت إنها "نداءات الاستغاثة للجزائريات بمصر"، ووضعت في هذا السياق عناوين غارقة في التحريض، مثل "جزائريات يتعرضن لاعتداءات وحشية ومحاولات اغتصاب" و"وابوتفليقاه.. أعراضنا تنتهك وما يفعله المصريون أخطر من الصهاينة"[7]. 



وقالت صحيفة "الخبر" إن اليهود يناصرون المنتخب المصري، وهذا استكمالاً لما نشرته الصحيفة على مدار أيام سابقة عندما وضعت نجمة داود بدلاً من النسر على العلم المصري، مع اتهام المصريين بأنهم صهاينة. وجاء الدور على جريدة "الفجر" الجزائرية لتدخل بالأمور إلى منعطف آخر، عندما قالت في عدد 19 نوفمبر: "جمهورية سوزان مبارك"، متطاولة ومستهزئة بأسرة الرئيس آنذاك حسني مبارك والشعب المصري[8].

واتخذت الأمور طابع الإساءة الشخصية بحدة بالغة، مثل  إفراد صفحة كاملة تحمل عنوان "الشروق" تفتح ملف أحقر المذيعين المصريين: كلاب مبارك تنبح لتنقذ مشروع التوريث"، مع عناوين فرعية من عينة "هذه هي حقيقة وفضائح "الحلوف" مصطفى عبده "أكرمكم الله"، و"مدحت شلبي من ضابط مطرود إلى مذيع فاشل"، و"شوبير منحل أخلاقيـًا يتاجر بالمخدرات والعاهرات" و"الهلفوت خالد الغندور الذي يبكي مثل الحريم: نباح بصوت هيفاء وهبي"[9]. وانزلق أحدهم إلى القول بلغة بعيدة كل البعد عن أخلاقيات مهنة الصحافة أن "منفذ النجدة" المصري الذي استندت إليه قناة "دريم" في برنامج "الكورة في دريم" الذي يقدمه "ابن الأبالسة"، قال إنه في السعودية، وربما ذهب إلى الحج ليمحي أكاذيبه ومؤامراته الخبيثة التي لم يصدقها حتى هو في حق الجزائر الشريفة العفيفة والطاهرة، لكننا نرجو أن يغادر هذا "الحاج" العربيد والسكير بيت الله الحرام – إذا كان متواجدًا به قبل أن يسخطه الله ويحوّله إلى قرد"[10]!

وتبلغ قمة التعصب في الصحافة الجزائرية عندما تحيي محمد روراوة رئيس اتحاد الكرة هناك، الذي رفض مصافحة "اللئيم" سمير زاهر رئيس اتحاد كرة القدم المصري، وذلك  وسط مطالبات بأن يعمل الإعلام المصري على تهدئة الأجواء.



واتفقت الصحف الجزائرية بجميع ميولها السياسية واختلافاتها، على المطالبة بأخذ "الثأر من المصريين، الذين قتلوا الجزائريين في القاهرة". فقد قالت "الشروق" في أحد عناوينها: "مئات المناصرين يتزاحمون أمام السفارة السودانية للحصول على التأشيرة: ذاهبون للسودان لمعركة الثأر وسنريهم "الرجلة" الجزائرية"[11]. جاء ذلك بعد تعبئة مفزعة وشهادات مروعة من عينة "شاهد وهراني يروي للشروق تفاصيل الغدر المصري.. الفراعنة قالوا: "سنمنحكم تأشيرة مجانية للآخرة"[12]، و"العائدون من جحيم القاهرة يتوافدون على مقر "الشروق" للإدلاء بشهادتهم: عناصر من الشرطة المصرية أهانوا العلم الوطني"[13].

وبعد المباراة الفاصلة في أم درمان، كتبت صحيفة "الهداف" على صفحتها الأولى "الله أكبر ظهر الحق وزهق الباطل"، كما نشرت تصريحات من نجوم الفريق ومدربهم على صدر صفحتها الأولى[14]، وفي صحيفة "الشروق" كان أبرز تصريح ما قاله حارس المرمى فوزي الشاوشي، حيث قال: "تأهلنا رد كاف على من أهان الشهداء وأسال دماء الأبرياء" مشيرًا إلى لقاء القاهرة بالقول إن "فيلم رعب القاهرة لا يُنسى وسيصنف ضمن الممنوع إعادة مشاهدته"[15]. وجاء مانشيت صحيفة "المساء" ليقول: "محاربو الصحراء يحطمون غرور الفراعنة.. لقنوا المعلم وتلاميذه درسـًا في الكرة الحديثة"[16].

وتحت عنوان "كرونولوجيا عودة الخضر" قالت "الشروق": "الفراعنة اختاروا الخرطوم فدفنوا في رمالها"[17]،  أما في صحيفة "الفجر" الجزائرية فقد قال سعد بو عقبة في عمود "نقطة نظام" إن "كل العرب، إلا من رحم ربك، اصطفوا خلف الفراعنة لسبب لا نعرفه". ويضيف الكاتب "هم انتصروا علينا بلا رياضة في القاهرة، انتصروا بالبلطجة الإعلامية والأمنية وحتى السياسية، ونحن انتصرنا عليهم رياضة وأخلاقـًا في السودان العظيم أخلاقـًا وقيمـًا"[18].


الحرب الإعلامية كانت قد اندلعت مبكرًا، إذ ذكرت صحيفة "البلاد" الجزائرية قبل أيام من لقاء القاهرة أن هناك مؤامرة من قبل مشجعي مصر تعتمد على تسلل عدد من مشجعي المنتخب المصري إلى المدرجات الخاصة بمشجعي الجزائر؛ لإثارة الشغب وقذف الصواريخ وإظهار المشجعين الجزائريين بصورة سيئة، وهو ما يمنح الجانب المصري الفرصة في حالة الهزيمة بالمباراة إلى اللجوء للاتحاد الدولي للعبة (الفيفا) والمطالبة بإعادة المباراة أو احتساب نقاط المباراة لصالح أحفاد الفراعنة[19].

أما صحيفة "الهداف" الجزائرية فلجأت إلى حيلة أخرى لإثارة الرأي العام من خلال مقابلة مع البرتغالي مانويل جوزيه المدير الفني لفريق الأهلي المصري. وذكرت الصحيفة على لسان جوزيه، الذي يحظى بشعبية طاغية لدى مشجعي كرة القدم في مصر، أنه يتوقع خسارة المنتخب المصري وتأهل الجزائر إلى نهائيات كأس العالم. وأعربت الصحيفة في عدد تال عن دهشتها من الاعتقاد السائد بين جماهير الكرة المصرية بأنه حوار مفبرك، مؤكدة سخريتها من الجماهير المصرية التي لا تعترف بإمكانية الهزيمة.
هوامش




[1] ياسين عدنان، برافو عمرو أديب.. كنتَ المنتصر الوحيد في معركة خسرناها جميعـًا، جريدة "الأخبار"، بيروت، 1 ديسمبر 2009.


[2]  سليمة حمادي، مدير يومية "الجزائر نيوز" حميدة العياشي لـ"الشروق": "ما قمنا به كان ردًا على تجاوزات الإعلام المصري"، جريدة "الشروق"، الجزائر، 15 نوفمبر 2009، ص 6.


[3] جمال لعلامي، يا خرابي.. على أبوالهول وخطة الفول، جريدة "الشروق"، الجزائر، 15 نوفمبر 2009، ص 4.


[4] استاد القاهرة تحول إلى استاد تل أبيب، جريدة "الهداف"، الجزائر، 16 نوفمبر 2009.


[5] جريدة "الهداف"، الجزائر، 16 نوفمبر 2009.


[6]  رشيد ولد بوسيافة، تجاوزتم الخطوط الحمراء، جريدة "الشروق"، الجزائر، 16 نوفمبر 2009، ص 2.


[7]  إلياس ف.، جزائريات يتعرضن لاعتداءات وحشية ومحاولات اغتصاب، جريدة "الشروق"، الجزائر، 23 نوفمبر 2009، ص 9.


[8]  خير راغب، الصحافة الجزائرية خرجت بالمباراة من الرياضة إلى السياسة.. ووصفت مصر بـ"الصهيونية"، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 21 نوفمبر 2009.


[9]  تومي عياد الأحمدي؛ زهية منصر؛ آسيا شلابي، "الشروق" تفتح ملف أحقر المذيعين المصريين: كلاب مبارك تنبح لتنقذ مشروع التوريث، جريدة "الشروق"، الجزائر، 23 نوفمبر 2009، ص 25.


[10]  جمال لعلامي، "الشروق" ستبقى شوكة في حلق الأبالسة، مصدر سابق.


[11] فضيلة مختاري، مئات المناصرين يتزاحمون أمام السفارة السودانية للحصول على التأشيرة: ذاهبون للسودان لمعركة الثأر وسنريهم "الرجلة" الجزائرية، جريدة "الشروق"، الجزائر، 16 نوفمبر 2009، ص 7.


[12]  قادة بن عمار، شاهد وهراني يروي للشروق تفاصيل الغدر المصري.. الفراعنة قالوا: "سنمنحكم تأشيرة مجانية للآخرة، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 8.


[13]  زهية منصر، العائدون من جحيم القاهرة يتوافدون على مقر "الشروق" للإدلاء بشهادتهم: عناصر من الشرطة المصرية أهانوا العلم الوطني، جريدة "الشروق"، الجزائر، 17 نوفمبر 2009، ص 9.


[14] عبدالحميد الشربيني وأحمد عبداللطيف، "الهداف" الجزائرية احتفالا بالفوز: "الله أكبر ظهر الحق وزهق الباطل"، جريدة "الدستور"، القاهرة، 20 نوفمبر 2009.


[15] حكيم بلقيروس، البطل فوزي شاوشي يروي قصة الانتصار للشروق: تأهلنا رد كاف على من أهان الشهداء وأسال دماء الأبرياء، جريدة "الشروق"، الجزائر، 20 نوفمبر 2009، ص 5.


[16] _ "محاربو الصحراء" يحطمون غرور "الفراعنة"، جريدة "المساء"، الجزائر، 19 نوفمبر 2009.


[17]  إلياس فضيل؛ بشير زمري؛ حكيم بلقيروس؛ علاء بويموت، كرونولوجيا عودة الخضر: الفراعنة اختاروا الخرطوم فدفنوا في رمالها، جريدة "الشروق"، الجزائر، 20 نوفمبر 2009، ص 9.


[18] استمرار الحرب الكلامية بين مصر والجزائر، موقع بي بي سي العربي، http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2009/11/091120_om_egypt_algeria_press_tc2.shtml، 20 نوفمبر 2009.


[19]  وكالة الأنباء الألمانية "د. ب. أ"، "الشروق" الجزائرية: ادخلوا مصر آمنين.. فلا مكان للمتعصبين، جريدة "المصري اليوم"، القاهرة، 12 نوفمبر 2009.
تابع القراءة

gravatar

امرأة برائحة البحر

محمد بركة

بعيدًا عن صوانى الضانى.. امرأة برائحة البحر

الخميس، 10 نوفمبر 2011 - 16:46
Add to Google
اسمح لى أن أنتقل بك قليلاً من صوانى الضانى إلى أصداء الرومانسية.. من لحمة العيد إلى زقزقة الغرام.. من امتلاء المعدة إلى جوع المشاعر.. اسمح لى بأن أطوف بك بين صفحات كتاب «لحظات تويتر ألف تغريدة وتغريدة» للكاتب د. ياسر ثابت وهو يرسم ملامح أنثى لها رائحة البحر وغموض الغابات ودفء الشمس فى صباح شتوى ونقرات المطر على نافذة رجل أربعينى وحيد.. هنا أسطر ما جاء على لسان ياسر..
> قالت له فى رسالتها الأخيرة: عُد، لن أستطيع أن أحبك وأنت غائب...
> أرى صورتك، فتثمل روحى بفاتحة الضوء...
> كلما بحثَ عن أخبارها التى غابت عنه، ابتسم مُحَرِّك البحث بحنان مفرط...
> الفتاة الحلوة كلما هبطت من منزلها، ارتبكت درجات السلم وتبعثر الدرابزين...
> شعرها المنسدل على كتفيها يُذكرك بقرية هادئة نائمة قبيل الصبح...
> تغريه، وما من سقف يظلله. يغويها فتصيرُ فراشات من لهب...
> فى كل ليلة تترمل أكثر فى وحدتها، وهى تتساءل: متى تخلع الؤلؤة محارها؟
> أعرف أن الهواء الشقى يعابثُ فتحاتِ فساتينك، فقط لينام وسط أسرارك...
> تعبر الشارع بطيئة كتمثال إغريقى، فيما الريحُ الآتية من النهر تراودُ فستانها...
> كانت لها عينا قطة متوحشة، وابتسامة ضمير مستتر...
> لا صبر له عليها. هى بطلة العالم فى المراوغة، وهو مندوب برج الثور إلى الأرض...
> بتؤدة، تخرج من حقيبة يدها زبدة الكاكاو، وتسمح لها بملامسة شفتيها القرمزيتين جيئة وذهابًا، وعيون الرجال تلاحق مباراة التنس المذهلة...
> اقتربت بكامل بياضها وسكبت بهاءها على سطح مرآتها الفضية...
> استطالت المرآة لترى منها أقصى ما تستطيع...
> أحبته، لأن الكل ساومها على فمها إلا هو...
> يسمع التأوهات عبر الجدار، فيتعرّق من ذكراها...
> غسلت فى الصباح حِملاً من الثياب، ونشرتها خارجًا لتجف، فى المبنى المقابل كان الفتى ينتظر منذ ساعة هذه اللحظة الفاتنة...
> فى صباها كانت تُردد: لن أسمح لعابرين بأن يسرقوا براءة شفتىّ. فى الأربعين، كانت تحرق السجائر بين شفتيها، لعلها تمتص ما هو أكثر من النيكوتين...
تابع القراءة

gravatar

في حضرة "الكتاب الزئبق".. 2-2

في حضرة "الكتاب الزئبق".. (2-2)


في عمق الرحلة..
يقول د. ثابت إن "أفضل ما في التنقل هو أن نبقى خفيفين، نحتفظ بالقليل.. ونمضي. أسوأ ما في التنقل، هو أن جزءاً من روحنا ومشاعرنا وذكرياتنا، يفلت منا وينام في حضن المكان الذي نغادره.. وهكذا ينتهي بنا الأمر: كثير من الذكريات.. قليل من البراءة". إذ إن "الأماكن ليست جغرافيا.. الأماكن تاريخ". فـ"في الشوارع الضيقة، حيث تنحني الحارات على الحارات، نقتل الحكايات التي تطاردنا، فإن لم نفعل فإنها تقتلنا".
ولهذا ما يبرره طالما أن "ميزة الصعلوك أنه يعزف على أكثر من آلة، ويجرح الغيم بأسفاره الكثيرة". وفي رميته الأخيرة للنرد، تبدو "الشوارع التي تشبه صحراء مقصية عن ذاكرة النهار، تهزأ من الأسى الذي ينتظر الأحبة". أما "المدينة سَطح، والنهار غيب، وواجهات المباني تحمل بقع رطوبة عالية كأنها جراح ساكنيها".
وفي ترحاله يرى أن "لقاء إنسان والوقوع في غرامه حينما نبلغ شاطئاً لا نعرفه؛ هو رحلة داخل الرحلة". ثم يحسد سارق الرحالة قائلاً: "يا لحظ النشال الذي يسرق محفظة يختبئ فيها العالم". وفي واحدة من سفراته يعرض المشهد التالي: "في الطابق الخامس والعشرين من البرج المُطل على سماء واطئة، يشمُ رائحة زهر النارنج.. يسأله كريم: إن كانت الشقةُ قد أعجبته، فيقولُ له: أريد ان أشتري الشرفة فقط".
وتهمس الشمس في أذني المغترب مع كل إشراقة لتنبهه أن الصبح "مجرد نهار أحمق جديد، يحاول الاتكاء على الشمس، فتخدعه لحظة الغروب". "والسائر دوماً في الشوارع الغامضة تكنس الريح سؤاله: لماذا يسيء الظن دوماً بالنهار حين يقفز من النوافذ؟".
وعندما تتسلل خيوط الظلام لتمحي ضوء النهار المتعب، يتراءى له الليل وكأنه مَلِك ذو هيبة "يبسط نفسه فوق عرش المدينة". "وفي بعض المدن "تبدو المقابر أجمل من البيوت". ولما سألته إحداهن عما يعنيه له السفر قال: "أبحث عن شاطئ.. ردت قائلة: الشواطئ مفهوم نسبي للنجاة، فهي تحمل الموت للحيتان مثلما تعني النجاة للبشر".
على كل الأحوال، للغربة ثمن، مفادها: "إذا كنت في غير بلدك فلا تنس نصيبك من الذل". فـ"بعد البحث سدى عن بلد تنتمي إليه، ترتد إلى الموت، حتى تتمكن في هذا المنفى الجديد، من الإقامة كمواطن". "وفي المنافي نجر وراءنا مقبرة من أصدقاء وأعداء". "والغريب عن وطنه كالنبات الذي زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاوٍ لا يثمر، وذابل لا ينضر". فـ"السفر ليس انتقالاً إلى مكان آخر أو زمان جديد، إنه ببساطة، هروب"، بعد أن "كَفنَ الغياب" الأيام، "حتى صارت مثل أوركسترا خفيفة تُعزَف في دار أوبرا لجمهور أصم".
حياة.. موت.. فبعث
يقول د. ثابت: "في حضرة الموت نصبح خارقين كأنبياء، وشفافين كملائكة". هذا الشعور ينتابنا حين ننظر إلى التلفاز مثلاً، فـ"على الشاشة، يتقاتلُ الجميع من أجل لا شيء. يحرسون الوهم ويموتون في معارك خاسرة. والقاتلُ ينحني للسكين لا السكينة، ويمتدحُ البنادق المعطوبة لا الزنابقَ العطرة". ويضع الكاتب نفسه في خدمة مشهد غريب: "أتعرى لأغطي أشجار الطريق حتى لا تصير يوماً خشباً للنعوش". ثم يناجي الموت: "أيها الموت، اقترب.. كي نبتعد معاً".
والبعض أدمن مشاهد الموت لدرجة أن رؤوس الضحايا بدت له "مثل قباب الصالحين، مليئة بالأضرحة". كما أن "البعض يخشى أن تعطل العصافير نزهة الطائرات الحربية إلى القصف". هناك استثناء وحيد فقط: "في الحرب يكون الموت ضرورياً كي نستحق الحياة"، فـ"الموت صنو الروح".
وعن جدته يقول: "بعد رحيلها اعتزل صياد الموت مطاردة باقي أفراد العائلة، فبعد الصقر لا تصاد عصافير!" تلك التي "كانت تنظر إلى أحفادها بما يشبه فرح الفلاح بنماء غرسه وسط الجفاف.. ترويهم بالحنان، مثلما تسقي الشجرة المثمرة على أعتاب البيت بماء الوضوء، حتى تؤتي أكلاً مباركاً". "حكمتها تحرث الحقول البكر في أدغال الروح".
وهي "العجوز التي تملك قدماً زلت فانكسرت إلى الأبد، تتوزع التجاعيد على وجهها وجبينها بذكاء وأناقة لوحة فنية". "تحدث نفسها قائلة: الآخرون يسقطون في الزمن، أما أنا فقد سقطت من الزمن".
و"في لحظة ما قبل الدفن، ندرك كم تعبنا لندرك الموت.. وحينها ندرك "أن الموت مبراة بكف الدهر والأعمار أقلام". وأن "الموت الحقيقي يسحقنا.. وحده الموت المؤجل يبكينا"، فـ"في الأفراح والأتراح لا يمطر سوى البكاء"، خصوصاً أن "أمطار الحزن لا تتخير الأرصفة". ولهذا كله يقول: "سأطلب في وصيتي أن يكون موتي لائقاً بقصائدي غير المنشورة وأفكاري المعلنة". "ميتة سريعة وحاسمة تشبه النقطة، لا الفاصلة".
ألم .. حزن.. ووحدة
يقول د. ثابت: "يحدث أحياناً أن يغلبنا الشعور بالحزن حين ننشد البهجة". وفي هذه الحظة "نكون محاطين بأجواء أفراح الآخرين، فتستعيد الذاكرة والمشاعر رغبة شديدة في البكاء، أو نعلق الحسرة بمشبك على فستان السهرة". وترى الناظر للباكي يقول: "دمعته واحدة وحيدة، فلماذا في يده ألف منديل؟".
تشبه الدمعة القطرة: "كم هي وحيدة.. صرخة الماء". يلعو "صوت المؤذن" لـ"يلقي يد السكينة على جبهة المدينة التي تنشر دمعها". فجأة يتذكرها: "اسمها مريم، لكن لا عيسى في رحمها.. يدرك حينها أنه ليس نبياً، لكنه يحمل روح الله".
كل هذا يحدث عندما ينفرد الإنسان بنفسه، فـ"الوحدة قد تكون أحياناً منتهى الرومانسية". إلا أنه يجد نفسه وسط حشد من الأفكار، فـ"عندما يكون المرء وحده، حتى وإن لم يفعل شيئاً، فإنه لا يحس بأنه يبدد وقته. إنه لا يبدده إلا إذا كان في رفقة شخص قرر سلفاً أن يطفئ شمعة المودة بعدم اكتراث". ثم لا ينفك عن التساؤل: "ما الجدوى من آلامي؟ لست شاعراً حتى أستثمرها أو أفخر بها"، متأوهاً: "القلق شوكة في عنق الوقت". لكن "الوقت خبز الأمل.. الوقت ترياق السأم".
يغلبه النعاس. و"النعاس مغامرة كئيبة لكل المساءات". "يهرب إلى سريره ليحتضن جسده وينام"، ويردد في نفسه: "هكذا أبدو جسداً غالباً ما يرحل عنه صاحبه". "والبشر ينامون يومياً بجرأة نتيجة الجهل الذي ينتظرهم حين يستيقظون". في تلك الليلة "حاول أن يقرأ لينام، لكنه ازداد يقظة".
موسى محمود الجمل
دبي
26 أكتوبر
تابع القراءة

gravatar

في حضرة "الكتاب الزئبق"..1-2

في حضرة "الكتاب الزئبق".. (1-2)



في حضرة "الكتاب الزئبق".. (1-2)

"يوميات ساحر متقاعد" للكاتب المصري د. ياسر ثابت، كتاب كالزئبق. كل جملة فيه تحيلك إلى أخرى أقوى، والأقوى إلى ما هي أجزل، والأجزل إلى ثالثة أكثف. وكلها تأسرك في عمق المعنى، فتغرق في بحور الكنايات. فمثلاً تجد قصة متكاملة العناصر في سطرين. مشهد قصير بالألوان يلخص رواية مليئة بالتفاصيل في فقرة لا تتعدى أربعين كلمة. حكمة في عشر كلمات أو أقل. تحريك جميل لذات الحرف في كلمتين مختلفتين لتطّلِع على تناقض المعنى رغم مساحة التحريك المحدودة.. المحدودة جداً.
وهذا الكتاب يشبه كاتبه، وفيه يصف حاله فيقول: "يشبه الرجل الزئبق.. حال بين الصلابة والسيولة.. فلا هو هش قابل للكسر، ولا هو صلب يستعصي على الصهر.. ويستدرك: "أفضل ما في الزئبق أنه قد يساعد على استخلاص الذهب من خاماته.. وأسوأ ما فيه أنه يصعب الإمساك به". وهذا حال كتابه، الذي حاولت أن ألخصه، فكان كله. وهنا كله، لكن في بعضه. وإن تمكن أحدكم الإمساك به فلا يهديه لغيره.
يبدأ د. ثابت بأن يهدي كتابه "إلى المرأة التي تخاف على بياضها من حسد الثلوج"، ويقول لها: "ها أنا أدفن الضوء.. حياً". وفي المقدمة يطرح نفسه ببساطة: "هذا أنا: أنتم". وعما جاء بين دفتيه يقول: "الصفحات التالية ليست سوى شاهد ملك في قضية خاسرة، وربما كانت مرافعة في قاعة محكمة غادرها المتهمون وبقي القاضي يشكو وحدته داخل زنزانة تليق بمهابته". ويشبه قصصه التي يحكي عنها بـ"الخمر"، إذ "تتعتق حين تروى".
عناقيد الأمنيات..
وعنده "الكاتب الأصيل طينة من تذكارات شرسة، يتحدى ويتمرد، يرصد ويسجل حتى النهاية، وعندما تذهب إلى قبره لا بد أن ترى قدميه خارجتين منه. وهو أيضاً إنسان مستعد لأن يجرح قلبه حتى ينظم قصيدة عن جمال حبيبته". "والمدون ينزع قفازات يديه ليكتب بحبر أصابعه.. ليتحدى أكاذيب الإعلام الرسمي، ودعاية أصحاب الأقلام الخاضعة الخانعة، وسطحية المسلسلات التلفزيونية الرخيصة".
ويجيب د. ثابت عن السؤال المزمن الذي يطارد أي كاتب متمرس: لماذا نكتب؟ بالقول: "لقد علمتني الدفاتر التي أضعها تحت إبطي أن الكتابة درس في التنفس". "نحن نكتب لنقاوم الفناء الذي يطوق سراب صورنا مع أحبتنا – أو من كانوا كذلك – على جدران الذاكرة". ويضيف: "نحن نسطر تلك الذكريات حتى نؤكد لهم ولأنفسنا أننا شفينا من أوهامنا التي جعلتنا نظن أننا وجدنا أخيراً من نحبه إلى الأبد". وفي نظره: "الكتابة مغامرة شخصية بامتياز لكل من قرر أن يقطف عناقيد الأمنيات التي تتدلى فوق خاصرة المدينة". فـ"الكتابة مواجهة، ففي هذا العالم الفسيح لا مكان للهرب". بشرط أن تكون "كماتنا تشبهنا.. إلا إن ارتدينا الأقنعة".
الكتابة.. فعل الإنصات للذات والآخر..
يقول د. ثابت: "عندما نكتب فإننا نتنفس.. نستنشق هواء الحرية، فعل الإرادة". ولصديقه "الذي وقف على حافة اليأس من الكتابة وقرر أن ينتحر بالصمت"، يقول: "اكتب كي تبقى حياً ترزق.. اكتب حتى تضمد جراحك النازفة، أو تستأصل من جسد الشارع ما لا يلزم". ويستطرد: "الكتابة يا صديقي فعل إنصات للذات وللآخر، يمنحنا نوعاً من التواطؤ الخلاق بين الكاتب والمتلقي".
إذاً، "فلنكتب حتى تسقط الجدران ويتساقط المطر الناعم على أرضنا الطيبة فيروي عطشها إلى الحرية". "اسكب سطورك التي تقطر حرية في إناء العقل وفضاء الروح.. فكل حرف مغموس بحبر الصدق والإيمان، يبعدنا خطوة أخرى عن حالتنا المزرية كجمهورية موز، أو مملكة فساد أو إمارة لذة". "اكتب.. ففي كل ديانة كتاب مقدس.. وفي كل ثورة كلمات مقدسة". فـ"الأفكار لها أجنحة.. لا أحد يستطيع أن يمنعها من الطيران". كم أنه "لا شيء يموت.. فالأفكار تبقى وتزرع وردة في عقل قارئ واحد على الأقل.. وهذا يكفي ويزيد".
"الموسيقى وعي"..
ويصف د. ثابت الموسيقى بأنها "سر البهاء والأحزان النبيلة والمتعة التي تتغذى على رغيف الجسد". فهي "تنتشر في المكان، وتقتحم السماء، كأنها وباء من النشوة المتنقلة". "وهي القصيدة الوحيدة في العالم التي يمكن أن نقرأها من دون ترجمة.. هي تترجم نفسها ذاتياً للآخرين..". فـ"حين تتسلل الموسيقى إلى عقولنا وتغفو على راحات اليد مثل عصفور، نكتشف كم نحب هذا الكون.. نعشق هذا الحبيب.. نشكو هذا البعاد.. نطرب لهذا المغني..". و"ترحل بنا إلى جزر بعيدة.. وتقف بنا على أبواب الأزمنة.. تمنحنا معطف الدفء وفرو الطمأنينة.. تمارس فن الغواية. وتبكي مثل حورية تشتاق إلى الماء".
أيضاً، "هي الحب الذي يأتي من دون موعد.. وأسرع وسيلة لاستدعاء الذكريات التي نخبئها عن الآخرين وعن أنفسنا". "هي إذاً الحب المناسب.. في أي وقت.. والحزن اللائق.. في أي زمن". "نحب الموسيقى ونعرف مقامها: دائماً في القلب". حتى أن "الراكب الأخير لا يفعل شيئاً سوى أن يطقطق أصابعه، كأنما يبحث عن نغم شريد بين الأصابع". فـ"ما من موسيقى حقيقية إلا تلك التي تجعلنا نجس الزمن". ويخلص إلى أنه "لولا هيمنة العقل لحلت الموسيقى محل الفلسفة".
المرأة نص أدبي.. وأكثر
يرفض د. ثابت الوصف الشهير للنساء بـ"الجنس الناعم"، إذ إن "الرجل عادة هو الجنس الناعم.. فحين تحبه امرأة يذوب مثل قطعة سكر.. وحين تهجره حبيبة، يبكي مثل طفل.. وعندما تمتدحه أنثى يظهر الطاووس داخله وتطول قامته بضعة سنتيمترات". فالـ"عاشق يقبل المرأة التي تترك له باب أحلامها موارباً، والقبلة شجرة يشعلها عاشقان كي يستدفئا بها إلى الأبد".
"والمرأة لا تموت إلا حين يكف من تحبه عن حبها". وحين تكون "عيناها تمارسان لغة التحريض"، لتقول للرجل: "كن منفلت السهم، لأكون عصية الصيد"، تبدو "ابتسامته المنصوبة على وجهه فخ متيقظ، لاصطياد رعشة وجهها".
وعندما تقسو المرأة على الرجل، تتجلى حكمة تقول: "حين تهدي قلبك لامرأة فإنها قد تمضغه مع علكتها". والمرأة قد تخونك وإن كنت إلى جوارها. فهذه "فتاة تنظر بوله إلى المغني فوق خشبة المسرح.. نظرات تدل على أن الفتى الذي يرافقها إلى الحفل لا يعني لها شيئاً، وأنه مجرد بديل ناقص لمثالها الأعلى الحقيقي".
هذه قسوة ليست دائمة، فهناك "رجل يسأل المرأة التي أغمضت عينيها عما تفعله. يتجلى فجره في مرأتها، فتقول ببراءة: أحاول تخيل العالم في حال غيابك". ثم "تتركه في عطرها وتمضي، فيتساءل: كيف يمكنني تحمل رائحة البشر، بعد أن غمرني ذات صباح عطر الملائكة؟!".
تعود القسوة مرة أخرى حين "تقول له الفتاة العابثة: لعينيك أطلي أظافري، ولظهرك أطيلها". لكن "الأكيد أن النساء احتكرن الحنان كي نتكئ عليه حين نشعر بضعفنا أو تجرفنا القسوة". والأكيد أيضاً أنه "حين نحب تولد الحماقة". وهذا حال كل "عاشق فذ، وجلاد فظ".
يعود المشهد إلى جماليته من جديد فيقول د. ثابت في إحداهن: "بشرتها بياض يرتب فوضى الألوان، قبل أن يخرج ليتنزه في أحراش الرغبة". فهي "طاغية شقراء، تفرض بخناجر شهوتها حظر التجول، وتعلن حالة الطوارئ في شوارع الجسد"، الذي يصفه قائلاً: "جسم المرأة قيد، لكن روحها فضاء".
يراها في إحدى المرات "ترفع خصلة شعرها بصلوات أصابعها، فيسجد لها الهواء مغشياً عليه". ويتساءل: "ترى من يمشط شعرها في غياب الريح؟". و"حين نحب يجب أن تقاتل من أجل كنزك الأغلى. لا تنتظر أن تمطر الدنيا حباً.. عليك أن تكون صانع المطر".
و"في قاموس الحب لا توجد كلمة اسمها حقد.. إلا إذا كان الحب عملة زائفة ومزورة تسللت إلى الأسواق في غفلة من شرطة العشاق". فـ"في المادة الثالثة من دستور الحب، لا يجوز أن يخذل أحدكما الآخر.. وعلى المتضرر اللجوء إلى سلطة العقل لتقدير حجم الأضرار". ويظهر ذلك عادة بسبب الكذب الذي هو "عدو الحب.. وفي اللحظة التي تكذب فيها على من تحب، فإنك تدق مسماراً في نعش حبكما".
على أي حال، تبقى قراءة الرجل للمرأة مثل فهم كل منا لنص أدبي واحد بشكل مختلف، فـ"النساء مثل النصوص الأدبية، تُقرأ من كل الجهات".
موسى محمود الجمل
دبي
26 أكتوبر 2011
تابع القراءة

gravatar

صراع العقول والأقدام



نداء التعقل كان صيحة في واد.


ووجدنا في الجزائر من يزعق بأعلى صوته قائلاً: "الجزائر تنتصر على مصر دبلوماسيـًا وتهزم التهور ببرودة الأعصاب"[1].


المشكلة أنه في الوطن العربي لا يؤخذ شيء أبدًا في إطاره‏. ومثّلَّ الشحن المعنوي عبر وسائل الإعلام نتيجة طبيعية لحالة الفراغ السياسي التي يعانيها المصريون والجزائريون على حد سواء. ولذا لمسنا اهتمام الرأي العام بالمواجهة الكروية بين منتخبي البلدين، كأنما الجمهور يحاول إخراج كل ما لديه من شحنة عاطفية في الرياضة باعتبارها المجال المسموح فيه بالتحزب والتحيز والانقسام‏،‏ والتفريغ لغضب مكبوت. لقد ظنت تلك الجماهير أنها بالكرة تمرر السياسة التي منعت عليها فإذا بمحتكري الحكم والسياسة هم الذين يحركون أيضـًا تلك الكرة ويديرون أنديتها وجحافل المشجعين والمحرضين والمشاغبين[2].


تدريجيـًا أصبحت ملاعب كرة القدم، وحلبات السجال التليفزيوني، مجال الاجتماع الطوعي للجماهير، بعد أن استسلمت هذه الجماهير لفكرة حرمانها من التجمع أو التظاهر لقضايا معيشية أو سياسية[3]. ويبدو أن القضية المركزية والجماهيرية، الآن باتت قضية كروية، وعليه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"[4]. وبهذا المعنى، فإنه حين اندفع المصريون والجزائريون في تشجيع منتخبي بلديهما بكل هذا التعصب، بدا أنهم يبحثون عن السعادة بأي طريقة‏، ويجدون في كرة القدم ما لم يجدوه في مجالات أخرى.


لم يكن هذا وليد اللحظة، فقد عرفت المواجهات الرياضية بين مصر والجزائر في العقود الأربعة الأخيرة درجات من العنف المتفاوت. ففي عام 1978، اجتاحت الشرطة الجزائرية اللاعبين والمشجعين المصريين خلال بطولة الألعاب الإفريقية، أثناء مباراة بين مصر وليبيا في الجزائر[5] . وفي ثمانينيات القرن الماضي، تكررت مظاهر العنف خلال المباراة المؤهلة للألعاب الأولمبية في لوس أنجليس التي أقيمت عام  1984 وانتهت بفوز مصر على الجزائر 3-1 وتأهلها للدورة الأوليمبية[6].


وشمل مسلسل الأزمات الاعتداء بالحجارة على حافلات تقل المنتخب المصري والفرق المصرية في الجزائر، واتهام لاعب منتخب الجزائر الأخضر بللومي بفقء عين طبيب مصري عام 1989[7]،  وإدانته في حكم غيابي بارتكاب الواقعة[8]، وصدور مذكرة اعتقال من شرطة الإنتربول ضده طوال عشرين عامـًا، على الرغم من قوله إن الواقعة بطلها حارس المرمى كامل قدري[9]، لكن أكثر الحلقات درامية على الإطلاق هو واقعة أم درمان.


وحين تؤاخي الرياضة "البلطجة"، فإن البعض ينسى أن البلطجة ترتد دائمـًا على مستخدميها.


وبدأت رحلة المراجعات.


فأمام اجتماع اللجنة المشتركة من لجان الشباب والشؤون العربية والدفاع في مجلس الشعب المصري، اعترف المهندس حسن صقر رئيس المجلس القومي للرياضة بوجود تقصير من الجانب المصري، سواء في نقل الجماهير والسفر العشوائي للسودان، مشيرًا إلى أن اختيار السودان لم يكن موفقـًا. وأوضح أن مبارك قال له صباح ذلك اليوم خلال لقائه مع الفريق القومي لكرة القدم "أوعى في أي مسابقة تجازف بنقطة دم واحدة لأي مصري"[10].


وفي خطوة اعتبرها الإعلام المصري أول اعتراف جزائري بسفر الآلاف من الخارجين عن القانون إلى السودان واعتدائهم على الجماهير المصرية في أم درمان، قالت جريدة "الشروق" الجزائرية في 13 ديسمبر 2009، إن وزارة الداخلية في الجزائر بدأت في استعادة جوازات السفر التي تم منحها للخارجين عن القانون من أجل حضور مباراة مصر والجزائر الفاصلة في تصفيات كأس العالم، التي أقيمت في السودان. ونقلت جريدة "الشروق" الجزائرية، عن وزير الدولة، وزير الداخلية، يزيد زرهوني، قوله: "إن مصالح الأمن فتحت تحقيقات عن كل جوازات السفر التي تم استخراجها يومي 16 و17 من شهر نوفمبر الماضي، في إطار الإجراءات التسهيلية التي منحتها الحكومة لنقل مناصري الخضر إلى الخرطوم، لسحب أي جواز سفر تمكن منه أحد الأشخاص المنزوع الحقوق المدنية من أصحاب السوابق القضائية"[11].


وزير الخارجية المصري حينذاك أحمد أبوالغيط فجَّر قنبلة مدوية عندما أكد في تصريحات له أن الخارجية المصرية ومن ثم الحكومة كانت على علم بمؤامرة الجزائر في السودان قبل أن تحدث. تصريحات أعادت فتح ملف أكثر خطورة من ملف الأزمة المصرية ـ الجزائرية الكروية ذاتها.. لأن أبوالغيط اعترف بأن الحكومة كانت على دراية بكل شيء قبل أن يحدث وأنه كانت أمامها ثلاثة اقتراحات.. الأول إقامة المباراة بدون جمهور لكن رئيس الوزراء الجزائري رفض، والثاني منع سفر جماهير مصر وذلك كان سيغضب المصريين، والثالث إرسال قوات مصرية خاصة بملابس مدنية لحماية الجماهير المصرية، لكن الجانب المصري خاف من عقوبات الاتحاد الدولي على الكرة المصرية لو اكتشف تدخل الدولة.


تصريحات أقل ما توصف به أنها كارثة بكل المقاييس.. أولا، لأن أبوالغيط خاف - حسب روايته- على زعل رئيس الوزراء الجزائري ونسي الجانب المصري كله بجماهيره بل وبسياسته.. ثانيـًا، خاف أبوالغيط على مشاعر المصريين غضبـًا من عدم سفرهم ثم تركهم يسافرون دون أي حماية.. ثالثـًا، خاف وزير الخارجية المصري حينذاك من عقوبات الاتحاد الدولي واعتبر ذلك مبررًا لأن يترك منتخب مصر وجماهيره بمن فيهم جمال وعلاء مبارك وغيرهما من كبار السياسيين لمواجهة ما أسماه هو بالمؤامرة الجزائرية، وكارثة أبوالغيط لم يكن من الممكن أن تمر مرور الكرام؛ لأنها فتحت جرحـًا أعمق من مجرد مباراة كرة قدم أيـًا كانت أحداثها وهو أن الحكومة المصرية قررت التضحية بالمصريين وهي تعلم ما قد يحدث لهم في بلد آخر من بلد آخر[12].


الأخطر من ذلك أن "العرب قد أصيبوا بخسارة فادحة ولا تعوض بفضيحة صراع الأقدام بين مصر والجزائر، التي أثارت "الأسى عند إسرائيل" كما عبر رئيسها شيمون بيريز"[13].


ويبقى أن ذلك التدني والهوس والعصاب الجمعي الذي رافق الأزمة تخلّق في الإعلام، وراج عبره، وحرَّف اتجاهات الجمهور حيال القضية، وجيّشه، وحرّضه، وتلاعب بعواطفه، وتدنى بوعيه.


ففي 31 يناير 2010، أصدرت "مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان ومؤسسة صاحبة الجلالة" تقريرًا بعنوان "دعاة الكراهية – الإعلام الرياضي في مصر والجزائر". تضمن التقرير نتائج دراسة تحليل مضمون شملت عشر صحف جزائرية ومصرية لنتائج التغطية الصحفية لمباراتي مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم  2010.


التقرير الذي جاء في 160 صفحة استهدف بحث معايير الحيادية والموضوعية في التغطية الصحفية للمباراة في مجموعة من الصحف المصرية منها (المصري اليوم- الأسبوع – صوت الأمة – نهضة مصر – الأحرار – الشروق المصرية) والصحف الجزائرية مثل (الهداف – الأيام- أخبار اليوم- الخبر اليومي- البلاد – صوت الأحرار).


وقد أكدت نتائج الدراسة أن 79.2% من تغطية الصحف الجزائرية كان تحريضيـًا ضد المنتخب المصري والقائمين على العمل الرياضي وطال بعض القيادات السياسية في مصر؛ فيما كانت الصحف المصرية أكثر موضوعية في التغطية، وجاءت جريدة "المصري اليوم" و"الشروق" في مقدمة الصحف التي تسعى للتهدئة بنسبة بلغت 94.6%.


الصحف الجزائرية والمصرية اتبعت نظرية التطهير والتنفيس الإعلامي، وذلك بأن جعلت المواطنين يقرؤون ويرون مشاهد العنف الذي يمارسه البعض، في محاولة للتنفيس عنهم وجعلهم يرون العنف، وبالتالي تفرغ طاقاتهم وميولهم نحو العنف. أما عن الأخبار المجهولة فقد احتلت الصحف الجزائرية وبخاصة صحيفتا "الهداف" و"الأيام" نسبة 94% من إجمالي أخبار الصحف الجزائرية.


وأشارت الدراسة إلى أن وسائل الإقناع المستخدمة في التغطية من الجانبين اعتمدت على عرض وجهة نظر واحدة، وبلغت نسبة هذا الاتجاه في الصحف الجزائرية 97% فيما كانت النسبة في الصحف المصرية 84.5%، كما أظهرت النتائج أن جريدة "الهداف" الجزائرية في مقدمة الصحف التي اعتمدت على أسلوب عرض وجهة النظر الواحدة[14].


هوامش

[1]  سميرة بلعمري، الجزائر تنتصر على مصر دبلوماسيًا وتهزم التهور ببرودة الأعصاب، جريدة "الشروق"، الجزائر، 21 نوفمبر 2009، ص 5.
[2]  عبدالوهاب بدرخان، الكرة "بتتكلم عربي"، جريدة الاتحاد"، أبوظبي، 24 نوفمبر 2009.
[3] Joseph Mayton, Feeble excuses for Egypt's football riots, http://www.guardian.co.uk/commentisfree/2009/nov/24/egypt-cairo-football-riots, The Guardian, London. November 24, 2009.
[4]  ماجد كيالي، عصبيات كروية وهويات سلطوية، جريدة "الحياة"، لندن، 24 نوفمبر 2009.

[6] ___________، هل يكون لقاء مصر والجزائر المقبل "مباراة كراهية" جديدة؟، موقع "سي إن إن" بالعربية، 13 نوفمبر 2009.

[8]  Brian Oliver, Twenty years on, the 'hate match' between Egypt and Algeria is on again, The Sport Blog, The Guardian, London, op. cit. 
[10]  أمل الحناوي، شهاب يعلن قطع العلاقات الرياضية مع الجزائر، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 23 نوفمبر 2009.
[11]  ________، جريدة "الشروق"، الجزائر، 13 نوفمبر 2009.
  [12]  فيصل زيدان، كارثة تصريحات أبوالغيط.. أسوأ ختام لسنة كروية فاشلة، جريدة "الفجر"، القاهرة، 1 يناير 2010.
[13]  طلال سلمان، شهادة فتى عربي عاشت مصر في وجدانه كقيادة للأمة والجزائر بوصفها الثورة، جريدة "السفير"، بيروت، 9 ديسمبر 2009.

[14]  منى نادر، دراسة تتهم الصحف الجزائرية بالتحريض ضد المنتخب المصري، موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، 31 يناير 2010.
تابع القراءة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator