عُد للأرض.. كي تستريح
قُل لي: أبَعدَ الموتِ موتٌ؟
هل كنتَ تعرفُ أن الأغنياتِ الأثيرة يسيلُ منها دمك، فآثرت حفظَ مائكَ الفضي واتخذتَ من القلوبِ منازل
لم تقلْ للموتِ هذه المرة: انتظرني قليلاً
لم تفاوضه أو تساومه على قصيدة
فالموتُ يعشقُ فجأةً مثلك.. والموتُ لا يحبُ الانتظار
الأعراسُ والأجراسُ في انتظاركَ، لكن زيتونَ فلسطين يجهشُ في البكاء
وأنتَ الذي بللتَ شفتيَ القصيدة بهواءٍ ناضجٍ كالقمح
علَمتها حُمى الوقت، ودسستَها في حقائبِ السفر، وحفظت قلبكَ كلّه عن ظهرِ قلب
بصوتِكَ المعبأ بالدخان والأحزان، الآتي من غياهبِ بئرٍ عميقة، كنت تَخيطُ روحكَ إلى روحِنا، وأنت تُلقي قصائدكَ وتوزعُ حكمتكَ بعينين نزقتين وطيفِ ابتسامةٍ، وخصلات شَعرٍ - منذ ثلاثين عاماً ـ خائف أن يشيب
شِعرُك أيها المُسجى فوق أرضٍ غريبة، كان الحجارةَ التي تعيدُ بناءَ أنقاض القرى التي أزالوها من على وجهِ الأرض وحذفوها من الخرائط المعدلة
أيها الأندلسيُ الذي تسلقَ جدارَ الموتِ، هارباً من نوافذ قرطبة وبحرِ بيروت ومآذنِ القاهرة وشرطة عَمَان، لماذا تركتَ القصيدة عالقة في شِباكِ مَن سرقوا عيونَ البحر كي لا نرى الحقيقة
أما الآن وقد امتلأت بكلِ أسبابِ الرحيل، فإنني أوصيكَ: كن رشيقاً كحروفكَ، موجعاً كالكلامِ حين تمضي إلى تلك المسافة الفاصلةِ ما بين حلمٍ واستفاقته
مطمئنونَ نحن إلى أن الموتَ لن يستقبلكَ بفظاظة حارسٍ ليلي، فهو يحفظ قصائدك المغناة ويرددُ في أوقاتِ فراغه قولك: ''وأعشقُ عمري لأني إذا متُ أخجل من دمع أمي''
لكنكَ تموتُ، بعيداً عن قهوةِ أمك وخبزِ أمك ولمسةِ أمك
متَ يا درويش، والخوفُ كل الخوفِ أن يخرُجَ لنا من الجحور دراويش، يتنازعون على لونِ عينيكَ، وإطارِ نظارتِكَ الطبية، وحبيبتكَ الأولى وقصيدتِكَ الأخيرة، ويتحدثون عن بطولاتٍ زائفة وانتماءاتٍ كاذبة مثل أردأ مساحيق التجميل
"يحبّونني ميّتًا ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا"
"كل شىء مُعَدٌ لنا
فلماذا تطيلُ التفاوض،
يا ملكَ الاحتضار ؟"
("أحد عشر كوكباً"، محمود درويش، دار الجديد، 1993)
أخطأ الأطباءُ في المستشفى الأميركي تشخيصَ الداء..لم تكن المشكلةُ في إصلاح ستة وعشرين سنتيمتراً من الشريان الأبهر لقلبِكَ المُنهَك
كانت الأزمةُ تكمن في 365 كيلومتراً مربعاً هي مساحة قطاع غزة..وفي قولٍ آخر، كانت المشكلة في قلبكَ تمتد 5844 كيلومتراً هي مساحة الضفة الغربية
ولأن أطباءكَ في هيوستن، أيها الغزالُ الحرُ في بريةِ الروحِ، لم يتذوقوا قصائدك، ولم يقرأوا عن فلسطين الجريحة في دواوينكَ الشعرية، فقد أغفلوا احتمالاتٍ أخرى:
السلطةُ الوطنية التي داخت مثلَ ذبابةٍ أصابَها مبيد حشري، الدمُ الفلسطيني الذي لم يعد خطاً أحمر، رائحةُ البرتقالِ التي تختفي يوماً بعد يومٍ عن بيادر يافا
الصراعاتُ التافهةُ قضمت شرايينكَ كعيدان قصبٍ جافة، ولعلَكَ سئمتَ مِنْ تقطيرِ الحزن في قلبِكَ دَمْعَةً دمْعَةً
ولأن العاملين في ذلك المستشفى لا يفقهون اللغة العربية، فإنهم لم يفهموا مغزى الوصيةِ المنقوشة فوق أحدِ أوردتك لأبناء وطنك:
من يحلم بالكرامةِ.. فهو حيٌ ذليل. وحدهم الذين يعرفونَ توقيتَ الصلابةِ ويتقنون فن السيولة، هم الذين لا يتبخرون في فضاءِ الكونِ مثل غازاتٍ ضائعة
وحدهم الذين يملكون بوصلةَ الوعي والنضج، قادرون على أن يبقوا بشراً بدلاً من أن يصبحوا مجردَ كائنٍ رخو
أليست مفارقةً تدعو إلى التأمل أن تُسلِمَ الجسدَ المعطوبَ للجراح العراقي الأصل حازم صافي؟
العراقي الممزقُ بين المنافي يعالجُ الفلسطيني المحترقَ بنارِ وطنٍ محتل
كلاكما تبحثان عن وطن وحرية.. والجميلُ في الحرية أننا نتعلقُ بها في النطاق ذاته الذي تبدو فيه مستحيلة
جيمس جويس رفضَ أن يزورَ مدينته دبلن بعد أن غادرَها، ليظلَ يكتبُ عنها من الذاكرة الخائنة
لكنكَ آمنتَ بأن الكتابة وترٌ مشدودٌ بين الحريّة والتذكّر، فعُدتَ دوماً لتقاومَ بأصابع ينزُ منها دمُ الكلام "ذاكرة للنسيان"
هذه المرة فقط..لن تعود
البروة، قريتُك التي كانت، تئنُ وتقيمُ سرادقُ عزاء تحت الأرض، تقرأ فيه المدنُ ما تيسرَ من "مديح الظل العالي"، وتدرسُ فيها القرى "أحد عشر كوكباً" وتتساءلُ البلدات "لماذا تركت الحصان وحيداً"، فيما الشعراءُ يقتفون "أثر الفراشة"
أنتَ الآن تشبهُ نفسك "كزهر اللوز أو أبعد"
أنتَ الآن وحيدٌ في البياض، تمَشِّطُ ضفيرة الريح، وقلبُك قميصُ الشفق
وما بين ضبابِ المخدرِ وبياضِ الغيبوبة، يناديكَ الغمام
"أرى السماءَ هُناكَ في متناولِ الأيدي
ويحملُني جناحُ حمامة بيضاءَ صوبَ
طفولةٍ أخرى. ولم أحلم بأني
كنتُ أحلمُ. كلُّ شيء واقعيّ. كُنتُ
أعلمُ أنني ألقي بنفسي جانباً
وأطير. سوف أكونُ ما سأصير في
الفلك الأخير. وكلّ شيء أبيض"
("جدارية"، محمود درويش، منشورات رياض نجيب الريّس للكتب والنشر، 2000)
أيها العائدُ من تخومِ الموتِ، خُذ "جداريتك" وعُد للأرض كي تستريحَ يا إمامَ التعب
جلجامش، لم يبقَ فوق الأرضِ سوى الرجال الذين يعجزُ الموت عن تطهيرهم من ذنبِ الحياة
أيها المارون بين الكلمات العابرة .. ها هو "أحمد العربي" يحاصرُ حصاره، ويهزمُ الموتَ، ويرتقي مدارجَ البهاء وحيداً حافلاً بالأمنيات
خسرنا شاعر عظيم
هذا العام هو عام الخسارات الكبيره
تحياتى لك يدكتور ياسر
أبو أحمد
نعم يا د. مجدي، برحيل محمود درويش تطوى صفحة مهمة من الشعر العربي عامة والفلسطيني خاصة. صنع الرجل مكانته بشعره وقصائده الثرية بالصور والمواقف، والقريبة إلى النفس لدرجة أن عدداً كبيراً منها تحول إلى قصائد غناها كثيرون
إنه بالفعل عام خسرنا فيه أسماء مهمة في الفن والثقافة
دكتور
أكرر معك ما قلته لصديقتي
مات بداء في قلبه وقد كان قلبه مرتعا لألاف من المشردين الباحثين عن وطن
التائهين في غربه لا حدود لها
ألاف المحبين لهذه الأرض
هذا الذي لم يعرف الحب كما يجب وسكين الاحتلال مغروس في قلبه
عزائي
Basma
يبقى من الشاعر محمود درويش الكثير،
فقد كان باحثاً لا يهدأ عن تجارب شعرية جديدة، وكان لقصائده مذاق مختلف ومعنى أكثر عمقاً
لم يتصدر محمود درويش المشهد الشعري العربي عبثاً، فقد كان الفعل موهوباً ومثقفاً من طراز خاص
كم ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا كغربيين يوما ,وكانت سماء الربيع تؤلف نجما ونجمة ,وكنت اؤلف فقرة حب لعينيك غنيتها, اتعلم عينيك انى انتظرت طويلا ,كم انتظر الصيف طائر ونمت كنوم المهاجر فعين تنام لتصحو عين طويلا وتبكى على اختها, حبيبيان نحن الى ان ينام القمر ونعلم ان العناق وان القبل طعام ليالى الغزل وان الصباح ينادى خطاى لكى تستمر على الدرب يوما جديدا, صديقان نحن فسيرى بقربى كفا بكف معا نصنع الخبز والاغنيات, لماذا نسائل هذا الطريق لاى مصير يسير بنا ومن اين لملم اقدامنا ,فحسبى وحسبك انا نسير معا للابد ,لماذا نفتش عن اغنيات البكاء بديوان شعر قديم ,ونسال يا حبنا هل تدوم ,احبك حب االقوافل واحة عشب وماء ,وحب الفقير الرغيف ,كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا كغربيين يوما ونبقى رفيقيين دوما .تحياتى لاناملك محمود درويش شخص يستحق الرثاء حقا
Shasha
شكراً لك
يستحق هذا الشاعر الرثاء، لأنه كتب عن الحبيبة والوطن ومدن المنفى، كما لم يكتب غيره
اقترب منا محمود درويش، فاقترب الناس من شعره وكتاباته النثرية
ومات كما يليق بشاعر: متاعب في القلب
غريب أمر هذه الدنيا وهذه الأيام
يموت العظماء ويبقي من لا يستحق
يموت المسيري
وبعده شكري
وبعدهما درويش
وقبلهم صدقي وآخرين أجلاء
يرحلون وكأنهم يتركون عالم الأحزان والظلمات ناقمين علي سكوت البشر وبلادة المشاعر
يرحلون ونفقد أجزءاً من أرواحنا وعقولنا معهم، ونفقد روح قضايا الوطن والأمة
رحمهم الله جميعا، ورحم الله درويش
كان رجلأ وكفي
Abdulrahman Mansour
الموت قدر الجميع.. لكن البعض يؤلمنا غيابه أكثر، ربما لأنه قريب إلى النفس والقلب والعقل..فالمفكر والمبدع والمناضل الحقيقي، عملة نادرة في زماننا
رحم الله هؤلاء الذين أعطوا بإخلاص عصارة أفكارهم وإبداعاتهم، فصارت لهم في القلب محبةٌ لا تُنسى
بس اكتر ما لفت نظري هو السؤال : انت بتكتب شعر ؟؟
اللغة عندك شديدة الشاعرية والتكثيف
مقال ممتع ورائع
بوست جميل واكثر من رائع ومحمود درويش شاعر كبير
حنة
هي فقط نصوصٌ من القلب نكتبها في فراق من نحب
شخصياً، أسميها نصوصاً إنسانية، وإن كان بها قدر من اللغة الشعرية فلا بأس. المهم أن يشعر القارىء بصدقها ويتذوق معانيها، فإن فعلَ أكونُ بذلك قد حققت الهدف الأسمى للكتابة
شكراً لك يا حنان على تقديرك
الريم
محمود درويش شاعر حمل قضايا وهموم وطنه وكتب قصائد لا تنسى، أما أسلوبه الخاص في الشعر والموضوعات الثرية التي يتناولهان فقد جعلاه في مقدمة الشعراء الموهوبين في العالم العربي
شكراً لك على الاهتمام
من أفضل ما قرأت في رثاء درويش
أرهقتني بعض المدونات بالنواح عليه
وأرهقني الفيس بوك بكل من استبدلوا صور البروفايل بصورة درويش ومن قبله شاهين ومن قبله المسيري
سعيدة بما وجدته هنا من حديث راق عن درويش وتجربته
alexandmellia
سعيدٌ بتقديرك لهذه الكلمات في وداع محمود درويش
تأكدي أنني أعرف جيداً ما تقصدينه بكلماتك..وربما لهذا ارتحت لتقديرك النقي والصادق
أشكرك وأتمنى أن نتواصل دائماً
My Consolations,no one wrote about Darweesh better than u ,as the rate of love and estimation is a reflection to the rate of sadness and loss.
I could guess ur feelings for losing such a legend ,but through life legends are never forgotton ,they are a heritage and their value increases day after day.
If Darweesh was still struggling our life ,he could have done nothing but thanking u a lot for what u feel towards him.
Shou3la
Shou3la
شكراً لك يا عزيزتي
فقط الشعراء تنبت لهم أجنحة من حزن وأسى
فقط الشعراء يملكون القدرة على التنبؤ وقراءة ما كان.. وما سيكون
ربما لهذا يجتاحنا شعورٌ بالفقد لرحيل محمود درويش
Post a Comment