المحروسة

gravatar

فيلم مصري طويل





هو بالفعل فيلمٌ مصري طويل


إن كتابَ مصر مليء بالحكايات وحافلٌ بالقصص التي يمكن أن ننسجها فـي خيط منتظم لتتحول إلى فيلم له أول، لكن ليس له آخر


ومع غياب شارةِ النهاية، تعيش مصر فـي انتظار "غودو" الذي لن يجيء أبداً


ولأن التاريخ درسٌ مجاني لفهم المستقبل، فقد حرصتُ دوماً على فهم تلك الدروس، والبحث فـي زواياها المهملة، وجمع تفاصيلها الغائبة وإزالة الغبار عن أصلها والأدوار التي لعبتها الشخصيات الرئيسة فـي تلك الأحداث


هذا الكتاب، يضم بين دفتيه حكايات وقراءات فـي تاريخ مصر القريب، وتحديداً فـي سنوات القرن العشرين وما مضى من القرن الحادي العشرين


وأحسبُ أن صفحات الكتاب تقدم قراءة موثقة ومتعمقة تحرص على البعد عن الهتاف والزعيق الذي ملأ الساحة، وتلتزم بالإخلاص العميق لمبادئ الكتابة الموضوعية، وتنأى بنفسها عن إعادة إنتاج الأفكار الملقاة على الأرصفة، التي تقدم للقارىء شكاً لا يفضي إلى يقين


إن أمة بلا تاريخ يوثق ماضيها، هي أمة بلا حاضر محدد المعالم، ولا تملك مستقبلاً مرسوم الخطوات


جلُ ما أريده فـي هذا الكتاب وغيره من مؤلفاتي هو معرفة الحقيقة ولا شيء سواها. وأقصى ما أتمناه هو أن تتسع دائرة النقاش العام، حتى تتطور الأفكار والممارسات، وتصبح بلادنا أكثر حرية وعدلاً


وشخصياتُ هذا الكتاب تشبهنا. لم تكن كائناتٍ فضائية هبطت فوق سطح أرضنا، واستقرت بالقرب من ضفاف نهر النيل. كان هؤلاء اللاعبون على صلةٍ وثيقة بتاريخنا وأحداثه الجسام. كانوا صُناع قرار وقادة وزعماء من كل صنف ولون، غير أن أكثر ما يهمنا هنا هو أنهم فـي النهاية بشر: البعض خانه عقله، والبعض الآخر خذله قلبه


ولعل المتأمل سيدرك عبر صفحات هذا الكتاب وجود رابطٍ ما بين شخصيات ركز عليها كاتب هذه السطور، من أحمد حسنين باشا، مروراً بالمشير عبدالحكيم عامر وعثمان أحمد عثمان وصولاً إلى المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة، ومن الملكة نازلي إلى لوسي آرتين، ومن توفيق عبدالحي إلى ممدوح إسماعيل، وبطبيعة الحال من الملك فاروق إلى من جاء بعده إلى سدة الحكم


تشابهٌ مزعج ومفارقات مذهلة، اكتفى المصريون بأن يكونوا شهوداً عليها، غير عابئين بأهمية الإجابة عن سؤال مهمٍ مفاده: لماذا يكرر التاريخ نفسه، ويكرر المصريون الأخطاء ذاتها؟


وفـي ظننا أن المصريين وحدهم يصنعون جينات الاستبداد وتضخم الذات لدى حكامهم ورموزهم الفنية والسياسية والاقتصادية، بل والدينية أيضاً. فإذا حاولنا نزع غلالة التقديس عن شخصية تاريخية، وأخضعنا تلك الشخصية للدراسة والبحث، ظهر من يرفضون ويحتجون كأن تاريخنا مقدسٌ وأبطال هذا التاريخ منزهون عن كل عيبٍ أو نقيصة


وما هكذا يكون التاريخ


وحين نتحدث عن مهنة السكرتيرة والدور الذي تلعبه فـي المكاتب والغرف المغلقة، أو نكشف عن مهازل الامتحانات ومآسي التعليم، أو نحكي عن طرائف الوزراء الذين وقعوا فـي مصيدة النصابين، أو نسرد أسماء الهاربين بالملايين والمليارات من المال العام ووقائع هروبهم المذهلة، فإننا فـي النهاية نعيد رسم لوحة تاريخ مصر المعاصر، من دون مساحيق تجميل ولا رتوش لتجميل المظهر العام


إن مصر ليست صورة سياحية فـي بطاقة معايدة، وإنما بشرٌ من لحم ودم، وأماكن لها أسرارها، وتاريخ له وقائعه


ومصر الحقيقية فـي يومنا هذا تحتاج إلى شفافيةٍ ومكاشفة، يكون فيها العقلُ حاكماً لكل الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى نعرف موطن الدواء وسبل التداوي. لابد أن نتحدث بأكبر قدرٍ من الوعي والواقعية عن مصر، التي يشكو فقراؤها من جينات الاستبداد على يد أغنياء صادروا الوطن لحسابهم وحساب أولادهم، حتى بات أبناء الطبقتين الوسطى - إن وُجِدَت- والمحدودة يشعرون أنه لا مكان لهم فوق هذه الأرض الطاردة والأجواء الاجتماعية والاقتصادية الخانقة


ويتعين أن نكون واضحين، فنحذر من آفة زواج المال والسلطة، وما يعنيه ذلك من تجاوز الأعراف والقواعد وتخطي القانون، وأن نشير إلى فوضى الشوارع، وتلوث المياه والمأكل، وبطالة الأبناء، وانهيار التعليم بكل مراحله، والأزمات المتلاحقة من الخبز إلى الديمقراطية، وقلة الحيلة أمام غول الواسطة والنفوذ والمحسوبية، والدولة التي لا يعنيها أن تملك آلية لإدارة الأزمات أو حلها، والفساد الذي يطاردنا أينما يممنا وجوهنا


ولعلنا نلاحظ أننا لا نعرف حتى الآن حدود المفاهيم التي نتحدث عنها، فالرشوة رغم أنها سقطة فادحة فإن الضمير الاجتماعي العام أصبح لا يتوقف أمامها كثيراً، بعد أن تحولت إلى أداةٍ تكاد تكون منطقية ومقبولة اجتماعياً للوفاء بالحاجات


وفـي ظل حال السيولة التي نمر بها، أطلت فتنة الحروب المجانية برأسها من الشقوق، وبدأ الحديث عن مصطلح "الدولة الرخوة"، وتحولت مصر من دولة قانون إلى دولة مواءمات، مع انحيازٍ لا تخطئه العين إلى أهل السطوة المالية والسياسية والإدارية


وأخشى ما نخشاه أن تتحول مصر بفعل هذا الظلم الفادح وذلك التشوش الفكري والعقلي، إلى جلمود صخرٍ يهبط على رؤوس الأغنياء، فـي واقعةٍ تتضاءل أمامها مأساة الدويقة


انهيارٌ يسعى العاجزون إلى تبريره بالقول بأن البلد منهكٌ بسبب الحروب مثلاً، مع أن عمر مصر على طاولة المفاوضات أكبر من عمرها على خطوط الحرب


وإذا كان الانهيار فـي أي مجتمع عادة يتبعه صحوةٌ وتغيير شامل، فإن المجتمع المصري فـي حالته الراهنة أبعد ما يكون عن ذلك، فالنخبة المثقفة المحركة له فاسدة حتى النخاع، تدمن الهتاف غير العاقل، وتخون دورها التاريخي، بعد أن ارتضت أن تكون الخادم الأمين للسلطة وأصحاب النفوذ


وتلك الصورة فـي رأينا المتواضع نموذجٌ لحالة الهزيمة بلا حرب، التي تأقلم معها المواطن طوعاً أو كرهاً


ونتيجة لحالة الجمود الراهنة وانسداد أفق التغيير، باتت الحاجة مُلحة لمراجعة الأداء بهدف توجيهه لتكونَ الدولةُ أكثر استيعاباً للقوى السياسية والاجتماعية المختلفة بما يسمح بإدارة التنوع والاختلاف وفق قواعد جديدة أو منهج مختلف


ويبقى أن هذا الكتاب ليس معنياً بأولئك الذين يرفضون أن ينظروا بجرأة فـي مرآة الحقيقة، ويظنون أننا مجتمع أطهار وأبرار، ذلك لأنهم ببساطة قرروا الاستغناء عن الواقع والعيش فـي الوهم بألوانه الزائفة


هذا الكتاب فقط لمن يود أن يعرف ويفهم ويتأمل، أما الذين منحوا عقولهم إجازة طويلة فإننا ننصحهم بالبحث عن تسليةٍ أخرى


أتمنى للجميع قراءة ممتعة


من مقدمة كتاب "فيلم مصري طويل"، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2009

gravatar
Anonymous في 1:57 AM

Dr. Yasser,
We are always to congratulate ourselves for your new born books.

It's our pried to read for you, noone can resist this ,as you are really the best reader for history.

A great introduction which emphasizes that Egypt will always be an endless film with just a start , hope one day one of the coming generations would reach that end.

Egypt is humans , blood and flesh , it isn't just a post card in occasions , and it will never be.

gravatar

Anonymous


لك كل الشكر والتقدير على هذه الكلمات الرقيقة

بالتأكيد، مصر لن تكون يوماً مجرد صورة سياحية في بطاقة معايدة. مصر وطن وشعب وتاريخ..ومستقبل أفضل بإذن الله

gravatar

العزيز / د. ياسر ثابت
إذا أغدق إنسان علينا بكرائم هداياه ، وتواصل مسلسل عطاءه اللا محدود ومزج كل ذلك بشفقة ومحبة فلا يملك المرء منا حيال ذلك أن يقول له كثير كلام ، فالمنح والعطايا كثيراً ما تربط الألسنة فلا تلفظ إلا بقول كلمة واحدة ، وها أنا أقولها لك ... شكراً .

gravatar

أبو البنات

أخي العزيز والجميل، سعيد بكلماتك وتقديرك، وتأكد أن هذه المحبة وذلك الاحترام متبادلان بيننا

أتمنى أن يكون الكتاب الجديد به إضافة معرفية لما يجري في مصر التي نحبها ونتمنى أن يرتفع شأنها بحق

gravatar

كل سنه وانت طيب وبخير وصحه وسعاده

gravatar

أبو أحمد

كل عام وأنت بصحة وخير وسعادة

أشكرك يا د. مجدي على هذه البادرة الرقيقة

gravatar

تهانينا لك دكتور ياسر :)
متشوق لقراءة هذا الكتاب

أرجو إبلاغنا بأماكن توزيع الكتب في معرض القاهرة القادم بإذن الله.

gravatar

مختار العزيزي


أهلا بك يا صديقي وكل عام وأنت بخير وفي أحسن حال

بحسب معلوماتي، فإن كتبي الأخيرة موجودة في الأماكن التالية:

* جرائم العاطفة في مصر النازفة: مكتبة مدبولي

** يوميات ساحر متقاعد: دار العين

*** فيلم مصري طويل: مركز الحضارة العربية

gravatar

لقد قرأت اليوم عن مدونتكم فى جريدة الأهرام ص 25 بتاريخ الأربعاء 2/12/2009 ، و الحق إنها مدونة رائعة .. لكم منا كل الشكر و التقدير

gravatar

Zahra Youssry

العزيزة زهرة، شكراً لك على الرسالة الرقيقة والتنويه بما هو منشور عن مدونتي في جريدة "الأهرام"

وجدتها فرصة لتصفح مدونتك والتعرف رعلى قلمك الرشيق

مودتي الخالصة

gravatar
Anonymous في 9:22 PM

شكرا لك نرجو ان نقوم بتحميل الكتاب و سائر كتبك و نتمني لك التوفيق دائما

gravatar

Anonymous

أشكرك على المتابعة والاهتمام

أحاول قدر المستطاع نشر مقتطفات من كتبي على صفحات هذه المدونة، قبل إجراء الإضافات والتنقيحات اللازمة

أما كتبي فهي موجودة عادة في المكتبات الكبرى في مصر (مدبولي، الشروق، الدار المصرية اللبنانية، دار العين، الكتب خان) ولبنان (الدار العربية للعلوم) والسعودية (جرير)

مع خالص التقدير

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator